حسن المحاضرة في تقريب آداب البحث والمناظرة
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبيه الأمين وعلى آله وأصحابه الطاهرين وعلى من اقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد:
فهذه مباحث مختصرة في المناظرة وآدابها
المناظرة :
المناظرة لغةً : يقال : ناظر فلاناً : صار نظيراً له , وناظر فلاناً : باحثه وباراه في المجادلة , وناظر الشّيء بالشّيء : جعله نظيراً له .
فالمناظرة مأخوذة من النّظير أو من النّظر بالبصيرة و نظر في الشئ أي أبصره.
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة ( 5 / 444 ) : ( النون والظاء والراء أصل صحيح يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته ثم يستعار ويتسع فيه )
وقال الراغب في المفردات ( ص 518 ) : ( النظر : تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الروية .. )
والمناظرة اصطلاحاً :
قال الجرجاني والمناوي في تعريفها هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للصواب . التعريفات ( ص 298 ) التعاريف للمناوي ( ص 678 )
وعرّفها الآمدي بأنّها تردد الكلام بين الشّخصين يقصد كل منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه ليظهر الحق , وقيل "هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهارا للحق"
و إذا لم تكن المناظرة لإظهار الحق كانت مراء و جدالا و خصومه و وبالا على صاحبها
قال الإمام النووي – رحمه الله - : ( مما يذم من الألفاظ المراء , والجدال , والخصومة ).
قال أبو حامد الغزالي : المراء طعنك في كلام الغير لإظهار خلل فيه , لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه .
قال : وأما الجدال فعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها .
قال وأما الخصومة فلجاج في الكلام , ليستوفي به مقصوده من مال أو غيره .
وتارة يكون ابتداء ً, وتارة يكون اعتراضاً , والمراء لا يكون إلا اعتراضاً)
ثم قال الإمام النووي : ( واعلم أن الجدال قد يكون بحق , وقد يكون بباطل , قال الله تعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سوره العنكبوت 46
وقال تعالى : ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) غافر 4
و الجدل في اللغة : المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة.
مأخوذ من (جدلت الحبل إذا فتلته وأحكمت فتله؛ فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه. فإذا اشتد اعتداد أحد المتخالفين أو كليهما بما هو عليه من قول أو رأي أو موقف، وحاول الدفاع عنه، وإقناع الآخرين به أو حملهم عليه سميت تلك المحاولة بالجدل
{ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } غافر 4
و قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبغض الرجال إلى الله : الألد الخصم (أخرجه البخاري ( 4523 ) ، ومسلم ( 2668 ) عن عائشة رضي الله عنها .)
وقال صلى الله عليه وسلم : ما ضل قـوم بعد هدى كانوا علـيه إلا أوتـوا الجدل ، ثـم قرأ : مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا. (أخرجه الترمذي ( 3253 ) وابن ماجـه ( 48 ) والحاكم ( 4472 ) وصححه ، ووافقه الذهبي عن أبي أمامة رضي الله عنه)
قال ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ تحت باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء : أن «الآثار كلها في هذا الباب المروية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما وردت في النهي عن الجدال والمراء في القرآن...وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك، وليس الاعتقادات كذلك، لأن الله عز وجل لا يوصف عند الجماعة ـ أهل السنة ـ إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم....». (جامع بيان العلم : 2/113)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «..وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا﴾ [النساء ك59].وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين...ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة ».( مجموع الفتاوى : 24/172-173)
دليل المناظرة من القرآن
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . [سورة النحل 16 / 125]
قال ابن كثير في تفسيرها: ((وقوله: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب..)). تفسير ابن كثير (4 / 532)
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } المجادله
{ وقالوا كونوا هوداً أو نصار تهتدوا قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } البقرة 135
{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم عن كنتم صادقين } البقرة 111
{وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق } المائده 18
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64] سورة آل عمران .
دليل المناظرة من السنة
قال عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))
قال ابن حزم -رحمه الله- ((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله) رواه أحمد وغيره.
ومن عمل الصحابة :
1 – مناظرة علي رضي الله عنه للخوارج .
2 – مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج .
3 – المناظرات بين الصحابة رضي الله عنهم في كثير من المسائل .
قال ابن حزم : ( و قد تحاج المهاجرون و الأنصار و سائر الصحابة رضوان الله عليهم , و حاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضي الله عنه , و ما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق ) الإحكام ( 1 / 30 )
الفوائد التي يمكن أن يحصل عليها المناظر من المناظرة فمنها :
1 – القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يعظم ويقل بحسب موضوع المناظرة وآثارها ونتائجها .
2 – تحصيل ملكة الجدل والمناظرة والبحث والاستنباط والفهم والتعليل وتقوية الذهن وفتح نوافذ العقل في فهم المسائل .
3 – الوصول إلى الحق في المسائل العلمية والعملية .
4 – إبطال الباطل وبيان الخطأ من الأقوال والمرجوح منها .
5- رفع الإشكال واللبس والاشتباه الواقع في الأدلة عند المناظر أو الشبه التي يستدل بها المخالف .
6– تبادل الفوائد ودقائق المسائل بين المتناظرين .
7- تقليل الخلافات بين المسلمين في المسائل العلمية والعملية .
8 – مذاكرة المسائل العلمية وتثبيتها وتثبيت الإيمان بها واعتقادها .
متى تكون المناظرة ناجحة ؟
لكي تكون المناظرة ناجحة وهادفة، ويخرج الطرفان منها بفائدة ونتيجة مثمرة يحسن بهما اتباع آداب المناظرة التي ينبغي مراعاتها وهي:
1-أن يكون المناظِر في طلب الحق كمنشد ضالة، يكون شاكراً متى وجدها، ولا يفرق بين أن يظهر على يديه أو على يد غيره، فيرى رفيقه معيناً لا خصيماً ، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهر له الحق. فإذا ظهر الحق على لسان خصمه يفرح به ويشكره، لا أن يٌخجله ويسوِّد وجهه.
2- أن لا يمنع الطرف الآخر من الإنتقال من دليل إلى دليل، ومن سؤال إلى سؤال، بل يمكّنه من إيراد ما يحضره مما يحتاج إليه في المناظرة. فلا يجوز أن يقول له (لقد تركت كلامك الأول، وهذا ما لا أحتاجه..) وغيرها من كلام المعاندين.
3- القصد من المناظرة هو الوصول إلى الحق وليس إبراز علمه وغزارة معلوماته وصحة رأيه، فهذا مراء منهي عنه.
4- أن يرجو التأثير على الآخر، فإذا علم عدم قبوله للحق، وأنه لا يرجع عن رأيه وإن تبين له خطأه، فمناظرته غير جائزة لبعدها عن الهدف، وما يترتب عليها من نتائج سلبية.
5- أن يناظر في قضية مهمة أو مسألة عملية، ويبتعد عن المسائل النادرة.
6- أن يتخير الألفاظ الجيدة، ويتجنب العبارات الركيكة والعامية، ويتفادى التمتمة والغلط في الألفاظ والأسلوب.
7- أن يكون متمكناً من إيراد الأمثال والشواهد و النصوص الدينية والعلمية ذات العلاقة بموضوع المناظرة.
8- أن يتجنب عبارات الشتم واللعن، والسخرية والإستهزاء والتهكم، ونحو ذلك ما يثير عواطف الحقد والشحناء، فإن هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي أحسن.
9- ألا يرفع صوته فوق المألوف، فإن هذا لا يكسبه إلاّ ضعفاً، ولا يكون إلا دليلاً على الشعور بالمغلوبية، بل يجب عليه أن يلقي الكلام قوي الأداء، لا يشعر بالتردد والإرتباك والضعف والإنهيار، وإن أدّاه بصوت منخفض هادئ، فإن تأثير هذا الأسلوب أعظم بكثير من تأثير أسلوب الصياح والصراخ.
10- أن يتواضع في خطاب خصمه، ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم والكلمات النابية القبيحة.
11- أن يصغي جيداً لخصمه، ولا يبدأ بالكلام إلاّ بعد أن ينتهي من بيان مقصوده، فإن الإستباق إلى الكلام سؤالاً وجواباً قبل أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة، ويعقَّد البحث من جهة ويثير غضب الخصم من جهة أخرى. وأن لا يستغرق في الكلام بحيث لا يعطي فرصة إلاّ قليلة لخصمه في الكلام.
12- أن يتجنب -حد الإمكان - مجادلة طالب الرياء والسمعة والذي يؤثر الغلبة والعناد ويبحث عن القوة والعظمة، فإن هذا يعديه بمرضه فينساق معه حتى يكون شبيهاً به في هذا المرض. ومن جانب آخر، لا يستطيع أن يصل إلى نتيجة مع أمثال هؤلاء الناس.
13- أن يكون مطلعاً على أفكار وآراء خصمه من كتبه ومصادره لا من كتبه ومصادره هو. فمن يدخل في مجادلة مع الآخرين يجب أن يكون مطلعاً على كتبهم وأفكارهم بشكل يجعله قادراً على النقد والمحاججة، ومشخصاً نقاط الضعف فيها.
14- أن يكون مطلعاً على العقائد والأحكام والتشريعات والنصوص التي اعتمدها، كي لا يقع في سوء الفهم ومنزلق الشبهة. وأن يكون هاضماً للفكرة التي يريد طرحها ومحيطاً بها تماماً ومقتنعاً بها، كي يتمكن من إقناع خصمه.
هنا