أشعر بالعار إذ لا زلت أشاهد النشرة الإخبارية حتى اللحظة. متأملا ازدياد أعداد القتلى نشرة إثر نشرة. كأنّ ما يجري، لا يعني سوى ملء فراغ الشاشة، ووهب موظفي قنوات الأخبار عملا يتقاضون عليه مرتبًا آخر الشهر.
أشعر بالعار إذ لا شيء تغيّر في عالمي، منذ عام ونصف، من بداية هذا القتل الرهيب في بلدي سوريا، سوى التنامي الرهيب في شواهد القبور، وقصائد الرثاء، وخطابات المناصرين بالكلام والثرثرة.
أشعر بالعار إذ ننتقل من مؤتمر كاذب، إلى آخر أكذب منه. ولا ألوم المؤتمرين. ألوم العينينَ اللتـــــين تتابعان المصافحات المجامِلة، أن لا تدمع بأسى، الأذنـــين اللتين تســــمعان كلّ هذا الكذب، أن لا تحرّم سماع الغناء حــدادا أبدا. اليدين اللتــــين تقلّبان زرّ الريموت، أن لا تحملَ سلاحَ الفعل، في معركة القتل والحياة.
أشعر بالعار، إذ يبدو عالمي، في أحطّ مراحل إنسانيّته. أن يذبح عشرة آلاف إنسان، لأنّ فاجرًا ما، قرّر البقاء على كرسيّ حكمه، لأن أطفاله ربما لن يجدوا وظيفة في بلد يملأ أزقته ملايين العاطلين. أشعر بالعار لأنّ القناة الرسميّة تناقش ارتفاع سعر البترول، بينما يجري الدم رخيصًا ومسفوكًا في كلّ الشوارع والأحياء والنشرات.
لا شيء يبدو قريبًا. أتابع ما تبقى من النشرة. أعدّ أمواتًا جُددًا. أحصي أرقامًا أخرى، وأتّامل هذا التراب المقدّس، كيف استحال من وطنٍ، ليصير مقبرة.
حتى الذباب، يملّ كلّ هذه الجثث. والقبور، لا تعرف أيّ سعار هذا الذي أصاب البلاد. أن يموت أثنا عشر ألفا، بالقتل المتعمّد الإرهابيّ والتدمير والقصف، ليس مسألة معارضة ونظام. ليست مسألة حكم وانتخاب. هي مسألة تدمير لأساس هذا العالم الكاذب، لحكايات السلام في عيون أطفاله. لكلّ أغصان الزيتون المشرّد، وأعناق الحمامات المقصوفة الإجنحة.
هذا السعار إلى القتل، والترويع من جهة، وهذه الثرثرة الحديثيّة والكتابية، والمناقشات الفضائيّة يعني أن تذهب كل أخلاقيّات العالم المأفون إلى مزبلة الزيف، ومدن التخيّل الفاضلة.
هذا الإنماء الرهيب في جنازات الراحلين قسرًا، يعني أن يتبادل الرؤساء الفاجرون أنخاب القرارات، وتباريك الدسائس، وتنوّع المصالح على وقع سحق عظام العُجّز، وشرب الخمر في أحقاف جماجم الأطفال.
أنا الذي لم أشاهد فيتنام. ولم أحضر سيرايفو. ولم أشترك في معارك النكسة ولا النكبة، ولا الحربين العالمييتين. أنا الذي كنت أعدّ كل هذا مرحلة من مراحل التاريخ، تُقرأ ولا تعاش. لا حاجة لي بها الآن، ولا لكلّ أفلام الرعب، ولا خيال الإثارة الدمويّة. أنا الآن أرى حربًا لا تقترب من فظاعتها كلّ تلك الحروب السابقة. أرى ليلاً يشرق. أرى دموعًا تمطر. أرى عمى متصلاً، بهيميّا وبهيمًا وسرمديّا.
أنا الآن أتلطّخ بدماء مجزرة سيفكّر التاريخ طويلاً تحت أيّ أبواب العار يكتب فصول كارثيّتها.
لو عرف أعداؤنا السابقون، أيّ عدوّ كان يسكن معنا، لأراحوا خيول معاركهم منذ بدأ تاريخ المعارك. ولاستمتعوا بشماتة، وإشفاق، وهم يرون انعدام الإنسانيّة وإعدامها الذي يجري كلّ يوم على ساحات أرض الشام.
أعترف لكم: أنا ابن جيل خائب. قصفه الروس حتى تعبوا. طارده الأمريكان. احتله اليهود. مصّ نفطه ودمه الرأسماليون والحكّام الخونة. والآن يغدو حاكمه الذي نهبه نصف قرن، ملَك موت جديد، يأخذ أرواح زبائنه المتفاجئين بموتهم عن طريق الهرس والدهس وسحق العظام والجماجم تحت مجنزات الدبابات التي لم توجّه فوّهاتها سوى إلى أقفاصنا الصدريّة.
هنا الآن، في هذا الوطن المأزوم بخيباته. أتذكر سوريا شارعًُا شارعا. زرتها أربع مرات. كان خالد ابن الوليد يصافحني عند كل مفرق. وكان شعر يدي يقف أمام تمثال صلاح الدين. وفي المساء، وكون الولد الغريب يخاف النوم ليلاً، كان قاسيون يحكي لي حكاية الأولياء والصالحين، بينما كان الماغوط يقرأ سيرة المتسوّلين الذين كانوا يقرؤون تمائمهم على المدينة ليلا، حتى لا يصاب الأثرياء بالتخمة.