في العقود الأخيرة ظهر مفهوم جديد للتجسس يركز على الجوانب الاقتصادية للدول ويحاول معرفة ما يدور في كواليس العمل الاقتصادي، سواء في مجال التجارة الخارجية أو التجارة الداخلية أو الإنتاج والتسويق والتكنولوجيا وبراءات الاختراع والعلامات التجارية وغيرها. والسطور التالية تحاول توضيح هذا المفهوم الجديد للتجسس، وكيف يتم، وأشهر حالات التجسس الاقتصادي في العالم بين الدول وبين الشركات.
التجسس الاقتصادي والعولمة
في عصر العولمة أصبح العالم وكأنه بمثابة القرية الصغيرة، وأصبح من المعتقد أن كل شيء معروف، لدرجة أن البعض أطلق عبارات شهيرة تعكس هذا الوضع الجديد؛ فهناك من قال إن الأقمار الصناعية تصور طوابير النمل التي تسير على كوكب الأرض في كل مكان، وسمعنا من يقول إن الأقمار الصناعية لدى بعض الدول قادرة على التقاط أرقام لوحات السيارات في معظم دول العالم، وهناك من قال في أثناء حرب الخليج إن الأقمار الصناعية الأمريكية قادرة على التعرف على ماركة الملابس الداخلية لرئيس العراق، ولكن بالرغم من كل هذا فإن الواقع المعاش أثبت أن هذا الاعتقاد خاطئ.. من الصحيح أن الأقمار الصناعية تصور طوابير النمل على الأرض وتصور الأشخاص، ولكنها لا تستطيع أن تتعرف أو تنقل ما يدور في عقول هذا النمل أو هؤلاء الأشخاص، وهو ما يعني أن عالم اليوم ما زال فيه أسرار يسعى البعض للحصول عليها، وفي المجال الاقتصادي يمكن ـ من خلال المعلومات والتصميمات والرسومات المتعلقة بالمشروعات الاقتصادية ـ لإحدى الشركات العالمية اكتساح الأسواق في العالم محققة أرباحا هائلة، إذ تمكنت هذه الشركة من الحفاظ على سرية هذه المعلومات والتصميمات والرسومات. أما إذا تسربت هذه الأسرار إلى الشركات المنافسة فإن سيطرة هذه الشركة على الأسواق العالمية تنهار، مما يعطي للمنافسين فرصة لتحقيق أرباح كبيرة، ومن هذا المنطلق ولد التجسس الاقتصادي كمفهوم جديد في عالم الاقتصاد الدولي الراهن وفي عالم المخابرات، وأصبح يستخدم في مجال الصراع السياسي والاقتصادي بين الدول والشركات والأفراد، وقد تنوعت مجالات هذا التجسس لتغطي جميع مجالات النشاط الاقتصادي إنتاجي وتسويقي وتكنولوجي وغيرها من المجالات، وقد كشفت حالات التجسس الاقتصادي بين الدول والشركات عن حقيقة هامة مفادها أن التجسس الاقتصادي قد انتشر مع تزايد موجات العولمة والتحرير الاقتصادي في العالم، مما دفع البعض إلى وصف العولمة الاقتصادية بأنها "عولمة التجسس الاقتصادي" وجعل البعض الآخر يصف التجسس الاقتصادي بأنه تجسس اقتصادي عالمي، وقد أظهرت الدراسات في هذا المجال أنه مع زيادة التنافس بين الدول والشركات زادت نفقاتها على التجسس الاقتصادي وجمع المعلومات عن الأسواق والشركات المنافسة محليا ودوليا، وفي بعض الحالات وصل ما تنفقه الشركة الواحدة على عمليات التجسس الاقتصادي أكثر من مليار دولار سنويا.
شركات متخصصة في مجال التجسس
لم يستغرب الكثيرون عمليات التجسس الاقتصادي، ولكن الأمر الذي أثار استغراب جميع المراقبين هو أن عمليات التجسس، التي تم اكتشافها كشفت النقاب عن وجود شركات متخصصة في هذا المجال، تركز نشاطها في تقديم هذه الخدمة إلى الشركات الصناعية والخدمية والحكومة مقابل أجر، وأن هذه الشركات لديها العديد من العملاء الذين يطلبون هذه الخدمة، كما أنها توظف لديها العديد من الكوادر المدربة من المحاسبين والمراجعين والمحللين الاقتصاديين. والغريب في الأمر أن هذه الشركات والعاملين بها لا يعتبرون نشاطهم نشاطا غير مشروع أو يدعو إلى الخجل، ولكنهم يرون أن قيامهم بهذا العمل هو واجب وطني وخدمة عامة بحجة الدفاع عن المصالح القومية الاقتصادية في حالة التجسس على دولة أخرى أو في حالة التجسس على إحدى الشركات التي تنتمي إلى دول أخرى، وكذلك بحجة تقديم البيانات والمعلومات إلى العدالة في حالة التجسس على شركة وطنية لصالح شركة أخرى وطنية بينهما قضايا تتعلق بالمنافسة أو الاحتكار في السوق المحلية، وهذا تماما ما عبر عنه أحد الذين قاموا بالتجسس على شركة "مايكروسوفت" لصالح "أوراكل" المتنافستين في مجال البرمجيات في السوق الأمريكية في أثناء نظر قضية الاحتكار ضد الشركة الأولى، حيث قال: "كل ما فعلناه كان محاولة للحصول على معلومات سرية وتسليط الأضواء عليها لخدمة العدالة وأعتقد أن ذلك خدمة عامة".
ومن أشهر الجهات التي يرى البعض أنها تتخصص في مجال التجسس الاقتصادي جمعية محترفي التنافس المخابراتي، وهي جمعية تم تأسيسها عام 1982 في الولايات المتحدة الأمريكية على يد بعض العاملين في مجال المكتبات، وبعد حوالي 20 عاما من تأسيس هذه الجمعية أصبح معظم أعضائها من المحاسبين والمتخصصين في أبحاث السوق والأعمال البحثية والمعلوماتية الميدانية، وبعد الكشف عن واقعة تجسس شركة أوراكل على شركة مايكروسوفت تم إحراج هذه الجمعية وغيرها من الشركات والمؤسسات المثيلة؛ حيث بدأ الناس والحكومات ينظرون إليهم على أنهم جواسيس، وهو ما أجبر بعض هذه الشركات ومنهم هذه الجمعية على إصدار بيانات تنفي عن نفسها تهمة القيام بنشاط التجسس، بل إن هذه الجمعية قامت بوضع ميثاق شرف لطمأنة عملائها الذين وصل عددهم إلى حوالي 7 آلاف عميل، وفي هذا الميثاق ثم وضع أخلاقيات للعمل في هذا المجال يلزم العاملين فيها بالارتقاء بالمهنة والالتزام بالقوانين واحترام المعلومات التي توصف بأنها سرية، ولكن البعض يعتقد أن مثل هذه البيانات ومواثيق الشرف لا تنفي الشبهة عن هذه الجمعيات أو الشركات.
أشهر أساليب التجسس
تفننت الشركات والأفراد المتخصصون في عمليات التجسس في الأساليب التي يتبعونها لجمع المعلومات والحصول على الأسرار عن الدول والشركات المستهدفة، وهم في ذلك لا يلتزمون بأي أعراف أو مواثيق شرف أو قوانين، بل من الممكن أن يتبعوا وسيلة مشروعة للوصول إلى بيانات يعتبر الحصول عليها غير مشروع أو غير مباح، وقد أثبتت الدراسات أن أشهر أساليب التجسس التي تتبع من الأفراد أو الشركات العاملين في هذا المجال هي:
الحصول على نوعية وحجم الخدمات التي تقدمها الشركات والدول إلى الموظفين لديهم مثل خدمات العلاج والاشتراك في الأندية والمواصلات والمصايف والرحلات والتدريب وغيرها، وهي تستخدم بكثرة في حالة رغبة إحدى الشركات في استقطاب الموظفين والعمالة من الشركات المنافسة لها، وذلك بتقدم خدمات أفضل لهم لينتقلوا إليها.
الأبحاث الأكاديمية التي يقوم بها الطلبة للحصول على البيانات المطلوبة بطريقة أو بأخرى، وفي الغالب تكون عن طريق العلاقات الشخصية.
القيام بدور المتدرب الذي يحضر دورة تدريبية في الشركة المنافسة أو بدور المورد الذي يريد أن يتعرف على منتجات الشركة أو دور المشترك في أحد المعارض.
استخدام الوسائل الإلكترونية للتنصت على الاجتماعات الخاصة بالإدارة العليا أو بتصوير خطوط الإنتاج أو الرسومات الهندسية والتصميمات أو الوثائق السرية أو القيان باعتراض أجهزة الفاكس أو التليفونات أو البريد الإلكتروني الخاص بهذه الشركة والعاملين بها.
سرقة الدفاتر والمستندات أو الحصول عليها عن طريق رشوة العاملين في هذه الشركات.
فحص قمامة الشركات المنافسة وقمامة منازل العاملين بها للحصول على بيانات من خلال الأوراق والأدوات التي تُلقى في هذه القمامة وتحليلها للكشف عن معلومات سرية وغالبا ما يتم تجنيد عمال النظافة في هذه الحالة.
أمثلة التجسس بين الحكومات
لم يعد التجسس الاقتصادي قاصرا على الشركات، وإنما امتد ليشمل الحكومات أيضا في ظل احتدام المنافسة الاقتصادية بينها، فقد تجسست الولايات المتحدة الأمريكية على فرنسا قبل مفاوضات سياتل الأخيرة وأثناءها؛ حيث تم ضبط 4 عملاء لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أثناء محاولتهم تقديم رشوة لمسئولين من فرنسا للحصول على وجهة نظر فرنسا في مفاوضات تحرير التجارة في سياتل. أيضا قامت فرنسا بالتجسس على شركات أمريكية مثل شركة بوينج وتكساس، كما بدأ البرلمان الأوربي في يوليو 2000 تحقيقا حول شبكة أمريكية بريطانية للتجسس على الشركات الأوروبية، وفي هذا الصدد قامت الولايات المتحدة مؤخرا بإعداد مشروع قانون للتجسس الاقتصادي. ومن الجدير بالذكر أن مكتب التحقيقات الفيدرالي أشار إلى أن هناك 19حالة تجسس اقتصادي ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تتبع نشاط 8 من الدول التي تصنف كدول مرتفعة النشاط في مجال التجسس الاقتصادي.
إسرائيل تتجسس على مصر
حدث جدال واسع في مجلس الشعب المصري حول تجسس إسرائيل على الاقتصاد المصري ومحاولتها ضرب عناصر القوة الاقتصادية المصرية؛ حيث قدم بعض أعضاء مجلس الشعب طلبات إحاطة وأسئلة حول تغلغل إسرائيل في الاقتصاد من خلال مساهمتها في بعض الشركات في مجال الغزل والنسيج والبترول والبلاستيك والمشاركة في مزرعة مشتركة للأبحاث وغيرها من المشروعات. وقد آثار عدد من الأعضاء قيام إسرائيل بالحصول على بيانات عن العمالة والإنتاجية والتكاليف؛ وذلك لتحديد نقاط القوة التنافسية في الاقتصاد للعمل على ضربها، كما تقوم إسرائيل بالتعرف على التكنولوجيا وفنون الإنتاج المستخدمة في المصانع لمحاولة إجهاضها، كما تسعى لجمع بيانات عن براءات الاختراع والابتكارات الجديدة وتحليلها لمعرفة نقاط القوة والضعف، كما أن إسرائيل دأبت في السنوات القليلة الماضية على توجيه رسائل مدعومة ببيانات إلى مستوردي السلع المصرية في أوربا وأمريكا وغيرها من دول العالم تحذرها من شراء السلع المصرية بحجة أنها ملوثة، أو بحجة عدم مطابقتها للمواصفات، أو أن مصر استعانت بعمالة من الأطفال أو المساجين في إنتاجها، وأن هذا ضد حقوق الإنسان، وذلك بغرض التأثير على سمعة المنتجات المصرية في الأسواق العالمية، ومن المؤكد أن إسرائيل تقوم بنفس الممارسات مع دول عربية أخرى. جملة القول إن التجسس الاقتصادي أصبح من أهم معالم العولمة الاقتصادية، وإن هذا التجسس الاقتصادي انتشر بسبب المنافسة الاقتصادية بين الشركات وبين الدول التي تصل في بعض الأحيان إلى حروب تجارية، ومن العروف أنه في حالة الحرب يكون كل شيء واردًا. ولذلك يقول "بيير ماريون"، أحد كبار رجال المخابرات الفرنسية، إن الحرب ضد الشركات الأمريكية مثل لوكهيد وبوينج وتكساس تمثل استكمالا للحرب الباردة، فنحن نستخدم كل الأساليب المعروفة من رشوة وجنس وابتزاز، وتجسس اقتصادي، ولم يكن ذلك مدعاة للخجل، ولكنها كانت طفرة تثير الفخر ودليلا على الوطنية.