القاعــدة القانونية :
ـ القاعدة القانونية: هي تنظيم سلوك الشخص داخل المجتمع مع غيره دون أن تهتم كثيرا بما يحمله هذا الشخص من قيم اخلاقية، فهي تهتم اساسا بالسلوك الخارجي للشخص وتوقع عليه جزاء ماديا محسوسا لمجرد ارتكابه لفعل يحرمه أو يجرمه القانون.
إن ضرورة وجود القانون هو أمر لا يختلف فيه اثنان من أبناء الجنس البشري، إذ ان وجود القانون أمر يتناسب مع سلوكيات البشر في إدارة حياتهم. بل وجود القانون يتجاوز حدود المجتمعات البشرية ليصل إلى عالم الحيوان، فها هي ممالك الحيوانات بكافة أنواعها تراها قد جبلت و فطرت على الحياة المقننة في حين لم تمتلك تلك الجوهرة الثمينة التي يمكنها من خلالها السمو و الارتقاء ألا و هي جوهرة العقل؛ فكيف بذلك الكائن الذي قد ألقيت بين يديه هذه الجوهرة فهو لم يكن مفطوراً على حب الحياة المنظمة المقننة فحسب، بل كان بمقتضى تملكه للعقل قادرا على سن القوانين التي تنظم حياته.
فالقانون إذن هو مما تسالمت على ضرورته الكائنات الحية غير الإنسان فضلاً عنه.
تشكل معرفة حاجة الإنسان إلى القانون – بالإضافة إلى وظيفة القانون التي تقدم الحديث عنها في الفترة السابقة – ركيزة مهمة في التوصل إلى معرفة الأسباب التي من أجلها نشأ القانون و هو أحد جزئي الموضوع الذي من أجله عقد المقال.
لا تفترق هذه المسألة عن سابقتها في كون الاطروحات الوضعية تختلف في نظرتها إليها عن الاطروحات الإلهية.
فالاطروحات الوضعية تعزي احتياج الإنسان إلى القانون إلى كونه مدني بالطبع، إذ ، كون الإنسان مدني بالطبع –أي ميله إلى الحياة الاجتماعية و نفوره من الحياة الفردية – يفرض عليه إنشاء علاقات مع الآخرين، و مع تشعب هذه العلاقات و اصطدام مصالح البعض بمصالح البعض الآخر، تصبح الحاجة ملحة إلى وسيلة يمكن من خلالها تنظيم هذه العلاقات.
ان الوضعيين اعتبروا حاجة الإنسان للقانون منطلقة من ضرورة تنظيم سلوك الفرد في علاقته مع غيره كون الإنسان يندفع في جميع تحركاته بدافع مصالحه الشخصية فيلزم من هذا انتفاء الحاجة إلى القانون، و ذلك في حالة وصول المجتمع إلى المرحلة المثالية التي يفضل الفرد فيها مصلحة المجتمع على مصالحه الشخصية.
و هذا ما صرح به بعض الفلاسفة في قولهم: (انه لو كان المجتمع مثالياً مكوناً من الفلاسفة لم يحتج إلى القانون) و لكن رأيهم هذا لم يكن تاماً، فانه لو فرضنا بان كل اولئك الفلاسفة كانوا في أعلى درجات العدالة و النزاهة، أفليس اختلاف الآراء يوجب بينهم التخاصم و التدافع؟ أو ليس ذلك بحاجة إلى قانون يقرره من هو فوقهم - إذا اعتقدوا به – أو يقرره أكثريتهم، إذا كانوا يرون ذلك، أو حسب القرعة أو غير ذلك..؟
إذن فالقانون ضروري في حياة المجتمع مهما كانت ثقافة ذلك المجتمع و سواء كان بدائياً ام متوسطاً ام مثالياً في ثقافته و أخلاقه، فهو لا غنى له في كل الأحوال عن القانون.
هذه رؤية الوضعيين في حاجة الإنسان إلى القانون، أما الالهيون فهم ينظرون إلى القضية من زاوية أخرى.
فهم يرون بان حاجة الإنسان إلى القانون منبعثة من حوائج فردية و اجتماعية في مختلف الجوانب و ليس كونه مدنياً بطبيعته – كما تقدم – و ذلك بدليل انه لو عاش في غابة أو كهف بمفرده لاحتاج إلى قانون ينظم سلوكه مع نفسه و مع خالقه و مع الكون بصورة عامة.
يمكننا التعرف على منشأ وجود القانون و ضرورته. و التي تختلف في القانون الوضعي عنها في القانون الإلهي و ذلك تبعاً لاختلاف وظيفة كل من القانونين.
فمنشأ حدوث القانون الوضعي هو ضرورة حل الاختلافات التي تحصل نتيجة التعارض بين مصالح الناس، و هذا هو الأمر المهم في المقام فحسب، إذ لا علاقة أخرى تستحق التنظيم غير هذه العلاقة.
إذن فمنشأ حدوث القانون هو احتياجات الإنسان لذلك، و هذا ما يتفق القانون الإلهي فيه مع القانون الوضعي، و لا خلاف بينهما من هذه الناحية (فلا فرق بين الأديان السابقة، و دين الإسلام، و بين القوانين المستندة إلى مختلف الفلسفات في انهم يريدون خير الإنسان – سواء كان الخير الواقعي أو المزعوم – و البحث و التنقيب هو الوسيلة الوحيدة لتمييز الصالح من غير الصالح).
فالخلاف هنا بين كل من القانون الإلهي و الوضعي ليس في الكبرى و إنما في الصغرى و التطبيق.
فالعامل المادي من العلاقات الإنسانية فقط هو منشأ حدوث القانون الوضعي، أما القانون الإلهي فمنشأ حدوثه هو العامل المادي و الروحي (المعنوي) من العلاقات، و عليه فالنسبة بين كل منهما من هذا الجانب هي نسبة العموم و الخصوص المطلق.
هناك اصول كثيرة شكلت عوامل أساسية في حدوث القانون و هذه العوامل هي:
1 – العوامل الاقتصادية:
(فللعوامل الاقتصادية الأثر الكبير في سن بعض القوانين و الأنظمة و هذا التأثير يبدو لنا بأجلى بيان في عصرنا الحاضر حيث كان للتطور الاقتصادي اثر بالغ في حالة التشريع).
إن هذا العامل يتعلق في الحقيقة بمعائش الناس، و هذا الأمر من اكثر الأمور تشعباً و تفرعاً و كثرة تفرعات الأمور تنشئ كثير من الاختلافات التي تستدعي التنظيم.
2 – العوامل الاجتماعية و السياسية:
فالأفكار لها بالغ الأثر ولادة التشريعات، فالشريعة الإسلامية كانت وليدة فكر حل محل أفكار فاسدة كانت قائمة في واقع فاسد، و كذلك ما أورثته بعض الثورات.
3 – العوامل الجسدية:
فأصول الاحتياجات الجسدية المستدعية لوضع القانون تسعة و هي:
أ: المسكن، ب: الملبس، ج: المركب، د: الطعام: من الماء، و الغذاء، و الدواء، ه: الزوجة أو الزوج و الأولاد، و: وسائل الراحة و الجمال، ز: التجمع.
فحسب رأي الفقهاء الإسلاميين يعد (كل واحد من هذه الأمور أصلا مما يطلبه الإنسان و يحتاج إليه، فاللازم على القانون أن يوفره حسب مختلف المستويات. و منها تشعبت المهن و الحرف و ملايين الأدوات و الآلات من غير فرق بين أصحاب الكهوف، و الصحارى، و المدن، و غيرها، سوى ان لكل واحد منهم جملةً ما يلائمه، حسب مناخه، و تقاليده و شرائط حياته).
4 – العوامل الروحية:
ان هذه العوامل لم تكن مورد عناية القوانين الوضعية، إنما تناولتها بالاهتمام القوانين الإلهية فحسب، فأصول (الاحتياجات الروحية تسعة كذلك و هي:
أ: الأيمان، ب: العلم، ج: الفضيلة، د: التقوى، ه: التقدم، و: الأمن، ز: الاستقلال، ح: الحرية، ط: المساواة).
و يسرنا في معرض حديثنا عن موضوع العوامل الجسدية الروحية أن ننقل كلام سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي بحث هذا الأمر في كتابه (القانون) إذ يقول هناك ما نصه: (و كما ان الروح و الجسد متشابكان يؤثر كل واحد منهما في الآخر صحة وسقماً، و حركة و سكوناً، كذلك الحاجات المذكورة متشابكة فبعضها أولا و بالذات مربوط بالروح، و ثانياً و بالعرض مربوط بالجسد، و بعضها بالعكس. و الإسلام كما نجده في المتون الأولية و هي: الكتاب و السنة، أعطى كل شيء من هذه الحاجات حقه من القانون الصحيح، و الاختلافات الاجتهادية للعلماء لا يضر الجامع، كما هو كذلك بالنسبة إلى سائر القوانين و الأديان. لكن الإسلام يزيد على القوانين – كما هي حالة الأديان السماوية الأخر – في انه يبشر بدار آخره، و لذا وضع لها سلسلة طويلة من القوانين، و هذه القوانين أمّنت سبل الحياة السعيدة في الدنيا أيضا، إذ الوازع الداخلي له أهمية قصوى بالنسبة إلى تعديل الحياة و إسعاد البشر بما لا يتمكن القانون من توفيره إطلاقاً).
5 – بسط العدل:
رغم الأهمية التي تتمتع بها العوامل المتقدمة، إلا إن المنشأ الأساسي للقانون -الإلهي و العادل من الوضعي –هو بسط العدل و إقامته.
فالفقهاء المسلمون يرون (إن بسط العدل من أهم المبادئ الأساسية في الإسلام، فان الإسلام أهم ما ينشده من الأهداف تحقيق العدل، و القضاء على الظلم و الجور، و قد ارتبطت جميع مناحي التشريع الإسلامي بالعدل فلا يوجد ثمة حكم إلا مرتبطاً به، فهو العلة في التشريع).
فهذا العامل يعتبر الأساس في جميع ما تقدم من العوامل، و إنما نشأت العوامل جميعاً من هذا العامل و خصوصاً في القوانين الإلهية