ما معنى جواب الحكيم في عبارات الفقهاء ؟
نجد الجواب في محاضرة مفرغة للعلامة أبي اسحاق الحويني هذا جزء منها رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء أعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) مع أنهم لم يسألوا عن حل الميتة، إنما سألوا عن طهورية ماء البحر أهو طاهر؟ فكان يكفي الشطر الأول في الجواب: ( هو الطهور ماؤه) لكن زادهم الرسول عليه الصلاة والسلام حكماً لم يسألوا عنه، وهذا من تمام شفقته عليه الصلاة والسلام بهؤلاء السائلين. فإذا كان هؤلاء الأعراب استشكلوا طهورية ماء البحر، فلأن يستشكلوا ميتة البحر أولى، إذا كان استشكلوا الشيء المشهور المعروف، فلأن يستشكلوا ما هو أغمض منه أولى، وهؤلاء أعراب يركبون البحر، فقد يغيب الرجل خمسة عشر يوماً في البحر وينفد زاده، وقد يضطر إلى أكل السمك أو أكل حيتان البحر، وليس عنده أي معلومة هل ميتة البحر حلال أم حرام؛ فأشفق عليهم فأفتاهم. ولو قال شخص: لم يكونوا صيادين. فنقول: لا؛ لأنه ورد في بعض طرق الحديث أنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، ولو كانوا يصطادون السمك لكان هذا ظاهراً جداً بالنسبة لهم. لكنهم كانوا يصطادون اللؤلؤ، فربما نفد زاد هؤلاء فظنوا أن ميتة البحر تدخل في عموم الميتة في القرآن، فلا يأكلون، قال الله تبارك وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] و(الميتة): اسم جنس محلى بالألف واللام، يفيد العموم، أي: حرمت عليكم كل أنواع الميتة. وقد يقول شخص: السمك والجراد معروف للناس جميعاً أنه مستثنى من الميتة؟ نقول: لا، هذا معروف لنا، لكن بالنسبة لهؤلاء الأعراب لم يكن معروفاً، فأنت إذا عرفت أن أحد كبار الصحابة المجتهدين لم يكن يعرف هذا الحكم سهل عليك أن تعرف أن هؤلاء الأعراب لا يعرفون الحكم. فهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد روى خبره هذا البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أرسلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح ، وأعطاهم جراباً فيه تمر، فكان يعطينا الحفنة من التمر فنأكلها. فلما كاد التمر أن ينفد كان يعطينا تمرة تمره، فكنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء، فلما نفد التمر أكلنا ورق الشجر -يضربونه بالعصي ثم يطحنونه، ثم يأكلونه، فسمي هذا الجيش جيش الخبط، الذي هو نسبة إلى ورق الشجر الناشف- فظلوا يأكلون ورق الشجر شهراً حتى قرحت أشداقهم. قال: ثم قذف البحر لنا دابة عظيمة يقال لها العنبر -دابة عظيمة: حوت من حيتان البحر، لكنه عظيم الخلق- قال: وجلس ثلاثة عشر رجلاً منا في وقب عينه -مكان العين هذه مكث فيه ثلاثة عشر واحداً من الصحابة- قال: وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال. فأول ما رمى البحر هذا العنبر على الشاطئ قال أبو عبيدة : ميتة! لا تأكلوه -لم يكن عند أبي عبيدة خبر أن ميتة البحر مستثناة من عموم الميتة في كتاب الله عز وجل-. ثم قال لنفسه: نحن جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون، فكلوه -إذاً أبو عبيدة أيضاً لما أكل لم يخالف النص القرآني: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، فحمل هذا الأمر على الضرورة، وأكلوا- وأخذوا من لحمه وشائق -أي: وضعوا عليها ملحاً وقددوها-. فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك قال: (هذا رزق رزقكموه الله عز وجل، فهل معكم منه شيء؟). فإذا كان أبو عبيدة بن الجراح وهو من هو في العلم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وقع طاعون عمواس وأراد أن يخرج قبل أن يعرف الحكم، فقال له أبو عبيدة : أتفر من قدر الله يا أبا حفص ؟ قال: يا أبا عبيدة ! لو غيرك قالها -يعني: كان أدبه، لكن أبا عبيدة كانت له مكانة عند عمر وكان جليل القدر والعلم، وكأنما يقول: أفمثلك في علمه يقول مثل هذا الكلام؟- نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. فإذا كان هذا الحكم يخفى على مثل أبي عبيدة بن الجراح فله أن يخفى على مجموعة من الأعراب أولى وأولى، والرسول عليه الصلاة والسلام علم استشكال هؤلاء عن ماء البحر، فأعطاهم هذا الحكم الزائد الذي لم يسألوا عنه؛ رحمة بهم