تحيز النقد العربي الحديث إلى النقد الغربي
تجاذبت أغلبَ مفكري النهضة العربية ونقادها نزعتان: نزعة التأثر المقرون بالإعجاب والانبهار بالغرب وحضارته وثقافته، ونزعة الإقرار بتخلف العرب. لذلك، دعا بعض رواد النهضة العربية الحديثة إلى محاكاة الغرب قصد تحقيق النهضة. ومن هاتين النزعتين، انبثق ذلك السؤال المعروف الفاسد: لماذا تقدم الغرب وتأخر الشرق؟ وهو فاسد لأنه ينطوي على إعجاب لا نظير له بما حققه الغرب من تقدم حضاري، وإقرار بتخلف حضارة «الأنا»، وهو إقرار لم يتم بناءً على مقاييس الذات ورؤاها وتصوراتها لمفهوم التقدم، وإنما باعتماد مقاييس الآخر وتصوراته. الأمر الذي يحصر غاية النهضة في اللحاق بالآخر «المتقدم»، وهذا اللحاق لا يمكن أن يتم، من وجهة النظر هاته، إلا بمحاكاة هذا الآخر، والأخذ بأسباب تقدمه وتحضره. وهذا ما جعل كثيراً من رواد النهضة العربية يتهافتون على الفكر الغربي ويدعون إليه. وبالمقابل، «يحتقرون» التراث النقدي العربي، إلا ما استجاب منه لمقاييس الفكر الغربي وانسجم معها. وهدف هذه الدراسة هو الكشف عن تحيز بعض أفراد تلك الحركة النقدية التي بدأت في التشكل مطلع القرن العشرين، وهي الحركة التي ينسب إليها، من قبل كثيرين، دور كبير في «تحديث» النقد العربي و «تجديده»، نتيجة «وعيها» بإشكالية المنهج في النقد العربي، بسبب اتصالها المباشر أو غير المباشر، بمناهج النقد الغربي، ولعل من أبرز روادها: عباس محمود العقاد (1889-1964)، وإبراهيم عبد القادر المازني (1890-1949)، وميخائيل نعيمة (1889-1988)، وطه حسين (1889-1973)، ومحمد مندور (1907-1965). وتمتد هذه الحركة إلى حدود منتصف العقد السادس من القرن الماضي، قبل أن نشهد، منتصف العقد السابع ومطلع العقد الثامن، ميلاد حركة نقدية جديدة يمكن تسميتها بـ«المعاصرة»، حاولت الإفادة من المناهج النقدية الغربية الحديثة التي ظهرت نتيجة التطور الذي حصل في الدراسات اللسانية الغربية، وفي مقدمتها البنيوية. من هنا، فالفارق بين الحديث والمعاصر، في هذه الدراسة، فارق زمني فحسب، وليس فنيًّا.
* أولاً: تحيُّز عباس محمود العقاد،
وإبراهيم عبد القادر المازني، وميخائيل نعيمة
1- تحيز العقاد والمازني
رغم أن البازعي يحمِّل أحمد ضيف مسؤولية التقابل بين التراث العربي القديم والفكر الغربي الحديث، لأنه بسبب كتاباته «ترسخت فكرة الارتباط، بل التماهي، بين مفهوم «الحديث» و«الأوروبي» أو «الغربي» في الثقافة العربية المعاصرة، ليغدو «النقد الحديث» مثل «الفكر الحديث» و«العلم الحديث» لا يحيل على شيء، سوى ما ينتجه الغرب من فكر ومناهج ومفاهيم» ، إلا أنه يمكن اعتبار كتاب «الديوان» للعقاد والمازني، الصادر عام 1921، أول محاولة بارزة في مسيرة النقد العربي الحديث؛ لأنه مع هذا الكتاب، تبدأ أولى محاولات التمرد على التراث النقدي العربي وإعلان القطيعة معه، والتحيز الكلي إلى الحضارة الغربية وتراثها. ولذلك تمثل هذه المحاولة «بداية أول قطيعة حادة مع التراث بوجه عام، ومن ثم، بداية تعويل الناقد العربي (الحديث) على أصول نقدية، ليست من صنعه، ولا من تراثه، بل من صنع الغرب (المتقدم) الذي أصبح اللحاق به منذ ذلك الوقت حلًّا لأزمة التخلف» .
وهذا ما يتضح من خلال الهدف الذي يحدده العقاد والمازني لدراستهما، وهو «إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما» ، الأمر الذي قادهما إلى رفض النموذج العربي القديم والحديث معاً، في الأدب والنقد، والدعوة إلى مذهب جديد، وهذا المذهب الجديد ليس إلَّا المذهب الغربي الذي يعبر العقاد والمازني عن انبهارهما به. يقول العقاد، في سياق حديثه عن الآداب الغربية: «إن المرء ليزهى بآدميته حين يُلقي بنفسه في غمار الآداب الغربية، وتجيش أعماق ضميره بتدافع تياراتها وتعارض مذاهبها ومتجهاتها وتجاوب أصدائها وأصواتها..». وبالمقابل، يزدري أحمد شوقي وأتباعه من أنصار المذهب القديم، ويرفض اعتبارهم قدوة الأمة وقوادها، لأن أدب هؤلاء وعالمهم، لا يشبه أدب أولئك وعالمهم، أدب الأدباء الغربيين، «معلمي الإنسانية» و «قدوتها»، فهم مجرد «صعاليك فكريين»، و«أميين عارفين بالكتابة»، و«جهلة متدثرين بلباس المعرفة»... ولذلك، فمن «الجناية على مصر والشين لها أن يُسمى هؤلاء النفر بعد اليوم أدباءها وتراجمة حياة الروح والفكر فيها» .
وبرغم استعانة العقاد والمازني بكثير من المناهج التقليدية التي أعلنا القطيعة معها والثورة عليها، مما حال دون تحقق «القطيعة الإبستمولوجية والفلسفية بين النقد الوجداني والنقد التقليدي»، فإن هذه الاستعانة لا تلغي المسؤولية التاريخية لكتابهما في التمرد على الماضي الأهلي، والدعوة إلى الحاضر الأجنبي، بل وإلى ماضيه أيضاً؛ لأن هذه المحاولة «التوفيقية» بين معطيات النقد الغربي الحديث ومعطيات النقد العربي القديم، لا يمكن تفسيرها على أنها محاولة واعية من جانب الناقدين بتوظيف ما أعلنا التمرد عليه، بل هي تندرج في إطار ذلك «التناقض» الذي هو «خاصية المرحلة الأولى من مراحل نقدنا الحديث» .
2- تحيز نعيمة
أما المحاولة البارزة الثانية، فهي كتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة، الذي صدر عام 1923. فمع هذه الدراسة لم يعد الهدف هو إقامة الحد بين الماضي والحاضر فحسب، بل تجاوزه إلى تصفية الحساب مع هذا الماضي .
لقد كان ميخائيل نعيمة أكثر جرأة من سابقيه في احتقار التراث العربي وأعلامه، وإعلان القطيعة التامة معه؛ فهو يؤكد أن العقل العربي لم يقدم أي شيء للإنسانية، لم يقدم أدباً ولا فنًّا ولا فكراً ولا قائداً من قواد الإنسانية في أي مجال من مجالات الحياة، فهو عقل «جامد»، و«متخلف»، و«فقير». أما امرؤ القيس، والنابغة، وعنترة، والمتنبي، وابن رشد، وابن سينا، وغيرهم من القدماء والمحدثين، فإن «غثهم أكثر من سمينهم». ويتابع نعيمة قائلاً: «... وعلى كل لا أظنكم ظالمين إلى حد أن ترفعوا أحداً منهم إلى مصاف هوميروس وفرجيل ودانت وشكسبير وملتون... أولئك عاشوا وماتوا ليتغزلوا بظباء الفلاة ولمعان المشرفيات ووقع سنابك الخيل وسفك الدماء ومشي الإبل وأطلال المنازل ونار القرى ... إلخ» .
ومقابل هذا الازدراء للتراث العربي وأعلامه، يبدي نعيمة انبهاره بتراث الغرب وأعلامه؛ فهؤلاء «اختارتهم السماء أصفياءها وأسكنتهم الأولمب ولمست شفاههم بجمرة الحق... هؤلاء شموع موقدة، في دياجير العالم لتهدي العالم إلى النور... هؤلاء معلمو الإنسانية وقوادها دعوهم في أعاليهم فنحن قاصرون عن إدراكهم..» .
* ثانياً: تحيز طه حسين
يمكن اعتبار كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، الصادر عام 1926، أخطر دراسة نقدية وتاريخية في تاريخ النقد العربي الحديث؛ لأنها ستمنح الشرعية لما سبقها من دراسات نقدية، من جهة. وستؤسس لنموذج جديد لما سيأتي بعدها من محاولات في تأريخ الأدب العربي ونقده، من جهة أخرى .
يستهل طه حسين دراسته بقوله: «هذا نحو من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل. وأكاد أثق بأن فريقاً منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقاً آخر، سيزورون عنه ازوراراً، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث» . ويضيف، مؤكداً اقتناعه بنتائج بحثه الجديد في الشعر الجاهلي: «ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعاً ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي» . وبسبب هذا الاقتناع، فإنه يصر على تقييد هذا البحث ونشره، وتقديمه إلى تلك الفئة القليلة من «المستنيرين»، الذين هم «عدة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد» .
ويؤكد بوثوقية تامة، رغم ادعائه اصطناع مذهب الشك الديكارتي، والتزامه بمعايير البحث العلمي «الصحيح»، أننا تجاه الأدب العربي وتاريخه بين أمرين اثنين لا ثالث لهما؛ فإما أن نقبل بما قاله القدماء في حق هذا الأدب، وإما أن نضع هذا الأدب وعلم المتقدمين كله موضع شك. يقول: «نحن بين اثنين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء... وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت، فلست أريد أن أقول البحث وإنما أريد أن أقول الشك» .
وتبعاً لتقسيمه الأدب إلى قديم وجديد، يقسم أنصاره إلى قدماء ومحدثين، ويرى أن الطريق أمام أنصار القديم واضحة، والأمر عليهم سهل، فمذهبهم في الأدب هو مذهب الفقهاء في الفقه بعد إغلاق باب الاجتهاد. وأهم ما يتميز به هذا المذهب هو الاطمئنان إلى ما قاله القدماء في حق الأدب العربي وتاريخه. أما أنصار الجديد، فالطريق أمامهم، في نظره، معوجة ملتوية، ذلك أنهم لا يؤمنون بشيء، ولا يطمئنون إلى رأي، ويجدون في الشك لذة، وفي الاضطراب رضا، وهم لا يريدون أن يخطوا في الأدب خطوة حتى يتبينوا موضعها، «وهم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء، وإنما يلقونه بالتحفظ والشك» . أما نتائج هذا المذهب الجديد، فهي «عظيمة جليلة الخطر، فهي إلى الثورة أقرب منها إلى أي شيء آخر» .
ولا يتوقف طه حسين، في توضيحه لنتائج هذا المذهب، عند حدود ادعاء إحداث ثورة في الأدب وتاريخه، بل يتوقع من هذا المذهب «تغيير التاريخ» نفسه، و«الشك في المحظور». يقول: «وليس حظ هذا المذهب منتهياً عند هذا الحد، بل هو يتجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثراً. فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ. وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها» .
وإذا كان الشك مبدأ أنصار الجديد، فإن طه حسين ينطلق منه ليشك في أولى مراحل الشعر العربي؛ فشك في الشعر الجاهلي، أو ألحَّ عليه الشك كما يقول، لأن هذا الشعر لا يمثل حياة الجاهليين. أما تلك الأشعار التي تنسب إلى الجاهليين فـ«ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين» . ويذهب إلى «أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدًّا لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي» . أما الذي يصور هذا العصر تصويراً صحيحاً وواضحاً، ويمكن الوثوق به والاعتماد عليه، فهو «القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى» .
وبعد توضيح مذهبه الجديد، وعرض مبادئه التي يعد الشك أهمها، ينتقل إلى توضيح منهجه في البحث. يقول طه حسين: «أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث» . ويمضي موضحاً المبدأ الأول والأساس في هذا المنهج، وهو مبدأ التجرد من كل الأحكام السابقة، والشك في كل الآراء الموجودة؛ إذ يجب على الباحث أن يتجرد «من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا» .
وعملاً بهذا المبدأ الديكارتي، يدعونا، عند البحث في الأدب العربي وتاريخه، إلى التجرد من كل شيء قد يؤثر علينا فنتسرع أو نتحيز في أحكامنا، فيجب أن «ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكل ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ألَّا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح» .
ويرى أن إخلاص المسلمين القدماء في حبهم للإسلام، وتأثرهم به في مباحثهم العلمية قد أفسد علمهم، ولو أنهم استطاعوا أن يتجردوا من عواطفهم وأهوائهم، «وأن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم وأن يتناولوا العلم على نحو ما يتناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا دين ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدباً غير الأدب الذي نجده بين أيدينا، ولأراحونا من هذا العناء الذي نتكلفه الآن... وأنت تستطيع أن تقول هذا الذي نقوله في كل شيء. فلو أن الفلاسفة ذهبوا في الفلسفة مذهب (ديكارت) منذ العصور الأولى، لما احتاج (ديكارت) إلى أن يستحدث منهجه الجديد» .
وانطلاقاً من هذه الفوائد «الجليلة» لمنهج ديكارت، الذي «جدد» فلسفة العصر الحديث وعلمه وفنه وأدبه، حتى صار «الطابع الذي يمتاز به هذا العصر» ، لا يترك طه حسين أمامنا أي خيار سوى خيار التأثر بهذا المنهج، «سواء رضينا أو كرهنا». وهل هناك من مسوغ للتأثر بهذا المنهج في دراساتنا العلمية والأدبية أكثر من تأثر أهل الغرب به من قبلنا؟ لا خيار أمامنا، إذاً، إلَّا اصطناع هذا المنهج «في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم» .
ويسارع إلى رد أي اعتراض قد يرد عليه بدعوى عدم مراعاة خصوصية الأدبين الغربي والعربي، نافياً كل خصوصية أو تميّز للعقلية العربية عن نظيرتها الغربية، ومؤكداً تقارب العقليتين، بل ونزوعهما نحو الاتحاد، إن «عقليتنا نفسها -يؤكد طه حسين- قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية، وهي كلما مضى عليها الزمن جدت في التغيير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب» .
وإذا كان أنصار القديم في مصر ما زالوا يعيقون هذا التقارب بين العقليتين، بسبب عدم اصطباغ عقليتهم بهذه الصبغة الغربية، فإن انتشار العلم الغربي وتعميمه، «سيقضي غداً أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيًّا، وبأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج (ديكارت) كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان» .
ويختم حديثه عن مبادئ منهجه في البحث وفوائده بقوله: «فالمستقبل لمنهج (ديكارت) لا لمناهج القدماء»! .
وإذا كان طه حسين قد قسم الأدب والنقد العربيين إلى قديم وجديد، والأدباء العرب إلى قدماء ومحدثين، فإن هذا التقسيم لا ينطبق على الآداب الأوروبية وأعلامها، فصفة القديم يبدو أنها لازمة لما هو عربي فقط، أما ما هو يوناني أو غربي حديث فهو «إنساني» و«خالد»، ولا يمكن أن يكون قديماً. وهذا ما يؤكده في سياق رده على أولئك الذين يتغنون بالجديد فقط لأنه جديد، ويرفضون القديم فقط لأنه قديم: «.. قل لهم: إن فلسفة اليونان وآدابهم وفنونهم ليست قديمة ولا يمكن أن تكون قديمة، وإنما هي أشياء أراد الله لها أن تحتفظ بقوتها ونضرتها وشبابها ما بقي من الدهر وما كان للإنسان عقل وشعور» .
ولذلك، فهو لا يضع علوم المتقدمين الغربيين موضع الشك كما يفعل مع الأدب العربي، ويكفي أن نلقي نظرة على ما يقوله في حق أرسطو وفلسفته، وفي حق أدب اليونان وفنه، بل وفي أعلام الأدب والفكر الغربي الحديث، لنقف على مقدار تحيزه للحضارة الغربية. يقول عن أرسطو، في سياق إشادته بترجمة لطفي السيد لكتاب «الأخلاق» لأرسطو: «أريد أن أعلم إلى أي مؤلف أو إلى أي عالم أو إلى أي فيلسوف نستطيع أن نقرن أرسطا طاليس! أما أنا فلست أعرف له نظيراً منذ ظهرت الفلسفة الإنسانية، وما أعتقد أن أحداً غيري يستطيع أن يجد له نظيراً. ومهما يكن من شيء فأرسطا طاليس هو المعلم الأول حقًّا كما سماه العرب، وهو أبو الفلاسفة حقًّا، وهو زعيم الفلاسفة حقًّا وأبقاهم سلطاناً وأرفعهم مكاناً وأشدهم ثباتاً للدهر وقوةً على الأيام» .
ويضيف، في نبرة تكشف بوضوح عن انبهاره بالحضارة الغربية ومصادرها اليونانية، انبهاراً أعماه عن رؤية نقائصها وإدراك تحيزاتها، وجعله يصف كل ما أنتجه الغرب بـ«الكوني» و«الإنساني» و«الخالد»، قائلاً: «كانت تلك المذاهب في المنطق والأخلاق والسياسة والبيان مذاهب شخصية تضاف إلى أصحابها وتطبع بطابعهم. فلما جاء أرسطا طاليس أصبحت هذه العلوم علوماً إنسانية لا فردية ولا مذهبية، وأصبحت تمتاز بشيئين متناقضين، فهي شخصية من جهة، ولا شخصية من جهة أخرى: شخصية لأن شخص أرسطا طاليس أقوى وأظهر من أن يخفى... وهي في الوقت نفسه لا شخصية، لأن أرسطا طاليس لم يكن يريد أن يسلك في الفلسفة مسلك الذين تقدموه، وإنما كان يريد أن ينظم جهود العقل الإنساني ونتائج هذه الجهود، وأن يرسم لهذا العقل سبيله إلى الرقي العلمي والأدبي، وقد وفق أرسطا طاليس فأصبحت فلسفته فلسفة الإنسانية» .
ويواصل تمجيده لأرسطو، وبيان آثاره على الإنسانية، وتأكيد كونية فلسفته الخالدة التي لا تنالها يد الاندثار، ولا تخضع لمنطق التاريخ، لأنها متجاوزة له، ومتعالية عليه وعلى أي خصوصية حضارية أو تحيز معرفي، إلى أن يصل إلى الحديث عن فضله في النهضة العربية الأولى، وفي النهضة الأوروبية الحديثة، ليخلص إلى القول بأن «كل شيء من آثار أرسطا طاليس غريب؛ فإنك لا تسلك مذهباً من مذاهبه الفلسفية إلا أحسست فيه شيئين: الأول أن هذا المذهب ملائم للعصر الذي نشأ فيه، والثاني أنه ملائم للعصور الإنسانية على اختلافها» . ويدعم رأيه بشهادة بعض الفرنسيين الذين يرون أن فلسفة أرسطو تشكل أساساً لكل حضارة جديدة يمكن أن تقوم، إلى أن يقول: «وفي الحق أن اليونان والرومان عاشوا في العصر القديم على فلسفة أرسطا طاليس وأن الشرق والغرب عاشا في القرون الوسطى على فلسفة أرسطا طاليس، وأن أوروبا الحديثة تعيش الآن وستعيش غداً على فلسفة أرسطا طاليس» .
غير أنه إذا أمكننا تجاوز تناقض طه حسين مع نفسه بين ما يقوله هنا في حق أرسطو، وبين ما قرره في حق منهج ديكارت حين رأى أن هذا المنهج قد جدد العلم والفلسفة تجديداً، فإنه لا يمكن تجاوز ما تنطوي عليه هذه الآراء من مغالطات تاريخية يدركها كل من لديه أدنى اطلاع على أسس النهضتين العربية الأولى والأوروبية الحديثة. ذلك أن فلسفة أرسطو، لم تكن، في أي يوم من الأيام، من مواجهات النهضة العربية الأولى، بل كانت على العكس من ذلك تماماً، من أكبر عوائقها التي ساهمت في تعثرها. وهذا ما يؤكده ابن تيمية حين يقرر أن الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى، كانت أعلم الأمم في العلوم والمعارف، ولكن بعد ترجمة كتب أرسطو صار الاختلاف والجهل أهم سماتها. يقول ابن تيمية: «فإن القرون الثلاثة من هذه الأمة -الذين كانوا أعلم بني آدم علوماً ومعارف- لم يكن تكلف هذه الحدود من عادتهم، فإنهم لم يبتدعوها، ولم تكن الكتب الأعجمية الرومية عُرِّبت لهم. وإنما حدثت بعدهم من مبتدعة المتكلمين والفلاسفة ومن حين حدثت صار بينهم من الاختلاف والجهل ما لا يعلمه إلا الله» .
ويعبر أبو يعرب المرزوقي عن الرأي نفسه حين يربط تعثر النهضة العربية الأولى بالفلسفة الأرسطية، لأن هذه النهضة «لم تقدر فعل التفلسف حق قدره»، فحصرت إياه «في مجرد استيراد النظريات الحاصلة بدلاً من تعلم فعل التنظير، وقد حصل أمر عجب جعل معارضي الفلسفة أكثر فهماً لها بصفتها فعل تنظير من الذين تبنوها» .
أما النهضة الغربية الحديثة، فلا جدال في أنها قد قامت أساساً على التخلص من فلسفة أرسطو وشروحها .
فكيف يسمح طه حسين لنفسه بالوقوع في التناقض من جهة، وتجاوز الحقائق التاريخية من جهة أخرى، ليحتفي بترجمة كتاب من كتب أرسطو، ويدعي بعد ذلك تجرده من كل الأهواء والعواطف، والتزامه بمناهج البحث العلمي الصحيح؟ ثم نتساءل: ما هي مناهج البحث العلمي الصحيح هذه؟
إن القارئ لكتب طه حسين النقدية سيكتشف، منذ الوهلة الأولى، أن هذه المناهج ليست إلا تلك المناهج الغربية التي تلقاها عن المستشرقين، أساتذته في الجامعات المصرية والغربية، والتي يدعونا إلى استيرادها وتوظيفها دون أدنى مساءلة أو نقد، ودون أدنى فحص لمدى ملاءمتها لطبيعة موضوعه، بل ودون أن يكلف نفسه أدنى عناء لتقريبها إلى القارئ العربي، بشرح عناصرها وبسطها، وكشف خلفياتها التاريخية والمعرفية، حتى يكون هذا القارئ على بينة من أمره في قبول هذه المناهج أو رفضها.
إن البحث العلمي «الصحيح»، في نظره، هو ذلك الذي ينظر إلى القدماء من العرب -ومن العرب فحسب!- نظراً «مجرداً بريئاً» من كل الأهواء والعواطف. يقول مخاطباً رفيق بك العظم: «فأنت لا تنظر إلى هؤلاء الناس (يقصد القدماء من العرب) نظراً علميًّا مجرداً بريئاً، وإنما تنظر إليهم نظراً متهماً، ملؤه الإعجاب والإكبار، لأنك تتأثرهم، وتحتذي على مثالهم، وإذن فرأيك فيهم غير صحيح، وحكمك لهم أو عليهم متهم، وكيف تستطيع أن تجمع بين الإعجاب الذي لا حد له، وبين النقد العلمي الذي لا يعرف الهوى، ولا يتأثر بالميول والعواطف» .
هذا، إذاً، هو البحث العلمي «الصحيح»، وهذه هي مقاييسه ومعاييره: التجرد من الأهواء في الحكم على القدماء، والتخلص من الإعجاب بهم والإكبار لهم، وهي مقاييس لا يردها إلى مكابر.
لكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحكِّمها طه حسين في حكمه على الفلاسفة والأدباء الأوروبيين القدماء والمحدثين؟ إذا كان البحث العلمي «الصحيح» يقتضي التجرد من الأهواء والتخلص من الإعجاب، فكل آراء طه حسين متهمة أيضاً، فهو نفسه لم يتخلص من كثير من عواطفه وأهوائه، وهو أكثر النقاد العرب جمعاً بين الإعجاب والتأثر والاحتذاء: الإعجاب، الذي يصل إلى حد التقديس، بكثير من أعلام الفكر الغربي وآدابه، والتأثر بمناهجهم، والاحتذاء على مثالهم!
وهكذا، يتضح أن البحث العلمي «الصحيح»، في نظره، واحد لا ثاني له، وهو ذلك البحث الذي ينطلق من «مذهبه»، إن صح أن لطه حسين مذهب، في التاريخ عامة، وفي تاريخ الأدب خاصة، وأن كل من ينطلق من وجهة نظر مخالفة له في التاريخ، ويذهب فيه مذهباً آخر غير مذهبه، فهو غير ملتزم بمعايير البحث العلمي «الصحيح». فما هو، إذاً، مذهبه في التاريخ؟
إن مذهبه هو ذلك المذهب الذي تلقاه عن أساتذته المستشرقين الذين يعترف بفضلهم عليه، ويؤكد أنهم غيروا رأيه في الأدب ومذهبه في النقد «التغيير كله» ، وخاصة أستاذه كارلو نالينو الذي كانت دروسه في الجامعة المصرية تدفعه إلى حياة الطلاب في الجامعات الأوروبية، وتجعله يعيش، في المساء، مع الحاضر الأوروبي . أما الفضل الأكبر لهذا المستشرق عليه، فهو أنه علمه، لأول مرة، أن الأدب مرآة لحياة العصر. يقول طه حسين: «ثم لأول مرة تعلمنا أن الأدب مرآة لحياة العصر الذي ينتج فيه؛ لأنه إما أن يكون صدى من أصدائها، وإما أن يكون دافعاً من دوافعها، فهو متصل بها على كل حال وهو مصور لها على كل حال، ولا سبيل إلى درسه وفقهه إلا إذا درست الحياة التي سبقته فأثرت في إنشائه، والتي عاصرته فتأثرت به وأثرت فيه، والتي جاءت في إثر عصره فتلقت نتائجه وتأثرت بها» .
وكان طه حسين، قبل كتابة هذه المقدمة، قد شرح مذهبه في التاريخ بشيء من التفصيل في دراسته الأولى عن أبي العلاء المعري، حيث أكد أنه درس أبا العلاء باعتباره ثمرة من ثمرات عصره، ساهمت في تكوين شخصيته عدة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية ودينية لا يمكن ردها أو دفعها.
ولذلك، فهو يرى «الجبر في التاريخ»، وينفي انفراد الأشخاص واستقلالهم بالأعمال والحوادث، وإنما يعتقد «أن الحوادث أثر لطائفة من المؤثرات، وعلى هذا لا نستبيح لأنفسنا أن نضيف أثراً من الآثار إلى شخص من الأشخاص، مهما ارتفعت منزلته، وعلت مكانته، ومهما عظم أثره وجل خطره، وإنما كل أثر مادي أو معنوي، ظاهرة اجتماعية أو كونية، ينبغي أن ترد إلى أصولها، وتعاد إلى مصادرها» .
وانطلاقاً من هذا المذهب في التاريخ، دعا طه حسين إلى إخضاع كل الظواهر الإنسانية من تاريخ وأدب وفن، «للبحث والتحليل خضوع المادة لعمل الكيمياء» .
يتضح، إذاً، أن مذهبه في التاريخ هو ذلك المذهب التاريخي الذي ساد في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، والذي كان يتخذ من فيزياء نيوتن، ومن الوضعية في العلوم الاجتماعية نموذجاً له؛ فقد سادت القرنَ التاسع عشر نزعةٌ علموية وثوقية تعتقد بإمكانية تفسير الظواهر كلها على اختلاف أنواعها. وكان لهذه النزعة، التي انتشرت بسبب تطور العلوم الطبيعية، صداها في الفلسفة الوضعية عند أوجست كونت، وفي النقد الأدبي عند كثير من نقاد الأدب، الأمر الذي دفع هؤلاء النقاد إلى أن يقيموا النقد الأدبي على أسس وقوانين تماثل قوانين العلوم الطبيعية في دقتها وصرامتها، فتجاوز، بذلك، الناقد حدود الأدب ليماثل عالِم الطبيعة، بحيث صار باحثاً في الأدب بحثاً طبيعيًّا، وتعامل مع الظاهرة الأدبية تعامل عالم الطبيعة مع الظاهرة الطبيعية. ويكفي، للتمثيل، الإشارة إلى سانت بوف (Saint Bœuf) (1804 - 1869) الذي دعا إلى دراسة الأدباء «من حيث خصائصهم الجسمية وحياتهم المادية والعقلية والخلقية والعائلية، وأذواقهم وعاداتهم وآراؤهم، ثم ترتيبهم في (فصائل) يرتبط كل منها بملامح مشتركة، وبذا أضحى النقد الأدبي عند سانت بوف أقرب إلى التاريخ الطبيعي للأدب» .
أما هيبوليت تين (Heppolites Taine) (1828 - 1893)، تلميذ سانت بوف، فقد «حول طريقة أستاذه إلى نوع من الحتمية الجبرية على نحو ما تتصف به القوانين الطبيعية، فإذا كانت الطبيعة لا تعرف الخصائص ولا القوانين الفردية، وإنما تنشد التعرف إلى القوانين العامة، فكذلك ينبغي أن تكون قوانين الأدب... قوانين تقوم على الحتمية . وحاول دراسة الآثار الأدبية اعتماداً على ثلاثة مؤثرات، هي: الجنس والبيئة والعصر، و«يشمل مصطلح الجنس مجموعة من الأفكار عن الوراثة والأرض والمناخ. وتضم البيئة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في حين يركز العصر الانتباه على جوانب الاستمرار والتغير في الحضارة» .
لكن، هل الظاهرة الأدبية مثل الظاهرة الطبيعية تسمح بمثل هذا التعميم في القوانين، وبمثل هذه الحتمية الجبرية؟ أليس الأدب ظاهرة فنية إنسانية وليس ظاهرة طبيعية، والظاهرة الفنية لا تكون عظيمة إلَّا بقدر قابليتها لتعدد المعاني ولعشرات التأويلات، مما يجعل اختزالها في قانون رياضي عام وجاهز أمراً متعذراً إن لم نقل مستحيلاً؟
إن الظاهرة الأدبية ذات طبيعة تخييلية إيحائية، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن تكون مادة تجريبية يتم إخضاعها لقوانين عامة، وإدخالها في قوالب وأطر جاهزة تقاس عليها جميع النصوص، فإذا كانت الظاهرة الطبيعية مادة قابلة للملاحظة، والقياس، والتعميم، واكتشاف قوانينها، فإن الظاهرة الأدبية تخرج من دائرة التعميم والقياس، لتدخل دائرة الفردية والتخصيص، «فالعلم تعميم والفن تخصيص، العلم تجميع والفن تفريد. العلم يلاحظ الأشباه والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانون واحد ينظمها، والفن يلاحظ جزئية واحدة يقف عندها يحلل خصائصها» .
إن الناقد الأدبي، عندما يدرس أدب أديب معين، فهو، غالباً، لا يولي اهتماماً كبيراً لما يشترك فيه مع بقية البشر، أو مع باقي أدباء عصره، وإنما يدرسه ليكتشف ما تفرد به هذا الأديب وتميز به عن غيره من الأدباء. وهذا يختلف عن عالِم الطبيعة الذي يروم وضع قوانين عامة تتكرر في جميع الحالات.
إذاً، فمن الواضح أن المشكلة في الدراسة الأدبية، كما يقول رينيه ويليك، هي «مشكلة تفرد ومشكلة قيمة»؛ لأنه «حتى في دراسة مرحلة أو حركة أو أدب أمة من الأمم، سيهتم دارس الأدب بها بوصفها حالة فردية ذات خصائص وصفات متميزة تفردها عمَّا يشابهها من مجموعات أخرى» .
ويدعم ويليك قضية الفردية هذه بحجة أخرى: «فقد فشلت على الدوام محاولات إيجاد قوانين عامة في الأدب... ففي حين أن الفيزياء قد ترى أرفع انتصاراتها في نظرية عامة ترد إلى معادلة واحدة: الكهرباء والحرارة والجاذبية... لا يمكن الادعاء بوجود قانون عام يحقق غرض الدراسة الأدبية، فكلما كان القانون أكثر شمولاً وكان أكثر تجريداً وبالتالي بدا خاوياً، أفلت من أيدينا الموضوع العيني للعمل الفني» .
كما يمكن التمييز بين العلم والأدب من زاوية أخرى: زاوية اللغة المستخدمة في كل منهما. إن مقارنة بسيطة بين اللغة العلمية واللغة الأدبية، تكشف عن وجود فجوة واسعة تفصل بينهما؛ فاللغة الأدبية ملأى بالإيحاء والمجاز والاستعارة... ولذلك فهي بعيدة عن أن تكون تعبيرية فقط، وإنما لها جانبها الإشاري، بل إن الإشارة هي الأصل في القول الأدبي . أما اللغة العلمية، فهي تسعى نحو تحقيق نوع من التطابق «الدقيق» و«التام» بين الإشارة الصوتية والمدلول، فهي لغة «محايدة» و«موضوعية» و«حرفية»، لغة «واحدية» بتعبير عبد الوهاب المسيري .
فهل يجوز، بعد كل هذا، الحديث عن تطابق مناهج الدراسات الأدبية مع مناهج العلوم الطبيعية؟ وهل يمكن إخضاع العمل الأدبي، والفني عموماً، للمعالجة العلمية الدقيقة والصارمة خضوع الظاهرة الطبيعية لها؟
غير أن طه حسين، الذي يعترف بأنه لم يبتدع هذا المذهب في التاريخ، وإنما فقط يوافق فيه بعض الفلاسفة الأوروبيين والمسلمين، لم يعمد إلى نقد المرجعية التي كان يصدر عنها، ولا إلى مساءلة التصورات والآراء التي كان يأخذ بها ويوظفها، وكأن هذه التصورات مطلقة ومتعالية على النقد، وعلى كل خصوصية حضارية وتاريخية، ومتعالية على الزمان والمكان، الأمر الذي جعل الموجِّه الغربي يتحول لديه إلى «مؤثر كوني مجرد» .
وعوض أن ينتبه إلى خطورة التفسير الميكانيكي لهذا المنهج التاريخي، الذي لا يرى في النص الأدبي إلا الوثيقة أو المرآة التي تعكس صورة المجتمع، ويتنبه إلى الظروف التاريخية والمعرفية التي أحاطت بنشأة هذا التصور للتاريخ، ويقف على أبعاده وحدوده ومدى ملاءمته لموضوعه، تحول لديه هذا المنهج إلى غاية في حد ذاته، وليس مجرد وسيلة، وانطلق منه يحاكم الشعر الجاهلي، ويبحث فيه عن الصورة المفترضة للحياة الجاهلية، وعندما لم يستجب الشعر الجاهلي لتصوراته المسبقة التي انطلق منها، ويحقق انسجام مبادئ منهجه وقوالبه الجاهزة التي أصبحت البرهنة عليها هاجساً يطارده، أنكر الشعر الجاهلي، وشكك في وجود الشعراء الجاهليين، بدلاً من التشكيك في وسائل قراءته ومنطلقاتها وخلفياتها، «وغابت عنه البديهية القائلة، باختلاف العالَمين النصي والواقعي، طبقاً لاختلاف مكوناتها، وفي هذا الصدد كان يصدر عن وعي قديم جدًّا أشاعه القدماء من الأدباء والفلاسفة، ومؤداه تطابق ما في الأعيان مع ما في الأذهان» .
هذه هي المشكلة الحقيقية لطه حسين وجيله: التحيز الكلي إلى الإنجاز الحضاري الغربي، والنظر إليه على أنه كلي وإنساني يتعالى على الخصوصيات، ومطلق لا يخضع للمساءلة والنقد، وصالح لكل زمان ومكان، ومحايد وموضوعي متجرد من كل الخلفيات، وهذا ما يؤكده عدد من الباحثين العرب المعاصرين. يقول سيد البحراوي: «مأساة طه حسين.. هي أنه تصور أن العلم الأوروبي صالح لكل زمان ومكان. وهذا في ذاته فهم ضد العلم الذي لا يقر إلا النسبية والتطور. فهو إذن... تصور إيديولوجي حاول به طه حسين وجيله، وكثير من تلاميذه من بعده أن يبرروا به هروبهم (الطبقي) من المشكلات الأساسية في الواقع المصري، ومن أن ينتجوا عملاً علميًّا أو فكريًّا منطلقاً من الوعي بهذه المشكلات وبتطوير إمكانيات هذا الواقع الداخلية... وفضلوا الاستسهال بنقل النماذج الجاهزة» .
إن هذا التصور للعلم الغربي والعقلانية الأوروبية، جعله يغفل إدراك تحيزات المناهج الغربية التي لا يمكن عزلها عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية التي ظهرت فيها، والأطر المعرفية التي ارتبطت بها. لقد انطلق طه حسين في دراسته للشعر الجاهلي، من موقف مسبق يرى الأدب انعكاساً للمجتمع، ثم ادعى بعد ذلك، أنه سيتوسل بالمنهج الديكارتي الذي يعتبر الشك قاعدته الأولى، غير مكترث بتحيزات المنهجين معاً، وغير محترم لخصوصيتهما وارتباطهما بسياقاتهما، وبمرجعياتهما المتناقضة.
إن توظيف طه حسين لمنهج ديكارت في دراسة الشعر الجاهلي، انتزاع لهذا المنهج من ميدانه الأصلي وسياقه المعرفي، وتوظيف له في ميدان آخر وسياق مغاير لا يصلح له في صورته الأصلية. ولذلك، يصعب القول بأن طه حسين قد تأثر بمنهج ديكارت ووظفه في دراسته للشعر الجاهلي، «ذلك أن شك ديكارت شك منهجي، فيما شك طه حسين تاريخي، لأنه لا يستهدف البحث عن ماهيات ثابتة لا تاريخية، مثل الماهيات الرياضية أو الحقائق الميتافيزيقية، كما هو الحال عند ديكارت، بل يستهدف من وراء شكه الكشف عن دور الزمان في بناء اللغة وهدمها، والكشف عن دور الزمان في صحة الرواية الأدبية وكذبها..» .
وما دامت موضوعات طه حسين تاريخية، وليست وجودية وميتافيزيقية كما هو الحال عند ديكارت، فإن غاية شكه تاريخية، بينما «يندرج شك ديكارت في إطار الشك الأونطولوجي الذي يتخذ الرياضيات منهجاً والميتافيزيقا موضوعاً، واقتصرت الإشارات إلى ديكارت دون أن يصار إلى إدخال منهجه فعلاً في سياق البحث، ذلك أن المنهجية الديكارتية القائمة على أسس لاهوتية، غايتها إثبات موضوعات اللاهوت الأساسية: النفس والله والعالم، كانت تنطلق من مبدأ الشك الأنطولوجي بهدف إثباته» .
إن منهج ديكارت، بقواعده ومبادئه، مرتبط أشد الارتباط بمذهبه الفلسفي العقلاني المثالي، ومذهبه الفلسفي لا يمكن فصله عن ميتافيزيقا اللاهوت، كما لا يمكن فصل أفكاره عن سياقها الذي وضعت فيه، والهدف منها، والمتمثل في خدمة الدين والدفاع عنه في وجه أعدائه من «الكافرين»، المنكرين لوجود الله وخلود النفس البشرية. الأمر الذي جعل باحثين كثيرين ينظرون إلى فلسفته باعتبارها مذهباً روحيًّا «لا يتعارض مع الفلسفة المسيحية التي هي لاهوت الكنيسة في القرون الوسطى» .
والحقيقة أن ديكارت نفسه أكد هذا الارتباط بصريح العبارة، وفي أكثر من مناسبة، خاصة في كتابه «التأملات الميتافيزيقية»، الذي يعد أهم كتبه، والذي ألفه استجابة لدعوة مجمع «لتران»، الذي دعا الفلاسفة المسيحيين إلى دحض مزاعم «الكافرين» بخصوص الله والنفس البشرية. يقول ديكارت: «وأنا بدوري تصرفت بموجب هذه الدعوة» .
وإذا كان ديكارت قد وضع قواعد منهجه، التي لا يعد الشك إلا واحدة منها، لإثبات وجود الله وخلود النفس البشرية، «فماذا كان يريد طه حسين أن يثبت؟ إنه لا يريد أن يثبت شيئاً، إنما يريد أن يدعم فرضية منهج الحتم التاريخي التي أخذ بها. وعلى هذا فإن الشك الديكارتي في وعي طه حسين تعرض للاختزال والانتقاء، وفهم في غير ما وضع له، واستخدم شعاراً، ولم يمارس فعلاً مباشراً، لأن فعله يظهر وسط المنظومة الفلسفية التي تحتضنه، وتلك المنظومة وموضوعها الميتافيزيقي كانا غائبين تماماً عن عمل طه حسين في موضوع الشعر الجاهلي» .
لقد كان ديكارت يبحث عن مركز ثابت ينطلق منه ويطمئن إليه، مركز لا يشك فيه ويكون نقطة ارتكازه، بعدما شك في كل شيء حتى في وجوده، وفي الرياضيات التي اتخذها نموذجاً لمنهجه، فكان هذا الثابت هو التفكير، فهو موجود لأنه يفكر. أما طه حسين، فقد كان مفهوم الحتمية التاريخية ثابته ونقطة ارتكازه التي لم يجرؤ على الشك فيها كما فعل ديكارت.
وإذا كان هذا يؤكد ما قلناه سابقاً عن شك طه حسين، فإنه قد أوقعه في عدد من التناقضات، أهمها أنه، وبسبب تحيزه إلى المنهج التاريخي، وعدم قدرته على التخلص من إساره، قد لفَّق بين منهجين متعارضين، وبين رؤيتين فلسفيتين متناقضتين، أي أنه جمع بين ما لم يجتمع في الغرب نفسه. هذان المنهجان هما المنهج الديكارتي والمنهج التاريخي؛ فهما يصدران عن رؤيتين فلسفيتين متعارضتين: الرؤية العقلانية المثالية، والرؤية الوضعية التجريبية.
وهذا ما تنبه إليه عدد من النقاد العرب. يقول سيد البحراوي، في سياق حديثه عن المزالق المنهجية التي وقع فيها طه حسين في توظيفه للمنهج التاريخي الوضعي: «ومن بين هذه المزالق، أن الرغبة في نقل حلول جاهزة قد أدت بطه حسين إلى أن يجمع في سلة واحدة عدداً من المفاهيم المتناقضة التي لم تجتمع في الفكر الأوربي. ومنها -مثلاً- الجمع بين نسق المفاهيم الديكارتية التي تعتمد على العقل دون الحس، مع نسق المفاهيم الوضعية التي تعتمد على التجربة والملاحظة وليس على العقل البحت» ؛ فقد أنكر ديكارت قدرة الحواس على الوصول إلى الحقيقة، ورأى أن الأفكار التي تأتينا عن طريق الحواس لا قيمة لها ولا تصلح أن تكون أساساً لأي معرفة فلسفية أو علمية . وبالمقابل، أعلى من شأن العقل، واعتبره المصدر الوحيد للمعرفة. أما أسس الوضعية فمختلفة تماماً عن أسس فلسفة ديكارت العقلية، فهي لا تؤمن إلا بما له صلة بالحواس، وتعتبر الإدراك الحسي المصدر الوحيد للمعرفة.
وثمة تناقض آخر بين الرؤيتين نابع من أسس كل منهما؛ فديكارت ميَّز بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية حين تحدث عن اختلاف ميدان الروح والفكر عن ميدان المادة ، الأمر الذي يعني تميُّز الظاهرة الإنسانية عن الظاهرة الطبيعية. وذلك عكس الموقف الوضعي الذي ينادي بوحدة العلوم الطبيعية والإنسانية، ويعتبر كل الظواهر، طبيعية كانت أو إنسانية، ذات طبيعة كمية يمكن إخضاعها للتجريب، والتعبير عنها بلغة الكم والعدد، وينكر أن تكون الظواهر الإنسانية ذات طبيعة كيفية (مادية كل الظواهر) .
منهج ديكارت، إذا، ذو أسس عقلانية مثالية واضحة، عكس أسس المنهج التاريخي المرتبط بالوضعية التجريبية، فكيف يسمح طه حسين لنفسه بالجمع بينهما؟ واضح أن عدم تنبهه إلى أسسهما ومساءلته لخلفياتها، كانت السبب وراء هذه النزعة التلفيقية. ولكننا نضيف إلى هذا السبب سبباً آخر لا يقل وجاهة عن سابقه، وهو أن طه حسين «قد أراد أن يجمع لنا مجمل الإنجاز الفكري الأوروبي خلال ثلاثة قرون أو أكثر في كتاب واحد، لأنه يريد لنا أن تتغير عقليتنا -بسرعة- لتصبح غربية» .
* ثالثاً: تحيز محمد مندور
يعد محمد مندور الوريث المعرفي الأبرز لاتجاه طه حسين ومدرسته في الأدب والنقد؛ فقد ورث عنه كل شيء: تحيزه الكلي إلى الثقافة الغربية، الإغريقية القديمة والفرنسية الحديثة، وموقفه من التراث النقدي العربي، وجمعه بين المتناقضات. وهذا ما يؤكده مندور نفسه في كتابه: «الميزان الجديد»، الذي أهداه لطه حسين، حيث يعترف بأنه أخذ عن أستاذه «شيئين كبيرين هما: الشجاعة في إبداء الرأي ثم الإيمان بالثقافة الغربية وبخاصة الإغريقية والفرنسية» .
وهكذا راح مندور يدعو إلى الأخذ عن المفكرين الغربيين وتمثل تراثهم، وتلقي الدروس من كبار المفكرين والأدباء الغربيين، الذين هم «مفكرو الإنسانية وأدباؤها». أما أساس الأخذ عن الغرب، في نظره، فهو واحد، ويتمثل في الفهم الدقيق والعميق لما ينتجه الغرب. يقول مندور: «وأساس الأخذ عن الغير والإثراء به هو الفهم، الفهم العميق. وكل فهم صحيح تَمَلُّك للمفهوم. ونحن نستطيع أن نتملك كل ما خلَّف البشر من تراث روحي، أساطير كانت أم حقائق» . وهل فعل الأوروبيون غير تملك التراث اليوناني القديم؟ «إن هذا التملك - يقول مندور- هو سر ما وصل إليه الكتاب الأوروبيون من خلق جديد استقوا مادته من التراث القديم...» .
ورغم أن مندوراً يكرر، في أكثر من موضع من دراسته، ضرورة مراعاة خصوصية الأدب العربي، ويحذرنا من مجاراة التفكير الأوروبي الذي لا يمكن أن نغنيه ونضيف إليه أي إضافة حقيقية إذا اكتفينا بنقله، «لأن الفكرة التي تنبني على فكرة أخرى لا تلبث أن تنحل متعثرة في فتات المنطق. وإنما التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع» ، فإن هذه المحاذير سرعان ما تتوارى وراء دعوته إلى تغيير هذا الواقع، وتجديد حياتنا الروحية واتجاهاتها وقيمها باستمداد الآداب والفنون الأوروبية ، الأمر الذي يعني استيراد واقع جديد مطابق للواقع الأوروبي. وهذا ما جعل محمد برادة يؤكد أن «المثاقفة، بالنسبة لمندور ولجيله، ورغم التطور النسبي في الوعي، كانت تنطوي على عناصر سالبة كثيرة، لأن «نموذجية الغرب» كانت ملتصقة بوعي وممارسة الطبقة السائدة آنذاك، مما جعل التنبيه إلى المقومات القومية والاختيار بين «ما هو صالح وما هو طالح» مجرد شعارات لترضية كبرياء المشاعر الوطنية والدينية، والتخفيف من وطأة الانشداد إلى الغرب في كل المجالات» .
انطلق مندور من المنهج التاريخي، كما أرسى معالمه وحدد مبادئه الناقد الفرنسي جوستاف لانسون، لقراءة النقد العربي القديم، والبحث فيه عن الملامح المنهجية. يقول مؤكداً هذا المنحى: «وفي الحق إن في الكتب العربية القديمة كنوزاً نستطيع إذا عدنا إليها وتناولناها بعقولنا المثقفة ثقافة أوروبية حديثة أن نستخرج منها الكثير من الحقائق التي ما تزال قائمة حتى اليوم» .
ورغم أنه يسارع إلى نفي أي قراءة إسقاطية للتراث الغربي على التراث العربي، تستعير مفاهيمها من الآخرين وتبحث عن صدى لها في تراث الأنا، وتقحم «ما لم يخطر بعقول أولئك المؤلفين القدماء من نظريات وآراء...» ، فإن النموذج الغربي ظل دائماً هو المعيار والحكم النهائي في التراث النقدي العربي، وهذا ما يؤكده مندور نفسه حين يقرر اعتماد المنهج التاريخي كما عُرِفَ في الغرب، في دارسة النقد العربي القديم. يقول: «ومعنى هذا أننا نفضل الأخذ بالمنهج التاريخي حتى عندما نحاول أن نضع للنقد حده، وهذا هو المنهج الذي استقر الباحثون على جدواه منذ أوائل القرن التاسع عشر إلى اليوم، وبفضله جددت الإنسانية معرفتها بتراثنا [كذا] الروحي وزادته خصباً» .
ويمضي مندور في تأكيد ضرورة استفادتنا من تجارب الغير، وحاجتنا إلى مناهج البحث العلمي التي حقق فيها الغربيون تقدماً مهمًّا، ويرى أنه إذا كان الغربيون في حاجة إلى هذه المناهج، «فإننا نحن الشرقيين أشد منهم حاجة إليها، لعدة أسباب: منها ما يرجع إلى مزاجنا القومي ومنها ما يرجع إلى نظم التعليم في بلادنا. فالشرقيون عاطفيون، كثيراً ما تنشر مشاعر الجذب والنفور على تفكيرهم ضباباً قد يعمي معالم الحق» .
وهذا يعني أن الغرب «عقلاني»، وأن كل ما ينتجه «علمي» و«صحيح» و«مطلق»، ونحن، لا نملك بسبب «عاطفيتنا»، إلا أن ننقل عنه ما ينتجه من مناهج، لأنها «كونية» و«خالدة»، ويؤكد مندور ذلك بقوله: «والمنهجان اللذان ننشرهما اليوم (منهجا لانسون وماييه في الأدب واللغة)، فضلاً عن قيادتهما للفكر وتسديدهما للخلق العلمي، يفتحان في مادتي اللغة والأدب أبواباً للتفكير بل أبواباً للبحث لم نطرقها بعد لا في دراستنا لتراثنا العربي ولا في محاولتنا لخلق تراث جديد» .
وقد كان من نتائج تحيز مندور إلى منهج لانسون التاريخي، نظرته إلى التراث النقدي العربي نظرة تجزيئية انتقائية ضيقة، جعلته يختار منه ما يناسب مقاييسه الغربية؛ فأعلى من شأن الذوق على حساب «علمية» النقد، ورفض «الاتجاه العلمي» في النقد العربي القديم، الذي مثله ابن قتيبة وقدامة ابن جعفر وأبو هلال العسكري، وهاجم ابن قتيبة واتجاهه العلمي قائلاً: «وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيق عندما يتطلب معنى في كل بيت من الشعر، كما ظهر لنا فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا تفسير لضعف ما يسمونه ذوق هذا الناقد» . وبالمقابل، رفع من شأن الآمدي وعبد العزيز الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني، ووصف الآمدي بأنه «أكبر نقاد العرب»، لأن نقده شبيه «بخير ما نعرف اليوم من نقد» .
ورغم رفضه فكر المقارنات الذي اعتمده طه حسين في دارسته لأبي العلاء المعري ، فإنه قارن بين نظرية عبد القاهر الجرجاني وبين علوم اللسان الحديث، ورأى أنها تضاهي ما وصلت إليه علوم اللغة؛ فقارن بينه وبين المفكر الألماني فنت (Wundt)، صاحب نظرية الرمزية في اللغة . كما قارن بينه وبين العالم السويسري دي سوسير، ثم مع اللغوي الفرنسي أنتوان ماييه . وكانت النتيجة التي خلص إليها، هي أن ما قرره عبد القاهر في آخر «دلائل الإعجاز»، شبيه بما «يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات» .
ويلاحظ أن مندوراً، سواء في انتقاده للاتجاه العلمي، أم في دفاعه عن الاتجاه الذوقي، كان ينطلق من تصورات لانسون للنقد القائمة على الذوق، وما قرره من آراء. وهذا ما يتضح بجلاء في رده على محمد خلف الله الذي دعا إلى النقد العلمي، والاستفادة من علوم النفس والجمال والتاريخ لدراسة النصوص الأدبية؛ فليدافع عن منهجه الذوقي ويعترض على هذا الاتجاه، لم يجد مندور بدًّا من تبني تعريف لانسون للنقد، الذي يحصره في «فن دراسة النصوص الأدبية، والتمييز بين الأساليب المختلفة...» . ولكي يناقش دعوة خلف الله، يلجأ إلى أستاذه في أكثر من موضع، يستشهد به، ويعترض بآرائه على خلف الله، فيقول: «ولنستمع إلى لانسون...» ، وأيضاً: «وهنا أيضا أترك الرد للانسون...» . ويختم ردوده واعتراضاته على دعوى خلف الله بقوله: «هذه هي أقوال لانسون وهي عندي تفصل في الخصومة فصلاً نهائيًّا» .
خلاصة القول، إن انتصار مندور للذوق واعتباره الآمدي والجرجاني أفضل النقاد العرب القدامى، واستبعاده كل محاولة لتقنين الشعر والنثر، وهجومه على أنصار النقد العلمي، كل ذلك تم بسبب اعتماده اعتماداً كليًّا على المنهج التاريخي، وتقيُّده بمبادئه تقيُّداً حرفيًّا.
ويلاحظ برادة أن فهم مندور للتاريخ فهم خاص، لأنه لم يحلل الأوضاع التاريخية والاجتماعية التي وجَّهت نقد النقاد القدامى، مما جعله يصف منهج مندور التاريخي بأنه منهج «مفتقر للتاريخ». ويرى برادة «أن هذا المنهج التاريخي المفتقر للتاريخ، هو الذي يوفر لمشروع مندور «التحامه» ويخفي ثغراته: ذلك أنه بدون تجلية العلائق القائمة بين الثقافة والمجتمع العربي منذ القرن الثالث الهجري، وبدون إبراز ميكانيزم التغيير التاريخي، تصبح كل محاولة لإعادة رسم حركة النقد، تتعثر في السكونية وفي الافتراضات التبسيطية» .
ورغم التحولات التي طرأت على مسيرة مندور النقدية، بعد الزيارة التي قام بها للعالم الاشتراكي خاصة، جعلته يتبنى، في آخر حياته، النقد الإيديولوجي ، وقادت البعض إلى تقسيم مسيرته النقدية إلى ثلاث مراحل ، فإن كثيراً من النقاد قد لاحظوا استمرار مندور في تمسكه بمبادئ لانسون حتى بعد إعلانه تبنيه النقد الإديولوجي .
أضف إلى ذلك، أن مندوراً في كل مراحله -إذا سلمنا بوجود هذه المراحل- كان يستوحي فيها مفاهيم غربية. وهذا ما يؤكده عبد الله إبراهيم حين يقول: «وعلى الرغم من التحولات الفكرية (الإيديولوجية) التي شهدتها حياة مندور، فقد كان فيما يخص البحث والنقد، يستقي أفكاره ورؤاه وطرائقه من مصادر غربية مباشرة. سواء كان ذلك في مراحل حياته الأولى، حينما أثرت فيه الثقافة الغربية، بمصادرها الفرنسية، أو فيما خلص إليه في أواخر حياته، عندما تبنى النقد الإيديولوجي... وفي كل ذلك، كان يجرب عدة منهجية منتزعة من أصولها الغربية، ثم يبحث فيما يناسبها من نماذج الأدب العربي» .
إن المتأمل للخطاب النقدي العربي الحديث، لدى العقاد، والمازني، ونعيمة، وطه حسين، ومندور، يخرج بانطباع واحد، هو أن هؤلاء النقاد قد تعرفوا على النماذج النقدية الغربية «في إطار لا تاريخي ولا زمني»، وأن هذا الشكل من «المثاقفة»، قد أدى إلى «تعزيز نموذجية الغرب الثقافية» . فهؤلاء النقاد، جميعهم، قد تحيزوا إلى النماذج الغربية، وإن كانت درجة تحيزهم تتفاوت حدتها من ناقد إلى آخر، واعتبروها نماذج «كونية» و«إنسانية» و«علمية» و«صحيحة»، ودعوا إلى تبنيها وتوظيفها لإعادة قراءة التراث النقدي العربي في ضوئها، لإبراز جوانبه «الهامة» و«المتميزة» التي تستجيب لإمكانية تطبيق المناهج الغربية عليها، وإقصاء تلك الجوانب «المظلمة» التي لا تتناسب والمعايير الغربية التي انطلق منها هؤلاء النقاد.
أضف إلى ذلك، أن التحيز الكلي إلى تلك المناهج، قد جعل هؤلاء النقاد يغفلون نقائص هذه المناهج، وحاجتها إلى المساءلة والمراجعة من جهة، ولا ينتبهون إلى اختلاف السياقات التاريخية والثقافية والأطر المعرفية التي تكونت فيها من جهة ثانية.
غير أن هذه المرحلة لم تعدم ناقداً سار في اتجاه مغاير لاتجاه هؤلاء النقاد التغريبي، هذا الناقد هو سيد قطب (1906 - 1966)، فقد أصدر عام 1948 كتابه: «النقد الأدبي أصوله ومناهجه»، وشن فيه هجوماً عنيفاً على المنهج التاريخي الذي لا يتلاءم مع طبيعة الظاهرة الأدبية، وبيَّن مخاطر هذا المنهج في «إلغاء قيمة الخصائص والبواعث الشخصية»، وحسبان «العبقرية الشخصية» من «آثار البيئة والظروف» . وانتصر، بالمقابل، للمنهج الفني، ولمبدأ الذاتية في دارسة العمل الأدبي، ورأى أن الموضوعية على طريقة العلوم لا يمكن تحقيقها، لأن العلم غير الأدب، ولأنه لا يمكن تجريد الناقد من ميوله الشخصية وذوقه الخاص.
ورغم أن سعي قطب نحو «تأصيل» النقد العربي قد ظل، كما يقول البازعي، «طموحاً أكثر منه تحققاً فعليًّا»، بسبب أن «أسسه النظرية لم تكن سوى غربية المنشأ، سواء كان واعياً بذلك أم لم يكن» ، فإن تجربته تظل «مهمة من الناحية التاريخية بوصفها شاهداً على وعي مبكر بإشكالية المنهج النقدي وبما ينطوي عليه الحضور الغربي من تحديات»