بلطف تساقطت حبّات المطر على زجاج نافذتها، كانت مستلقية على سريرها و هي تنظر من بعيد إليها،
حاولت النهوض و بصعوبة سارت إلى النافذة منهكة قواها، وقفت شاردة ترقب حلقات نقط الغيث بصفحة ماء
قرب الرّصيف، فتتناهى معها حتى تنتهي و تعيد النظر مرّة أخرى لا تمّل الحلقات..
تدخل والدتها عليها و تتفاجأ عندما تراها واقفة، تسرع إليها و تأخذها من يدّها لتعيدها مكانها.
- لم قمتِ من سريرك و أنتِ ما تزالين متعبة؟!.
- شدّني منظر المطر و لم أستطع مقاومته، لكنه بعث في نفسي الحزن أكثر.
- هي لحظة يُستجاب فيها الدّعاء، فاستغليها و أكثري منه حبيبتي. تبتسم و تطبع قبلة على جبينها، تُبعد شعرها الأسود
الناعم من على وجه ابنتها و كأنها ترتّبه و توظب فراشها مستطردة:
- صديقاتك حضرن لزيارتك.
- ترسم إبتسامة على وجهها الذابل و تهّز رأسها قبولاً و استعداداً لإستقبالهن دون أن تنبس بحرف.
دخلت صديقاتها و انبهرن للغرفة التي تحوّلت لحديقة أو دكان لبيع الزهور و الورود على مختلف أنواعها و ألوانها
و أشكالها.
- قطعت أمل لحظة انبهارهن: أهلا و سهلا بكن، تفضلن –تبتسم-..
- كم إشتقنا لك –تتبادلن القبل-..
- و أنا أيضاً، شكرا و ممتنة جدّاً لحضوركن.
- جئنا لزيارتك في المستشفى مباشرة بعد الحادث الأليم الذي تعرضتِ له و خطيبك لكن لم يُسمح لنا بالدخول...
كلمات جعلت أمل تعيش المشهد من جديد و تغيب بفكرها عن صديقاتها و ترحل بروحها لمكان وقوع الحادث
لتجد نفسها تائهة في توأم روحها و الحال التي آل إليها و تؤنب نفسها و تتمنى لو كانت مكانه بدلاً عنه، فلو لم تجبره
بتهورها و عنادها على قيادة السيارة في ذلك اليوم المشؤوم لما حدث ما حدث..
- أنا السبب! أنا السبب! تجهش أمل بالبكاء و تخفي وجهها بين يديها و ترّدد نفس الكلمة.
تهلع إليها والدتها و تضمها إلى صدرها و تهدئ من روعها: قدّر الله ما شاء فعل، فلمَ تحملين نفسك كل الذنب حبيبتي؟
- أريد أن أراه الآن، أبقى بجانبه، أحدّثه و أطلب منه الصفح ، ضميري يعذّبني أرجوكِ ماما خذيني إليه.
- لكنّه ما يزال في غيبوبة و لا يعي ما يدور حوله و تحت العناية المشدّدة، و أنتِ ما تزالين لا تقوين على الحراك.
- أنا لا يهم، المهم هو، حتى إن كان لا يسمعني، لا يراني، لا يتجاوب معي أريد أن ألازمه حتى يستفيق.
- لكِ ذلك عزيزتي فقط إرتاحي الآن و غدا تذهبين إليه بمشيئة مبدع الأكوان.
في اليوم الموالي و مع بزوغ فجر جديد صلّت أمل و دعت ربّها أن يشفي حبيبها و يجعله يستفيق من غيبوبته.
ذهبت الى المستشفى متناسية آلامها و جراحها، عزاؤها في كل ذلك رؤية وجه خطيبها "وحيد"، دخلت غرفته التي يعمّها
السكون و كثرة الأجهزة التي كانت توحي برهبة المكان، لكنها تغاضت عنها و جلست بالقرب منه، مسحت بيديها
الناعمتين على وجهه الوسيم، الغائب عقله عن الوعي التائه في عالم غير عالمه تمنت لو كانت رفيقته فيه حتى تخفف
من وطء غربته عليه.
أمسكت يده برفق و بدأت تخاطبه:
- أمل هنا حياتي، إفتح عينيك حتى تراها، ألم تكن تفرح عندما تنظر إلى عينيها؟ أم أن بريقهما لم يعد يستهويك؟
في هذه اللّحظة يدخل الطبيب و يراقب حالته، فتسأله أمل:
- ما هو وضعه دكتور؟ هل سيبقى هكذا كثيراً؟
- الحالة مستقرة، و لا تقدم ملحوظ، إن واصل هكذا ستطول غيبوبته و قد يبقى محبوسا في العالم الذي اختاره لنفسه
و قد يودي بحياته و لن يعود.
- و ما العمل إذن؟
- يلزمه دافع قوّي للتشبث بالحياة أكثر، فيما عدا ذلك هو بين يدي ربّه و هو يتولاه برحمته.
نظرت أمل إليه بعينين دامعتين و قالت:
- أنت وهبتني الثقة التي افتقدتها في الماضي، و العهد الذي تتمناه كل إنسانة واعية، منحتني التفكير بمطلق الحرّية
و أردت تحقيق كل ما ترغب به نفسي.
راحت تفكر مخلصة صادقة مع نفسها و عقلها:
- قرّرت أن أستقيل من كل التزاماتي كي أتفرغ لك وحدك "وحيد" و يجب أن أستعيدك و تعيش من أجلي لأنني
لا أتخيّل حياتي و أنت غير موجود فيها.
خاطبته، كلمته صارحته: هو من كان كل الأحاسيس يشاركها، لا يتحمل أن يراها مكدرة الخاطر أو حزينة الفؤاد
فيبذل كل ما في وسعه من رعاية و اهتمام في سبيلها، يضع نفسه مكانها في كل عمل تقوم به أو يطلبه منها و يثني
بلسانه الصادق و قلبه الطاهر طيب معاملتها.
هو من جعلها بإهتمامه بها و لهفته عليها تشعر دائماً بأنها حقاً تعيش و أن لوجودها أهمية و أن للحياة رونق و طعم
مستطاب، أدركت أن الحياة جميلة مع حبيبها ذلك الذي ما فتئ يقضي جميع أوقات فراغه بالقرب منها، مؤثرا جوارها
عمّا تحاربه الألباب من مفاتن و تشرئب إليه النفوس الأخرى من متع و مسرات.
قطعت أمل عهداً على نفسها أن تسعده إلى آخر يوم في حياتها؛ كيف لا تفعل ذلك لرجل عرف مكانتها لديه
فاحترمها كل الإحترام و قدّرها عين التقدير لمختلف المشاعر و وزن كل صغيرة و كبيرة معها بميزان العقل.
تمضي أيام و أيام كانت تستعذب قربه و تستكفي به قوتا للبقاء عن أي شيء سواه، تتفانى في السهر عليه و تطمح
إلى اليوم الذي تراه يفتح عينيه، وضعت رأسها على يده -مستسلمة للتعب الذي أنهكها و اليأس الذي كاد يسيطر عليها
لولا أن دفعته بتفاؤلها و طمعها الجامح في أن تقاسم حبيبها عالمه و تُدخل نفسها فيه حتى تأخذ بيده و تساعده على
الخروج منه- و غفت لتسمع بعدها صوتاً خافتاً يناديها يكاد يتلاشى ما إن يصل إليها، ركزّت لا شعورياً و هي ما تزال
في غفوتها كأنها تبحث عن مصدر الصوت و تنجذب وراءه لتسمعه من جديد دوّى في داخلها كصرخة هزّت كل كيانها
جعلتها تستفيق فزعا حتى سقط الكرسي من ورائها، رأته يتمتم و يحرّك أصابعه، تنظر إلى فمه تارة حتى تسرق أذنيها
إسمها من بين شفتيه و تنظر تارة أخرى بلهفة إلى يده التي اشتاقت للمستها.
ضغطت على الزر تستنجد بالطبيب و هي تصرخ في آن واحد بأعلى صوتها و تتصرف كالمجنونة: دكتور، دكتور لقد
تحرّك، لقد تكلم، لقد عاد إليّ من جديد...
حضر الطبيب مسرعاً ليجدها في حالة هيستيريا، يأمر بأخذها لغرفة أخرى و إعطائها حقنة مهدئة لتفتح عينها
بعدها و تجد "وحيد" يقاسمها غرفتها بعدما أُخرج من العناية المشددة؛ فقد إستجاب للعلاج و استجاب لنداء حبّها له و عاد
إليها و أعاد الحياة بذلك لقلبها -الذي كان يتلهف شوقا لعناقه و احتضانه- و ملأه فرحاً.