شكل التاريخ منذ القدم سلاحا هاما في معركة البناء و النهضة , و اتضح أنه في الحقيقة أخطر عقار اكتشفته البشرية ,فالمنتصر إذا أراد تثبيط خصمه ,و النيل منه ما عليه إلا بالتاريخ و خير مثال على ذلك السياسة الاستعمارية الفرنسية بالجزائر إذ ردد الاحتلال منذ دخوله و على لسان الكثير من قادته أن لا وجود لبلد اسمه الجزائر على مر التاريخ ,و إذا ارتقى كذلك إلى الرفع من معنويات شعبه و جيشه ,يلجأ إليه أيضا مثلما هو الحال مع احد القادة المصريين الذي استغل التاريخ لتحفيز جنوده في إحدى الصراعات العربية الاسرائيلية ,قائلا لهم:« نحن أحفاد الفراعنة العظام ... « و الأمثلة على ذلك كثيرة .و انطلاقا مما سبق نتساءل عن :ما هي الأهمية من دراسة التاريخ و تدريسه ؟ و هل القلم الواحد كاف لبناء حقيقة تاريخية؟
لا شك أن الأمة التي تخجل من قراءة تاريخها هي أمة دون شك لا تستحق الحياة كما يقول الزعيم الصيني ″ماوتسي تونغ‟. و هذه المقولة تعبر حقيقة عن أهمية دراسة التاريخ و تدريسه ,و قبل ذلك وجوب إدراك الغرض من الدراسة فليس الهدف من سرد الحوادث و عرض الحقب و الفترات التاريخية إحداث الفرجة, و إيجاد المادة لملئ الصالونات و عقد المؤتمرات و الندوات, بل لابد أن يكون الهدف من الدراسة أسمى و أنبل كما يقول الفيلسوف الألماني فيخته »إن التاريخ كالإنجيل يقرأو يدرس بنفس التقديس و الإجلال « ,فليس معنى التقديس و الإجلال في نظري غض الطرف عن حقيقة الحادثة التاريخية بل احترامها أولا, ثم دراستها وفق منهج معين و تمحيصها بغرض استقاء الدروس و الاستفادة من الماضي لبناء الحاضر و التأسيس للمستقبل .
و يبدو أن ذلك لا يتأتى لكل من حمل العبر لابن خلدون, و قصة الحضارة ل“ول ديوارنت” ,بل إن الأمر يحتاج إلى أصحاب العقول النيرة و ذوي الألباب. و ذلك هو الحال في البلدان المتقدمة كاليابان و ألمانيا مثلا, فالأولى لم تكن لتبلغ هذه الدرجة و تتبوأ منصب الريادة في التكنولوجيا لو لم تستفد من أحداث ماضية لا يزال أثرها باديا إلى اليوم على وجوه بعض سكانها و المبدأ نفسه بالنسبة للألمان بعد هزيمتهم خلال الحرب العالمية الثانية. و الأمثلة على ذلك كثيرة إذ تعمل غالبا البلدان التي تعي قيمة التاريخ على دراسته و تمحيصه ثم تدريسه للاستفادة مما مضى و تعتبر إن كل ما فات قابلا للترميم و الأحياء ما دام في العمر بقية ,و أن تشحن الجيل الجديد بتاريخ أجدادهم ووطنهم خير من أن تشغلهم بما لا يسمن و لا يغني من جوع....
و إيمانا بهذا الدور و القيمة السامية لهذه المادة التي قال عنها ابن خلدون في ديوانه »اعلم أن علم التاريخ علم غزير المذهب ...«و كطلبة علم يجب أن نعمل جاهدين على دراسة تاريخ بلدنا بالدرجة الأولى و أمتنا العربية الإسلامية دون أن نغفل عن كشف النقاب عن تاريخ الأمم الغابرة و الغربية ,لا لشيء إلا لأخذ العبرة و الدرس و بذلك يستوجب علينا أن ننفض الغبار الذي التصق بنا كثيرا و المعبر لنا عن تاريخ أوطاننا لكن بصناعة و ديباجة أجنبية, و نصوص المؤرخ الإغريقي هيرودوت عن بلاد المغرب في القديم و المؤرخ الروماني “تاسيت” عن ثورة “تاكفاريناس” خير دليل على ذلك .
و لعله ليس من الخطأ كما يمكن أن يقول قائل أن نتناول تاريخنا و تاريخ أجدادنا بأقلام غيرنا ,و هو محق في ذلك إذ قصد من وراء ذلك الموضوعية في المنهج التاريخي القائلة بعدم وحدة المشرب لكنه أليس من الخجل أيضا أن ننتظر الآخرين يكتبون لنا دروسا مستقاة من حوادثنا ؟و ما قيمة الدرس أو العبرة إن لم يكن محركوها من أبناء الوطن الواحد؟
نحن لا ننكر في الحقيقة أننا و كغيرنا من الأشقاء العرب تخلفنا عن سباق المدونين للتاريخ لكن الرحلة لم تتوقف ما دام أننا لا زلنا في حقيقة لا وجود لحقيقة تاريخية مطلقة ,و بذلك يكون الأجدر بنا أن نعاود تمحيص تاريخنا و التدقيق فيما قيل, لأنه ليس كل ما قيل فقد قيل كما يقال لأننا ببساطة في عالم لا يرحم من لا حضارة له و من لا تاريخ له .
و في الأخير يبدو انه لا ضغان و لا جدال في احترام الحادثة التاريخية بغض النظر عن أثرها السلبي أو الايجابي, انطلاقا من احترام العقل الإنساني الذي فكر قبل الإقدام على تحريكها ثم العمل على دراستها و تمحيصها باكتشاف أخطائها و مواطن صحتها بغرض الاستفادة و اخذ العبرة, و لا عيب في اختلاف المشارب عند استقاء الحادثة إذا أردنا من خلال ذلك البحث عن حقيقتها لكن الخطأ و العيب هو الاكتفاء بدراسة الحدث التاريخي الذي يعني أمتنا ووطننا في قالب واحد و بأقلام غيرنا ,لأنه في هذه الحالة نكون مخطئين إذا انتظرنا مؤرخا أجنبيا غير خال من إيديولوجية معينة أن ينصفنا و يمدحنا .