رغم التهميش والإقصاء من طرف النظام... بيننا وبينكم الجنائز
رحيل عميد الحركة الإسلامية في الجزائر الشيخ الأديب والحكيم الصامت أحمد سحنون
ولد الشيخ أحمد سحنون سنة 1907م في قرية ليشانة بالزاب الغربي ولاية بسكرة.
حفظ القرآن وعمره 12 سنة، ومن شيوخه الشيخ محمد بن خير الدين.
التحق بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1936م. ألقي عليه القبض في 24 مايو 1956.
صدر له ديوان شعري تحت عنوان "حصاد السجن" سنة 1977م، كما صدر له كتاب : "دراسات وتوجيهات إسلامية" سنة 1981م.
كان عضوا في جمعية القيم التي تأسست سنوات 1963 - 1964م، كما كان إماماً للجامع الكبير بالعاصمة، وعضواً في المجلس الأعلى الإسلامي.
وقع هو والشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ عباسي مدني بيان النصيحة المكون من 14 نقطة والموجه إلى النظام السياسي سنة 1982 والذي قرأه المرحوم سليم كلاكشة في أول تجمع جماهيري للإسلاميين بالجامعة المركزية وسجن على إثر ذلك.
ترأس رابطة الدعوة الإسلامية سنة 1988م.
أشرف على تنظيم التجمع النسوي الذي حضره من 700 ألف إلى مليون امرأة ضد تعديل قانون الأسرة.
اشترك في تشكيل لجنة الدفاع عن السجناء السياسيين مع بداية الأزمة سنة 1991م.
تعرض لمحاولة اغتيال سنة 1996 من طرف الجماعات المسلحة وهو في المسجد.
أصيب بنوبة قلبية صبيحة يوم عيد الفطر المبارك (في وقت كان يتهيأ لصلاة العيد) فنقل على إثرها إلى المستشفى العسكري عين النعجة حيث دلت الفحوصات أنه أصيب بجلطة دماغية عجلت بوفاته عن عمر يناهز 96 سنة.=>
وسط حشود من المشيعين يعدون بعشرات الآلاف وفي جو بارد وممطر وبمقبرة سيدي يحيى ببلدية بئر مراد رايس وسط العاصمة الجزائرية ووري يوم التاسع من ديسمبر التراب الشيخ أحمد سحنون عميد الحركة الإسلامية في الجزائر والشاهد على مختلف التحالفات التي كانت تتم تحت إشرافه من أجل توحيد التيار الإسلامي في الجزائر فيما يسمى بفضاء رابطة الدعوة الإسلامية في بداية التعددية في الجزائر. وبعد صلاة الجنازة التي أقيمت في مسجد أسامة بن زيد، توجهت الحشود إلى مقبرة سيدي يحيى تتعقب جثمان الشيخ.
وحول القبر تجمع العديد من رجال الحركة الإسلامية على اختلاف مناهجهم كحركة مجتمع السلم ممثلة في رئيسها أبو جرة سلطاني، وحركة الإصلاح الوطني ممثلة في رئيسها الشيخ عبد الله جاب الله وكذا بعض شخصيات جبهة الإنقاذ ومن ضمنهم علي بلحاج، وأحمد طالب الإبراهيمي عن حركة الوفاء، إضافة إلى رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الرحمن شيبان الذي ابّن الشيخ سحنون وذكّر بمناقبه وخصاله وكان الشيخ قد أوصى بأن يؤبنه ويدفنه رفيقه الطاهر آيت عجلات.
أما ممثلو السلطة فكان على رأسهم وزيرا الشؤون الدينية والخارجية.
إذا كان رجالات العلم والتاريخ والأدب والثقافة والدين في الأمم المتحضرة ذات التقاليد الراسخة.. يكرمون أحياء بحضورهم الجسدي، ويكرمون بعد رحيلهم عن دنيانا رموزاً مضيئة، ومعالم حية تحافظ على تواصل حلقات السلسلة الذهبية لتاريخ وأمجاد وحضارة الأمة، فإن حظ أفذاذ الأمم والشعوب التي فرضت على نفسها أو فرض عليها الجمود والتخلف؛ أنهم يموتون واقفين مثل الأشجار، محترقين مثل الشموع التي لا ينتهي ضوؤها ولا ندرك قيمتها إلا بعد رحيلها أو ترحيلها.
برحيل الشيخ الأديب العلامة والحكيم الصامت الراحل أحمد سحنون رحمه الله تكون الجزائر في سنة واحدة وبعد 7 شهور فقط قد فقدت ثاني ركيزة أساسية وعرسة من عرسات الاعتدال والوسطية بعد رحيل فضيلة الشيخ محفوظ نحناح.
ويا لعمق الجراحات التي تنغرز في حنايا أمة أنجبت أمثال الشيخ أحمد سحنون وزحفت لتؤبن ابنها ومفكرها وشاعرها.. وحكيمها وهو بحق رجل الإجماع.. فكل الكلمات مهما كانت بليغة تعجز، وكل البيانات تشل في موكبه المهيب.
تنطفئ شموع الأمة وهي في أمس الحاجة إليها فالنائبات تترى.. تئز أزيز الرصاصة الحاقدة لتنغرز في عمق كارثتنا، أزيز رصاصة تخترق الحشا، لتسلب نفوسنا أفئدتها.
كان شمعة عملاقة، تحترق لتضيء، كان رحمه الله صريحاً كالرعد، واضحاً كالبرق، خطيباً متدفقاً كالمطر، عاشقاً متبتلاً لدينه ووطنه، ثائراً لا يكسر، فقيهاً لا يعثر، مؤرخاً لا يقهر، فيلسوفاً كالبحر لا يعبر، أديباً شاعراً لغوياً لا يجارى ولا يتبر على حد تعبير خمار أبو القاسم .
كنا عندما نتحاور حول موضوع وحدة الإسلاميين ورأب الصدع بينهم وجمع شملهم في إطار واحد نتذكر مباشرة الشيخ سحنون رحمه الله ذلك الرجل الذي هب على شيبته ونزل إلى الشارع حي بلكور لإيقاف المسيرة التي دعا إليها الشاب "علي بلحاج" في العاشر من أكتوبر 1988م، لقد هب الشيخ لإنقاذ الشباب من فوهة المدافع التي كانت منصوبة في ساحات العاصمة يومئذ، وواصل تسييجه لمستقبل الصحوة الإسلامية المتحمسة بموافقته على رئاسة رابطة الدعوة الإسلامية التي جمعت قيادات العمل الإسلامي على اختلاف مشاربهم المذهبية والمنهجية كوعاء يحمي الحركة الإسلامية من التشرذم والتمزق والانشطار وما زلت أتذكر تلك الصورة الفوتوغرافية النادرة التي جمعت في الوسط الشيخ أحمد سحنون وإلى يمينه الشيخ محفوظ نحناح وإلى يساره الشيخ عباسي مدني ويتوالى الركب من اليمين إلى اليسار الشيوخ محمد السعيد وعبدالله جاب الله ولفيف من الشخصيات التي شكلت فيما بعد نواة الأحزاب الإسلامية الثلاثة (الإنقاذ حماس النهضة).
ذلك المشهد الذي أسر الأصدقاء وأغاظ الخصوم فعملت دوائر خفية على تمزيق هذا المشهد بتسريع ميلاد الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليتوالى مسلسل تأسيس الأحزاب فكانت النهضة ثم حماس.. وباقي القصة معروف عند الخاص.. غائب عن العموم يأتي الحديث عنه في وقته.
الشيخ أحمد سحنون رحمه الله بالرغم من أنه لم يلتحق بمدرسة أو جامعة.. لا الزيتونة ولا الأزهر ولا القرويين.. لكنه كان أوسع اطلاعاً وأكثر استيعاباً لفكرة التغيير والإصلاح في المجتمع الجزائري.
كانت اهتمامات الشيخ أحمد سحنون رحمه الله في بداية شبابه أدبية صرفة إلا أنه ومع ميلاد حركة الإصلاح سنة 1939 بميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين انتقل سنة 1936 من مجرد شاعر وقاص إلى رجل إصلاح سيما بعد التقائه الشيخ عبد الحميد بن باديس وبرز كواحد من شعراء الجمعية إلى جانب صاحبه محمد العيد آل خليفة من خلال نشر ذلك في جرائد ونشرات الجمعية مثل الشهاب والنجاح والبصائر.
لم يكن الشيخ أحمد سحنون سلبياً أبداً بالرغم مما أشيع عنه في آخر أيامه سيما في موقفه من الأزمة-الفتنة التي مرت بها الجزائر كما كان يقال على ألسن بعض شباب الصحوة الذين لا يعرفون للرجال قدرهم إذ كيف يكون ذلك سمته ومنهجه وهو الذي ألقى عليه القبض في 24 مايو 1956 وسجن، وهو الذي كان على رأس مجموعة جزائرية تقوم بأعمال مقاومة ضد الاستعمار الفرنسي على طريقة المنظمة الخاصة (os) التي كانت تنتمي إلى حزب الشعب الجزائري.
وحيال سجنه وهو الإمام الخطيب والمدرس للقرآن طلب إليه الاستعمار أن يوجه نداء للمجاهدين أن يضعوا السلاح فلم يستجب لهذا الطلب رغم تهديدهم ووعيدهم وقال لهم قولة تكتب بماء الذهب: "أنا الآن في حكم الميت، إذا نفذت ما طلبتم يقتلني إخواني، وإذا لم أنفذ تقتلوني أنتم؟ وما دمت ميتاً، فليكن موتي على أيديكم أفضل من أن تكون نهايتي على أيديهم".
بحكم الخطابة والإمامة التي كان يتولاها طلب منه الفتوى لإثناء المجاهدين عن المقاومة.
وبحكم عضوية جمعية العلماء المسلمين فرض عليه الموقع المتقدم بعد وفاة أغلب الأعضاء، سيما بعد فرض الإقامة الجبرية على الشيخ البشير الإبراهيمي بعد الاستقلال والتضييق على علماء الجمعية الآخرين.
صحيح أنه عين إماماً للجامع الكبير بالعاصمة وعضواً بجمعية القيم التي كان يرأسها "الدكتور الهاشمي التيجاني" هذه الجمعية التي حلت بعد موقفها الجريء من قتل الشهيد سيد قطب رحمه الله متضامنة معه وطلبها من النظام المصري العفو عن سيد قطب، وكان للشيخ أحمد سحنون قصة مع كتاب "في ظلال القرآن" هذا التفسير المبدع الذي كتبه الشهيد سيد قطب في السجن، حيث كان الشيخ أحمد سحنون يقول: "كان الظلال يخرج من السجن في مصر ويدخل السجن في الجزائر". كيف لا وقد عنون كتابه الوحيد "حصاد السجن" وهو الديوان الذي كتبه في السجن.
حياة الشيخ أحمد سحنون كلها مواقف وفي الصميم، حتى أقعده المرض فصارت متابعته للساحة الإعلامية والسياسية جد محصورة بل قد تكون منعدمة، وأذكر أنه في آخر أيامه كان لا ينهض إلا للصلاة أو يرسل من يمثله عندما يموت أحد أصدقائه كما حدث مع وفاة الشيخ محفوظ نحناح، وبن يوسف بن خدة.
وكان عندما يزار يستطيع معرفة من زاره ويسأله عن شخصه، وكانت ذاكرته لا تزال قوية وهو في آخر حياته. ولا نعرف إن كان كتب مذكراته أم لا، فهي إن وجدت ستكون وثيقة تاريخية مهمة للحركة الإسلامية في الجزائر خاصة وأنه لم ينتمي لأي جماعة من الجماعات الإسلامية المعروفة في الجزائر إلا ما كان تثميناً أو تنويهاً بجهد أو تحذيراً من مغبة مسار خطير.
وإننا كمتابعين لتطورات الساحة الإعلامية في الجزائر ولا سيما التطور التاريخي للحركة الإسلامية المتصاعد تارة والمتراجعة تارات أخرى، نجهل كثيراً خلفيات بيان النصيحة سنة 1982م ونصائح الشيخ سحنون لمصطفى بويعلى سنة 1984 وخلفيات تأسيس جمعية القيم وكذا نصيحة الشيخ سحنون للشيخ محفوظ نحناح رحمه الله سنة 1982 بعدم التوقيع على بيان النصيحة وهو الذي خرج من السجن سنة 1980 وكذا محاضر جلسات رابطة الدعوة الإسلامية التي تأسست سنة 1988 وكيف ظهرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ دون استشارة للرابطة بالرغم من أنه عضو فيها.
ثم من كان يقف وراء رسالة الرابطة الإسلامية إلى قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ أيام الإضراب السياسي المفتوح والتي تطلب فيها الرابطة من الجبهة وقف الإضراب؟ وهل صحيح أن الجنرال خالد نزار اتصل بالشيخ أحمد سحنون واقترح عليه عضوية المجلس الإسلامي الأعلى للدولة بعد اغتيال الرئيس محمد بوضياف، وكيف كان الشيخ أحمد سحنون وهو بهذه المرتبة من الوجاهة والقيمة السياسية والدينية يتعامل مع معطيات الساحة السياسية الأمر الذي تركه يلتزم الصمت المملوء إلى غاية يوم تعرضه لمحاولة اغتيال وهو يخطب في الناس على منبر الجمعة.