المقدمة
إن للطب الشرعي أهمية بالغة في التأثير على القرار القضائي في المادة الجزائية ويظهر ذلك جليا على مستويين:
- التكييف القانوني للوقائع.
- إقامة الدليل.
وتناولنا في هذا العرض وبصفة موجزة هذا الموضوع وفقا للخطة التالية:
المحور الأول: دور الطب الشرعي في التكييف القانوني للوقائع.
1 – الوفاة.
2 – الجروح.
3 – الاعتداءات الجنسية.
المحور الثاني: دور الطب الشرعي في إقامة الدليل.
1 – تحقيقات الشرطة القضائية.
2 – التحقيق القضائي.
3 – المحاكمة.
المحور الأول: دور الطب الشرعي في التكييف القانوني للوقائع:
إن للطب الشرعي دور كبير في تشخيص الجريمة، وفي تحديد الفعل الإجرامي ونتائجه، لذلك فإنه يؤثر بصفة مباشرة على تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة وعلى التكييف القانوني للوقائع ويظهر ذلك جليا في حالة الوفاة وفي الجروح بمختلف أشكالها ومسبباتها، وفي الجرائم الجنسية وسنتناول فيما يلي هذه المواضيع بشيء من التفصيل.
1 – الوفاة:
- يعرف الموت على أنه توقف الأعمال الحيوية للجسم المتمثلة في التنفس ودوران الدم وعمل الجهاز العصبي، فيصبح من غير الممكن إعادة هذه الأجهزة للعمل بشكل تلقائي، وغالبا ما تكون الوفاة طبيعية من دون عنف ناتجة عن كبر أو مرض، وقد تكون نتيجة عنف من دون أن يكون هذا العنف عمل إجرامي كالحادث (Accident ) أو نتيجة انتحار الشخص أي وضع الشخص حد لحياته بصفة إرادية، وقد تكون نتيجة عمل إجرامي.
- العمل الإجرامي قد يكون ظاهرا وتسهل معاينته على الجثة كالذبح وبعض الجروح العميقة كما قد يكون غير ظاهرا كالتسمم والجروح الداخلية، وللطبيب الشرعي دور كبير في تحديد أسباب وظروف الوفاة، وبالتالي له دور في التأثير على تحريك الدعوى العمومية وتوجيهها في حالة الوفاة و لما كان الأمر كذلك نصت المادة 62 من قانون الإجراءات الجزائية على أنه في حالة العثور على جثة شخص وكان سبب الوفاة مجهولا أو مشتبها فيه سواء كانت الوفاة نتيجة عنف أو بغير عنف ينتقل وكيل الجمهورية إلى المكان إذا رأى لذلك ضرورة ويصطحب معه أشخاصا قادرين على تقدير ظروف الوفاة.
- الأفعال الإجرامية التي تسبب الوفاة قد تشكل جريمة القتل العمدي المنصوص عليها في المادة 254 من قانون العقوبات وهو إزهاق روح إنسان عمدا أو قد تشكل جريمة القتل الخطأ المنصوص عليها في المادة 288 من قانون العقوبات أي دون توافر نية القتل عند الفاعل بل يتسبب في ذلك نتيجة رعونة أو عدم احتياط أو عدم انتباه أو عدم مراعاة الأنظمة، وقد تقترف جريمة القتل العمدي بسبق الإصرار أو الترصد (المادة 255 من قانون العقوبات)، وقد يكون الفعل الإجرامي ضربا وجروحا عمدية أدت إلى الوفاة دون قصد إحداثها (المادة 264/4 من قانون العقوبات)، وقد يكون ضحية القتل أصول الفاعل أو طفلا حديث العهد بالولادة (المادتين 258 و259 من قانون العقوبات).
كما قد يكون الفعل الإجرامي المسبب للوفاة هو التسمم والذي لا يمكن كشفه بالعين المجردة، وعرف التسمم في المادة 260 من قانون العقوبات على أنه اعتداء على حياة إنسان بتأثير مواد يمكن أن تؤدي إلى الوفاة عاجلا أو آجلا وتعتبر الجريمة تامة حتى وإن لم تحدث الوفاة.
- في الحالات المذكورة أعلاه فإن الخبرة الطبية الشرعية تساعد في تشخيص الجريمة وتحديد التكييف القانوني وذلك استنادا إلى معطيات موضوعية يستنتجها الطبيب الشرعي بفحص المكان الذي وجدت فيه الجثة، وبفحص الجثة وفتحها ومعاينة الجروح وعددها، ومواضعها مما قد يساعد على معرفة سبب الوفاة إن كان قتلا أو انتحارا ومعرفة النية الإجرامية للقاتل واستنتاج عنصر الإصرار كما أن التحاليل المخبرية المتممة قد تساعد في إقامة الدليل العلمي عما سبب الوفاة وكشف جرم التسمم مثلا ومن ثمة تحريك الدعوى العمومية.
2 – الجروح:
- الجروح هي انفصال في الجسم نتيجة عنف أو صدام وتشمل من الناحية القانونية كذلك الكدمات والسحجات والكسور والحروق، والجروح قد تكون بسيطة وتلتئم خلال بضعة أيام وقد تكون خطيرة تطول مدة التئامها وقد تتسبب في عاهات دائمة كما قد تكون الجروح مميتة، والجروح من الوجهة الطبية الشرعية تختلف حسب الوسائل المستعملة في إحداثها وتتمثل في:
- السحجات ( erosion . excoriation . egratignure ): التي تحدث نتيجة احتكاك الجلد بسطح خشن مما يؤدي إلى تلف الطبقة الخارجية وتختلف السحجات حسب مسبباتها (أظافر، حبل، اصطدام).
- الكدمات ( echymoses ): وتتمثل في تمزق الأوعية الدموية، والأنسجة تحت الجلد وتسببها أداة صلبة.
- الجروح الرضية ( plaies contuses ): ويصاحب هذا النوع من الجروح انكسار في العظام وتمزق في الأحشاء وينتج عن الاصطدام بجسم صلب ( حوادث السيارات، السقوط ) أو بسبب التمدد المفرط.
- الجروح بأداة قاطعة المفتوحة (plaies par instruments tranchants): وتسببها أداة قاطعة ( سكاكين، قطع الزجاج ).
- الجروح الطعنية (plaies par instruments tranchants-piquants): وتسببها آلة ذات رأس مدبب وقاطع في نفس الوقت أو دون أن يكون قاطعا وتسمى جروح وخزية.
- الكسور ( Fractures ): التي هي من الناحية القانونية جروح.
يظهر مما تقدم أن الجروح تختلف حسب الأداة المستعملة لإحداثها كما تختلف عواقب الجروح المحدثة في جسم الإنسان وتبعا لذلك تختلف العقوبات التي يفرضها القانون على مسبب الجروح وإن تشخيص الطبيب الشرعي للجروح وتحديد نسبة العجز يؤثر بصفة مباشرة على التكييف القانوني وعلى نوع الجريمة، أي مخالفة أو جنحة أو جناية حسب التقسيم العام للجرائم الوارد في المادة 27 من قانون العقوبات.
ونصت الفقرة الثالثة من المادة 264 من قانون العقوبات على عقوبة جنائية في حالة ما إذا أدت أعمال العنف إلى فقد أو بتر إحدى الأعضاء أو الحرمان من استعماله أو فقد البصر أو فقد أبصار إحدى العينين أو أية عاهة مستديمة أخرى، وإن الاجتهاد القضائي يعتبر العاهة الدائمة هو فقد أي عضو أو فقد منفعته جزئيا أو كليا.
ويستعين القضاء بالأطباء لإثبات وجود العاهة وتحديد نسبة العجز الجزئي الدائم بالرجوع إلى مقدار النقص الوظيفي الذي تركته العاهة الدائمة.
ويتابع بجنحة الجروح الخطأ المتسبب للغير برعونته أو عدم احتياطه في مدة عجز مؤقت عن العمل تتجاوز ثلاثة أشهر (المادة 289 من قانون العقوبات)، ويتابع بجنحة الضرب والجروح العمدية من أحدث عمدا جروحا للغير تسبب له مدة عجز مؤقت عن العمل تزيد عن 15 يوم (المادة 264/1 من قانون العقوبات).
- وتعد مخالفة إذا كانت مدة العجز تساوي أو تقل عن 15 يوم بشرط أن لا يكون هناك سبق إصرار أو ترصد (المادة 442/1 من قانون العقوبات)، فإذا كان هناك سبق إصرار أو ترصد أو حمل أسلحة فإن المتسبب في جروح للغير يتابع بجنحة بغض النظر عن مدة العجز (المادة 266 من قانون العقوبات).
3 – الإعتداءات الجنسية:
- لقد نص قانون العقوبات على جريمة هتك العرض ([1] (https://www.mjustice.dz/seminaire_med...e_03.htm#_ftn1)) في المادة 336 من قانون العقوبات ومن عناصر جريمة هتك العرض وقوع الجماع بإدخال العضو التناسلي في فرج الضحية، ونص على الفعل المخل بالحياء في المواد 334 و335 من قانون العقوبات والفعل المخل بالحياء قد يكون بعنف ضد بالغ أو قاصر أو دون عنف على قاصر، وقد يكون ضد ذكر أو أنثى.
- في مثل هذه الجرائم كثيرا ما يطلب من الطبيب الشرعي فحص الضحية لبيان صحة وقوع الاعتداء وبالتالي قيام الجريمة، وهكذا في جريمة هتك العرض (الاغتصاب) فإن تمزق غشاء البكارة عند وجوده وما يرفق ذلك من نزيف دموي هو العلامة الرئيسية التي تساعد على تشخيص هتك العرض ولو أن غشاء البكارة لا يتمزق دائما عند الإيلاج كما قد يترافق هتك العرض أو الفعل المخل بالحياء بدفق منوي سواء في مهبل المرأة أو على ثياب وجلد الضحية، ويبحث الطبيب الشرعي كذلك على علامات عامة ناتجة عن مقاومة الضحية للفاعل، ونستدل على عدم رضا الضحية بظهور هذه العلامات على شكل كدمات أو سحجات أو خدوش، كما أن الوطء الشرجي يترك علامات تدل على إيلاج القضيب في الشرج.
- إن فحص الطبيب الشرعي للضحية وبحثه عن العلامات المذكورة أعلاه يساعد في إثبات الركن المادي للجريمة بإقامة الدليل العلمي وقد يطلب من الطبيب تشخيص الحمل الذي يدل على وقوع الفعل الجنسي، وفي حالات أخرى فإن تشخيص الوضع وتقدير المدة التي مضت على الولادة قد يهم القضاء، وقد يحدث وأن تجهض المرأة وتتخلص من محصول الحمل دون سبب صحي وهي جريمة معاقب عليها ( المواد من 304 إلى 310 من قانون العقوبات ).
- وتشخيص الإجهاض قد تكون نقطة الإنطلاق لكشف جرائم جنسية إذ أن الضحية لا تتقدم دائما بشكوى في مثل هذه الجرائم فقد تكون قاصرة والإجهاض هنا هو الدليل على وقوع الفعل الجنسي، كما قد يساعد في كشف جرائم جنسية أخرى كالفواحش (المادة 337 مكرر من قانون العقوبات ).
المحور الثاني: دور الطب الشرعي في إقامة الدليل
إن الدليل في المادة الجزائية يكتسي طابعا في منتهى الأهمية، ذلك أنه يتوقف عليه إدانة المتهم أو تبرئته ومهمة جمع الدليل وتمحيصه من اختصاص الشرطة القضائية وجهات التحقيق القضائي ( قاضي التحقيق، غرفة الاتهام، جهات الحكم بمناسبة التحقيق التكميلي )، ونظرا لما يقدمه الطب الشرعي في هذا المجال وعلى مستوى تحقيقات الشرطة القضائية والتحقيق القضائي والمحاكمة فإننا سنتعرض في هذا المحور إلى ما يقدمه هذا العلم في كل مرحلة من هذه المراحل وكذا القيمة القانونية لما يقدمه وقبل ذلك يستوجب علينا أولا تحديد ماهية الدليل الطبي الشرعي ؟
لم يورد المشرع الجزائري حصرا لأدلة الإثبات في المادة الجزائية عموما، غير أنه أورد أحكاما تخص صدقية الدليل Loyauté de la preuve، وتتعلق بتنظيم أساليب إقامة الدليل الطبي الشرعي لحماية حقوق المجتمع والفرد من التجاوزات في البحث عن هذا الدليل وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى عدم نص المشرع الجزائري على آليات لإلزام الأطراف بالخضوع إلى أخذ عينات طبية شرعية لا سيما العينات الجينية Les prélèvements génétiques.
ويمكن القول بأن قانون الإجراءات الجزائية نظم بالتفصيل أحكام الخبرة كما أشار سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلى التقارير الطبية الشرعية لا سيما تقرير تشريح الجثة وتقارير المعاينات المادية إضافة إلى الشهادات الطبية الوصفية وتلك المتعلقة بتحديد مدة العجز عن العمل الذي أشار إليها قانون العقوبات.
وفيما يلي سنتطرق إلى القيمة القانونية للدليل الطبي الشرعي عبر كامل مراحل الإجراءات الجزائية.
I – تحقيقات الشرطة القضائية:
يكتسي في هذه المرحلة الدليل الطبي الشرعي أهمية بالغة بالنظر إلى المرحلة المبكرة التي يجمع فيها (مباشرة بعد وقوع الجريمة)، ونظرا للطابع المؤقت لبعض الأدلة الطبية الشرعية القابلة للزوال أو التغير بالزمن ( إجراء أخذ العينات المنوية على ثياب أو جسم الضحية أو في حالة رفع الجثة ووضعيتها وبعض الآثار الموجودة في مكان الجريمة ).
ويساعد الدليل الطبي الشرعي أولا على إثبات وقوع الجريمة وظروف وقوعها، وثانيا على إثبات نسبتها إلى شخص أو نفيها عنه، إضافة إلى تحديد هوية الضحية في بعض الحالات.
ويجب التمييز في هذه المرحلة بين حالتين:
1 – الحالة الأولى: التحقيق الأولي enquête préliminaire:وهي الحالة التي يتلقى فيها ضابط الشرطة القضائية الشكاوى والبلاغات عن وقوع جرائم ( سواء مباشرة أو عن طريق وكيل الجمهورية ) المواد 12، 17 من قانون الإجراءات الجزائية. فيقوم بإجراءات البحث والتحري وله في هذه الحالة الاستعانة بالأدلة الطبية الشرعية، علما أن المشرع الجزائري لم ينص صراحة على هذه الإمكانية، واكتفى بالنص على جمع الأدلة والبحث عن مرتكبي الجرائم، كما لم يحدد إجراءات جمع الإستدلالات التي تترك لتقدير رجال الضبط القضائي حسب ظروف كل جريمة بضمانات الوجاهية والتي تسمح للمشتبه فيه أو الضحية بمناقشة طريقة تعيين الخبير ونتائج خبرته بالمطالبة مثلا برده أو باللجوء إلى الخبرة المضادة وبالخصوص عندما يكون الدليل الطبي الشرعي يتسم بالطابع المؤقت كما رأينا أعلاه، وهي الحالة التي لا يمكن تداركها على مستوى التحقيق القضائي.
2 – الحالة الثانية: الجريمة المتلبس بها: قد تكتشف الجريمة فور وقوعها أو بعد ذلك بوقت قصير وخلافا للأحكام التي تنظم التحقيق الأولي وبصفة استثنائية فقد نص المشرع على إعطاء صلاحيات أوسع لضابط الشرطة القضائية في ميدان البحث والتحري عن الأدلة التي تقترب من صلاحيات القاضي المحقق وهذا بالنظر إلى الظروف الخاصة التي تحيط بالجريمة ورد فعل المجتمع الذي يتطلب سرعة التدخل والحفاظ على الأدلة، وفي هذا الإطار نص المشرع الجزائري صراحة بموجب أحكام المادة 49 من قانون الإجراءات الجزائية أنه لضابط الشرطة القضائية حق الاستعانة بالخبراء في المجال الطبي الشرعي على أن يؤدوا اليمين.
وهي نفس الصلاحيات التي يتمتع بها ضابط الشرطة القضائية في حالة ندبه من قبل وكيل الجمهورية عند العثور على جثة شخص وكان سبب الوفاة مجهولا أو مشتبها فيه ( المادة 62 من قانون الإجراءات الجزائية ).
وفي الأخير تجب الملاحظة بأن المشرع الجزائري لم يحدد إجراءات البحث عن الدليل الطبي الشرعي ولم يحطه بضمانات، كما لم يجعل لهذا الدليل رغم ما يتميز به من دقة وموضوعية قيمة قانونية تسموا عن باقي الأدلة الأخرى ( شهادة شهود، اعتراف … إلخ).
II الدليل الطبي الشرعي في مرحلة التحقيق القضائي:
تتولى جهات التحقيق القضائي استغلال الأدلة التي تم جمعها كما رأينا على مستوى تحقيقات الشرطة القضائية مع تعزيزها بأدلة قضائية جديدة، ذلك أنه طبقا للمادة 68 من قانون الإجراءات الجزائية والمعدلة بالقانون 01/08 الصادر سنة 2001 فإن قاضي التحقيق يقوم بالتحري عن أدلة الاتهام وأدلة النفي.
ويجدر الحديث في هذا المقام وتكريسا لمبدأ قرينة البراءة عن الدور الهام الذي يلعبه الدليل الطبي الشرعي في نفي الجرائم بالنسبة لأشخاص أشتبه في قيامهم بها أو تم اتهامهم بها.
ويخضع الدليل الطبي الشرعي في هذه المرحلة إلى مبدأ الوجاهية (Le contradictoire ) إذ يتم مواجهة الأطراف بالأدلة وتلقي أوجه دفاعهم أو ملاحظاتهم بخصوصها.
كما يخضع هذا الدليل إلى مبدأ حرية الإثبات والذي كرسه المشرع الجزائري في المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية، والذي بموجبه لا يتقيد القاضي المحقق بوسيلة إثبات ولو كانت علمية في إثبات أو نفي نسبة الجريمة لشخص.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن تقدير القوة الثبوتية للدليل تترك في هذه المرحلة وكذا في مرحلة المحاكمة كما سنرى إلى قناعة القاضي وهو ما كرسته المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية، والتي تساوي بين الدليل الطبي الشرعي والدليل العلمي بصفة عامة وبين باقي الأدلة من شهادة شهود، واعتراف وغيرها (عدم تدرج القوة الثبوتية للدليل).
وهنا يجب حسب رأينا التفكير في إمكانية إعطاء قوة ثبوتية أقوى للدليل العلمي خاصة لما يتميز به من موضوعية ودقة دون أن نهمل بأن الحقائق التي توضع في متناول القاضي باستعمال التقنيات العلمية قد تؤدي أحيانا إلى المساس باقتناعه الشخصي يفرض عليه معطيات علمية غير قابلة للتشكيك فيها وهو ما قد يؤثر سلبا على مجريات التحقيق القضائي، إذا سلمنا بإمكانية تزييف الدليل العلمي أو خطئه من جهة وبنسبيته في الإجابة عن بعض التساؤلات من جهة أخرى.
ويجدر لفت الانتباه إلى أن تقييد تقدير القاضي بالدليل العلمي من شأنه إعطاء التقنيين (الخبراء) سلطات حقيقية في إطار ما يسمى بالوظيفة القضائيةFonction juridictionnelle .
كما أن إهمال القاضي المحقق خاصة للدليل العلمي يؤدي حتما إلى التأثير على نتائج التحقيق بحرمانها من شرعية تستمد من الصرامة العلمية La rigueur scientifique.
إضافة إلى هذا فإن سلطة تقدير القاضي للقيمة القانونية للدليل الطبي الشرعي دون إمكانية مناقشته له لعدم تحكمه في هذا المجال من المعرفة يثير كذلك عدة إشكالات على المستوى العملي.
ودائما في الميدان العملي فإنه يتعين التأكيد على المكانة المميزة التي يحتلها الدليل الطبي الشرعي في تفكير القاضي في مجال الدليل الذي غالبا ما يؤخذ به في تكوين اقتناعه الشخصي.
III الدليل الطبي الشرعي في مرحلة المحاكمة:
يعرض الدليل الطبي الشرعي كغيره من الأدلة لتقديره من قبل جهات الحكم خلال التحقيق النهائي instruction définitive التي كما سبق الإشارة إليه، تخضع لمبادىء قرينة البراءة ( أي الإثبات على جهة الاتهام ) وحرية الإثبات والاقتناع الشخصي للقاضي، وهنا يجب التمييز بين جهات الحكم المكونة من قضاة محترفين فقط ( جنح، مخالفات) وبين تلك المكونة من قضاة محترفين وقضاة ( محلفين ) غير محترفين.
يتقيد القاضي الجزائي كقاعدة عامة بالأدلة التي تقع مناقشتها بالجلسة بصفة وجاهية (المادة 302 من قانون الإجراءات الجزائية) بالنسبة لمحكمة الجنايات، و(المادة 234 من قانون الإجراءات الجزائية) بالنسبة لمحكمة الجنح والمخالفات.
غير أنه بحكم تقدير القاضي للدليل الذي يقدم بما فيه الدليل الطبي الشرعي إلى حرية الإثبات، فليس على القاضي أن يتقيد وجوبا بدليل علمي معين مثلا لإثبات نسبة جريمة إلى متهم أو عدم نسبتها إليه، على عكس ما هو معمول به في الدول التي تأخذ بنظام الدليل القانوني système de la preuve légale، كما يخضع تقدير قيمة الدليل الطبي الشرعي إلى مطلق الاقتناع الشخصي للقاضي L’intime conviction وهو ما كرسه المشرع الجزائري بموجب المادة 307 من قانون الإجراءات فيما يخص محكمة الجنايات والتي تنص على عدم تقييد القضاة إلا بما قد تحدثه في إدراكهم أدلة الإثبات وأدلة النفي وعلى ضرورة إجابتهم على سؤال واحد يتضمن كل نطاق واجباتهم ( هل لديهم اقتناع شخصي؟ ).
إضافة إلى عدم تسبيب الأحكام الجنائية وإنما الإجابة على الأسئلة المطروحة بخصوص اعتبار المتهم مذنبا أم لا، وبخصوص الظروف المخففة مع صدور الحكم بأغلبية الأصوات.
وهنا يستوجب التساؤل عن القيمة القانونية للدليل العلمي في مواجهة القناعة الشخصية لقضاة غير محترفين ؟
يرى البعض أن إعطاء مطلق حرية تقدير قيمة الدليل الطبي الشرعي لقضاة غير محترفين قد تنجم عنه إنزلاقات خطيرة تؤدي إلى تبرئة متهمين توجد أدلة علمية تعزز قيامهم بالأفعال المنسوبة لهم أو إدانة متهمين توجد لصالحهم أدلة علمية تعزز براءتهم.
أما فيما يخص محكمة الجنح والمخالفات فإنه رغم خضوعها أيضا إلى مبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي طبقا لأحكام المادة 212 من قانون الإجراءات الجزائية إلا أن ذلك مقيد باعتبار أن هذه المحاكم مكونة من قضاة محترفين ملزمين بتسبيب الأحكام التي يصدرونها.
أما على مستوى الاجتهاد القضائي فقد قضت المحكمة العليا في قرار مؤرخ في 19/02/1981 ( نشرة القضاة عدد 44 ) بأن الخبرة ضرورية لإثبات جنحة القيادة في حالة سكر ولو اعترف المتهم.
وفي رأي آخر قضت المحكمة العليا في قرار بتاريخ 11/07/1995 بأن القضاة غير ملزمين بمناقشة نسبة الكحول في الدم لإثبات جنحة القيادة في حالة سكر وإنما يكفي فقط معاينتها ووجودها بالدم.
ويجب الإشارة إلى أنه في هذه المرحلة يتم اللجوء في كثير من الحالات إلى سماع شهادة الخبراء في المجال الطبي الشرعي لتقديم التوضيحات العلمية اللازمة بخصوص الأساليب والتقنيات المستعملة وكذا القيمة العلمية للنتائج، بالإضافة إلى بعض التوضيحات الأخرى، كما يتم اللجوء في بعض الحالات إلى انتقال المحكمة للقيام بالمعاينات المادية اللازمة بصفة وجاهية أي بحضور الأطراف ومحاميهم وحتى الخبراء.
الخاتمــــة
وفي الختام وبالنظر إلى التطور العلمي والتقني في مجال الطب الشرعي يجدر التساؤل حول ما إذا كان من الضروري إعادة النظر في القيمة القانونية للدليل الطبي الشرعي نحو عدم إخضاعه بصفة مطلقة لسلطان الاقتناع الشخصي للقاضي.