الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ الله تعالى امتنَّ على هذه الأمَّةِ بالبعثة المحمَّدية التي تُعَدُّ مِنْ أعظمِ النِّعَمِ وأجَلِّها، قال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾ [آل عمران]؛ فجَعَل اللهُ تعالى لنبيِّه الأمِّيِّ الأمين آيةً علميةً وحجَّةً خالدةً، وهي القرآنُ الكريم : آخِرُ الكُتُبِ وخاتمُها، وأعظمُها وأكملها وأشملُها؛ فأَنْزَلَهُ اللهُ تعالى على أكملِ صورةٍ مِنْ صُوَرِ الوحي، وضمَّن فيه محاسنَ ما قبله مِنَ الكُتُبِ المُنْزَلة، وزاده مِنَ الكمالات ما ليس في غيره؛ فجَمَع فيه الحِكَمَ والأحكامَ، والعلومَ والمعارفَ التي لا تنقضي عجائبُها ولا تنتهي فوائدُها، ووضَّح النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحلالَ والحرام، وأصَّل الأصولَ وفصَّلها، حتَّى استتمَّ هذا الدِّينُ واستقام، وقد وجَّه العلماءُ عنايتَهم الفائقةَ بالسنَّة المطهَّرة، وأظهروا منزلتَها في التشريع، ومرتبتَها مِنَ القرآن الكريم، ومِنْ منطلَقات النصوصِ الشرعيةِ المتضافِرة بيَّنوا بيانًا شافيًا أنَّ مِنْ مقتضَيَاتِ الإيمانِ بكتاب الله: الإيمانَ بأنَّ كُلَّ ما ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فهو حقٌّ مِنْ عندِ الله، وبيانٌ لكتابِ الله، وأنَّ الأخذَ به أخذٌ بالقرآن، وأنَّ التركَ له تركٌ للقرآن.
ولا يخفى أنَّ السنَّة المُطهَّرةَ وحيٌ، وهي مصدرٌ تشريعيٌّ مُسْتقِلٌّ، وحجَّةٌ كاملةٌ في ثبوت الأحكام؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤﴾ [النجم]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾ [الحشر: ٧].
ولهذا لا تَقِلُّ السنَّةُ النبويةُ منزلةً عن القرآن في إثبات الأحكام؛ فما جاء عنه صلَّى الله عليه وسلَّم في سُنَنِه فهو تبليغٌ للقرآن؛ فهي حقٌّ وصدقٌ، وكُلُّ حكمٍ في السنَّةِ يُعَدُّ حكمًا مِنْ عندِ الله تعالى، وأحكامُ الله تعالى متساويةٌ في العلم والاعتقاد والقول والعمل، لا تقبل التفاوتَ بينها ولا التمييزَ لأحَدِها عن الآخَر، وقد أوضح ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بقوله: «فصحَّ أنَّ كلام رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كُلَّه في الدِّين وحيٌ مِنْ عندِ الله عزَّ وجلَّ ـ لا شكَّ في ذلك ـ ولا خلافَ بين أحَدٍ مِنْ أهل اللغة والشريعةِ في أنَّ كُلَّ وحيٍ نَزَلَ مِنْ عندِ الله تعالى فهو ذِكْرٌ مُنزَّلٌ؛ فالوحيُ كُلُّه محفوظٌ بحفظِ الله تعالى له بيقينٍ»(١).
ذلك لأنَّ القرآن والسنَّة صنوانِ مِنْ جهةِ وجوب الاتِّباع والتسليم بما جاء به اللهُ تعالى ورسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لذلك أَمَرَ اللهُ تعالى بطاعة الرسول وجَعَلَ طاعتَه مِنْ طاعةِ الله تعالى في قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٣٢﴾ [آل عمران]، وقولِه تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَۖ﴾ [النساء: ٨٠]، وأَمَرَ بالردِّ إلى الرسول عند النزاع وجَعَلَ الردَّ إليه مِنْ مُوجَباتِ الإيمان ولوازِمِه في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ﴾ [النساء: ٥٩]، وقولِه تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥﴾ [النساء]، وجَعَلَ الخيارَ مُنْتفِيًا عن المؤمنين إذا صَدَرَ حكـمٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كما رتَّبَ الوعيدَ على مَنْ خالَفَ أَمْرَه في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، وقولِه تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣﴾ [النور].
أمَّا مِنَ السنَّةِ فيدلُّ على تأكيدِ طـاعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ووجوبِ اتِّباعه: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: «يَا قَـوْمِ، إِنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ العُرْيَانُ؛ فَالنَّجَاءَ»، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الحَقِّ»(٢)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي»(٣)،وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»(٤)، ونحوُ ذلك مِنَ الأحاديث الصحيحة، وسيأتي مَزيدٌ منها قريبًا.
وبهذا المعنى الصحيح والفهم السليمِ لوجوب الاتِّباعِ والتسليمِ والطاعة اتَّصف صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أثناءَ تَلَقِّيهم لأحكامِ الله تعالى، ولم يُفرِّقوا ـ في العمل ـ بين حكمِ الله تعالى وحكمِ رسوله، بل عَمِلوا بهما جميعًا؛ لعِلْمِهم بأنَّ كِلَيْهما مِنَ الله تعالى في الأوامرِ والنواهي والحلالِ والحرام والوعدِ والوعيد وغيرِها، وقد وَصَفَهم اللهُ تعالى بذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١﴾ [النور]؛ فمَنْ جَمَعَ بين طاعةِ الله وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وخشيةِ الله وتَقْواهُ فازَ بالمطلوب ونَجَا مِنَ المكروه؛ لأنَّ الله حَصَرَ الفلاحَ والفوزَ فيمَنْ حكَّم اللهَ ورسوله، وأطاعَ الله ورسولَه، وخَشِيَ اللهَ واتَّقاهُ، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخۡشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقۡهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٥٢﴾ [النور].
لذلك كان المؤمنُ مُكلَّفًا بالإيمان بكُلِّ ما جاء به الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم وبلزومِ طريقته في العلم والاعتقاد والقولِ والعمل، فما عَرَفَ مَعْناهُ آمَنَ به إيمانًا مُجْمَلًا ومُفصَّلًا، وما لم يعرف مَعْناهُ المُفصَّلَ آمَنَ به إيمانًا مُجْمَلًا.
كما أنَّ المؤمن مُطالَبٌ ـ شرعًا ـ باتِّباعِ الوحيين وطاعةِ الله وطاعةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بتطبيق الأحكام الشرعية والعملِ بمُقْتضاها كُلِّها، سواءٌ جاءَتْ في الكتاب العزيز أو وَرَدَتْ بها السنَّةُ الصحيحة الثابتةُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إجماعًا، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «وهذه السنَّةُ إذا ثَبَتَتْ فإنَّ المسلمين كُلَّهم مُتَّفِقون على وجوبِ اتِّباعِها»(٥).
والمؤمن مُطالَبٌ ـ أيضًا ـ بأَنْ لا يُقدِّمَ أيَّ شيءٍ بين يَدَيِ الله ورسولِه، وذلك هو ميزانُ الإيمانِ واليقين، ولا عُذْرَ له ـ ألبتَّةَ ـ في تركِ السنَّةِ اكتفاءً بالقرآن، أو الابتعادِ عنها بعدَمِ الرجوعِ إليها أو عدَمِ الاحتجاج بها، أو تأويلِها بدونِ مُسوِّغٍ شرعيٍّ؛ ذلك لأنَّ الأخذ بالسنَّة هو الأخذُ بالقرآن، والتركَ لها هو التركُ للقرآن، قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «اعْلَمْ أنه قد اتَّفقَ مَنْ يُعْتَدُّ به مِنْ أهل العلم على أنَّ السنَّة المُطهَّرةَ مُسْتقِلَّةٌ بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريـم الحرام»(٦)، وقد وَرَدَتْ ـ في هذا الشأنِ ـ نصوصٌ شرعيةٌ كثيرةٌ، وقد تَقدَّمَ ذِكْرُ بعضِ الآيات القرآنية الدالَّةِ علـى هذا المعنى، ويمكـن إضافةُ بعضِ الأحاديثِ الصحيحة منها:
– حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(٧).
– حديث العرباض بنِ ساريةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في وصيَّتِه: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُـوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»(٨).
– حديث أبي رافعٍ رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ»(٩).
– حديث المقدام بنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَـانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ؛ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ»»، وفي رواية الترمذيِّ وابنِ ماجه بزيادةِ: «أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ»(١٠).
– حديث العرباض بنِ ساريةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، قَدْ يَظُنُّ أَنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا إِلَّا مَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ، أَلَا وَإِنِّي ـ وَاللهِ ـ قَدْ وَعَظْتُ وَأَمَرْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ، إِنَّهَا لَمِثْلُ الْقُرْآنِ أَوْ أَكْثَرُ»(١١).
وهذه النصوص الحديثية تدلُّ على تحريم الإعراض عن حديثِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه مهما ثَبَتَ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان حجَّةً بنَفْسِه، ولأنَّ المُعْرِض عنه إنما هو مُعْرِضٌ ـ في حقيقة الأمر ـ عن القرآن، ويؤكِّد ـ هذه الحقيقةَ ـ الخطَّابيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «يُحذِّرُ بذلك مُخالَفةَ السنن التي سنَّها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّا ليس لـه في القرآنِ ذِكْرٌ على ما ذَهَبَتْ إليه الخوارجُ والروافضُ؛ فإنهم تَعلَّقوا بظاهِرِ القرآن، وتركوا السننَ التي قد ضُمِّنَتْ بيانًا للكتاب؛ فتَحيَّرُوا وضلُّوا»(١٢).
وهذه النصوصُ السابقة ظاهرةٌ ـ أيضًا ـ في ثبوتِ حجِّيَّةِ السنَّة المُسْتقِلَّة، وهو ما أشار إليه الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «إنَّ ثبوت حجِّيَّةِ السنَّة المُطهَّرةِ واستقلالِهَا بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيةٌ، ولا يُخالِفُ في ذلك إلَّا مَنْ لا حَظَّ له في دين الإسلام»(١٣).
والسلف مُتَّفِقون على أنَّ سنَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يجب اتِّباعُها مطلقًا، مِنْ غيرِ تفريقٍ بين السنَّة المُوافِقةِ للكتاب أو المُبيِّنةِ له، وبين السنَّةِ الزائدة على ما في القرآن، أي: الثابتة بتشريعٍ ابتدائيٍّ مِنَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فكُلُّ ذلك وحيٌ مِنْ عندِ الله تعالى، تجب طاعةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيه ولا تَحِلُّ معصيتُه، وقَدْ أَفْصَحَ الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ عن هذا المعنى بقولـه: «فقَدْ بَيَّنَ اللهُ أنه فَرَضَ فيه طاعةَ رسوله، ولم يجعل لأحَدٍ مِنْ خَلْقه عُذْرًا بخلافِ أمرٍ عَرَفَه مِنْ أمرِ رسول الله، وأَنْ قد جَعَلَ اللهُ بالناسِ كُلِّهم الحاجةَ إليه في دينهم، وأقامَ عليهم حُجَّتَه بما دلَّهُمْ عليه مِنْ سنن رسول الله مَعانِيَ ما أراد اللهُ بفرائضه في كتابه؛ ليَعْلَمَ مَنْ عَرَفَ منها ما وَصَفْنا أنَّ سنَّتَه صلَّى الله عليه وسلَّم إذا كانَتْ سنَّةً مُبيِّنةً عن الله مَعْنَى ما أرادَ مِنْ مفروضه فيما فيه كتابٌ يَتْلُونَه، وفيما ليس فيه نصُّ كتابٍ أُخْرَى؛ فهي كذلك أين كانَتْ، لا يختلف حكمُ الله ثمَّ حكمُ رسوله، بل هو لازمٌ بكُلِّ حالٍ»(١٤).
وأكَّد ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ وجوبَ طاعةِ الرسول واتِّباعِه مُطْلقًا بقوله: «وقد أَمَرَ الله جلَّ وعزَّ بطاعته واتِّباعِه أمرًا مطلقًا مُجْمَلًا لم يُقيَّدْ بشيءٍ كما أَمَرَنا باتِّباع كتاب الله، ولم يقل: «وافَقَ كتابَ الله» كما قال بعضُ أهلِ الزيغ، قال عبد الرحمن بنُ مهديٍّ: «الزنادقةُ والخوارج وضعوا ذلك الحديثَ»، يعني: ما رُوِيَ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «ما أتاكم عنِّي فاعْرِضُوهُ على كتاب الله، فإِنْ وافَقَ كتابَ الله فأنا قُلْتُه، وإِنْ خالَفَ كتابَ الله فلم أَقُلْه، وإنما أنا مُوافِقٌ كتابَ الله، وكيف أُخالِفُ كتابَ الله وبه هداني اللهُ؟!». وهذه الألفاظُ لا تصحُّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهل العلم بصحيح النقل مِنْ سقيمه، وقد عارَضَ هذا الحديثَ قومٌ مِنْ أهل العلم وقالـوا: نحن نعرض هذا الحديثَ على كتاب الله قبل كُلِّ شيءٍ ونعتمد على ذلك، قالوا: فلمَّا عَرَضْناهُ على كتاب الله عزَّ وجلَّ وَجَدْناه مُخالِفًا لكتاب الله؛ لأنَّا لم نجد في كتاب الله ألَّا نقبل مِنْ حديثِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا ما وافَقَ كتابَ الله، بل وجَدْنا كتابَ الله يُطْلِقُ التأسِّيَ به والأمرَ بطاعته، ويُحذِّرُ المُخالَفةَ عن أَمْرِه جملةً على كُلِّ حالٍ»(١٥).
قلت: وحديث الأمر بعَرْضِ الأحاديث على القـرآن ضعَّفه يحيى بنُ مَعينٍ وقال: «إنه موضوعٌ وضَعَتْه الزنادقةُ»، ومثلُه عبد الرحمن بنُ مهديٍّ كـما تَقدَّمَ(١٦)، وقال الخطَّابيُّ: «باطلٌ لا أصلَ له»(١٧).
وقد ألَّف السيوطيُّ ـ رحمه الله ـ في هذا الشأنِ رسالتَه الموسومة ﺑ: «مفتاح الجنَّة في الاحتجاج بالسنَّة»، ضمَّن فيها ردًّا على هؤلاء الزنادقةِ والخوارج والروافض الذين تركوا السننَ ولم يعملوا بها اكتفاءً بظواهر القرآن.
ولا يخفى أنَّ الأمر بلزوم السنَّةِ واتِّباعِ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ أَوْجَبِ الواجبات؛ إذ ليس مِنْ سبيلٍ في تَلَقِّي الدِّين إلَّا عنه، كما رتَّبَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الهلاكَ والذِّلَّةَ والصَّغارَ على التقاعس عنِ اتِّباع السنَّةِ أو تَرْكِها؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ؛ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»(١٨)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «.. وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي»(١٩).
هذا، وإذا تَقرَّرَ أنَّ كُلَّ ما صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو واجبُ الاتِّباع ـ سواءٌ كان شرعًا ابتدائـيًّا أو بيانًا لِمَا شَرَعه اللهُ في كتابه ـ فإنه يَحْسُنُ ـ إكمالًا لهـذا التبيان ـ أَنْ نختمه بمَراتِبِ السنَّةِ وعلاقتها بالقرآن الكـريم، فهي تنقسم ـ باعتبارِ مَراتِبِها ـ إلى أقسامٍ ثلاثةٍ:
المرتبة الأولى: السنَّةُ المُقرِّرةُ لحكمِ القرآن المؤكِّدةُ له، وهي السنَّةُ المُوافِقةُ للقرآن مِنْ جميعِ الوجوه؛ فإنَّ الحكم المُترتِّبَ عليها يَثْبُتُ بدليلين: القرآن والسنَّة، وهذا القسمُ مِنَ السنَّة كثيرُ التطبيق، مثل وجوبِ الصلاة والزكاة والصوم والحجِّ، ومثل النهيِ عن الشرك وعقوقِ الوالدين وقتلِ النفس وغيرِها.
المرتبة الثانية: السنَّةُ المُبيِّنةُ لحكمٍ وَرَدَ في القرآن الكريم، وفي هذه المرتبةِ يَرِدُ البيانُ مُتنوِّعًا مِنْ وجوهٍ:
– فقَدْ يَرِدُ البيانُ على وجه التفسير لِـمَا أُجْمِلَ مِنْ حكمٍ في القرآن، مثل قولـه تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ﴾ [البقرة: ٤٣؛ وغيرها]، وقولِه تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾ [البقرة: ١٨٣]، وقولِه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ ﴾ [آل عمران: ٩٧]، فلم يُبيِّنِ القرآنُ كيفيةَ الصلاةِ ولا مِقْدارَ الزكـاةِ ولا مفهومَ الصومِ ولا مَناسِكَ الحجِّ؛ فأتَتِ السنَّةُ رافعةً للإجمال الحاصل في هذه الأحكامِ بالبيان والتوضيح والتفصيل.
– وقد يَرِدُ البيانُ على وجه التخصيص لحكـمٍ عامٍّ في القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ﴾ [النساء: ١١]؛ فالآيةُ ـ بعمـومها ـ تدلُّ على أنَّ جميعَ الأولادِ يَرِثُون مِنْ آبائهم، وجاءَتِ السنَّةُ فبيَّنَتْ أنَّ هذا العمومَ مخصوصٌ فلا يَسْتَحِقُّ الولدُ الكافرُ ولا القاتلُ الإرثَ، وكذلك آيات الزكاةِ شاملةٌ لكُلِّ مالٍ، فخصَّصَتْها السنَّةُ بأموالٍ واجبةٍ الزكاةُ فيها دون غيرِها، وقولِه تعالى ـ أيضًا ـ بعد آية المحرَّمات مِنَ النساء: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ﴾ [النساء: ٢٤]؛ فخصَّصَتِ السنَّةُ العمومَ بتحريمِ نكاحِ المرأةِ على عمَّتِها وخالَتِها، أي: الجمعِ بينهما.
– وقد يَـرِدُ البيانُ على وجه التقييد لحكـمٍ مطلقٍ في القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ ﴾ [النساء: ٢٣]؛ فالـرضاعُ مُطْلَقٌ؛ فبيَّنَتِ السنَّةُ العددَ المُحرِّمَ المُقيِّدَ للرضاع وهو خمسُ رضعاتٍ مُشْبِعاتٍ على الصحيح، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا﴾ [المائدة: ٣٨]؛ فاليدُ مُطْلَقةٌ، وجاءَتِ السنَّةُ مُقيِّدةً للإطلاق، فبَيَّنَتْ مَحَلَّ القطعِ وهو مِنْ كُوعِ اليد اليمنى.
المرتبة الثالثة: السنَّة المُسْتقِلَّةُ بشرعٍ ابتدائيٍّ، وتُسمَّى ـ أيضًا ـ: السنَّةَ الزائدة على ما في القرآن؛ فهي تُنْشِئُ حكمًا جديدًا سَكَتَ القرآنُ الكريم عن إيجابه أو تحريمه، مثل: أحكام الشفعة، والقضاءِ بشاهدٍ ويمينٍ، ونحوِ ذلك.
وقد نصَّ الشافعيُّ ـ رحمه الله ـ على هذه المَراتبِ الثلاث بقوله: «فلم أَعْلَمْ مِنْ أهل العلم مُخالِفًا في أنَّ سنن النبيِّ مِنْ ثلاثة وجوهٍ، فاجتمعوا منها على وجهين.
والوجهان يجتمعان ويتفرَّعان: أحَدُهما: ما أَنْزَلَ اللهُ فيه نصَّ كتابٍ فبَيَّنَ رسولُ الله مِثْلَ ما نصَّ الكتابُ، والآخَرُ ممَّا أَنْزَلَ اللهُ فيه جملةَ كتابٍ فبَيَّنَ عن الله مَعْنَى ما أراد، وهذانِ الوجهان اللَّذان لم يختلفوا فيهما.
والوجه الثالث: ما سنَّ رسولُ الله فيما ليس فيه نصُّ كتابٍ»(٢٠).
هذا، وقد أضافَ بعضُ العُلَماء على ما تَقدَّمَ مرتبـةً رابعةً وهي:
السنَّة الناسخةُ للحكم الوارد في القرآن الكـريم، وهذه المرتبةُ مَحَلُّ اختلافٍ بين العُلَماء، وذَهَبَ أَكْثَرُ الفُقَهاء إلى جوازِ نَسْخِ القرآن بالخبر المُتواتِر، مثل قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ﴾ [البقرة: ١٨٠]؛ فهـو منسوخٌ ـ عندهم ـ بحديثِ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»(٢١).
كما يجوز نَسْخُ القرآنِ الكريم بخبر الآحاد على الراجح؛ لأنَّ الجميع وحيٌ مِنَ الله تعالى، واللهُ هو الناسخُ حقيقةً، وقد ثَبَتَ وجوبُ التعبُّدِ بالوحي عن طريق القطع، لكنَّ غايةَ ما في الأمرِ أنه ـ بعد تَتبُّعِ الأدلَّةِ واستقرائها ـ لا يُوجَدُ مثالٌ في الشرع يدلُّ على الوقوع(٢٢).
وبمجموعِ مراتب السنَّة المتقدِّمة يظهر ـ جليًّا ـ أنَّ حاجة القرآنِ أكيدةٌ إلى السنَّة النبوية مِنَ الوجوه السالفة البيان، وضِمْنَ هذا المنظورِ قال الأوزاعيُّ ـ رحمه الله ـ: «الكتابُ أحوجُ إلى السنَّة مِنَ السنَّة إلى الكتاب»(٢٣)، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ موضِّحًا ذلك بما نصُّه: «يريد أنها تقضي عليه وتُبيِّنُ المرادَ منه، وهذا نحوُ قولهم: تَرَك الكتابُ موضعًا للسنَّة، وتركَتِ السنَّةُ موضعًا للرأي»(٢٤).
وأخيرًا، فإنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ السنَّة المُطهَّرةَ مصدرٌ تشريعيٌّ مُسْتَقِلٌّ بالتشريع والبيانِ؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ [النحل: ٤٤]، وقولِه تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ﴾ [الحشر: ٧]، على ما تَقدَّمَ بيانُه.
غيرَ أنَّ السنَّة الصحيحة الثابتة ـ وإِنْ كانَتْ قطعيةَ الثبوتِ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم جملةً ـ إلَّا أنـها مِنْ جهةِ التفصيل فمنها: ما هو قطعيُّ الثبوتِ كالحديث المتواتر، ومنها: ما هو ظنِّيُّ الثبوت كخبر الآحاد المُجرَّدِ عن القرائن، وهو الغالبُ في السنَّة، بخلاف القرآن فهو قطعيُّ الثبوتِ جملةً وتفصيلًا؛ لذلك فأحاديثُ الآحادِ بما حفَّ بها مِنْ ظنونٍ في طريقِ ثبوتها يجعلها في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم، ويُؤكِّـدُ هذه الدرجةَ أنَّ السنَّةَ تأتي مُبيِّنةً للقرآن ومُقرِّرةً له ومُفسِّرةً لإجماله ونحوِ ذلك ممَّا سَبَقَ ذِكْرُه، ومَعْنَى ذلك أنَّ القرآن أصلٌ والسنَّةَ تَبَعٌ له تـأتي في الدرجة الثانية مِنْ هذه الحيثية؛ لأنَّ البيان تابعٌ للمُبيَّن ـ كما تَقرَّر أصوليًّا ـ.
وأمَّا مِنْ حيث الاجتهادُ والفتوى وفهمُ النصوص فيَلْزَمُ الرجوعُ إلى السنَّةِ الثابتةِ قبل العمل بنصوص القرآن وتنفيذِها؛ لاحتمالِ كونِ النصِّ القرآنيِّ العامِّ مُخصَّصًا بالسنَّة، أو مُطْلَقِهُ مُقيَّدًا بـها، أو نحوِ ذلك مِنْ وجوه البيان والتفسير والنسخ التي ثَبَتَتْ في السنَّة.
فالسنَّةُ ـ بالنظر إلى مُقابَلةِ نصوصها بنصوص القرآن والجمعِ والتوفيق بينهما ـ مُتساوِيةٌ مع القرآن الكريم، لا نزاعَ في ذلك بين العُلَماءِ ممَّنْ يحتجُّ بالسنَّة الصحيحة، ومِنْ هذه الحيثيةِ نُدْرِكُ أنَّ علاقة السنَّة بالقرآن علاقةٌ تكامليةٌ في التشريع والبيان، ينتفي بينهما الاختلافُ والتعارضُ الحقيقيُّ؛ ذلك لأنَّ الوحي مُنزَّهٌ عن ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا ٨٢﴾ [النساء]، ولقوله تعالى مُخْبِرًا عن نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤﴾ [النجم]، ولأنَّ اللهَ أَمَرَ بالرجوع ـ عند الاختلاف ـ إلى الكتاب والسنَّة ليرتفع الخلافُ في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]؛ فدلَّ ذلك على انتفاءِ التعارض الحقيقيِّ، وإنما المُرادُ به التعارضُ الظاهريُّ الذي هو وهمٌ يقوم في ذهنِ الناظر ولا وجودَ له في الواقع، ويزول هذا الوهمُ بمُجرَّدِ إظهـارِ التوفيق بين الدليلين وحصـولِ الائتلاف بينهما.
فعُلِمَ أنَّ أدلَّةَ الشرعِ لا تَتناقَضُ في نَفْسِها، بل يُصدِّقُ بعضُـها بعضًا؛ فهي مُتَّفِقةٌ لا تختلف ومُتلازِمةٌ لا تفترق؛ مصداقًا لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»(٢٥)، وفي هذا المعنى قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «وكذلك إذا قلنا: «الكتاب والسنَّةُ والإجماع» فمدلولُ الثلاثةِ واحدٌ؛ فإنَّ كُلَّ ما في الكتاب فالرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم مُوافِقٌ له والأمَّةُ مُجْمِعةٌ عليه مِنْ حيث الجملةُ؛ فليس في المؤمنين إلَّا مَنْ يُوجِبُ اتِّباعَ الكتاب، وكذلك كُلُّ ما سَنَّهُ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فالقرآنُ يأمر باتِّباعه فيه والمؤمنون مُجْمِعون على ذلك، وكذلك كُلُّ ما أَجْمَعَ عليه المسلمون فإنه لا يكون إلَّا حقًّا مُوافِقًا لِمَا في الكتاب والسنَّة، لكِنِ المسلمون يَتَلَقَّوْنَ دينَهم كُلَّه عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم فينزل عليه وحيُ القرآن ووحيٌ آخَرُ هو الحكمةُ، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»(٢٦)»(٢٧).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
https://ferkous.com/home/?q=art-mois-107