أتعاب المحامي

[aliali-24]

إذا كانت الأتعاب في العهود القديمة التي مورست فيها "المحاماة " بالمجان عن طريق الوراثة من طرف فئات اجتماعية كالأشراف في العهد الروماني والنبلاء في العهد الإقطاعي قد أخذت شكل "عطيات " تلقائية يقدمها المترافع عنهم لوكلائهم، اعترافا لهم. بما قدموه من مجهود وحققوه من نتائج في الدفاع عنهم، فإنها بعد الثورة البرجوازية الفرنسية لسنة 1789 أصبحت تمثل المقابل النقدي المتفق عليه بشكل رضائي بين المحامي وموكله مقابل خدمة يقدمها الأول للثاني في إطار القانون المنظم للمهنة وأعرافها وتقاليدها.

يقول الأستاذ (ديبان الكبير) وقت أن كان نقيبا للمحامين في باريس في خطاب ألقاه في جلسة افتتاح مؤتمر عام 1829:

أتعاب المحامي هي المقابل الذي يستحقه المحامي عن خدمة يقدمها لموكله في إطار القواعد القانونية المنظمة لمهنة المحاماة وأعرافها وتقاليدها وهي ليست بأجر كما أنها لم تعد تلك الهدية أو العطية التي يقدمها الموكل لدفاعه كما كان معمولا في السابق حيث كان يمنع على المحامي المطالبة بأتعاب لما كان المحاماة مهنة الوجهاء.

إن التطور الذي عرفته مهنة المحاماة واتساع رقعة الممارسين لها والتعديلات التي عرفتها القوانين المنظمة للمهنة جعلت من حق المحامي الحصول على مقابل مادي للخدمة التي يقدمها.

ولا بد من الإشارة إلى أن الهدية التي يمكن أن يقدمها الموكل لمحاميه عن طيب خاطر وكيف ما كان نوعها ومقدارها والمناسبة التي أعطيت فيها، لا يمكن أن - تشكل أو تعتبر جزءا من الأتعاب كما أنه من غير الجائز للمحامي أن يطلب من موكله أن يقدم له هدية لان مهنة المحاماة تبقى قبل كل شيء مهنة الشرف والنبل والقيم الأخلاقية الرفيعة.

وقد خص المشرع المغربي أتعاب المحامي بفصول خاصة من القانون المنظم للمهنة رقم 28-08 الصادر في 20 أكتوبر 2008، وأجاز أن تكون الأتعاب على شكل نسبة وأعطى لنقيب الهيأة سلطة مراجعتها على الرغم من اتفاق الإرادتين حولها (إرادة المحامي وإرادة الموكل) وهذا أمر حديث في التشريع المغربي على خلاف ما هو وارد في الكثير من التشريعات العربية الأخرى.

ولئن كانت المقتضيات التي خص بها المشرع المغربي مسألة الأتعاب في مختلف القوانين المنظمة لمهنة المحاماة بما في ذلك القانون الأخير رقم 28-08 قد عالجت بعض الإشكالات المتعلقة بالأتعاب كاختصاص النقيب (المادة 51) واستفادة الأتعاب من الامتياز (المادة 53) وتقادم الأتعاب (المادة 51) واجل الطعن وطرق الطعن في قرار تحديد الأتعاب فإنها مع ذلك، لم تكن كافية لوضع حد للجدل الفقهي والقضائي القائم حول الأتعاب، بل أكثر من ذلك فإن المشرع المغربي استحدث قواعد أثارت بدورها الجدل للأسباب التي سنعرض لها خلال هذا العرض.

والملاحظ أن المقاربة التي اتبعتها جميع الدراسات القانونية والاجتهادات القضائية المتوفرة في هذا الباب هي مقاربة جزئية، بحكم أنها من جهة لم تعالج قط موضوع الأتعاب كاتفاق رضائي بين متقاض اختار لأسباب خاصة وفي ظروف معينة محام بعينه للنيابة عنه أو لمؤازرته أو لاستشارته، ومن جهة أخرى لكونها حصرت بحثها في تحديد بعض العناصر التي تدخل في تحديد الأتعاب بعد انتهاء القضية وليس في بدايتها.

وفى اعتقادنا فإنه لا يمكن عند دراسة إشكالية تقدير وتحديد الأتعاب عدم استحضار خصوصيات مهنة المحاماة التي تنشئ بين المحامي وموكله علاقة إنسانية في كل أبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية واختزالها في علاقة قانونية محضة، أو عدم الأخذ بعين الاعتبار القوانين المنظمة لها وأعرافها التي تؤطر وتكمل الاتفاق الشفوي أو العقد الكتابي الرابط بين الطرفين كما أنه لا يجوز أن لا يأخذ بعين الاعتبار الطابع الشخصي والفرداني الذي يميز الخدمات التي يقدمها كل محام بعينه عن أي محام آخر (ثقافته - كفاءته - خبرته - أقدميته - سمعته – شهرته الخ...) والشروط والأوضاع التي يزاول فيها مهامه (موقع المكتب - أثاثه-تجهيزاته - العاملين به - مظهر المحامي - هندامه - نوع السيارة التي يركبها الخ... )

ونظرا لما لمسألة تحديد وتقدير الأتعاب من أهمية بالغة بالنسبة لمجموع المحامين الذين تكون مصدر دخلهم الوحيد بحكم أن القانون المنظم للمهنة يمنع عليهم مزاولة أي عمل أو التعاطي لأي نشاط آخر (باستثناء التدريس الجامعي وغيره من الاستثناءات الواردة على سبيل الحصر في القانون) أو القيام بأي نشاط تجاري أو غيره بالموازاة مع ممارستهم لمهنة المحاماة (حالات التنافي).

ويجب أن لا يغيب عنا كون الملفات التي تعرض على النقيب من أجل تحديد الأتعاب سواء بناء على طلب المحامي، أو موكله لا تشكل إلا نزرا قليلا، ونسبة لا تكاد تذكر، بالمقارنة مع الملفات التي يترافع فيها المحامون يوميا، ويقدمون فيها الرأي القانوني، أو يدافعون فيها عن مصالح أحد الأطراف، أمام الهيئات القضائية أو المجالس التأديبية أو غيرها.

وفي الدائرة القضائية لمحكمة الاستئناف بالرباط فقد رفع إلى النقيب خلال سنة 2012 حوالي 201 طلب تحديد أتعاب في حين عرض على المحاكم الواقعة في دائرة نفوذها، سواء كانت محاكم عادية، أو متخصصة، أو حتى استثنائية، عشرات الآلاف من القضايا، وفى غياب الإحصائيات الرسمية، فإنه لا يمكننا إلا القول بأن طلبات تحديد أو تقدير الأتعاب لا تمثل إلا نسبة 0.001 في المائة من مجوع الملفات التي يترافع فيها المحامون عن أحد أطراف الدعوى، أي بمعنى أدق فإن المنازعات بين المحامين وموكليهم لا زالت في مستوى متدن جدا، وهذا دليل على طبيعة العلاقة بين الوكيل والموكل والتي تقوم بالأساس على عنصر مهم وهو الثقة.

نستنتج من ذلك أن المحامين يحددون أتعابهم يوميا ويستخلصونها ممن وكلوهم ونصبوهم للدفاع عنهم، آو عن أولادهم أو أقاربهم، من دون أية مشاكل، وأن من بين المحامين من يفرط في استخلاص أتعابه فتضيع عليه، ولا يتقدم بطلب تحديدها إلى النقيب، رغبة منه في أن لا ينقلب الموكل إلى خصم، ويفضل التنازل عنها بدل سلوك مسطرة التحديد والاستيفاء، التي قد تطول شهورا ولا تؤدي إلى أية نتيجة، لاعتبارات كثيرة، لا يسمح المجال بذكرها لأن من أهم العراقيل التي تعترض عمل المحامي مشكل تنفيذ الأحكام والقرارات والأوامر القضائية سواء بالنسبة له كطالب تنفيذ أو بالنسبة لموكليه.

كما أنه يمكننا أن نستنتج مما سبق أن الخلاف حول الأتعاب بين المحامي وموكله لا يثار إلا في حالات قليلة جدا ومحصورة، وناذرا ما تثار المنازعة في الأتعاب إبان سريان المسطرة في القضية، وإنما غالبا ما يقع الخلاف بعد انتهاء القضية وبروز النتيجة أو حصول الصلح بين الأطراف بعيدا عن المحامي، في محاولة من الموكل لهضم حقوق وكيله في الدفاع، والاستنكاف عن دفع مستحقاته من الأتعاب.