ورد في صحيح الإمام البخاري: وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، الحبّ في الله والبغض في الله من الإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي إنّ للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتّى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص. وقال معاذ بن جبل: اجلس بنا نؤمن ساعة.
نسير اليوم في ركب أقوام صالحين، تنافسوا في الطّاعات، وتسابقوا إلى الخيرات، مع الّذين سارعوا إلى مغفرة من ربّهم وجنّات، أخبار أقوام لم يتهيّبوا صعود الجبال، بل نزعوا عن أعناقهم الأغلال، واشتاقوا إلى الكريم المتعال، نساء ورجال عَلَوْا إلى قمم فما حجبتهم عن ربّهم لذّة، ولا اشتغلوا عن دينهم بشهوة، فأحبّهم ربّهم وأدناهم وأعلى مكانتهم وأعطاهم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
إذا أردت أخي الحبيب أن تقف على أحوال هؤلاء، فهيّا معي لننتقل إلى مدينة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، ولننظر إلى أولئك الفقراء، لننظر إلى أبي هريرة، وسلمان، وأبي ذر، وبلال.. وقد أقبَلوا إلى النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يشتكون من الأغنياء، الفقراء يشتكون من الأغنياء. نعم، ترى ما شكواهم؟ هل لأنّ طعام الأغنياء ألذّ من طعامهم؟ أم لأنّ لباس الأغنياء ألين من لباسهم؟ أم لأنّ بيوت الأغنياء أرقى من بيوتهم؟ كلا، والله ما كانت هذه شكاتهم، ولا كان في هذا تنافسهم.
لقد أقبلوا حتّى وقفوا بين يدي النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فقالوا: يا رسول الله، جِئنا إليك نشتكي من الأغنياء. قال: وما ذاك؟ قالوا: يا رسول الله: ذهب أهل الدّثور بالأجور والدّرجات العُلى، يُصَلُّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولكن لهم ما ليس لنا، لهم فضول أموال فيتصدّقون ولا نجد ما نتصدّق. فقال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “ألَا أدُلُّكم على شيء إذا فعلتموه سبقتُم مَن قبلكم، ولم يُدرِكُم أحد ممّن يجيء بعدكم”؟ قالوا: ذلك ما كنّا نبغ. فقال لهم عليه الصّلاة والسّلام: “تُسَبِّحون في دُبُر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون ثلاثًا وثلاثين، وتكبّرون ثلاثًا وثلاثين، إنّكم إذا فعلتُم ذلك سبَقْتُم من قبلكم، ولم يُدرِكُم أحدٌ ممّن يَجيء بعدكم”.
فما كادت هذه الكلمات تلامس أسماع الأغنياء حتّى تسابقوا إليها، فإذا أبو بكر يُسَبِّح، وإذا عثمان يُكَبِّر، وإذا ابن عوف يُهَلِّل، وإذا الزبير كذلك، فرجع الفقراء إلى المصطفى عليه السّلام فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا الأغنياء بما علّمتنَا ففعلوا مِثلَنا فعلِّمْنا شيئًا آخر. عندها قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: “ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشاء”.
هكذا كان حال القوم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، بل كان التّنافس على الخيرات هو الّذي يشغل بال الصّالحين، ويرفع درجات المتّقين، انظر رعاك الله إلى الشّيخين الجليلين والعلمين العابدين، انظر إلى أبي بكر وعمر، كان عمر رضي الله عنه يقول: كنتُ أتمنّى أن أسبِق أبا بكر إن سبقته يومًا، فأمر النّبيّ عليه السّلام النّاس بالصّدقة يومًا، وكان عند عمر مال حاضر من ذهب وفضة، فقال في نفسه: اليوم أسْبِقُ أبا بكر، فأقبل على ماله فقسّمه نصفين، وأبقى نصفًا لعياله، وجاء بنصف إلى النّبيّ عليه السّلام، فلمّا وضعه بين يديه، رفع صلّى الله عليه وسلّم بصره إليه ثمّ قال: “ماذا تركتَ لأهلك؟”، قال: يا رسول الله، تركتُ لهم مثله. ثمّ جلس ينتظر أبا بكر، فإذا أبو بكر قد جاء بصرّة عظيمة فوضعها بين يدي النّبيّ عليه السّلام، فقال له: “ماذا تركت لأهلك؟”، فقال أبو بكر: تركتُ لهم الله ورسوله. فنظر إليه عمر ثمّ قال: والله لا سابقتُ أبا بكر بعد اليوم أبدًا.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
منقول