ثالثا - ثورات الزنادقة
يراد بالزنادقة الملحدون الذي لا يؤمنون بوحدانية الله وينكرون تعاليم الإسلام, وقد قاوموه سرا وعلنا, وهم فرق كثيرة, غالبها من الفرس الناقمين على العرب, ومنهم من تظاهر بالإسلام وأبطن عقائد الفرس القديمة, كالمجوسية التي تمجد النار, والمزدكية والمانوية التي تقول بالحلول والتناسخ وتبيح المحرمات. وقد غلبت فكرة القومية الفارسية عند هذه الفرق, فحاولوا تحقيق فكرتهم عن طريق الثورات, فلم يفلحوا, وكان من أبرزها الثورات التالية:
ثورة سنباذ المجوسي سنة 137هـ على المنصور لقتله أبا مسلم الخراساني .
ثورة الرواندية . سنة 141هـ على المنصور لقتله أبا مسلم الخراساني .
ثورة أستاذ سيس في سجستان سنة 150 .
ثورة عبد القهار الخرمي في جرجان سنة 162هـ .
ثورة هاشم بن حكيم (المقنع) في خراسان سنة 163هـ .
ثورة المحمرة في جرجان سنة 180هـ بزعامة عمرو بن محمد العمكري .
ثورة الخرمية في أذربيجان سنة 192هـ .
ثورة بابك الخرمي في أذربيجان سنة 220هـ .
ثورة المازيار سنة 224هـ .
الغارات على البلاد الإسلامية
غارات الخزر مع جموع من الترك على أرمينية سنة 147هـ وسبيهم المسلمين وأهل الذمة وتخريبهم مدينة تفليس ثم غارتهم سنة 183هـ .
غارات قراصنة البحر (الميذ) على البصرة سنة 148هـ وسنة 149هـ وسنة 153هـ وسنة 178هـ وسنة 179هـ وسنة 225هـ وسنة 227هـ وسنة 231هـ, وغارتهم على جدة سنة 151هـ.
غارات الروم بمراكبهم على دمياط سنة 238هـ .
غارات الأعراب
غارات الأعراب سنة 167هـ في بادية البصرة وفي اليمامة والبحرين وقطعهم الطرقات .
غارات الأعراب القيسية في الشام سنة 227هـ .
غارات الأعراب من بني سليم في نواحي المدينة سنة 230هـ .
غارات الأعراب من بني نمير وفزارة سنة 232هـ وقطعهم الطرقات .
حروب العصبية القبلية
حروب العصبية بين القيسية واليمنية في الشام سنة 176هـ وحروبهم سنة 180هـ وسنة 187هـ وقد امتدت إلى سنة 190هـ .
حروب العصبية بين القيسية واليمنية في الموصل سنة 198هـ وسنة 212هـ.
تقييم العصر العباسي الأول
إذا كان العصر الأموي عصر الفتوحات الإسلامية, فإن العصر العباسي كان عصر الحضارة الإسلامية, وقد ظهر أثرها في الحياة العمرانية والأدبية والفكرية والعلمية والاجتماعية.
فالحياة العمرانية نجدها في تجديد أبي العباس السفاح مدينة الأنبار واتخاذها عاصمة له وفي بنائه مدينة الهاشمية وفي بناء المنصور مدينة بغداد ونقل العاصمة إليها وفي بنائه مدينة الرافقة إلى جانب مدينة الرقة وفي بناء مدينة سامراء (سر من رأى) في عهد المعتصم, وفي بناء مدينة المتوكلية أيام المتوكل, وفيما شيد في هذه المدن من قصور, أثار بهاؤها قرائح الشعراء.
والحياة الأدبية نجدها في شعر الشعراء, فقد أضفت نعومة الحياة رقة في الشعر, وابتداعا لمعان جديدة, وألهمت خيال الشعراء بصور فنية لم يكن لشعراء العصر الأموي عهد بها, أمثال بشار بن برد والسيد الحميري ومروان بن أبي حفصة والعباس بن الأحنف وأبو العتاهية ومسلم بن الوليد (صريع الغواني) والحسن بن هانئ (أبو نواس) وعلي بن الجهم وأبو تمام والبحتري وغيرهم.
وكان عطاء الخلفاء وسخاؤهم, ومن كان يجاريهم في العطاء من الوزراء والكبراء يشحذ إلهام الشعراء ويطلق لهواتهم بجيد الشعر, وكان الشعر وسيلة إطرائهم والتغني بفضائلهم. وإلى جانب الشعراء ظهر الكتاب, فابتدعوا أسلوبا جديدا يقوم على سلاسة التعبير, ودقة المعاني وإشراق البيان, أمثال ابن المقفع والجاحظ, ومنهم من ارتقى إلى رئاسة الديوان أمثال أحمد بن يوسف الكاتب وسهل بن هارون وعمرو بن مسعدة والحسن بن وهب وإبراهيم الصولي, ومنهم من رقا إلى الوزارة أمثال الحسن بن سهل ومحمد بن عبد الملك الزيات.
ويلحق بالحياة الأدبية ما ظهر من وضع قواعد اللغة لضبط لفظها على نحو كلام الأعراب عرفت بالنحو, وما ظهر من رجال عنوا بمفردات اللغة ومعانيها المختلفة واستعمالاتها معتمدين في ذلك على شواهد من كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم, فكان من كل هذا الذي صنعوه عمدة في تفسير القرآن والحديث, أعان الفقهاء في استنباط الأحكام من مصدريها الأساسيين وهما القرآن والسنة.
وفي الحياة الفكرية نجد أثر الثقافات الأجنبية التي حملها الموالي معهم, من حكمة الهند وأدب الفرس وفلسفة اليونان. وقد تأثر بها الفكر الإسلامي, وتلقاها بما نقل منها إلى العربية.
وكان الخليفة المنصور أول من عني بهذا النقل وتبعه حفيده الرشيد فأنشأ دارا للترجمة أسماها (دار الحكمة) واشتهرت أيام المأمون بما جلب إليها من كتب الأوائل, وخاصة ما كتب منها باليونانية والسريانية والقبطية, ووكل بها تراجمة من كل الاختصاصات: في الطب والهندسة والفلك (التنجيم) والصيدلة وقد حفلت تلك الدار بأقطاب الحركة العلمية كبختيشوع ابن جورجيس وابنه جبرائيل وحسان بن أبي سنان ومحمد بن إبراهيم الفزاري وماسرجويه ويحيى المنجم ومحمد بن موسى الخوارزمي ويوحنا بن ماسويه وموسى بن شاكر وأولاده وجابر بن حيان, وكثير غيرهم .
وقد امتد نشاط الحياة الفكرية إلى العلوم الإنسانية التي تتصل بحياة الإنسان وتحدد سلوكه وفقا لأهداف الدين. فظهر تدوين التاريخ لتسجيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفاحه وحياة الخلفاء الراشدين من بعده وسيرهم وما بعد ذلك من أحداث, وظهر تدوين الحديث وتمحيص الصحيح منه من الموضوع بعد أن كثر الوضع فيه, ونشط الفقه لوضع الحلول للمسائل التي عرضت باتساع التعامل, مستهدية بالعقل في كل ما لا نص له في كتاب الله وسنة رسوله, وآخذة بالأعراف المحلية التي تمت في أصولها إلى القوانين التي كانت نافذة قبل الفتح الإسلامي, بحيث أضحى العرف من مصادر الاجتهاد.
وكان من مظاهر الحضارة التي تميز بها العصر العباسي تطور الحياة الاجتماعية. فقد أدى امتزاج العرب بالموالي, وأكثرهم من الفرس, إلى ظهور طبقة من المولدين, أحدثت تطورا في حياة الأسرة والمجتمع.
ففي الأسرة تقدمت أمهات الأولاد - وهن الجواري المستولدات بالزواج بعد تحريرهن - على الحرائر العربيات, ونلن الحظوة عند الأزواج, وحظي أبناؤهن عند آبائهم بما لم يحظ به أبناء الحرائر. وقد ضرب الخلفاء العباسيون في ذلك المثل.
وإذا نحن استثنينا أبا العباس السفاح ومحمد المهدي بن المنصور, ومحمد الأمين بن الرشيد, فكل خلفاء بني العباس ولدن من إماء .
وكان لأمهاتهم الفارسيات والتركيات والروميات والبربريات الكلمة العليا في اختيار أولياء العهد, فكانت صاحبة الدل على الخليفة تفرض ابنها ليخلف أباه وتلزمه بالعهد إليه, فيقوم بين الأبناء نزاع كان يؤدي إلى صراع دموي, كما حدث بين الأمين والمأمون, وكما جرى مع المتوكل, فقد عهد بالخلافة إلى ابنه محمد (المنتصر) وهو ابن أمة تدعي (حبشية), فزاحمتها أم محمد (المعتز) وهي مثلها أمة تدعى (قبيحة) وجعلت المتوكل يعزم على تقديم ابنها في ولاية العهد على أخيه محمد (المنتصر), ولما علم هذا ما عزم عليه أبوه, ائتمر مع القادة الأتراك على قتله, فقتلوه.
وقد أدى تغلب العنصر الفارسي ومعه المولدون وإمساكهم بزمام الدولة إلى انحسار العنصر العربي الخالص وارتداده إلى البادية التي خرج منها, ففقدت السيوف الماضية الساعد القوي بالإيمان وتوقفت فريضة الجهاد, وبها توقفت حدود الدولة الإسلامية عند النهايات التي بلغتها الدولة الأموية.
النظرات السياسية للحكم العباسي
لم يكن قيام الدولة العباسية انقلابا جذريا على دولة بني أمية, وإنما كان انتقال الحكم من أسرة حاكمة إلى أسرة حاكمة مثلها, كانتا تتنازعان السلطة وتدعي كل منهما أنها صاحبة الحق في الخلافة, غير أنهما تختلفان في أصل هذا الحق.
فالخلافة انتقلت إلى بني أمية عن طريق معاوية بن أبي سفيان وقد ادعى حقه فيها, في بادئ الأمر, عن طريق الخليفة عثمان بن عفان بعد قتله, فهو ابن عمه وصاحب الحق في المطالبة بدمه, وهي دعوى لا تجعل له حقا في الخلافة, غير أنه استطاع بدهائه وسخائه وبالظروف التي أدت إلى قتل علي بن أبي طالب وعجز ابنه الحسن عن مصاولته وإخضاعه, أن ينال الخلافة وينقلها إلى بني أمية.
وقد استندت الخلافة الأموية على مذهب الجبر في تدبير سلطانها, وهو مذهب يجعل أفعال الإنسان صادرة عن الله تعالى, فهو الذي يخلق أفعاله, ويسيره فيها, وبذلك يكون مجبرا عليها, فما يصدر عن الإنسان من فعل الخير والشر, إنما هو من أمر الله.
وقد استظل الأمويون بهذا المذهب ليجعلوا خلافتهم أمرا تم بأمر الله, كذلك أخذ العباسيون بهذا المذهب, غير أنهم يردون أصل حقهم في الخلافة إلى جدهم العباس بن عبد المطلب بن هاشم, عم الرسول صلى الله عليه وسلم , فهو عندهم صاحب الحق في خلافة الرسول, وقد فوض إليهم بأمر الله, فهو بذلك حق إلهي ممنوح من الله تعالى.
وهذا ما عير عنه الخليفة المنصور في خطبة بيعته بقوله: (إن خلافتنا أمر تولاه الله وصنعه, ولم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة) , فهو بذلك يمثل سلطان الله في الأرض, ويتجلى ذلك بقوله في خطاب له: (إنما أنا سلطان الله في أرضه, أسوسكم بتوفيقه وتسديده) .
وكان من الطبيعي أن يرفض العباسيون, والأمويون من قبلهم, القول بالقدر وأن ينكلوا بأصحابه, لأن القول به يعني أن ما يصدر عن الخليفة من ظلم وجور إنما هو من فعله وإرادته, وأن الله لا يجوز أن يصدر عنه شر, ومن أجل ذلك يكون الإنسان مسئولا عن أفعاله, وينال عليها ما يستحق من ثواب أو عقاب, ومثل هذا القول قد يبعث الهمة والعزيمة على الخروج على السلطان.
وقد اعتبر الخلفاء الأمويون ومن بعدهم العباسيون القول بالقدر نوعا من الزندقة يستحق من قال به القتل. وقد قتل هشام بن عبد الملك غيلان الدمشقي ومعبد الجهني لقولهما بالقدر, كذلك قتل المهدي العباسي عبيد الله ابن وزيره أبي عبيد الله معاوية بن يسار لأنه قال بالقدر, وعزل أباه ونكل به لأنه قيل عنه إنه كان يميل إلى القول بالقدر, كذلك أمر عامله على المدينة أن يرسل إليه قوما يقولون بالقدر .
وقد نازع العلويون العباسيين, وادعوا أن الخلافة من حقهم لأنهم ينحدرون من أولاد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهم آل بيته, وأن الرسول أوصى أن تكون الخلافة فيهم, وأن العباسيين قد غصبوهم هذا الحق واستأثروا به من دونهم بعد أن نصروهم بالقضاء على بني أمية, واتهموهم بالخديعة.
وفي عهد الخليفة المنصور خلعوا طاعتهم في المدينة وبايعوا محمدا (النفس الزكية) بن عبد الله (المحض) العلوي. وقد أراد المنصور قبل أن يقدم على حربه أن يبدأه بالحوار في الحق الذي يدعيه كلاهما, وجرت بينهما رسائل أدلى كل منهما بحجته التي تدعم حقه بالخلافة .
ولم يقنع محمد بحجة المنصور فخلع طاعته وتسمى بأمير المؤمنين, فأرسل المنصور جيشا لحربه, وجرت معركة قتل فيها محمد وحمل رأسه إلى المنصور .
وقد قرب الخلفاء العباسيون الشعراء الذين أيدوا حقهم في الخلافة, وأغدقوا عليهم الأموال, فهذا مروان بن أبي حفصة ينال من الخليفة المهدي سبعين ألف درهم من أجل بيت من الشعر يقول فيه:
أنى يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام
أي إن أبناء البنات لا يمكنهم مزاحمة الأعمام في الأرث, يريد بذلك أن العباس, عم الرسول صلى الله عليه وسلم يتقدم على أبناء فاطمة في الخلافة كما يتقدمهم في الأرث. كذلك قرب الخلفاء العباسيون منهم الفقهاء ورجال الدين ليدعموا سلطانهم عند العامة, ويحذروهم من غضب الله إذا عصوا أوامرهم أو خرجوا عن طاعتهم. ومن أجل أن يضفي الخلفاء صفة الشرعية على سلطانهم, فقد تدثروا بدثار الدين وأخذوا يرتدون بردة النبي صلى الله عليه وسلم ويحملون قضيبه في حفل مبايعتهم, وفي جميع الاحتفالات الأخرى.
وقد اعتمدت النظرية السياسية للحكم العباسي مبدأ إشراك الموالي في السلطة لتحقيق ظاهرة المساواة مع العرب, فأشركت أشراف الموالي في السلطة, وخاصة الفرس الخراسانيين, وقد اعترف لهم المنصور بهذا الحق في خطبة له فيهم فقال: (يا أهل خراسان أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا) وكانت أسرة البرامكة أول من تقدم وارتقى في دولة بني العباس, فكان منهم الوزراء والولاة والقادة والكتاب.
وفي عهد الرشيد بلغوا ذروة المرتقى في السلطة والجاه, فقد قلد الرشيد يحيى بن برمك الوزارة وقال له: (قلدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك, فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب واستعمل من رأيت وأعزل من رأيت وامض الأمور على ما ترى) ودفع إليه خاتمه .
وفي عهد المأمون تألق نجم بني سهل, فكان الفضل وزيره وصاحب تدبيره, وكان الحسن أخوه نائبه في بغداد ثم وزيره بعد موت أخيه الفضل ثم صهره وقد تزوج ابنته بوران بنت الحسن كذلك ارتقى بنو طاهر مكان الصدارة في عهد المأمون فكان منهم الوزراء والقادة, وهم الذين وطدوا دعائم الملك للمأمون وتغلبوا على الجناح العربي الذي كان يناصر الأمين وكان ظفرهم ظفرا للفرس على العرب, وقد نصروا المأمون باعتبارهم شيعته وأخواله, كما أعلن ذلك الفضل بن سهل , وقد نال بنو طاهر جزاءهم بإقطاعهم خراسان وإقامة دولة فارسية فيها.
وقد تسربت التقاليد والنظم الفارسية إلى دولة بني العباس, فاتخذ الوزير الفارسي مكانه إلى جانب الخليفة, يقضي باسمه في جميع شئون الدولة, وينصب العمال والولاة, ويشرف على جباية الضرائب, ويولي كتاب الدواوين, وكان أكثرهم من العنصر الفارسي, ممن اتقن اللغة العربية وفيهم البلغاء أمثال ابن المقفع وأحمد بن يوسف وسهل بن هارون وعمرو بن مسعدة والحسن بن سهل وإبراهيم الصولي.
كذلك تسربت التقاليد الفارسية إلى الحياة الاجتماعية, فظهرت الأزياء الفارسية في البلاط وتقرر في قصور الخلفاء ما كان متبعا من المراسم في قصور الفرس, واحتفل بالأعياد الفارسية كالمهرجان والنيروز ورام , وغيرها من الأعياد الأخرى.