النواحي الحضارية
لم يتلقَّ السلطان تعليما منظما مثل كثير من المماليك في القلعة، وإنما كان تعليمه محدودا، لكنه استكمل هذا النقص بأن اتخذ العالم الفقيه المؤرخ "بدر الدين العيني" مُعلما ومربيا، فكان يسامره ليقرأ له التاريخ، ثم يفسره له بالتركية، وكان الشيخ ضليعا فيها، كما كان يعلمه أمور الدين، حتى إن السلطان كان يقول: لولا العيني لكان في إسلامنا شيء.
وعُني السلطان ببناء ثلاث مدارس إحداها بالخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، وقد بالغ في بنائها وزخرفتها، والثانية بالقاهرة بشارع "المعز لدين الله"، وهي المعروفة بالأشرفية نسبة إلى لقب صاحبها، وتمت عمارتها سنة (829 هـ = 1425م)، وهي السنة التي فتح فيها قبرص، والثالثة بالصحراء خارج القاهرة، وهي التي دُفن فيها، كما عُني بشئون الحجاج، فأمر بحفر الآبار على طول الطريق من مصر إلى الحجاز.
لم يكتف السلطان بما شيد من مبانٍ ومنشآت، فشملت عنايته المدارس والخانقاوات التي بنيت قبله بعد أن أهملها مباشروها ونُظّار أوقافها، فشكل مجلسا من القضاة يتولون النظر في أوقاف هذه المدارس ومراجعة شروطها للتحقق من التزام النظار بهذه الشروط، وأسند رئاسة هذه المدارس إلى شيخ الإسلام "ابن حجر العسقلاني".
وكان من شأن هذه المدارس أن نشّطت الحركة العلمية، وازدهرت العلوم والفنون، وحسبك أن يكون من أعلام عصر السلطان برسباي الحافظ "ابن حجر العسقلاني" صاحب "فتح الباري" و"الدر الكامنة في أعيان المائة الثامنة"، و"الإصابة"، والحافظ "بدر الدين العيني" صاحب "عمدة القاري شرح صحيح البخاري"، و"عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، والمؤرخ العظيم المقريزي صاحب كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك" و"اتعاظ الحنفا"، و"الخطط المقريزية".
وفاة السلطان
وبعد أن قضى السلطان برسباي في الحكم نحو سبعة عشر عاما، تُوفي في (ذي الحجة 841 هـ = مايو 1437م)، بعد أن ارتبط اسمه بالجهاد ضد الصليبيين، وأضاف إلى دولته جزيرة قبرص، وهو ما أضفى على سلطنته رونقًا وشهرة.
السلطان الظاهر جقمق : ( 1438 – 1453 م )
أستطاع الأمير جقمق الإستيلاء على العرش من العزيز يوسف بن الأشرف برسباي ( 1437 – 1438 م ) ، وكان جقمق معتدلا في حكمة إذا قيس بسلفه برسباي ، كما عرف عن جقمق تدينه وورعه فحرم المعاصي وشرب الخمر .
فتح جزيرة رودس :
من أهم الأسباب التي دفعت جقمق لفتح رودس ما يلي :
1- كانت جزيرة رودس مركزاً هاماً للصليبين في شرق البحر المتوسط .
2- تحريض السلطان مراد الثاني العثماني لجقمق على غزو رودس ؛ ليشغل فرسان الإسبتاريه برودس عن الإنضمام للحلف المسيحي الكبير الذي هدف لشن حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين .
3- رغبة جقمق في أن يحذو حذو برسباي من ناحية ، وحتي يصرف أنظار المماليك عن النزاعات الداخلية ، ويوجه طاقتهم نحو الغزو الخارجي من ناحية ثانية .
حملات جقمق على رودس :
الحملة الأولى سنة 1440م : كانت صغيرة ولم تؤتي نتائجها ، وكانت إستطلاعية بالدرجة الأولى .
الحملة الثانية سنة 1443 م : كانت بقيادة الأمير إنيال العلائي ، وحققت بعض النجاحات بضم بعضاً من قلاع رودس ، إلا أن عواصف الشتاء إضطرتها للعودة أدراجها .
الحملة الثالثة سنة 1444 م : وكانت هي أكبر الحملات وأوفرها عدة وعتاد ، وقد واجهتها بعض الصعاب متمثلة في : شدة مقاومة الإسبيتارية ، فضلا عن مساعدات الغرب المسيحي للجنود في رودس ، وهكذا رأى قائدا الحملة الأمير إنال العلائي وتماباي إنهائها بالصلح ، بعد أن تعهد الإسبتاريه بعدم التعرض للمسلمين أوالإضرار بتجارتهم .
وفاة السلطان جقمق :
مات جقمق سنة 1453 م ، بعد أن بلغ الثمانين عاماً ، وكان أثناء مرضه قد عهد بالحكم من بعده لإبنه عثمان ، وأعقب وفاة جقمق تولى العهد مجموعة من السلاطين الضعاف .
تولى الحكم بعد السلطان الظاهر جقمق مجموعة من السلاطين الضعاف وهم :
1- أبنه المنصور عثمان : والذي لم يتمكن من البقاء في الحكم أكثر من شهر ونصف ، حيث خلعه الجيش لأنه وزع عليهم النفقة بنقود مغشوشة من نقوده المعروفة بالمناصرة، نسبة إلى إسمه ، وهي دنانير ذهبية ناقصة القيمة .
2- الأشرف إينال : ولعل أوضح ظاهرة أتصف بها عهد إينال هو إضطراب الأمور الداخلية ، وكثرة الثورات حيث ثار الجلبان أو الأجلاب 7 مرات في عهده الذي لم يتجاوز الـ 8 سنوات .
3- أحمد ابن إينال : لم يدم حكمه سوى أربعة أشهر .
4- الظاهر خشقدم : أمتاز عهده بالهدوء ، ولم يعكر صفو حكمه سوى المحاولة التي قام بها جانم بك نائب الشام لإنتزاع العرش ، وأنتهى الأمر بالقبض عليه وقتله .
5- يلباي المجنون : اختاره الأمراء ليخلف خشقدم بعد وفاته سنة 1467 م ، ثم الظاهر تمر بغل في العام نفسه .
6- الظاهر تمر بغا : لم يتمكن السلطان تمربغا من إرضاء أطماع المماليك الخشقدمية وزعيمهم خير بك ، الذي نازع تمربغا الأمر حتى تمكن من أغتصاب الحكم لنفسه .
7- الظاهر خيربك : صعد إلى دست السلطنة ليلا وتلقب بالظاهر تشبها بأستاذه خشقدم ، ولكن الأتابك قايتباي أسرع إلى القلعة في نفس الليلة ليتولى السلطنة ، بعد أن تمكن من عزل خير بك ، والذي أطلق عليع المؤرخون لقب ( سلطان ليلة ) .
السلطان قايتباي : ( 1468 – 1496 م )
ولد الأشرف أبو النصر قايتباي بالقفجاق على نهر فولجا في روسيا الحالية، واشتراه تاجر يدعى محمود ابن رستم. وجيء به إلى مصر في عام 839هـ (1435م) وهو في الثالثة عشرة من عمره، واشتراه السلطان برسباي لحاميته بالقلعة.
وأعتـق في عهد السلطان جقمق، وعين في منصب جمدار، ثم في منصب خاصكي، ثم في منصب الدودار. ثم ارتقى صفوف الجيش, ليصبح قائدا للجيوش عام 872هـ (1467م). وحدث في ذلك العام هياج بين أمراء المماليك نتج عنه عزل السلطان الظاهر تمربغا من السلطة.
وقام الخليفة العباسي المستنجد بالله بمبايعة قايتباي سلطانا فأخذ قايتباي في البكاء؛ خشية أن يقتله أمراؤه. وهكذا أصبح قايتباي سلطانا على مصر والشام، وحكم إلى أن توفي عام 901هـ (1496م). وفي عهده بدأت تظهر أطماع العثمانيين للاستيلاء على مصر.
الأوضاع عقب وفاة قايتباى :
كما رأينا أنه ساءت أحوال البلاد فى أواخر عصر السلطان قايتباي بسبب كثرة الأعباء المالية وانتشار مرض الطاعون بدولة المماليك كلها سنة 897 هـ / 1492م ووفاة السلطان قايتباي سنة 901 هـ / 1496 م ، ثم بدأ أمراء المماليك التنازع على الحكم وقتل بعضهم البعض .
- ثم حدث بعد ذلك أن واجهت مصر أكبر عقبتين لها الأول وهو اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 892 هـ / 1487م وأعقب ذلك تمكن " فاسكو دي جاما " من الوصول إلى الهند عن طريق الطواف حول أفريقيا سنة 904 هـ / 1498 م وبذلك حول طريق التجارة العالمي من البحر الأحمر ومصر فلم تعد مصر محل الوساطة التجارية بين الشرق والغرب وبذلك فقدت سلطنة المماليك المورد الرئيسي لثروتها ومن ثم بدأت فى الذبول السريع.
تعاقب على عرش السلطنة بعد وفاة الأشرف قايتباي مجموعة من السلاطين الضعاف وهم :
1- أبنه محمد ( 1496 – 1497 م ) .
2- قانصوة خمسماية : وهو لم يلبث في العرش سوى 3 أيام .
3- عاد محمد بن قايتباي ( 1497 – 1498 م ) .
4- قانصوة الأشرفي : ( 1498 – 1500 م ) .
5- جانبلاط ( 1500 – 1501 م ).
6- العادل طومان باي الأول ( 1501 م ) .
وجميع هؤلاء السلاطين حكموا مدداً قصيرة مما يشهد على مدى حالة الفوضى وعدم الإستقرار التي شهدتها البلاد في ذلك الدور الأخير من حياة الدولة المملوكية . وليس أدل على هذه الحالة من الفوضى من أن معظم السلاطين الذين تولو خلال تلك الفترة كانت نهايتهم القتل أو السجن أو النفي وأحياناً السمل والخنق ... ، مما جعل معظم الأمراء يعزفون عن تولى منصب السلطنة المشؤوم الذي غدا ملطخاً بالدماء .
يتبــــــــــــــــــــــــع..............