وقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:19- 22].
عن أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حُدثاء عهدٍ بكفرٍ، وللمُشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتَهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرةٍ فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، فقال رسولُ الله ﷺ: الله أكبر! إنها السُّنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، لتركبنَّ سننَ مَن كان قبلكم رواه الترمذي وصححه.
الشيخ: هذا الباب في بيان نوع من أنواع الشرك الأكبر الذي كان يفعله المشركون في مكة وفي غيرها، يُبين المؤلف رحمه الله في هذا الباب شيئًا من ذلك، وهو الإمام أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن عليٍّ التميمي الحنبلي رحمه الله، المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في هذه الجزيرة في القرن الثاني عشر من الهجرة، المتوفى سنة 1206 من الهجرة النبوية.
يقول رحمه الله: "باب مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما" يعني: باب حكمه وبيان ما دلَّ عليه الدليل، والجواب أنه كافر مَن تبرك بشجرٍ أو حجرٍ أو نحوهما، يعني: فقد كفر؛ لقول الله جلَّ وعلا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى يعني: جائرة، حيث جعلوا له الإناث، وجعلوا لهم الذكور، وهذه أوثان لقريشٍ وغيرهم في الجاهلية:
اللات عبارة عن رجلٍ كان يلت السّويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره؛ لأنه رجل صالح، وعكفوا على الصَّخرة التي كانوا يلتون عليها، وعبدوها.
والعزى: شجرة بين طائف ومكة كانت قريش تُعظمها، وعليها بنية، قال فيها أبو سفيان يوم أحد: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم.
ومناة: صخرة كانت تُعظم عند قديد في طريق المدينة، كان يُعظمها الأوس والخزرج ويعبدونها، بيَّن الله جلَّ وعلا أنها باطلة، والمعنى: أنفعت أم ضرَّت حتى تعبدوها؟!
قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النجم:19] استفهام إنكار أنها آلهة، لا حقيقةَ لها، باطلة؛ ولهذا قال بعده: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:22- 23] يعني: ما هي، إن نافية: ما هي إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى، فدلَّ على أنَّ هذه الأسماء باطلة، وأنها ليست آلهة، وأنها مجرد شيء اخترعوه، وباطل أوجدوه، ليس له حقيقة، وإنما فعلوه اتباعًا للهوى، وساروا على طريقة الآباء الضَّالين.
وكان من أعمالهم عند اللات والعزى: التَّبرك بها، ودعاؤها، والاستغاثة بها، يزعمون أنها وسائط، وأنها تُقرب إلى الله زُلفى كما قال : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقال وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى يعني يقولون: ما نعبدهم إلا ليُقربونا إلى الله زلفى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3]، وفي آية يونس قال: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].
فدلَّ ذلك على أنَّ مَن اتَّخذ صنمًا أو شجرةً يُعلق بها السلاح؛ يتبرك به، أو يدعوه، أو يرجوه، أو يستغيث به، فقد فعل ما فعلته قريش في اللات والعُزى، وقد كفر كما كفروا بذلك، وهكذا لو اتَّخذ نجمًا أو صنمًا مُصوَّرًا أو حجرًا أو غير ذلك فالحكم واحد، أو قبرًا عبد صاحبه، وجعل يرجوه، أو يدعوه، أو يستغيث به، أو ينذر له، أو ما أشبه ذلك، فإنه بهذا يكون على دين المشركين، وقع في الشرك الأكبر الذي كانت عليه قريش وغيرها من العرب.
عن أبي واقدٍ الليثي قال: خرجنا مع رسول الله إلى حنين. غزوة حنين بعد فتح مكة، سنة 8 من الهجرة، بعد رمضان، وبعد غزوة الفتح، خرج النبي إلى حنين لأنه تجمع ناسٌ من أهل الطائف من هوازن، وجيشوا جيوشًا كثيرةً، والتقوا مع النبي ﷺ يوم حنين، ونصره الله عليهم، وناس حُدثاء عهدٍ بكفرٍ يعني: الذين في مكة، أسلموا في مكة، حُدثاء عهدٍ بكفرٍ يعني: قريب عهدهم بالكفر، إسلامهم جديد، فمروا بسدرةٍ يعكف عندها الكفَّار، وينوطون بها أسلحتهم، يعني: قبل أن يُسلموا، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط، يعني: اجعل لنا سدرةً نُعظمها ونُعلق عليها السلاح كما كان الكفارُ يفعلون ذلك، فقال النبيُّ عند هذا: الله أكبر! إنها السنن، هذه عادته إذا انتُهكت محارم الله، وتكلم أحدٌ بما يُغضب الله قال: الله أكبر! الله أكبر يُعظم الله مما قالوا، ويُنزه الله عمَّا قالوا، الله أكبر! إنها السنن، قلتُم والذي نفسي بيده حلف وهو الصادق وإن لم يحلف كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، لما جاوز بهم موسى البحر أتوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فهؤلاء قالوا مثلهم: اجعل لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواطٍ، فقال النبي ﷺ: قلتُم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.
فدلَّ ذلك على أنَّ مَن اتَّخذ حجرًا أو شجرًا أو صنمًا يُعلق عليه السلاح، أو يسأله البركة، أو يستغيث به، فهو مثل بني إسرائيل الذين عكفوا على الأصنام سواء بسواء.
فالواجب الحذر من ذلك، وأن الواجب على المؤمن: إخلاص العبادة لله وحده، وطلب البركة منه، والشفاء والنصر كلها من الله جلَّ وعلا، لا من المخلوقين، وليسوا شفعاء في هذا، لا يعبدهم لأنهم شفعاء، الأنبياء يتبعون، إنما يكونون شُفعاء باتِّباعهم وطاعتهم، والصالحين يُقتدى بهم في الخير، أما أن يدعون مع الله، أو يُستغاث بهم فهذا الشرك الأكبر، لكن يُتبعون ويُسلك طريقهم الطيب فيما جاءوا به عن الله جلَّ وعلا، وهكذا الصالحون يتأسَّى بهم في الخير، ولكن لا يُدعون مع الله، ولا يُستغاث بهم، ولا يُنذر لهم، ولا يدعون مع الله جلَّ وعلا، بل هذا شرك المشركين الأولين.
ثم قال ﷺ: لتركبنَّ سنن مَن كان قبلكم يعني: طريق مَن كان قبلكم، سَنن بالفتح، وهو الطريق، وسُنن بالضم: طرق، مَن كان قبلكم يعني في الشرك والضَّلال، هذا فيه التَّحذير من اتِّخاذ الأصنام والأشجار والأحجار آلهةً مع الله: يدعوها، أو يستغيث بها، أو ينذر لها، أو يذبح لها، أو يُعلق عليها السلاح، أو ما أشبه ذلك؛ أن هذا من دين المشركين، نسأل الله العافية.
وفَّق الله الجميع.