الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها ..

قسم الكتب و المتون العلمية و شروحها .. يعنى بجميع المتون من نظم و قصائد و نثر و كذا الكتب و شروحاتها في جميع الفنون على منهج أهل السنة و الجماعة ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-04-24, 08:39   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (1)
الدَّرسُ الأول (1)
فضيلة الشيخ/ فهد الفهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعِزَّاء في مَطلعِ هذا الفصل المبارك، أسأل الله أن يجعله فصلا مُباركًا على الجميع، وأُرَحِبُ بفضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ
حياكم الله وحيا الله الإحوة الكرام
سيشرح في هذا الفصل -بإذن الله تعالى- متن "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وستتولون شيخنا -حفظكم الله- التعليق عليه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -وعلى آله وأصحابه ومن أهتده بهداه، أما بعد،،
فكتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لمؤلفه شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني المولود سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة، والمتوفى سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة من الهجرة، هذا الإمام العالم العَلَم العَلامة شيخ الإسلام له مؤلفات نافعة جدًّا ومفيدة، وكل من اطلع على مؤلفاته عَرَفَ غزارة علمه واستحضاره لنصوص الكتاب والسُّنة، وَفَهمه الثَّاقب، وإدراكه -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لِمَا قَرَّرَه الصَّحابة والتَّابعون لهم بإحسان، ومعرفته الشديدة بأقوال أهل العلم المتقدمين إلى المتأخرين في زمنه.
وقد أَلَّف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- مُؤلفات كثيرة في نُصرة العقيدة السلفية والدفاع عنها، والرد على من خالفها.
والحديث عن هذا العَلَم يطول، لكني أحيل الإخوة الكرام إلى ترجمته في كُتب التراجم مثل: البداية والنهاية لابن كثير، وما ذكره الذهبي عنه في تاريخ الإسلام والسير وغيرها من الكتب، وكذلك ما ترجم له الأئمة، فقد خُصصت له كتب حافلة بمؤلفات وبحياته والعلمية والعملية، فرحمه الله وَغَفَر له.
ومِن ضِمن مُؤلفاته النَّافعة والعظيمة النفع والفائدة: هذا الكتاب الذي بين أيدينا، كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
وتوطئة لهذا الكتاب؛ أذكر إخواني بأنَّ الزَّمن الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله قد انتشرت الاتحادية من طوائف الصوفية، وكذلك الباطنية، وكذلك انتشرت مذاهب الفلاسفة المعطلة المنكرة للخالق؛ فانتشرت بين أوساط المسلمين، وظهرت مقالة ابن عربي الذي هو من الملاحدة ولكنه يتظاهر بالإسلام، وكذلك ظهرت مقالات أخرى لابن سبعين والنوي والتلمساني، وغيرهم؛ فهذه المقالات ظهرت قبل الشيخ بثلاثين أو أربعين سنة ظهورًا واضحًا، وهي القول بوحدة الوجود، وأنَّ الخالق والمخلوق شيء واحد، وكان هؤلاء الباطنية وتلامذتهم أعوانًا لأعداء الله من التتار الذين هجموا على المسلمين، وقتلوا وفتكوا بالمسلمين في بغداد وغيرها، وكان هؤلاء الأعداء يستنصرون بهؤلاء الضُّلال وبأتباعهم، فعمَّت الفتنة، واشتدَّ البلاء على المسلمين بسبب هؤلاء، فالتبس الأمر، واختلط الحابل بالنابل، فصار الخرافيون مِن الصوفية وغيرهم يتظاهرون بالتَّديُّن والإمامة، ويرجع جهلة الناس إليهم؛ فالتبست الأمور، ولم يفرق كثير من الناس بين المؤمن واالكافر، وبين السُّنِّي والمبتدع، وهكذا بقية الأمور التبست على كثيرٍ من النَّاس؛ فاحتاجوا إلى فُرقان.
وهذه التوطئة تُبيِّن لنا أهميَّة إدراك هذه المعلومات التي سوف ندرسها -إن شاء الله- لأنها سوف تكون بإذن الله قائدةً لطالب العلم، ليفرق بين الحق والباطل، فيتبع الحق ويتمسك به، ويترك الباطل ويجتنبه، خصوصًا في أزماننا هذه التي أيضًا تكررت فيها نفس المآسي السَّابقة، فصار كثير من أعداء الإسلام يستنصرون بالمنافقين، ويستنصرون بأعداء الملة والدين الذين يحاولون تشويه الإسلام، ويحاولون تشويه أدلة الكتاب والسُّنة وصرفها عمَّا أُنزلَت لأجله وما جاءت به، فهذا الالتباس وهذا الاشتباه يزول بالعِلم النَّافع وبالعمل الصَّالح وبالفرقان.
والفرقان: هو أن تفرق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين السُّنة والبدعة، والهُدى والضَّلال، والطَّاعة والمعصية، وهكذا. فهذا الفرقان لا يأتي إلا بعلم، ومن ذلك تدبر نصوص الكتاب والسنة.
ومن أسباب وجود الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان عند طالب العلم: أن تستقر معاني النُّصوص ودلائلها في قلبه، فيفهم معناها مع فهمه للفظها ويعمل بمضمونها.
ومن الوسائل أيضًا لهذا: ذكر الأمثلة، فإنَّ ذكر الأمثلة لطالب العلم ينبهه من غفلته، فإنَّ كثيرًا من المنتسبين للعلم يغفل، فيسوي بين ولي الرحمن وولي الشيطان، أو يظن أنَّ ولي الشيطان هو ولي للرحمن، فإذا ذكرت له الأمثلة التي في الكتاب والسُّنة عن أولياء الشيطان انتبه.
ومن وسائل الفرقان: ذِكْرُ لوازم القول الباطل الذي يقوله هؤلاء، فإذا عرف طالب العِلم لوازمه عرف أنَّه مِنْ دَرْبِ الشَّيطانِ، ومن طُرق أعداء الله الكفار أو الضُّلال أو المبتدعة، فَذِكْرُ لزوازم القول يُبيِّن له فساده.
كذلك من وسائل الفرقان: ذِكْرُ مَصادر القول وموارده، فالأقوال الفاسدة والأقوال الباطلة إذا عرفت مصادرها ومواردها عرفت بطلانها، وهذا ما ذكره الشيخ هنا عن كثيرٍ من هؤلاء الذين التبست عليهم الأمور.
ومن وسائل الفرقان بين الحق والباطل: ذِكْرُ ما يحدث من هؤلاء الضُّلال من التعاون مع أعداء الله الكفرة، فَإِذَا عَرَفَ المسلم هذا عَرَفَ حقيقة مَا هُم عَليه.
وهذه التفصيلات التي سمعتم بعضها هي نماذج، وإلا فأسباب وجود الفرقان وأصله العِلم النَّافع والوحي، والكتاب والسُّنة، والإقبال عليه بصدق، وتدبر الكتاب والسُّنة بصدق، فمن ألقى سمعه وقلبه وصدق وطلب الهدى من القرآن ومن السُّنَّة وُفِّقَ وهداه الله -عز وجل- مع الدُّعاء والتَّضرع إلى الله -سبحانه وتعالى.
وجاء في حديث عائشة أم المؤمنين -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام يستفتح صلاته في الليل يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، فلابد من هذا حتى ينجو المؤمن، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:8]، وهذا يُبين لك أنَّ الهداية هِبة من الله وتوفيق من الله، وليس ذكاءً من العبد، فالعبد حتى ولو كان ذكيًّا قد يكون ضالًّا، وقد يكون كافرًا؛ فالعبرة بتوفيق الله وهدايته واصطفائه لعبده بأن يكون من المؤمنين ومن أوليائه، نسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإيَّاكم حتى نكون من أولياء الرحمن، وأن يبصرنا بطريق أولياء الشيطان فنجتنبه، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام:55]، فإذا استبانت لك سبيل المجرمين تركتها وتركت أهلها وأبغضتهم وتبرأت منهم.
قال الله -عزَّ وجلَّ- عن موسى -عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص:17]، فبعض النَّاس هو ظهير للمجرمين،وظهير لأعداء الله، ظهير ضد القرآن وضد السُّنة وضد الدين الإسلامي وضد الصَّحابة؛ فهذا سلك طريق المجرمين -نسأل الله العافية والسلامة- فالمؤمن عليه أن يَعتني بهذا الأمر العظيم بطلب العلم والتَّلقي عن الرَّاسخين في العلم، والبُعد عن أهل الأهواء وأهل الفتن.
هذا الكتاب مُشتمل على أربعة عشر فصلًا، وإن شاء الله نعلق على ما يتيسر لنا وبما يفتح الله لنا، ونسأل الله أن يهدينا وإيَّاكم وأن يُعلمنا ما يَنفعنا.
وأحب أن أبيِّن لكم أنَّ النُّسخ التي بين النَّاس اليوم نُسَخٌ متداولة -ولله الحمد- لهذا الكتاب؛ نظرًا لأهميته، فهناك رسالة محققة مطبوعة للشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، وهي محققة على ست نُسخ خطِّيَّة، وكذلك هناك رسالة من طباعة المكتب الإسلامي قديمًا، وأيضًا هناك شرح مطبوع لشيخنا الشيخ/ صالح بن فوزان الفوزان، وهو مأخوذ من درسه، ثم فُرِّغَ وراجعه الشيخ وطُبع في مجلدين، وهناك شرح لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وكلا الشرحين نفيسان جدًّا ومُفيدان لطالب العلم، فيمكن أن يستفاد مِن هَذين الشرحين أيضًا.
ونبدأ بعون الله بالقراءة والتعليق، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{قال المصنف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا
أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا، وَفَرَّقَ به بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، وَالسُّعَدَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْأَشْقِيَاءِ أَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ)}.
هذه هي دعوة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (وفَرَّقَ به)، أي: بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالقُرآن الذي جاء به.
قوله: وَفَرَّقَ به بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة، والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله)، هذا توطئة لهذا الموضوع المهم، فجعلها من أوصاف الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو كذلك.
{قال: (فَمَنْ شَهِدَ لَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَمَنْ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)}.
هذه قاعدة، كيف نعرف أنَّ الرَّجُلَ ولي للرحمن أو ولي للشيطان؟ وأنت كيف تعرف نفسك؟
جاء في الكتاب والسنة أنَّ مَن قَام بالأعمال التي يحبها الله ورسوله والأقوال التي يُحبها الله ورسوله، والعقائد التي يُحبها الله ورسوله؛ فمن قام بها قولًا وعملًا واعتقادًا صار وليًّا للرحمن، ومن قام بضدها من الكفر والفسوق والشِّرك والإلحاد صار مِن أولياء الشيطان.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ النَّاسِ وَلِلشَّيْطَانِ أَوْلِيَاءَ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾)}.
هذه الآية فيها بيان صفة أولياء الرحمن، قال تعالى: ﴿أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ثم ذكر صفتهم، وهي: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، فالإيمان والتقوى من أخص صفات أولياء الرَّب -سبحانه وتعالى، وذكر جزاءهم في الآخرة وهو البُشرى في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة.
هذه الآية فيها ذكر لصفة أولياء الرحمن، وسيذكر المقابل لهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾)}.
إذن هُنا ذكر أولياء الله وأولياء الطاغوت -وهم أولياء الشيطان.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الذين آمنوا هم أولياء الله.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي: أنَّ الكفار بجميع أصنافهم أولياء للشيطان.
إذن القرآن والسنة قد وضَّحا هذه المسألة، وسيذكر الشيخ أمثلة كثيرة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾)}.
الله أكبر! هذه الآيات العظيمة في سورة المائدة واضحة ومُهمَّة أن المؤمن يتدبرها مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، فهؤلاء اليهود والنَّصارى هُم أولياء الشَّيطان، ولا يجوز للمؤمن ولا للمسلم أن يتَّخذهم أولياء.
قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، هذا وعيدٌ شديدٌ وتحذيرٌ واضحٌ، وبيان حُكم مَن تولاهم التَّولي المُطلق، إذا رَضِيَ بِدِينهم أو رَضِيَ بعقيدتهم؛ فقد صار منهم وفيهم ومثلهم، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾، وهذا هو التَّولِّي الكامل.
أمَّا إذا وَالاهُم ببعض الأعمال المحرَّمة أو بعض الأمور دون بعض ولم يرضَ بدينهم، ولكن والاهم وصار بينه وبينهم مَودَّة فهذا أتى كبيرة من كبائر الذنوب، فربنا -سبحانه وتعالى- نهانا عن مُوالاة أعداء الله اليهود والنَّصارى، وبيَّن أنَّ مَن فعل ذلك فقد صَار معهم ومنهم.
وقوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ يُبيِّن لك أنه كافر مثلهم، قال ابن جرير الطبري -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- عند هذه الآية: "فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ، وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَا خَالَفَهُ وَسَخَطَهُ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ" ، فإذا وافقهم في دينهم، وقال: دينكم حسنٌ وحقٌّ فهذا صار كافرًا وصار من أولياء الشيطان.
ثُمَّ ذكر الله -عز وجل- المنافقين بعد اليهود والنَّصارى، فقال: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، وهو مرض النفاق، فهؤلاء أولياء الشيطان.
وحالهم: ﴿يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ يعني: في أعداء الله يريدون رضاهم ونصرتهم، ويريدون أن يتخذوا عندهم يدًا ليهربوا إليهم.
لماذا؟ ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾، أي: لو صار شيءٌ لجأنا إليهم واحتمينا بهم، وصرنا معهم، وهذا فعل المنافقين وليس فعل المؤمنين أولياء الله -عزَّ وجلَّ.
قوله: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ﴾، إذن مَن فَعَلَ هذا فإنه عَمَلَهُ يُحبط، فالمؤمنون يتعجبون من هؤلاء المنافقين الذين يُقسمون لأهل الإسلام جهد أيمانهم إنهم مع أهل الإسلام، ولكنهم في الحقيقة إذا أسروا لبعضهم قالوا: نريد أن نتخذ يدًا عند الكفار واليهود والنَّصارى حتى لا تصيبنا دائرة؛ فَيَلْحَقُون بالكفار فيقعون في الرِّدة.
قال الله بعد ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾، هذه صفات أولياء الرحمن:
أولًا: قوله: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ أولياء الرحمن يُحبون الله والله يحبهم، وهذا دليل على أنهم قاموا بالأعمال والأقوال والعقائد التي يُحبها الله.
ثانيًا: قوله: ﴿أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ ، يعني يتواضعون لأهل الإيمان، ولا يستكبرون على إخوانهم المسلمين.
ثالثًا: قال: ﴿أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ﴾، أي: إنهم يُظهرون العزة والفرح بدين الإسلام والاعتزاز بهذا الدين، ولا يذلون لأعداء الله الكفرة.
قال: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فمِن صفة أولياء الله أنهم يُجاهِدون في سبيله.
وقوله: ﴿وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾، هناك من يُعزِّل ويلوم ويُخذِّل، فأولياء الله لا يلتفتون لهذا.
ثُمَّ قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، إذن هذه صفات أولياء الرحمن.
عَرَفنَا إذن أنَّ تارك الصَّلاة وليٌ للشيطان، والمانع للزكاة وليٌ للشيطان، والممتنع عن الركوع لله وليٌ للشيطان.
فهذه الآية الكريمة تبيِّن لك الولاء والبراء، فالولاء والبراء عَقيدة قَرَّرَها القُرآن، لكن هُناك مَن ضلَّ سواء بالغلو كالخوارج الذين يمنعون مِنَ التَّعامل مع الكفار، ويريدون قَتلهم على أي حال حتى لو كانوا مُستأمنين أو مُعاهدين؛ فهؤلاء الخوارج وقطَّاع الطرق وأشباههم، كما أنَّ بعضهم يُحرم حتى البيع والشِّراء معهم، وهذا كله مُخالف لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن فعل ذلك فَهُو مِن أولياء الشَّيطان حتى لو ادَّعى أنه يفعله تديُّنًا.
القسم الثاني: الذين أذابوا الولاء والبراء وميَّعوه، وصار عندهم الولاء والبراء لا حاجة له، يقولون: يجب أن نمحوا هذا المصطلح ونمسحه، نظرًا لأننا في عصرٍ جديد، فنتسامح، ولا فرق بين المسلم واليهودي والنَّصراني؛ كلهم سواء، وكلهم بشريَّة، وكلهم إنسانيَّة؛ فلا نفرق بين الأديان، ولا نقول: إنَّ هذا الدين أفضل مِن هذا الدين، ولا نتبرأ من الكفار؛ وهذا كلامٌ فاسدٌ، وكلام كفر وضلال وخروج عن الصِّراط المُستقيم، وهؤلاء مقابل الخوارج، وهذا المذهب كثيرًا ممن ينتسب إليه المذهب العلماني والليبرالي الانحلالي، المنحل عن الدين يسلك هذا المسلم الفاسد بدعاوى مُتعددة.
إذن يجب على طالبِ علمٍ وعلى كل مسلمٍ أن يُفَرِّقَ بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بالنظر لآيات الله وسنة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كذلك هناك من يُحاول إلغاء الجهاد في سبيل الله، انظر إلى قوله: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فيأتي بعض المغترين والمفسدين فيقول: يجب أن نزيل الجهاد عن مناهج المسلمين!
نقول له: ما تستطيع، هذا دين الله باقٍ ومنصور، والجهاد مع ولاة أمور المسلمين، وليس فوضى.
ولكن ما يطمح إليه هؤلاء هو أن يُزيلوا الجهاد، ومصطلح الجهاد، ومسمى الجهاد، من الكتب؛ فهذه طريقة أولياء الشيطان، ومن يفعل هذا صار وليًا للشيطان، فكيف يلتبس على الناس أمره!
الجهاد دين لا يزول، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «ذِرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلامِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فهؤلاء الذين يَسعون بهذه الوسائل عندهم شبهات وحيل، فكل طالب علمٍ وكل مسلم يجب أن ينتبه لهؤلاء، ويعرف الحق، فلا يلحق بركب الخوارج الغُلاة، ولا ينحط مع هؤلاء المنحلين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾.
وَذَكَرَ "أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ" فَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾.
وقال تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾.
وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ الْآيَاتِ إلَى قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾)}.
هذه الآيات الكريمات في مَواضع من كتاب الله -عزَّ وجلَّ- أوردها الشيخ على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر، يُبيِّن فيها -رَحَمَهُ اللهُ- أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ذَكَرَ في القرآنِ أولياء الرحمن كما ذكر أولياء الشيطان.
فالآية الأولى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾.
الوَلاية -بفتح الواو- غير الوِلاية -بكسر الواو.
الوَلاية: المحبَّة.
قوله: ﴿هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾، أي: هي التي تبقى، وما عدا ذلك يزول.
والآية الثانية: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾، هاتان صفتان من صفات أولياء الرحمن: الإيمان والتوكل على الله.
ثم قال: ﴿إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾، وهذه علامات أولياء الشيطان.
الآية الثالثة: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾، فهؤلاء هم أولياء الشيطان، ذكرهم الله تعالى في القرآن وذكر صفاتهم.
الآية الرابعة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾، فإبليس هو رأس أعداء الله.
قال تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾، يعني: الأبالسة والشياطين.
قال: ﴿أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾، فهناك مِن البَشَر مَن اتخذ إبليس عدو الله، واتخذ ذريته أولياء من دون الله -عزَّ وجلَّ- فقال الله فيهم: ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
الآية الخامسة: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾.
وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾، يعني يخوفكم بأوليائه، أو يخوف أولياءَه هو فيخافون منه. قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وعلى كلا الوجهين فالشيطان له أولياء، فكفار قريش الذين قاتلوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أُحد هم من أولياء الشيطان.
الآية التي بعدها: قال تعالى: ﴿إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا﴾ إلَى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
سبب نزول هذه الآيات: أنَّ الكفار في مكة كانوا يأمرون مَن أتى من خارج الحَرم أن يخلع ثيابه، وأن يلبس ثياب أحمسي ويطوف بها، فإن لم يجد فإنه يطوف بالبيت عُريانًا، وهذا لا شَكَّ أنه من أقبح ما يكون! فيتعبدون بالتَّعرِّي، ويقولون: إنَّ الله أمرنا بذلك، ولقد وجدنا عليها آباءنا؛ فكذبهم الله -عزَّ وجلَّ- في قولهم: ﴿وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا﴾ وَأَقَرَّهم على قولهم: ﴿وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا﴾، فأمَّا كَونُكم وجدتم عليها آباءكم فليس هذا بحجَّةٍ.
وقوله: ﴿يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾، فالشيطان حريص على التَّعرِّي وإبداء العورات، وهذا من قديم الزَّمان إلى الآن، وأولياء الشيطان يحرصون على تعرِّي المرأة وسفورها وتبرجها، فإذا رأيت من يدعو إلى هذا عرفتَ أنَّه وليٌّ للشيطان حتى ولو ادَّعى الإسلام، فالذي يدعو إلى السُّفور والتَّبرُّج ويقول للنساء: اجلسنَ مع الرِّجال الأجانب واختلطنَ وتضاحكن، ولا نريد منكن التَّحجُّر؛ فهذا يسعى في مسائل هؤلاء المتقدمون الذين قال الله عنهم: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا﴾ فهم يحتجُّون بالآباء، ويقولون: كنَّا قبلَ سنين كذا وكذا...، فهذا ليس بحجَّة، وإنَّما الحجَّة ما قاله الله وقاله رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النِّساء في الصَّلاة أن يُصلين آخر الصفوف، ويتقدمهم الرجال، والله -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب:53]، فلا نهمل الآيات ونتَّبع هؤلاء المفسدين الذين هُم مِن أولياءِ الشَّياطين.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، هذا مهم أن ننتبه له!
هذه الآية في سورة الأنعام نزلت في شأن شُبهة ألقاها كُفار قُريش على بعض المسلمين، فردَّ الله عليهم هذه الشبهة، وإلى الآن أولياء الشيطان يُلقون الشُّبَه!
وكانت الشُّبهة في أكل الميتة التي ماتت حتفَ أنفها؛ فيقولون: هذه قتلها الله، فكيف تأكلون ممَّا قتلتم، ولا تأكلون ممَّا قتل الله!
فقال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾، فهناك من يبث الشبهات؛ ليحلل مَا حَرَّم الله أو يحرم ما أحل الله، فلا نلتفت لهم؛ لأنَّ هؤلاء هُم أولياء الشَّيطان، وشبهاتهم تصبُّ في هذا الجانب.
ثُمَّ قال تعالى في سورة مريم على لسان الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾، فكان والد إبراهيم للشيطان وليَّا لمَّا لم يتبع النبي إبراهيم -عليه الصلاة والسلام.
الآية الأخيرة في سورة الممتحنة وهي صريحة جدًّا في بيان فريقين، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ... ﴾، إلى آخر الآيات.
فإذا تأمَّلتَ هذه الآيات وأعدَّت قراءتها مرة بعدَ مرَّة عرفت صفات أعداء الله -عزَّ وجلَّ- وأعداء المؤمنين.
ومن هنا نقول لإخواننا المسلمين ولإخواننا المهتمِّين بالعلم الشَّرعي: لا يلتبس عليكم أمر أعداء الله، ولا يُمكن أبدًا لمن ذاق طعم القُرآن والسُّنة، واستقر بقلبه طعم الإيمان أن يُوالي أعداء الله -عزَّ وجلَّ- ولا أن يكون سببًا في نيل أعداء الله مُرادهم؛ فيجب أن تفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان، انزل إلى صفاتهم وأحوالهم وكلماتهم؛ فكثير منهم يصرِّح بالكلمات الكفريَّة التي فيها مُعارضة الكتاب والسنَّة، ثُمَّ يلفُّ يمينًا ويسارًا ولا يتوب ولا يرتدع، وإذا جاء عند المؤمنين أظهر لهم بعض الكلام لِيُرضيهم، وإذا رجع للكافرين أخذ يذكر لهم بعض الكلام، فلا نلتفت لهؤلاء.
وانظر إلى ما يريدون وما يهدفون! فمن المصائب العظيمة أنَّ بعض النَّاس المنتسبين للعلم الشرعي لا يُدرك خطورة بعض أولياء الشيطان؛ بل لا يعرف أنهم أولياء للشيطان، بل ربما صار مُساندًا لهم، وهذا إذا استمر على هذا المسلك قد تنزلق به القدم إلى ما لا تُحمَد عُقباه -نسأل الله العافية والسَّلامة.
فمن الواجب على المؤمن أن يتبصَّر، وأن يعرف طريق الحق فيلزمه، وأن يجتنب طريق الباطل وأهله، وعليه أن يُكثر الدُّعاء، وعليه أن يطَّرحَ الدُّنيا؛ فإنَّ الدنيا من أسباب الفتنة، كما سمعنا في الآيات في قوله: ﴿يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾، فيريدون أن يتَّخذوا عندهم يدًا ونحو ذلك، فالدُّنيا من أسباب الفتنة، والاغترار بزينتها وزخرفها، وهي فانية، فكيف تترك الباقية لأجل الفانية! فهذه الأمور أمورٌ مهمَّة جدًّا.
انتيهنا من المقدمة، وسنبدأ في الفصل الذي فيه التفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ونجعله في مطلع الدرس القادم -إن شاء الله تعالى.
وخلاصة هذا الدرس:
أنَّ القَاعدة تقول: أن من شهد له الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشهد له القرآن بأنَّه من أولياء الرحمن فهو وليُّ الرحمن، ومن شهد له الكتاب والسنَّة بأنه ولي للشيطان فهو ولي للشيطان.
إذن علينا أن نتَّبع ونتتبَّع الآيات والأحاديث ونستقرئها جيِّدًا فسيظهر لنا مَن هُم أولياء الرحمن ومَن هُم أولياء الشيطان، وفي هذا الكتاب سوف نطلع على جملةٍ كبيرة جدًّا من هذا.
ذكر الشيخ بعد هذا الأمثلة من كتاب الله -عزَّ وجلَّ- على أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهذا ليس على سبيل الحصر، بل هو على سبيل المثال.
هذا ما تيسر في هذا الدرس، ونسأل الله -جلَّ وعلا- للجميع التوفيق والسداد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:39   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرْقَانُ بينَ أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان
الدَّرسُ الثَّاني (2)
فضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في فصل: "صفات أولياء الله تعالى" من كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
قال المصنف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ النَّاسَ فِيهِمْ "أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ " فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ï´؟أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ - أَوْ فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ - وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي. وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ». وَهَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ يُرْوَى فِي الْأَوْلِيَاءِ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَنْ عَادَى وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَإِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ»، أَيْ: آخُذُ ثَأْرَهُمْ مِمَّنْ عَادَاهُمْ كَمَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ ثَأْرَهُ وَهَذَا لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَوَالَوْهُ فَأَحَبُّوا مَا يُحِبُّ وَأَبْغَضُوا مَا يُبْغِضُ وَرَضُوا بِمَا يَرْضَى وَسَخِطُوا بِمَا يَسْخَطُ، وَأَمَرُوا بِمَا يَأْمُرُ، وَنَهَوْا عَمَّا نَهَى، وَأَعْطَوْا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْطَى، وَمَنَعُوا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُمْنَعَ؛ كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ «أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ أَبُو داود قَالَ «وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتد بهداه.
هذا كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وهذا الفصل يُبيِّن فيه المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- أنَّه يجب على المسلم أن يُفرق بين هؤلاء وهؤلاء، والتفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أصلُ الإسلام، وهذ معنى ومُقتضى "لا إله إلا الله"، فإنَّ مُقتضاها أن تتبرأ من الشِّرك، فإنِّها تتضمن نفيًا وإثباتًا، فقولك: "لا إله إلا الله"، فيه نفي وإثبات.
فبدخولك الإسلام وقولك لهذه الكلمة؛ تعرف أنَّ ما عداه من الأديان باطل، وتتبرأ منه، وتثبت على الإسلام، قال تعالى: ï´؟فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىï´¾ [البقرة/256]، وهذا التفريق يكون إجمالًا ويكون تفصيلًا، بحسب ما يُعطي الله -عزَّ وَجلَّ- مِنَ العِلم والفَهم عنه وعن رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويكون هذا الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان عند المسلمين جميعًا واجب، ومَن جهل فليتعلم، ويكون هذا الفرقان عند أهل العلم والبصيرة والرُّسوخ في العلم أظهر وأظهر من غيرهم، في خاصَّة المسائل ودقيقها، فإنَّ بعض الأمور تكون من المسائل الإجماليَّة التي تُعرَف إجمالًا، ومنها ما يُعرَف تفصيلًا.
وإذا كثُرَ اللبسُ في آخر الزمان، وكثرت الفتن، وكثر الابتداع، وكثر الضَّلال؛ احتاج المؤمنون إلى مَن يدلُّهم ويُبصرهم مِن أهلِ العِلم ومِن أهلِ البَصيرة، ولهذا قال: (فَيَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ)، يعني: بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قال: (كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُمَا)، هذه حُجَّة عظيمة، وهي أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- فرَّقَ بينَ الطَّائفتين، فيجب على المؤمن أن يُفرِّقَ بينَ أولياءِ الرَّحمن وأولياء الشيطان.
قال: (فَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾)، فالإيمان والتقوى خاصَّتهم وصِفَتهم، الإيمان بالله -عزَّ وَجلَّ- وبكل ما يجب الإيمان به مما جاء في القرآن والسنَّة، والتقوى بفعل ما أمر الله، وترك ما حرم الله -عزَّ وَجلَّ- ويدخل في هذا فعل جميع الفرائض، وترك جميع المحرمات.
إذن هذه هي صفة أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- وستتكرر معنا هذه القاعدة الكبيرة المذكورة في هذه الآية.
ثم ذكر ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ- الحديث الذي رواه البخاري وغيره فقال: (وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ - أَوْ فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ»)، رواية: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ»، رواية صحيحة ثابتة في البخاري. أمَّا رواية «فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»، وردت عند غير البخاري، ولعلَّ المؤلف يكتب من حفظه، فإنه حافظٌ إمامٌ، وقد يذكر من حفظه الرِّوايات ويجمعها.
يقول العلماء: هذا الحديث هو أشرف حديث جاء في الأولياء وفي صفة الولي.
فالولي: هو المؤمن التَّقي، فهذا أشرف شيء جاء فيه، وهو أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- جعل منزلته عالية.
قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا»، يعني: مَن آذاه وتسلَّطَ عليه واعترض عليه بالظُّلم والإيذاء والاعتداء بجميع أنواع الاعتداء.
قال: «فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ»، أي: هذا المعتدي على ولي الله فهو مُهدَّدٌ ومتعَّدٌ بهذا الوعيد الشديد، وهو أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- آذنه بالحرب -آذنه أي: أعلمه- ومن يكون مُحاربًا لله فإنَّه خاسرٌ لا محالة، وهالك لا محالة -نسأل الله العافية والسلامة.
ولهذا يجب احترام أهل الإيمان وتقديرهم، ويجب على المسلم أن يحترم أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنهم خيرة الأولياء، كذلك يحترم التَّابعين وأتباعهم وأئمة الإسلام، وكذلك العُلماء الصَّالحين أهل السنَّة، وكذلك العباد وأهل التَّقوى وأهل الدين؛ خلافًا لما عليه الكفار الذين قال الله -عزَّ وَجلَّ- عنهم: ï´؟وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَï´¾ [المطففين/30]، وقال -عزَّ وَجلَّ- في قصة نوح: ï´؟وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ غڑ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَï´¾ [هود/38].
ثُمَّ قال الله -عزَّ وَجلَّ- في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ»، هذا يُبيِّن صفة الولي، وهو أنَّه قَام بالفرائض، فلا يُمكن أن يكون وليًّا وقد ضيَّع الفرائض، وهذا يدل على أنَّ الفريضة أحب إلى الله -عزَّ وَجلَّ- من النَّافلة، سواء في الصَّلاة أو في الصَّوم أو في الحجِّ، أو في العُمرة، أو في الزكاة، أو في غير ذلك من الأعمال الصَّالحة كبرِّ والدين، وصلة الرحم؛ فيُقدِّم الفريضة على النَّافلة، ويعتني بما هو واجبٌ قبل ما هو مُستحب.
ثم قال: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، هذا يُبيِّن أيضًا أنَّ من صفة الولي أنَّه يجتهد في الطَّاعات، وهذا من أعظم أسباب نيل محبَّة الله -سبحانه وتعالى- نسأل الله أن يرزقنا وإياكم محبَّة ربنا.
قال: «فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي»، يعني أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يسدده في بصره، ويسدده في سمعه، ويسدده في يده، ويسدده في رجله ومشيه، فمن كان مُسدَّدًا محبوبًا لله -عزَّ وَجلَّ- فإنه لا يسمع إلا ما يُرضي الله، ولا يقع بصره إلا على ما أباحَ الله أو ما شرع، ولا يبطش بيده أو يمشي برجله إلَّا على ما يُحبه الله؛ لأن هذا من التَّسديد، لأنه صار محبوبًا لله -عزَّ وَجلَّ- فبمقتضى هذه المحبَّة وفَّقه الله وسدَّده.
قال: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنهُ»، يعني: أنَّ الله يُجيب دعاءه، وإذا وصل العبد إلى هذه المنزلة يكون مجاب الدعوة.
وإجابة الدَّعوة فضل مِنَ الله على العبد، لكن لا يَعني أنَّها إن لم تُجب فإنَّ العبد ليس على خير، فقد لا تُجاب الدَّعوة من الأنبياء، فالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا ربَّه -عزَّ وَجلَّ- في بعض الدعوات، فأنزل الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟ليس لك من الأمر شيءï´¾ [آل عمران/128]، فمعنى هذا أن إجابة الدُّعاء فَضْل من الله على عبده، لكن إذا تخلَّفت الإجابة في الدُّنيا فإنها تكون مُدَّخرَة له في الآخرة، أو قد صُرِف عنه في الدُّنيا من الشَّرِّ بمثل ما دعاه.
إذن إجابة الدعوة مُتحققة، ولكن ليس بمعنى حصول المقصود في الدُّنيا، فقد يحصل المقصود في الدُّنيا وهذه نِعمة مِنَ الله على عبده المؤمن، وقد لا يحصل هذا، ولكن يُصرَف عنه مِنَ الشَّر مثلها، أو يُدخَّر له في الآخرة من الأجرِ مثلها.
ثم قال: «وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»، يعني: أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يَكره ما يَكرهه عبده المؤمن الذي يُحبه الله -عزَّ وَجلَّ.
فمن عناية الله بعبده ورحمته وإحسانه وفضله وجوده أنَّه يكره ما يَكرهه العبد، حتى الموت الذي يكرهه العبد فإنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يقول: «وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»، فلا يُريد الله -عزَّ وَجلَّ- للعبد أن يقع منه ما يسوءه، وهذا من عظيم إحسان الله بعبده المؤمن -نسأل الله الكريم من فضله.
فمعنى التردد هنا: ليس التردد النَّاشئ عن خَفاء أو عن شَكٍّ، أو عن جَهلٍ بالعواقب؛ كلا والله، فالله يعلم السِّر وأخفى، ويعلم ما كان وما سيكون.
ومعنى التردد موضَّح في الحديث وهو في قوله: «تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ»، فالموت لابدَّ له منه، ومساءة العبد لا يُريدها الله -عزَّ وَجلَّ- لكن لابدَّ من الموت، فصار معنى التردد هنا: أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يَكره هذا الشيء الذي يَكرهه المؤمن.
ولا يجوز أن نحرف المعنى إلى معانٍ فاسدة، أو نردَّ الحديث كما صنع بعض أهل البدع، فهذا الحديث صحيح ثابت رواه البخاري، وله طرق كثيرة يشد بعضها بعضًا، ولهذا اعتمده البخاري في صحيحه، والبخاري -رَحَمَهُ اللهُ- يعتني بشدة في الأحاديث التي ينتقيها في الصحيح، وقد تلقَّى أهل العلم ما ذكره البخاري في صحيحه بالقبول، ولهذا أجمعت الأمَّة على أنَّ ما رواه البخاري ومسلم متلقًى بالقبول، فلا التفات إلى مَن يُشكك في صحيح البخاري أو في صحيح مُسلم من أهل الأهواء، ولا حُجَّة عندهم؛ بل ليس عندهم إِلَّا محض الجهل، أو محض الادعاء.
وهذا حديث قدسي؛ لأنه من كلام الله -عزَّ وَجلَّ.
والحديث القدسي: منسوب إلى الله -عزَّ وَجلَّ- فيقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قال الله -عزَّ وَجلَّ:... كذا وكذا»، أو «يقول الله -عزَّ وَجلَّ:... كذا وكذا»، فهذا الحديث القدسي من أشرف الأحاديث التي رُويَت في فضل الأولياء، وفي فضل المؤمنين الصَّالحين، نسأل الله -عزَّ وَجلَّ- أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا المسلمين منهم؛ فإن هذا يتحقق بالقيام بالفرائض وترك المحرمات، والاستكثار من النوافل، ولا يُزكي الإنسان نفسه؛ بل يرجو ويخاف، فيجمع بين الخوف والرجاء. قال: (فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَنْ عَادَى وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ).
واللفظ الآخر للحديث: «فَقَدْ آذَنْته بِالْحَرْبِ»، يعني: أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- أعلمه بالحرب.
وهذا معناه: أنَّ هناك فرق بين ولي الله وبين عدو الله، فالذي يُعادي أولياء الله ويُعادي أهل الإسلام ويُعادي أهل العلم والتَّقوى؛ فهذا عدو لله -عزَّ وَجلَّ.
انتبه! فهذه مسألة مهمة؛ أنَّ هذا من الفُرقان ومن العلامات التي لا تغيب عن بال المسلم؛ فإذا رأيت الرجل حريضًا كلَّ الحرص على إيذاء المؤمنين وإيذاء الصَّالحين، وإيذاء أهل التَّقوى، وإيذاء أهل السُّنَّة والجماعة وسبِّهم وظُلمهم، والسَّعي في الإيقاع بهم؛ فبتصرفه هذا صارَ عدوًّا لله -عزَّ وَجلَّ- ومُحاربًا لله وليس لهؤلاء، قال تعالى: ï´؟فأذنوا بحرب من الله ورسولهï´¾ [البقرة/279]، نسأل الله العافية والسَّلامة.
قال: (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «وَإِنِّي لَأَثْأَرُ لِأَوْلِيَائِي كَمَا يَثْأَرُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ»، أَيْ: آخُذُ ثَأْرَهُمْ مِمَّنْ عَادَاهُمْ كَمَا يَأْخُذُ اللَّيْثُ الْحَرِبُ ثَأْرَهُ)، هذا الحديث فيه ضعف، ولكنَّه أراد به الاستئناس وليس الاعتماد، وإلا فإنَّ الحديث السَّابق يوضِّح المعنى، وهو قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا».
وقد شرح هذا الحديث الشَّوكاني في كتاب مَطبوع مُتداول، فيُمكن أن يَرجع إليه طالب العلم، وهناك عدَّة كتب حول هذا الموضوع كتبها أهل السنة والجماعة.
ثم بيَّن -رَحَمَهُ اللهُ- السبب فقال: (وَهَذَا لِأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَوَالَوْهُ فَأَحَبُّوا مَا يُحِبُّ، وَأَبْغَضُوا مَا يُبْغِضُ، وَرَضُوا بِمَا يَرْضَى، وَسَخِطُوا بِمَا يَسْخَطُ، وَأَمَرُوا بِمَا يَأْمُرُ، وَنَهَوْا عَمَّا نَهَى، وَأَعْطَوْا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُعْطَى، وَمَنَعُوا مَنْ يُحِبُّ أَنْ يُمْنَعَ)، فهذا كله يدلُّ على أنهم وافقوا مُراد الله ووافقوا شرع الله، وهذا سبب محبَّة الله لهم، فإذا عاداهم مُعادٍ عُلِمَ أنَّه مخالف لشرع الله، وأنَّه عدوٌّ لله؛ فهؤلاء قاموا بأوثق عُرى الإيمان، فقد جاء في الحديث: «الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ»، وجاء في الحديث الآخر: «وَمَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ».
إذن هذه من علامات الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:
أولياء الرحمن: موافقون للشَّرع، يُحبون ما يحبه الله، ويعملون به، ويدعون إليه، ويأمرون به، ومبغضون لما يبغضه الله، وينهون عمَّا ينهى عنه الشَّرع، فهذا علامة أولياء الله، فمن يُعاديهم ويُبغضهم لأجل هذا فهو عدوٌّ لله -عزَّ وَجلَّ.
ويُمكن أن نرى في الزمن المعاصر واقع الناس اليوم الذين يُبغضون أهل الصَّلاة، ويُبغضون أهل القرآن، ويُبغضون أهل السُّنَّة وأهل الحديث، ويُبغضون المتمسكين بمنهج السَّلف الصَّالح الذين ساروا على نهج الصَّحابة والتَّابعين، ويُبغضون من يُطيع الله ورسوله، وفي المقابل يسعون في إيذائهم والإيقاع بهم، وعدواتهم وسبِّهم، وتشويه صورتهم، فهؤلاء قد عادوا الله -عزَّ وَجلَّ- وصاروا من أولياء الشيطان.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَ"الْوِلَايَةُ " ضِدُّ الْعَدَاوَةِ وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ وَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَلِيَّ سُمِّيَ وَلِيًّا مِنْ مُوَالَاتِهِ لِلطَّاعَاتِ أَيْ مُتَابَعَتِهِ لَهَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَالْوَلِيُّ الْقَرِيبُ فَيُقَالُ: هَذَا يَلِي هَذَا أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أَيْ لِأَقْرَبِ رَجُلٍ إلَى الْمَيِّتِ. وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ "الذَّكَرِ" لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ «فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ».
فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ هُوَ الْمُوَافِقُ الْمُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِï´¾ فَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ عَادَاهُ وَمَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ فَلِهَذَا قَالَ «وَمَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»)}.
هذا تعريف الولاية، (ضِدُّ الْعَدَاوَةِ وَأَصْلُ الْوِلَايَةِ الْمَحَبَّةُ وَالْقُرْبُ)، ويُضاف إليها أيضًا: النُّصرة، ولكن أصل المعنى من هذين الكلمتين: المحبة والقُرب.
وعكسها: العداوة، قال: (فَأَصْلُ الْعَدَاوَةِ الْبُغْضُ وَالْبُعْدُ).
وذكر الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ- المعنى الثاني: أنَّ الولاية سُميت بذلك لأجل الموالاة، فهذا موالٍ لهذا؛ أي: يلي هذا، فهو متتالٍ.
ومنه: الموالاة في الوضوء، وهي من أركان الوضوء السِّتَّة.
فيقول: (وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ)، يعني: المعنى الأول أصح، وهو أنَّ الأصل في الولاية: ليس الموالاة في الطاعات وتتابعها طاعةً بعدَ طاعة؛ وإنما المراد لغة وكذلك يتبعه شرعًا: المحبَّة والقُرب.
وذكر ما يشهد لهذا من النُّصوص، مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، قوله «أولى»، يعني: أقرب. فمعنى الولاية: القُرب، وليس التتابع وموالاة الطاعات ببعضها لبعض.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، هنا استطردَ الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ- استطرادًا جميلًا فقال: (أَيْ لِأَقْرَبِ رَجُلٍ إلَى الْمَيِّتِ. وَأَكَّدَهُ بِلَفْظِ "الذَّكَرِ" لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ وَلَا يَشْتَرِكُ فِيهَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ)، والحكم الذي يختص بالذكور هنا هو التَّعصيب.
فإنَّ المواريث إمَّا فرض وإمَّا تعصيب؛ فالعصبة حكمٌ يختص بالذكور فقط، ولا يشترك فيه الذكور والإناث.
ثم أكَّد هذا بحديث: «فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ»، ليُبيِّن أنَّ المراد في الحديث السابق أن الحكم يختص بالذكور.
وذكر المعنى السَّابق، وهو تأكيد لما مرَّ ذكره؛ أنَّ وليَّ الله هو: (الْمُوَافِقُ الْمُتَابِعُ لَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وكَانَ الْمُعَادِي لِوَلِيِّهِ مُعَادِيًا لَهُ)، ولهذا فإذا رأيت بعض الناس يُعادي أهل الإسلام فاعرف أنَّه عدوٌّ لله وليٌّ للشيطان، وذكر المؤلف الآية والحديث ليؤكِّد هذا المعنى.
سينتقل المؤلف إلى بيان مَن هو أفضل أولياء الله، ولا شكَّ أنَّ هذه المسألة يدخل تحتها الرَّد على طوائف فضَّلُوا بعض الناس على الأنبياء والرُّسل، وجعلوهم أولياء، وقد كذبوا في ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمْ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلُ الْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَالَى: ï´؟شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًاï´¾.
وَأَفْضَلُ أُولِي الْعَزْمِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا، صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ، وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَمَعَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ، وَهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ خَلْقًا وَأَوَّلُ الْأُمَمِ بَعْثًا، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ -يَعْنِي يَوْمَ الْجُمْعَةِ- فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ: النَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ غَدًا لِلْيَهُودِ وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى».
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ. فَأَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك».
وَفَضَائِلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَضَائِلُ أُمَّتِهِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ حِينِ بَعَثَهُ اللَّهُ جَعَلَهُ اللَّهُ الْفَارِقَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَوِلَايَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَتْبَعْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ; بَلْ مَنْ خَالَفَهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُï´¾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ: "ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ مِحْنَةً لَهُمْ"، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِيهَا أَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ، وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَلَمْ يَتَّبِعْ الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم غ– بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ غڑ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ غڑ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا غ– وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُï´¾ الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىظ° غ— تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ غ— قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىظ° مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَï´¾.
وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللَّهِ لِسُكْنَاهُمْ مَكَّةَ وَمُجَاوَرَتِهِمْ الْبَيْتَ، وَكَانُوا يَسْتَكْبِرُونَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَï´¾ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟و وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ غڑ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ غ– وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَىظ° عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَظ°ذَا غ™ إِنْ هَظ°ذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَظ°ذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ غڑ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ غڑ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ï´¾ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ وَلَا أَوْلِيَاءَ بَيْتِهِ إنَّمَا أَوْلِيَاؤُهُ الْمُتَّقُونَ)}.
يُبيِّن -رَحَمَهُ اللهُ- أنَّ أفضل الخلق هُم الأنبياء والرُّسل، وأفضلهم الرُّسل، وأفضل الرُّسل هُم أولو العزم وذكر الآيتين في ذكر أولي العزم، الآية التي في سورة الشورى، والآية التي في سورة الأحزاب، والله -عزَّ وَجلَّ- ذَكَرَ أولي العزم في سورة الأحقاف: ï´؟فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِï´¾ [الأحقاف/35]، وذكر في سورة الشورى: ï´؟شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِï´¾، إذن هم خمسة. وذكر في سورة الأحزاب قوله تَعَالَى: ï´؟وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًاï´¾.
وأفضل أولي العزم: رسول الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وذكر المؤلف عددًا من فضائل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأوصافه، فقال: (خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَإِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ إذَا اجْتَمَعُوا، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا)، أي: إذا وفدوا على الله -عزَّ وَجلَّ- يوم القيامة، قال تعالى: ï´؟إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَظ°نُ وَقَالَ صَوَابًاï´¾ [النبأ/38]، فيأذن الله للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ)، المقام المحمود هو: الشفاعة العُظمَى، عندما يعتذر الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ثم يُؤذن لنبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيخرُّ ساجدًا تحت العرش، فيفتح الله عليه بمحامد، ثم يُقال: «يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» ، فيأذن الله -عزَّ وَجلَّ- له بالشفاعة فيشفع لفصل القضاء بين العباد، فيظهر فضله على العَالمين.
قال الله تعالى: ï´؟وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىظ° أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًاï´¾ [الإسراء/79]، قال عبد الله بن عمر كما في صحيح البخاري: "ï´؟مَّحْمُودًاï´¾، أي: يحمده الخلائق كلها".
قال: (وَصَاحِبُ لِوَاءِ الْحَمْدِ)، هذا اللواء يكون يوم القيامة.
قال: (وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، وَشَفِيعُ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَصَاحِبُ الْوَسِيلَةِ وَالْفَضِيلَةِ)، وهذا في الحديث «آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة» .
قال: (الَّذِي بَعَثَهُ بِأَفْضَلِ كُتُبِهِ، وَشَرَعَ لَهُ أَفْضَلَ شَرَائِعِ دِينِهِ، وَجَعَلَ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَجَمَعَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ مَا فَرَّقَهُ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ)، فالحمد لله! هذه مناقب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: (وَهُمْ آخِرُ الْأُمَمِ خَلْقًا وَأَوَّلُ الْأُمَمِ بَعْثًا، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»)، يعني: أنَّنا الآخرون في الخلق، السَّابقون يوم القيامة.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْدَ أَنَّهُمْ»، يعني: غيرَ أنَّهم. «أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ; فَهَذَا يَوْمُهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ - يَعْنِي يَوْمَ الْجُمْعَةِ - فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ: النَّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ غَدًا لِلْيَهُودِ»، يعني: يوم السبت. «وَبَعْدَ غَد لِلنَّصَارَى»، يعني: الأحد.
فصرنا -ولله الحمد- بفضل الله -عزَّ وَجلَّ- ومنَّته على نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعلى هذه الأمة؛ صرنا الآخرون السَّابقون، فنحن الآخرون في الخلق والوجود، والسَّابقون يومَ القيامة، وكذلك هدانا الله إلى يوم الجمعة، وهو قبل السبت والأحد.
ومن فضائل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ. فَأَقُولُ أَنَا مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَلَّا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك».
قال الشيخ: (وَفَضَائِلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَضَائِلُ أُمَّتِهِ كَثِيرَةٌ)، وقد أُلِّفَت في هذا كتبٌ، مثل: كتاب "الشفاء في حقوق المصطفى" للقاضي عياض، و"نهاية السول في تفضيل الرسول" وغيرها من الكتب.
قال: (وَمِنْ حِينِ بَعَثَهُ اللَّهُ جَعَلَهُ اللَّهُ الْفَارِقَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، فَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا).
بعض الناس يتَّبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الظاهر، وهو في الباطنِ مُكذِّب للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهؤلاء هم المنافقون، فلابدَّ أن يُصدِّقَ به، ويتَّبعه في ظاهره وباطنه.
أيضًا هناك مَن يقول: أنا موافق للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الباطن، فأعتقدُ أنه حق، وأنَّ ما جاء به حق؛ ولكن في الظَّاهر لا يَلزمني اتِّباعه! فهذا ليس بمؤمنٍ؛ بل إنَّه كافر.
ولهذا قال الشيخ: (آمَنَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا)، فالإيمان الظاهر: يكون باتِّباع الأعمال الظاهرة مثل: الصلاة والزكاة وغيرها. والأعمال الباطنة: هي ما يقوم بالقلب من اعتقادات وأعمال.
قال: (وَمَنْ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللَّهِ وَوِلَايَتَهُ وَهُوَ لَمْ يَتْبَعْهُ فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ)؛ وهذا علامة ظاهرة بيِّنة، أنَّ اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شعارٌ وعلامة على وليِّ الله، ومخالفة هدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومخالفة سنَّته ونهجه شعارٌ ودليلٌ ظاهرٌ على أنَّه عدوٌّ لله، قال تعالى: ï´؟قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْï´¾ [آل عمران/31].
فَمَنْ خَالَفَ هَدي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستحسنَ هديَ غيره فهو عدوٌ لله ومن أولياء الشيطان، فهذا برهانٌ وعلامةٌ لا ينبغي أن تفوتَ على المسلم.
ثم ذكر كلام الحسن البصري على هذه الآية، وأنَّها محنة -أي اختبار- لمن ادَّعى أنَّه يُحبُّ الله، يقول: (وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي غَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ)، هذه الجملة يدخل تحتها أنواع كثيرة، فكثير من الناس يظنُّ أنَّه وليٌّ لله -عزَّ وَجلَّ.
وضرب الشيخ لذلك أمثلة:
أولًا: اليهود والنَّصارى، كما قال الله عنهم في سورة المائد: ï´؟وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىظ° نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُï´¾، فردَّ الله -عزَّ وَجلَّ- عليهم فقال: ï´؟قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم غ– بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ غڑ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُï´¾، يعني لمن يستحق المغفرة من المؤمنين. ï´؟وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُï´¾، فردَّ الله -عزَّ وَجلَّ- عليهم هذه الدَّعوى الكاذبة، وهي أنَّهم أولياء لله، مع أنهم عصوه وخالفوا رسله.
ومثلها قوله تعالى: ï´؟ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىظ° غ— تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ غ— قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَىظ° مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَï´¾. فمن اتَّبع عيسى في وقت بعثته -عليه الصلاة والسلام- وآمن به واستقام على شرعه في ذلك الزمان، وأسلم وجهه لله وأخلص؛ فإنَّه يدخل الجنَّة، وأمَّا مَن استمرَّ على التَّبديل الذي وقع فيه النَّصارى وخالف الرسول محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُؤمن به؛ فإنَّه كافر وهو من أهل النار.
وكذلك اليهودي: إذا آمن بموسى في زمن بعثته -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأسلم وجهه لله فهو مِن أهل الجنة؛ لأنَّه متَّبِعٌ لشرعِ الله، وأمَّا إذا استمرَّ على التَّكذيب بأنبياء الله وبنبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يدخل في دينه -حتى لو لم يكذبه- فهو من أعداء الله، فلا تصح دعواهم أنهم أولياء الله، وقد كذبهم الله -عزَّ وَجلَّ- كما سمعنا في هاتين الآيتين.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .
ثانيًا: المشركون -كفار قريش- ظنُّوا أنهم أولياء لله -عزَّ وَجلَّ؛ لأنهم سكنوا مكَّة، فقالوا: نحن أهل الله، وأهل الحرم، جاورنا البيت؛ فيستكبرون ويتفاخرون بهذا على غيرهم من القبائل، فقال الله تعالى: ï´؟قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ* مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَï´¾، يعني مستكبرين بالحرم وبمكَّة.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَï´¾، انظر إلى استكبارهم وظنَّهم أنَّهم أهل الله وأحبابه، فقالوا: ï´؟ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَظ°ذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ غڑ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ï´¾ [الأنفال/32]، فهم ادَّعوا أنَّهم أولياء للمسجد الحرام، وأنهم أولياء الله لمجاورتهم للبيت.
فقال الله تعالى لهم: ï´؟إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَظ°كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَï´¾.
وبالتالي نعرف قاعدة كبيرة، وهي: ليست العبرة بالدَّعوى، فليس مَن أظهر الولاية وأظهر علامات وشكل المتدينين والصَّالحين، أو أظهر الاسم وانتسب إليه؛ فليس هذا بدليل على أنَّه وليٌّ لله؛ بل قد يكون عدوًّا لله كما فعل اليهود والنَّصارى والمشركون، وكما يفعل الملاحدة من الاتحاديَّة وغيرهم.
فهذه الجملة تُبيِّن لنا قاعدة كبيرة مذكورة في القرآن، وهي أنَّ أقوامًا ادَّعوا الولاية وادَّعوا المعرفة، وادَّعوا أنَّهم وصلوا إلى الله، وأنهم وصلوا إلى الحقيقة؛ فكذَّبهم الله -عزَّ وَجلَّ- فمن كان على نسقهم فهو مُلحَقٌ بهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ جِهَارًا مِنْ غَيْرِ سِرٍّ: «إنَّ آلَ فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء - يَعْنِي طَائِفَةً مِنْ أَقَارِبِهِ- إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ» وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَظ°لِكَ ظَهِيرٌï´¾ الْآيَةَ.
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ: هُوَ مَنْ كَانَ صَالِحًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ. وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ»، وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ أَيًّا كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا».
كَمَا أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ وَلَيْسَ وَلِيًّا لِلَّهِ ; بَلْ عَدُوٌّ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، يُقِرُّونَ فِي الظَّاهِرِ بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ ; بَلْ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَيَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ)}.
إذن هنا أكَّدَ -رَحَمَهُ اللهُ- بحديث عمرو بن العاص: «إنَّ آلَ فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء - يَعْنِي طَائِفَةً مِنْ أَقَارِبِهِ - إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ»، ثم ذكر الآية: ï´؟فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَï´¾، فيدخل في ذكر الصحابة الكرام، فقال: (وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَسَائِرُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ)، وذكر فضلهم.
فهؤلاء هم خيرة الأولياء وأفضلهم، وهؤلاء لم يدَّعوا وخالفوا؛ بل إنهم قاموا بأمور الإيمان والتَّقوى فاستحقُّوا هذا الوصف، فليس هذا دعوى من الصَّحابة أو غيرهم كما يفعل النَّصارى والمشركون.
انتقل الشيخ بعد أن ذكر المشركين وذكر اليهود والنَّصارى الذين ادَّعوا الولاية إلى ذكر المنافقين، فقال: (كَمَا أَنَّ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ وَلَيْسَ وَلِيًّا لِلَّهِ ; بَلْ عَدُوٌّ لَهُ، فَكَذَلِكَ مَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ)، يُظهرون الإسلام وهم في الباطن يعتقدون خلاف ذلك.
إذن المنافقين فعلوا مثلما فعل اليهود والنَّصارى، ادَّعوا الولاية وهم ليسوا لها بأهل، بل هم أعداء، وذكر لذلك أمثلةً.
والشَّيخ هنا يشير بهذه الأمثلة إلى ما وقع فيه الاتِّحادية من غلاة الصُّوفيَّة كابن الفارض، وابن عربي الطَّائي، والصدر القنوي تلميذ ابن عربي، وابن سبعين، والتِّلمساني؛ فهؤلاء تلامذة لابن عربي، وقد نشروا الإلحاد والنِّفاق في الأمَّة في ذلك الوقت، فهم يزعمون استغناءهم عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ لهم طرق، وذكر الشيخ أمثلة من مقالتهم الفاسدة، وكذلك غيرهم من المنافقين، كالذين يتَّبعون المناهج الفلسفية وغيرها وصبغوها بصبغة الإسلام، وسيذكرهم الشيخ لاحقًا.
وهذه الأمثلة التي ستسمعونها -أيها الإخوة الكرام- هي أمثلة لمقولات غلاة الصُّوفيَّة، وهم ما يسمون الاتِّحاديَّة.
{قال الشيخ: (مِثْلُ أَلَّا يُقِرُّوا فِي الْبَاطِنِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ مَلِكًا مُطَاعًا سَاسَ النَّاسَ بِرَأْيِهِ مِنْ جِنْسِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُلُوكِ)}.
هذه أحد المقالات الخبيثة التي تنتشر عند غلاة الصوفية، وعند بعض الفلاسفة، وعند بعض المعاصرين ممَّن ينتحل المذاهب الأرضية مثل الديموقراطيَّة والليبراليَّة والعلمانيَّة؛ فهم يقولون عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الكلام الخطير، أنَّه ليس برسولٍ، وإنَّما شأنه شأن الملوك؛ فهؤلاء من أهل النِّفاق الأكبر المرتدين عن الإسلام.
{قال الشيخ: (أَوْ يَقُولُونَ إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَوْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى عَامَّةِ الْخَلْقِ، وَأَنَّ لِلَّهِ أَوْلِيَاءَ خَاصَّةً لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِمْ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ; بَلْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهِ)}.
هؤلاء هم الاتِّحاديَّة غُلاة الصُّوفيَّة، فيقولون: إنَّ الرسول ليس رسولًا إليهم؛ لأنهم هُم خاصَّة البشر، ولا حاجة لهم إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهؤلاء منافقون!
{قال: (كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى، أَوْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ اللَّهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ أَنَّهُ مُرْسَلٌ بِالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَهُ فِيهَا، وَأَمَّا الْحَقَائِقُ الْبَاطِنَةُ فَلَمْ يُرْسَلْ بِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا، أَوْ هُمْ أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُ، أَوْ يَعْرِفُونَهَا مِثْلَ مَا يَعْرِفُهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقَتِهِ)}.
هذه كلها مقولات خبيثة، فيقولون: إنَّ الْخَضِر كان مُستغنيًا عن موسى، فنحن نستغني عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما استغنى الْخَضِر عن موسى -عليهما السلام.
أولًا: الخضر نبي، وقال لمُوسَى: "إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ"، فهذا لا حُجَّةَ لهم فيه، وسيأتي ذكره في هذا الكتاب مرارًا، والرَّد على شبهات غلاة الصوفيَّة.
ويقول بعض هؤلاء الاتِّحاديَّة الذين خرجوا عن الإسلام: إنهم يأخذون عن الله مُباشرة مِن غَير واسطة، وأنتم تقولون: حدثني فلان عن فلان عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الله...، وأنا أقول: حدَّثني قلبي عن ربِّي! وكل هذا ممَّا يوحيه الشيطان إليهم.
أو يقول بعضهم: إنَّ الرسول مرسلٌ بالشَّرائع الظَّاهرة وليست الحقائق الباطنة.
وبعضهم يقول: إنَّ الأعمال الباطنة -وهي أعمال القلوب والمعارف- لا يعرفها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن نعرفها!
وهذا كلُّه من الأقوال الكفريَّة التي تفوَّه بها المنافقون في عهد الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تعالى.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فالمقصود بهذا: الإشارة إلى أنَّ هؤلاء أعداء الله، وأنَّهم مُنافقون، حتى لو ادَّعوا الولاية والصَّلاح -نسأل الله العافية والسلامة.
سنكمل في الدَّرس القادم -إن شاء الله- بقيَّة هذه المقولات، والرَّد على هذه الضلالات، ونسأل الله -جل وعلا- أن يوفقنا وإياكم للعلم النَّافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:40   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرْقَان بَينَ أَوْلياء الرَّحمن وَأَولياءِ الشَّيطان
الدَّرسُ الثَّالِثُ (3)
د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{سنستكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- ما انتهينا عنده في الدَّرس الماضي}.
الحمدُ لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
لِنَربِطَ بينَ هذا الدَّرس والدَّرس الماضي؛ نُذَكِّرُ الإخوة الكرام بما تمَّت قراءته في كتاب "الفُرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" في الفصل المتعلِّق بوجوب التَّفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وذكر الأدلة على هذا.
وكان من توابع هذا الفصل المهم، أنَّ الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ- ذَكَرَ أنَّه ليس كل مَن ادَّعى أنَّه وليٌّ لله صار كذلك، وَذَكَرَ أنَّ اليهود والنَّصارى والمشركين ادَّعوا مثل ذلك، وأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- ردَّ عليهم في القُرآن.
ثُمَّ ذكر -رَحَمَهُ اللهُ- أنَّه إذا كان في الكفَّار مَن ادَّعى ذلك وكذَّب الله -عزَّ وَجلَّ- كلامهم ودعواهم، وأبطلَه في القُرآن؛ فكذلك في المنافقين الذين يَقومون بمثل ذلك؛ فيُظهرون الإسلام، ويُقرُّون بالشَّهادتين ظاهرًا، ويقولون: "نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله" ثُمَّ في أَحوالهم وعقائدهم وأقوالهم ما يُناقض دين الإسلام، ومع هذا كلِّه هُم يدَّعون أنَّهم أولياء لله -عزَّ وَجلَّ.
وَذَكَرَ الشَّيخ لهذا أمثلةً، فذكر بعض مَقولات هؤلاء المنافقين، ومنها قول بعضهم عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّه يُعَدُّ مثل الملوك والزُّعماء الذين ساسوا النَّاس بالرأي الحسن، وأنَّ هذا مِن جَودة عقله، ويقولون: إنَّه عربي! وهذا موجود عندَ بعض البعثيِّين ليس فقط في الاتِّحاديَّة الصُّوفيَّة الذين يقولون باتِّحاد الخالق مع المخلوق؛ بل حتى بعض من ينتسب لحزب البعث الاشتراكي الشيوعي يصف النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: إنَّه زعيم عربي، استطاع أن يقود النَّاس وأن يَسُوسَهُم، وهذا من جملة النِّفاق الأكبر المخرج عن الملَّة! لماذا؟
لأنَّه يجب على كلِّ مُؤمنٍ أن يَعتقد أنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو رسول الله، مُرسلٌ من عند الله -عزَّ وَجلَّ- وأنَّ الله خصَّه بالرِّسالة، ويُؤمن به ظاهرًا وباطنًا، وينقاد للشرع.
ومنهم مَن يقول: إنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسول، ولكن أُرسِلَ إلى العربِ فقط، وأمَّا اليهود والنصارى وغير العرب فليس برسولٍ إليهم! وهذا تكذيب للقرآن، وهو كلام بعض المنافقين، وكلام بعض كفرة النَّصارى.
ومنهم من يقولون عن أنفسهم: إنَّهم خاصَّة أولياء الله، وأنَّ الرُّسل قد جاؤوا لعامةِ النَّاس، فهم من الخاصَّة ولا يلزمهم طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربما يقولون: إنَّ حالهم مع الأنبياء كحال الخضر مع موسى! مع أنَّ الخضر نبيٌ يُوحَى إليه، ولا يُقاس عُموم النَّاس على أنبياء الله، ثُمَّ لو كان أحدٌ من الأنبياء حيٌ لَمَا وَسِعَه إِلَّا اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى الخضر وغيره، ولكنهم كلهم قد ماتوا.
وينبغي أن نعلم أنَّ هذه المقولات هي مَقولات أعداء الله، وليست مَقولات أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- فمن مَقولات هَؤلاء المنافقين الذين خرجوا عن الإسلام؛ أنَّهم قالوا: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرسلٌ بالشَّرائع الظَّاهرة، أمَّا الحقائق الباطنة لم يُرسَل بها، وإنَّما نتلقَّاها نحن ونجتهد في تحقيقها، ونأخذها مِنَ العَارفين، دون الرُّجوع إلى سُنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعضهم يغلو غلوًّا فاحشًا فيقول: حتى الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعرف الحقائق الباطنة، ونحن قد حظينا بها!
وهذا لا شكَّ أنَّه من النِّفاق المُخرج من ملَّة الإسلام، فلو ادَّعى أصحابه الولاية فَهُم كاذبون.
ومع هذه المقولات؛ يجب أن نُلحق بهؤلاء أمثالهم ممَّن يُريد نزع الإسلام الصَّافي من صدور الناس وإحلال المذاهب الرَّديَّة، فهناك من الأحزاب التي تنتسب إلى الإسلام مَن اغترَّ بمقولات العلمانيَّة أو الدِّيموقراطيَّة أو الليبراليَّة؛ حتى قال بعضهم مقولاتٍ فاحشةٍ، وأرادَ تحريف النُّصوص الشَّرعيَّة حتى تتوافق مع هذه المذاهب الأرضيَّة البائسة الفاسدة الكاسدة.
فمن ذلك أن بعضهم يقول: الليبراليَّة الغربيَّة هي النَّهج الصَّحيح الذي يجب اتِّباعه.
وبعضهم يقول: إنَّ هذه الليبراليَّة لا تتناقض مع دين الإسلام.
وبعضهم يقول: إنَّ الواجب أن نتخلَّص من أغلال التراث.
وكلمة "التراث" يدخل فيها القرآن والسُّنَّة، وهذه من أثقل الأشياء على المنافقين، وما أشبه حالهم بحال الجهم بن صفوان عدو السُّنَّة والدِّين، الذي أنكرَ أسماء الله، وأنكر صفات الله، وقال بالجبر والإرجاء، وخرج على الأئمة وقاتلهم.
ولمَّا قُرِئَ على الجهم بن صفوان قوله: ï´؟الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىï´¾ [طه: 5]، قال: "وددت أن أَحُكَّها مِنَ المصحف"!
فهم يُعادون القرآن، فهؤلاء أولياء الشيطان.
ومنهم من يقول: الأديان كلها صحيحة، ونحن مع الإنسانيَّة، وكل إنسان حرٌّ يختار طريقه، ولا بأس عليه!
فهذه كلها من المقولات التي تَصْدُر مِنَ المنافقين -كما ذكر الشيخ- ويجب أن يُعرَف هؤلاء، ويُحذَر مِنْ شَرِّهم.
يقول الشَّيخ ابن تيمية في موضع من المواضع: "وَأَمَّا هَؤُلَاءِ: فَيَسْقُونَ النَّاسَ شَرَابَ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ فِي آنِيَةِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُظْهِرُونَ كَلَامَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي قَوَالِبِ أَلْفَاظِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ" .
ولهذا فإنَّ بعض الملوك والأمراء والرؤساء قد يَغتر بمقولات هؤلاء التي تنتسب إلى المذاهب العلمانيَّة، أو الشُّيوعيَّة، أو الدِّيموقراطيَّة، ولذا فيجب الحذر كل الحذر من هؤلاء؛ لأنَّ هؤلاء هو سوس الدول، وخراب الأمم، وخراب العمران، وكما أنَّ الخوارج والجماعات التي تنتهج نهجَ العنف جماعات ضالَّة يجب محاربتها؛ فهؤلاء أيضًا أَشر منهم؛ لأنَّهم ينتهجون نهج إفساد العقائد، ونزع العقيدة من المسلم، حتى يبقى المسلم بلا عقيدة ولا انتماء لدينه؛ بل يُريدون ربطه بأعداء الله الكفرة في الشَّرقِ أَو الغَرب.
وهذا الكلام الذي ذكره الشيخ من كون هؤلاء يدَّعون أنَّهم أولياء الله وهم ليسوا كذلك، فيجب الحذر منهم.
وفي درسنا اليوم سوف نقرأ بعض شبهات هؤلاء المتصوفة الغُلاة الذين ضلُّوا وأضلُّوا غَيرهم، ونعرف كيف دخل عليهم الضَّلال؟
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّ "أَهْلَ الصُّفَّةِ" كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْبَاطِنِ مَا أَوْحَى إلَيْهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَصَارَ أَهْلُ الصُّفَّةِ بِمَنْزِلَتِهِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ فَرْطِ جَهْلِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِمَكَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُï´¾)}.
قبل ما نبدأ في الرَّدِّ عليهم؛ نوضِّح للإخوة الكرام المراد بهذا النَّص.
قال شيخ الإسلام: (وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ: إنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ).
المعنى: أنَّ بعض غُلاة الصُّوفيَّة إذا قال تلك المقولات الكفريَّة السَّابق ذكرها؛ مثل أن يقول: أنا لا يلزمني اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويحتجّ بحجج واهية وفاسدة، ولكننا لابدَّ أن نُجيب عنها حتى لا يبقى التباس على أحد مُطلقًا؛ لأنَّ بعض النَّاس قد يسمع هذا الكلام ويظنه صحيحًا، وهُو لا يَدري!
فما هي حجج هؤلاء الصُّوفيَّة الضَّالين؟
يقولون: (إنَّ "أَهْلَ الصُّفَّةِ" كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهُ).
الصُّفَّة: مثل حُجرة أو مكان في آخر المسجد، كان المهاجرون إذا هاجروا من مكة إلى المدينة إذا كان عندهم مال أخذوا دارًا وسكنوها، وإن لم يكن عندهم مال إمَّا أن يُضَيفَهُم أحد، فإذا لم يجدوا أحدًا لجأوا إلى مَسجد النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانوا يجلسون في زاويته الشماليَّة.
فالصُّفَّة هي مكان للغُرباء فقط، وليس لهم أسماء خاصَّة، فكان الرَّجل يجلس يومًا أو يومين، ثُمَّ إذا وَجَدَ مَنزلًا أو وجد أحدًا يُضَيفه ذَهَبَ إليه وترك المسجد، فالأصل أنَّ المسجد ليس لسُكنَى النَّاس، وإنَّما المسجد للعبادة وللصَّلاة، ولكن للضَّرورة لا بأس أن يبيت به الرَّجل حتى يجدَ مَنزلًا له.
فضُلَّال الصُّوفيَّة يظنُّونَ ظنونًا فاسدة في آل الصُّفَّة فيظنون أنَّهم يُوحَى إليهم أو أنَّهم مُستغنون عن الرَّسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكل هذا كلام غير صحيح.
ومن ضِمن الشُّبهات أنَّهم يقولون: إنَّ الله أوحى لأهل الصُّفَّة في ليلة الإسراء والمعراج بالأمور الباطنة، وأوحى إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالأمور الظاهرة!
وهذا من فَرَطِ الجهل، وأمر مُضحكٌ للعقلاء؛ لأنَّ ليلة الإسراء والمعراج كانت في مكَّة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن قد هاجر بعدُ، ولم يكن بُنيَ المسجد بعد، فهذا يدل على فَرَط جهل هؤلاء وبُعدهم عن المعرفة بالشَّريعة الإسلاميَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَكُنْ إلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ صُفَّةٌ فِي شَمَالِيِّ مَسْجِدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْزِلُ بِهَا الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلٌ وَأَصْحَابٌ يَنْزِلُونَ عِنْدَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يُهَاجِرُونَ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى الْمَدِينَةِ؛ فَمَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي مَكَانٍ نَزَلَ بِهِ، وَمَنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَزَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ لَهُ مَكَانٌ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ "أَهْلُ الصُّفَّةِ" نَاسًا بِأَعْيَانِهِمْ يُلَازِمُونَ الصُّفَّةَ؛ بَلْ كَانُوا يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى، وَيُقِيمُ الرَّجُلُ بِهَا زَمَانًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا. وَاَلَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِهَا مِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ لَيْسَ لَهُمْ مَزِيَّةٌ فِي عِلْمٍ وَلَا دِينٍ؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَتَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالعرنيين الَّذِينَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ -أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا- فَأَمَرَ لَهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَقَاحِ –أَيْ: إبِلٍ لَهَا لَبَنٌ- وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ فَأَمَرَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَسُمِّرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، وَحَدِيثُهُمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمْ نَزَلُوا الصُّفَّةَ)}.
إذن نزل في الصُّفَّة مَن هو من خيار المؤمنين، ونزل الصُّفَّة مَن هذا شأنه مثل: هؤلاء العُرانيين الذين ارتدُّوا -نسأل الله العافية والسلامة.
فليس نزول الصُّفَّة دليلًا على الولاية، وهذا ما يُؤكِّد فَساد الشُّبهة التي احتجَّ بها غُلاة الصُّوفيَّة، وإنَّما عاقب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العرانيين بهذه العقوبة؛ لأنَّهم فعلوا براعي الإبل هكذا، فجازاهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعاقبهم بمثل ما فعلوا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَكَانَ يَنْزِلُهَا مِثْلُ هَؤُلَاءِ، وَنَزَلَهَا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ أَفْضَلُ مَنْ نَزَلَ بِالصُّفَّةِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا وَنَزَلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ جَمَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي تَارِيخَ مَنْ نَزَلَ الصُّفَّةَ.
وَأَمَّا "الْأَنْصَارُ" فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ)}.
لم يكن الأنصار من أهل الصُّفة لأنهم أهل المدينة، قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْï´¾ [الحشر: 9]، فهم تبوؤوا الدَّار، أي: أقاموا وسكنوا في المدينة، وتبوؤوا الإيمان، أي: استقر في قُلوبهم الإيمان -رضي الله عنهم وأرضاهم- فحبُّهم من الإيمان وبُغضهم كفرٌ ونفاق.
إذن؛ الصُّفَّة نزلَ بها مَن هاجرَ من مكَّة إلى المدينة ولم يجد له منزلًا، وغالب مَن كان ينزل الصُّفَّة إنَّما كان ينزل بها أيامًا محدودة، ثم ينتقل إلى دارٍ أو إلى مَن يُضيفه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ أَكَابِرُ الْمُهَاجِرِينَ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ)}.
لأنَّهم إنما نزلوا في دورٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
إذن أكابر الصَّحابة وخيارهم من المهاجرين لم ينزلوا بالصُّفَّة، وجميع الأنصار أيضًا لم ينزلوا؛ إنما نزل الفقراء الذين ليس عندهم مال أو قُدرة على السَّكن، وكان نزولهم بالصُّفَّة مُؤقَّتًا.
ثم أيضًا من الذين نزلوا الصُّفَة فيهم مَن هو متوسِّط في الإيمان، وفيهم مَن ارتدَّ عن الإسلام كالعرانيين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَد رُوِيَ أَنَّهُ بِهَا غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : «هَذَا وَاحِدٌ مِنْ السَّبْعَةِ»، وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ")}.
هذا ممَّا نبَّه عليها الشيخ، ويجب التَّنبيه عليه؛ وهو: خطر الأحاديث الموضوعة على الأمَّة، فهذه الأحاديث المكذوبة التي يَكذبون بها على الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد تنطلي على كثير من الجهلة من المسلمين، فيجب على المسلمين التَّنبُّه للأحاديث، وأن يعرفوا الأحاديث الصَّحيحة والحسَنة، فيأخذوها ويعتمدوا عليها، وأمَّا الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة فيجب اجتنابها، ومنها ما احتجَّ به هؤلاء الغُلاة من الصوفيَّة أنَّ غلامًا للمغيرة كان بالصُّفَّة، وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «هَذَا وَاحِدٌ مِنْ السَّبْعَةِ»، أي: السبعة أقطاب أو الأوتاد أو كذا.
وقال الشيخ عن هذا الحديث: (وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ").
أبو نعيم -رَحَمَهُ اللهُ- له كتاب اسمه "حلية الأولياء" وترجم فيه لعددٍ كبير من الصَّحابة والتَّابعين ومَن جاء بعدهم، وأبو نعيم لم يشترط في الكتاب الصِّحة ولا الحُسن، بل يروي ما وقع له ويذكره بإسناده، فعلى القارئ أن يعرف أن طريقةَ المتقدِّمين أنَّهم إذا ذكروا الإسناد أنَّهم يجعلون التَّبعة على القارئ أن يتأكَّد من الرِّجال، وهذا إذا كان القارئ من أهل الصَّنعة ومن أهل الحديث، أما العامَّة الذينَ لا يعرفونَ العلل ولا يعرفون الرِّجال فيرجعون للمختصِّين من أهل الحديث، ومَن طلبَ هذا العلمَ ودَرَسَه سيعرف، فمن طلبَ علمَ الحديث ودرسَ علم الأسانيد والرواة، وعرفَ تراجمهم؛ سوف يُدرك جملةً نافعةً من علم الحديث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عِدَّةِ "الْأَوْلِيَاءِ" وَ "الْأَبْدَالِ" وَ "النُّقَبَاءِ" وَ "النُّجَبَاءِ" وَ "الْأَوْتَادِ" وَ "الْأَقْطَابِ" مِثْلُ أَرْبَعَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ الْقُطْبَ الْوَاحِدَ؛ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَنْطِقْ السَّلَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ "الْأَبْدَالِ")}.
هذه قاعدة مُهمَّة جدًّا يستفيد منها أهل العلم وطلبة العلم وكل مسلم؛ وهي: أنَّ كلَّ حديثٍ يُروَى عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عددِ الأولياء، وعدد الأبدال، أو النُّقباء، أو الأوتاد، أو الأقطاب، أو النُّجباء؛ أنَّ كلَّ ذلك لم يثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه شيءٌ.؛ بل كله كذب إِلَّا مَا جَاء في "الأبدال"، ولكن فيه ضعف، ولا يثبت أيضًا.
ويُنبَّه على هذا؛ لأنَّ غلاة الصُّوفيَّة يروجون في أوساطهم ويقولون: البلد الفلاني محمي بأربعة أوتاد، أو له سبعة أقطاب! ويقصدون مثلًا أنَّ فلان بن فلان ولي، أو وتد، أو أنه القطب لهذا الكون -أي أن الكون محروسٌ بهذا الولي- أو أنَّ البلد الفلاني محروس بسبعة أولياء من الشُّرور!
وكل هذا من الخرافات والأكاذيب التي يفترونها، ولا يجوز تصديقها ولا ترويجها.
وأمَّا ما ينسبونه للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنعرف هذه القاعدة العلميَّة العظيمة؛ أنَّه كله كذبٌ، إلا ما جاء في "الأبدال" فإن ضعيف لا يثبت.
وانظر إلى التَّحرِّي في العبارة عند الشيخ: (فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَنْطِقْ السَّلَفُ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَّا بِلَفْظِ "الْأَبْدَالِ"وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ)، ولكن الحديث ضعيف، ويدلُّ على ضعفه ما تضمَّنه الحديث مِن معلومات سنقرؤوها الآن..
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَرُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثُ أَنَّهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا وَأَنَّهُمْ بِالشَّامِ وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ)}.
هذا الحديث ليس عندنا في المتن، ولكنه في الحاشية، أورده المحقق، قال: (لفظه في مسند الإمام أحمد: عن علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "إني سمعت رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «الأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ رَجُلا، يُسْقَى بِهِمُ الْغَيْثُ، وَيُنْتَصَرُ بِهِمْ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَيُصْرَفُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ بِهِمُ الْعَذَابُ» ). وهذا الحديث ضعيف، وسنده فيه انقطاع، وهذا لا يثبت عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الكلام.
ولهذا قال الشيخ في المتن: (وَهُوَ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتِ).
وعند أهل الحديث وأهل الاختصاص: التَّفريق بين ما يُقال عنه كذب وموضوع عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبينَ ما يُقال عنه ضعيف، وهذا من دقَّةِ أهل العلم.
ذكر الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ- من الدَّلائل على عدم صحة هذا الحديث عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ بِالشَّامِ، فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي عَسْكَرِ مُعَاوِيَةَ دُونَ عَسْكَرِ عَلِيٍّ).
لأنَّ الحديث الضَّعيف هذا يقول: إنَّ الأبدال يكونون بالشَّامِ وهم أربعون رجلًا، فيقول الشَّيخ: معلوم أنَّ الشَّام كان فيها معاوية، وعليٌّ كان في العراق، فلا يُمكن أبدًا أن يكون هؤلاء أفضل من علي، ولا يُمكن أبدًا أن يكون في معسكر معاوية أفضل من معسكر علي؛ بل يكون مَن كان مع علي في الجملة وفي عينِ عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لا شكَّ أنَّه أفضل من معاوية، فلا يكون معسكر الشَّام أفضل من معسكر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ : «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الدِّينِ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»، وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ هُمْ الْخَوَارِجُ الحرورية، الَّذِينَ مَرَقُوا لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ، فَقَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ، فَدُلَّ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَلَى أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ; وَكَيْفَ يَكُونُ الْأَبْدَالُ فِي أَدْنَى الْعَسْكَرَيْنِ دُونَ أَعْلَاهُمَا ؟)}.
وهذا ممَّا يؤكِّد عدم صحَّة هذا الحديث عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مدحَ عليًّا فقال: «يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ»، أي: يقتل المارقة.
وقوله: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الدِّينِ» ، يعني: الخوارج، وكما هو معلوم بإجماع العارفين والمسلمين أنَّ الخوارج أوَّلَ ما خرجوا كان خروجهم على عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقاتلهم علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ونصره الله عليهم، والحمد لله رب العالمين.
فعُلم أنَّ الذي يقتلهم هو أولى بالحق، والذي قاتلهم وقتلهم هو علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فلا يُمكن أبدًا أن يكون معسكر علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أقل من معسكر معاوية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والحديث يقول: إنَّ الأبدال كلهم بالشَّام؛ إذن هذا الحديث لا يثبت عن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيكون عدم ثبوت الحديث:
• من جهة السَّند: لأن فيه انقطاع.
• ومن جهة المعنى والمتن الذي تضمَّنه الحديث، ففيه نكارة.
إذن نصل إلى النَّتيجة: أنَّه لا يثبت شيء في الأبدال، ولا في الأقطاب، ولا في النُّجباء، ولا في الأوتاد، ولا نحو ذلك من مُصطلحات الصُّوفيَّة، وإنَّما الذي ثبتَ: « لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»، ومثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» .
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ أَنْشَدَ مُنْشِدَ
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي** فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِـي
إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ** فَعِنْــدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبِهِ؛ فَإِنَّهُ كَذَّبَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ)}.
وهذه من الأكاذيب التي يروجها بعض هؤلاء، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمع مُنشدًا يقول هذه الأبيات، وهذا لا شكَّ أنَّه كذبٌ:
قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الْهَوَى كَبِدِي** فَلَا طَبِيبَ لَهَا وَلَا رَاقِـي
فهذا يذكر الهوى والعشق، وأنَّه أصاب الكبد في نفسه حتى لم يجد لها طبيبًا ولا راقٍ يُعالجه من أثر لسعةِ الهوى.
قال:
إلَّا الْحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْت بِهِ ** فَعِنْــدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي
نستغفر الله العظيم! هل هذا يُمكن أن يُقال أمام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فزعم هؤلاء الأفَّاكون أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تواجدَ، من الوَجْد، وهو عند الصُّوفيَّة: التَّمايُل والطَّرَب عند سماعِ المُقطَّعات والأناشيد والتَّوشيحات والابتهالات؛ فيميل ويهتز ويسقط على الأرض، فيسمون هذا وجدًا وتواجدًا، وهذا من المصطلحات الموجودة عند الصُّوفيَّة.
وهذا ليس من صفات المؤمنين، ولا من صفات أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- فأولياء الله لا يسمعون مثل هذا، ما فيه العشق والهوى والغرام، وإنما يَسمعون القُرآن والسُّنة والعلم النَّافع.
وأحوال أولياء الله عند سماع القرآن: دمع العين، واقشعرار الجلد، ووجل القلب؛ وليس فيها التَّواجد.
فهم يزعمون أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ مَنْكِبِهِ)، البردة: ما يُلبس على الكتف.
قال الشيخ: (فَإِنَّهُ كَذَّبَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَأَكْذَبُ مِنْهُ مَا يَرْوِيه بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مَزَّقَ ثَوْبَهُ وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْهُ فَعَلَّقَهَا عَلَى الْعَرْشِ؛ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَعْرِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مِنْ أَظْهَرْ الْأَحَادِيثِ كَذِبًا عَلَيْهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
وهذا يُبيِّنُ لك وقاحتهم تجاه مقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّم يتظاهرون بحبِّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّهم أشد الناس عداوةً للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذبًا عليه وافتراءً عليه، فهؤلاء بلغوا مبلغًا كبيرًا في الوقاحة والتَّنقُّص لمقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما ينسبون له هذه الأشياء المنكرة، فكيف يمزق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثوبه وهو الذي نهى عن شقِّ الجيوب، ونفش الشُّعور؟!
ولهذا يجب على أهلِ الإسلامِ مُحاربة هذه الأفكار وهذه العقائد الفاسدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ مَا يَرْوُونَهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ")}.
المراد بقوله: (الزِّنْجيّ)، أي: الذي لا يعرف اللغة العربيَّة، ويقصد أنَّهما يتكلَّمان برطانةٍ وبلغةٍ لا يفهما، يُشيرون -هؤلاء الكذبة المفترون- إلى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتكلَّم برموز كما يتكلَّم السَّحرَة، ويقول "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت بَيْنَهُمَا كَالزِّنْجِيِّ"، يعني ما أدري أيشٍ يقولون! وهذا كذب وافتراء، فهؤلاء هم أعداء الله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ فِيمَنْ يُقِرُّ بِرِسَالَتِهِ الْعَامَّةِ فِي الظَّاهِرِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي الْبَاطِنِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنَافِقًا، وَهُوَ يَدَّعِي فِي نَفْسِهِ وَأَمْثَالِهِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، مَعَ كُفْرِهِمْ فِي الْبَاطِنِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إمَّا عِنَادًا وَإِمَّا جَهْلًا)}.
إذن هذا هو الخُلاصة: أنَّ بعض النَّاس يدَّعي أنَّه ولي وهو في الحقيقة عدو من المنافقين.
وسبب وقوعه في هذا النِّفاق وهذه العداوة:
• إمَّا عِنادٌ: يعني يعرف الحق ولكنه يُعاند.
• وإمَّا إيغالٌ في الجهلِ: وهذا الجهل غير معذور به، لأنَّه جهل مع التفريط، وإلا لو أنَّ بحث واستقصَى لعرف الحق.
وهؤلاء المنافقون أنواع:
• منهم غُلاة الصُّوفيَّة.
• ومنهم مَن ينتسب لدين اليهود والنَّصارى، ويصحِّح دينَهم ويُسوِّغَه.
• ومنهم مَن يستهين بالعبادات، ويستهين بالفرائض.
• ومنهم مَن يقول بوحدة الوجود، وأن الخالق والمخلوق شيء واحد.
إِلى آخر الأقوال المتعدِّدَة لصورِ هؤلاء المنافقين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَلَكِنْ يَقُولُونَ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْنَا رُسُلًا قَبْلَهُ، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي طَائِفَتِهِمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِوِلَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: ï´؟أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾)}.
بعض النَّصارى العرب يقولون: إنَّ الرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرسل إلى غير أهل الكتاب، أمَّا أهل الكتاب فلا يلزمهم طاعته واتِّباعه.
ومن الرُّدود السَّهلة القريبة: إذا كان رسولًا فلا يُمكن إلا أن يكون صادقًا، فلا يُمكن أن يختار الله -عزَّ وَجلَّ- للرِّسالة مَن هو كاذب، فإذا أنتم أقررتم بصحَّةِ رسالته إلى غير أهل الكتاب؛ فهذا يعني أنَّكم صدَّقتُم أنَّه صادقٌ ومصدوقٌ، وهو قد أخبر في القرآن وفي السنَّة أنَّه رسولٌ إلى العالمين، فلماذا تكذِّبونه؟! فإن كذَّبتموه بطلَ قولُكم الأوَّل أنَّه رسول إلى هؤلاء دون هؤلاء.
وهنا الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ- أراد أن يُبيِّن أنَّ الإيمان الموصوف فيه أولياء الله لابدَّ أن يكون بأركانِ الإيمان السِّتَّة، ومن ضمنها الإيمان بالله والملائكة والرُّسل...، إلى آخره.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيُؤْمِنُ بِكُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَï´¾.
وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: ï´؟الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾.
فَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ أَنْ تُؤْمِنَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ)}.
هذا فيه بيان ختم النُّبوَّة والرِّسالة بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه بيان عموم الرِّسالة إلى جميع الثَّقلين، وهذان أمران عظيمان تابعان للإيمان بالرسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والشَّهادة بأنَّه رسول الله، فلابدَّ من الإيمان بختم النُّبوَّة والرِّسالةَ به، قال تعالى: ï´؟وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَï´¾ [الأحزاب: 40].
ولابدَّ من الإيمان بعموم رسالته، قال تعالى: ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَï´¾ [الأنبياء: 107]، وقال: ï´؟قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاï´¾ [الأعراف: 158]، وقال: ï´؟الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِï´¾ [الأعراف: 157]، وقال تعالى عن عيسى: ï´؟وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِيï´¾ [الصف: 6]، فهو رسول إلى أهل الأرض كلهم.
ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .
وأرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكتب إلى ملوك الأرض، هرقل، كسرى، والنجاشي، وغيرهم؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فرسالته عامَّة -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ومن الجدير بالذكر ويجب التَّنبيه عليه: أنَّ كثيرًا من غلاة الصُّوفيَّة ادَّعوا النبوَّة، خاصَّة مَن ركبَ منهم مذهب الفلاسفة، فادَّعوا أنَّ النُّبوَّة مكتسبَة وأنَّه يُمكن تحصيلها، ونُقل عن ابن سبعين هذا، وهو من غلاة الصوفية الاتحاديَّة!
قال -رَحَمَهُ اللهُ: (أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَكُلُّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا جَاءَ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ; وَمَنْ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًاï´¾)}.
ومِن هُنا نعرف أنَّ مَن صحَّحَ دينَ اليهود أو دين النَّصارى فقد كفر؛ قال تعالى: ï´؟أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًاï´¾ فربُّ العالمين كفَّرهم في القُرآن، فهؤلاء أمرهم واضح، ومع هذا -أيُّها الإخوة الكرام- هناك مَن يُلبِّس على النَّاس في الصُّحف ويقول: نريد أن نتقارب مع هذه الأديان؛ لأنَّها تُؤدِّي إلى طريقٍ واحدٍ، وكلُّها صحيحة! فيسوِّي بينَ هذه الأديان وبينَ دين الإسلام الحقّ، فهؤلاء لا شكَّ أنَّهم كفَّارٌ، وهذا من طريقة المنافقينَ أيضًا، فإذا أظهروا ذلك صاروا كفَّارًا، وإذا أبطنوه في قلوبهم فَهُم مُنَافِقُون.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ ; فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ مُتَابَعَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.
وَأَمَّا خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ، وَرِزْقُهُ إيَّاهُمْ، وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِمْ، وَهِدَايَتُهُ لِقُلُوبِهِمْ، وَنَصْرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ؛ فَهَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ يَفْعَلُهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَسْبَابِ، لَا يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَسَاطَةُ الرُّسُلِ)}.
إذن الإيمان بالرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقتضي أن تؤمن بأنَّه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرِّسالة وتبليغ الشَّريعة، وتبليغ القرآن، وتبليغ الأمر والنَّهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، (فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ).
هل الرَّسول هو واسطة بينَ اللهِ وبينَ خلقِهِ؟
نقول: هذه المسألة فيها تفصيلٌ، فهذه الكلمة مجملة، وكما قال بعض أهل العلم: هناك واسطة مَن أنكرها كفر، وهناك واسطة مَن أقرَّ بها كفر أيضًا.
المعنى الأوَّل: إذا قلتَ: إنَّه واسطة، أي: أنَّه رسولٌ مُرسلٌ برسالةٍ، يُبلغ الناس القُرآن والسُّنَّة والشَّرع، فهذا حقٌّ نؤمنُ بهِ، فهو واسطةٌ بيننا وبين الله، ولا طريقَ لنا إلى الله إِلَّا عَن طَرِيقه، ولا وصول لنا إلى الجنَّة إِلَّا عَن طَرِيقِه، ولا هِدايةً إِلَّا بهديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالحلال ما أحله، والحرام ما حَرَّمَه.
وأمَّا مَن اعتقد أنَّه يستغني عن الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنكرَ هذه الواسطة فقد كفر، فمَن أنكرَ أنَّ الرَّسول واسطةٌ بينَ الله وبينَ خلقه فقد كفرَ بالرِّسالة والنُّبوَّة؛ لأنَّه أنكرها، وهؤلاء هُم الغُلاة مِنَ الصُّوفيَّة الذين يقولون: إنَّ الأولياء يُمكن أن يصلوا إلى الله عن غير طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو عن طريق اليهوديَّة أو عن طريق النَّصرانيَّة، أو عن طريق الأديان الأخرى؛ فهؤلاء كفَّار. إذن مَن أنكر هذه الواسطة فقد كفر.
الواسطة بالمعنى الثَّاني: في الدُّعاء وفي اللجوء إلى الله وسؤاله الحاجات، والاستغاثة به؛ فهل هناك واسطة بيننا وبين الله لا يُمكن أن نصل إلى الله إلا عن طريق هذه الواسطة؟
نقول: لا، هذه الواسطة يجب إنكارها، فإذا أردنا أن ندعوا الله -عزَّ وَجلَّ- ندعوه مُباشرة، نقول: يا ربنا أغثنا، ارحمنا، اهدنا، ارزقنا؛ ما نحتاج أن نذهب إلى شيخ أو إلى مخلوق؛ حتى لو كان الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نحتاج لأن نقول: يا رسول الله أغثنا فنحن في حسبك! لا؛ إنَّما نلجأ إلى الله، فَمَن جَعَلَ واسطةً بين الله وبينَ خلقه في الدُّعاء، وصرف له العبادة فقد كفر.
ولهذا الشيخ هنا فصَّل ووضَّح هذا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي "الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ" مَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى،كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَمَا كَانَ حُكَمَاءُ الْفَرَسِ مِنْ الْمَجُوسِ كُفَّارًا مَجُوسًا)}.
نقف عند الجملة الأخيرة، ونجعلها في الدَّرسِ القَادم؛ لأنَّها مُتصلة بما بعدها، وَقَد لا يَتَّسِع وقت الحلقة لإكمالها، ولكن نُلخِّص ما مضى، فنقول:
هناك مَن يظنُّ أنَّ بعضَ النَّاس من الكفَّار أو المُنَافقين أولياء لله -عزَّ وَجلَّ- والصَّحيح أنَّهم ليسوا كذلك، فالقاعدة الكبيرة التي نفرق بها بين أولياء الله وأولياء الشيطان تقول: إنَّ أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- هم المتبعون لمحمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المتمسكون بشرائع الإسلام، فهؤلاء هم أولياء الله، ومَن عاداهم فهم أولياء الشَّيطان.
وسوف نُكمل -إن شاء الله- في الدَّرس القادم، ونسأل الله -عزَّ وَجلَّ- لنا ولكم ولجميع المسلمين العِلم النَّافع والعمل الصالح، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:40   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الْفُرْقَانُ بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
الدَّرسُ الرَّابع (4)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
قرأنا -ولله الحمد- جملةً كبيرةً في الفصل الذي عقده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "الْفُرْقَانُ بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ" في وجوب التَّفريق بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وذكر الأدلَّة من القرآن، وذكرَ من السُّنَّة ما يدلُّ على ذلك.
ثمَّ بيَّنَ أنَّ أولياء الرحمن المعروفين الذين وصفهم -عزَّ وَجلَّ- قد عُرِفُوا بما ميَّزَهم الله به من الإيمان والتَّقوى، ولكن هناك مَن ادَّعى الولاية وهو كاذب، وأكذبه الله -عزَّ وَجلَّ- ككفرة اليهود والنَّصارى والمشركين.
ثم ذكر أنَّ من المنافقينَ في هذه الأمَّة مَن يدَّعي ذلك وهو على نفاقٍ وضلال، وعنده من الأمور المُخرجَة من الملَّة ما ذكره الشَّيخ أمثلةً على ذلك، ثمَّ ذكر بعض الشُّبهات لهؤلاء، مثل: ظنّهم أنَّ الصُّفَّة التي كانت في المسجد النَّبوي كان أهلها الذين يسكنونها على نحوٍ مُعيَّنٍ وأنَّهم كانوا يُوحَى إليهم؛ وكل هذا من الخزعبلات والخُرافات والأكاذيب!
وذكر أيضًا نصوصًا أخرى يحتجُّ بها هؤلاء، وبيَّنَ عدمَ صحَّتها وعدم ثبوتها، وختم هذا الكلام بتلخيصِ أنَّ مَن يُقر رسالة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الظَّاهر قد يكونُ منافقًا، وهذا مثل ما حصلَ من كفرة اليهود والنَّصارى، وكذلك المشركين.
فالمقصود: أنَّ الشيخ بيَّنَ أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- هم المعروفون باتِّباع الكتاب والسُّنَّة، وبالإيمان بأركان الإيمان السِّتَّة، وباتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الظَّاهر وفي الباطن.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَوْ بَلَغَ الرَّجُلُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ مَا بَلَغَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَلَا وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ وَالْهِنْدِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَلَهُ عِلْمٌ أَوْ زُهْدٌ وَعِبَادَةٌ فِي دِينِهِ، وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ؛ فَهُوَ كَافِرٌ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ كَمَا كَانَ حُكَمَاءُ الْفَرَسِ مِنْ الْمَجُوسِ كُفَّارًا مَجُوسًا)}.
يقول -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنَّه ليس من علامات الولاية أنَّ الرَّجل يقتصر على الزُّهد في الدنيا والانقطاع للتعبُّد، والانشغال بالعلم؛ فإنَّ هذه الأمور لا تكفي، ولابدَّ من اتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان به، فيوجد في كفرة اليهود والنَّصارى مَن هو زاهد في الدُّنيا ومتقشِّف، وعنده أخلاق حسَنة، ويوجد من كفرة الهند، ومشركي العرب، ومشركي التُّرك، وبلاد التُّرك قديما تُطلق على ما وراء النَّهر، فروسيا وما تفرع عنها تسمى تُرك؛ فيوجد في هؤلاء مَن هو متزهِّد ومتقشِّف ومتبتِّل ومنقطع للعبادة، وبعضهم لا يأكل من الطَّعام كثيرًا، وربما يصوم الأيام ذوات العدد الكثيرة، حتى أنه لا يشرب، فيتهوَّل بعض الناس من هؤلاء، ويتعجبون من طيبتهم ومة أخلاقهم، ويظنُّونَ أنَّهم على هدًى أو أنَّهم أولياء؛ فبيَّنَ الشَّيخ أنَّ هؤلاء كفَّار ما داموا كذبوا الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يتَّبعوه، ولم يدخلوا في دين الإسلام؛ فهم كفَّارٌ أعداءٌ لله -عزَّ وَجلَّ- حتى لو ظنَّ مَن ظنَّ أنَّهم أولياء.
ولهذا فإنَّ بعض الجهلة من المسلمين يأتي بكلمات لهؤلاء الكَفرة، ويقول: "قال الحكيم فلان...، قال الفيلسوف فلان...، وهذا الفيلسوف له أخلاق وله كذا وكذا..."، ويُحاول أن يُروِّج كلماته وأحواله التي فيها زهد وتقشُّف، ويبهر المتابعين بها، وهذا من جهل وضلال هؤلاء الذين يروِّجون لهؤلاء الكفرة؛ لأنَّ التَّرويج لهؤلاء وجعلهم قادة وزعماء، ودعوة الناس لتخليدهم والتَّأسِّي بهم ضلال مبين، وإفكٌ وافتراء، فهؤلاء الكفار من أهل النار، ولو كان في أخلاقهم طيب أو زهدٌ، أو فيها ما يبهر بعض الناس.
والله -عزَّ وَجلَّ- بيَّنَ أهلَ النَّار من أهل الجنَّة، وبيَّنَ أنَّ مَن أطاع الرَّسول فقد أطاع الله، ومَن عصى الرسول فقد عصى الله، قال تعالى: ï´؟وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًاï´¾ [الجن: 23]، حتى لو كان في تعامله إحسانٌ؛ فهذا الإحسان وهذه الأخلاق الطِّيبَة يُجازى به في الدُّنيا بما أنعم الله عليه من نعمة البصر والسَّمع، وغير ذلك من النِّعَم.
ولهذا فإنَّ أبا طالب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان من أكثر الناس دفاعًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو القائل:
وَلَقَـــــدْ عَلِمْــــــتُ بِأَنَّ دِيــــــنَ مُحَمَّدٍ ** مِــــنْ خَيْــــــرِ أَدْيَانِ البَرِيَّــــــــــــةِ دِينَــــــا
لَــوْلاَ المَلامَــــــةُ أَو حَــــــــذَارُ مَسَبَّـــةٍ ** لَوَجَـدْتَني سَمْحـــــــــًا بِــــذَاكَ مُبِينَــــــــــــا
فَــوَاللَهِ لَـــولا أَن أَجــــــــــــيءَ بِسُبَّــــــةٍ ** تَجُـــرُّ عَلى أَشياخِنــــا في المَحافِـــــلِ
لَكُنّـــا اتّبَعنـــــاهُ عَلــى كُــــلِّ حـالَـةٍ ** مِنَ الدَهرِ جدّاً غَيرَ قَولِ التَهازُلِ
لَقَد عَلِموا أَنَّ اِبنَنا لا مُكَذَّبٌ ** لَدَيهــــــــــــم وَلا يُعنى بِقَولِ الأَباطِلِ
فهذا أبو طالب يُبيِّن أنَّهم يعلمون أنَّ محمدًا ليس بمكَذَّب، بل هو صادق، وكان أبو طالب يُدافع عنه، وكان يقول:
واللهِ لن يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ ** حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دَفينا.
ومع ذلك كلِّه أبى أن يقول: "لا إله إلا الله"! فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه في النَّار، وأنَّ له نعلان من نارٍ يغلي منهما دماغه، وهو أخفُّ أهلَ النَّار عذابًا ويرى أنَّه أشدُّهم عذابًا.
فيوجد في الكفَّار مَن له أخلاق وله إحسان، ولكن ما دام أنَّه لم يتَّبع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو من أهل النار، وهو عدوٌّ لله -عزَّ وَجلَّ- ولكن التَّعامل مع الكفار عمومًا له أحكام شرعيَّة أخرى، أمَّا فيما يتعلَّق بأنَّه وليٌّ لله فلا! وهؤلاء هم أعداء الله ما دام أنَّهم لم يُسلموا ولم يدخلوا في الإسلام.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ، كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ، وَكَانَ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ وَزِيرًا لِلْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ، وَهُوَ الَّذِي تُؤَرِّخُ بِهِ تَوَارِيخُ الرُّومِ وَالْيُونَانِ، وَتُؤَرِّخُ بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ; وَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَرِسْطُو كَانَ وَزِيرًا لِذِي الْقَرْنَيْنِ، لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَاكَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ، وَهَذَا قَدْ يُسَمَّى بِالْإِسْكَنْدَرِ، ظَنُّوا أَنَّ هَذَا ذَاكَ كَمَا يَظُنُّهُ ابْنُ سِينَا وَطَائِفَةٌ مَعَهُ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ هَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الْمُشْرِكُ الَّذِي قَدْ كَانَ أَرِسْطُو وَزِيرَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَاكَ، وَلَمْ يَبْنِ هَذَا السَّدَّ، وَلَا وَصَلَ إلَى بِلَادِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهَذَا الْإِسْكَنْدَرُ الَّذِي كَانَ أَرِسْطُو مِنْ وُزَرَائِهِ يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ)}.
يعني أنَّ اليونان عندهم حكماء كما عند عند الهند والتُّرك، ويُسمون الفلاسفة.
وأصل كلمة فلاسفة: "فيلا سوفا"، فيلا: محب. سوفا: الحكمة.
وكل أمَّة من الأمم كالهند والتُّرك والعرب واليونان والرُّوم والحبَشَة، وغيرهم؛ كل أمم الأرض عندهم حُكماء وعقلاء، ففي اليونان يسمون الحكماء "فلاسفة"، مثل: أرسطو طاليس، ويسميه أتباعه "المعلم الأوَّل"، وهو أساس الإلحاد في الفلسفة، فهو كبير الملاحدة.
يقول الشيخ عنه: إنه مشرك يعبد الأصنام ويعبد الكواكب، ويذكر في كتبه أنَّ الآلهة سبعة وأربعون، وكان يعبد الكواكب ويُناجيها، ويطلب منها، ويظنَّ أنَّها هي التي تدبر الكون؛ هذا وهو يدعو إلى المقالات الفاسدة التي فيها تكذيب الرِّسالات، وإنكار الكتب، وإنكار البعث، والقول بقِدَم العالم.
وأهل تلك الدِّيار يسمُّون الملك إذا تولَّى عندهم "الإسكندر"، فهذا وصفٌ وليس اسمًا لشخص، ومن هنا حصل غلطٌ كبيرٌ نبَّه عليه الشَّيخ ابن تيمية، وهو: أنَّهم ظنُّوا أنَّ ذا القرنين -رحمه الله- وهو مَلكٌ صالح ذكره الله -عزَّ وَجلَّ- في سورة الكهف؛ فظنَّ كثير من النَّاس أنَّه الإسكندر المقدوني الذي كان أرسطو وزيرًا له، وبيَّن الشَّيخ أنَّ هذا الظَّن فاسد، وأنَّ أرسطو الفيلسوف كان قبل بعث المسيح عيسى -عليه السلام- بنحو ثلاثمائة سنة، وكان الملك الذي تولَّى الملك في زمن أرسطو الفيلسوف هو الإسكندر بن فليبس المقدوني، وهذا هو الذي تؤرَّخ به تواريخ الرُّوم، وتؤرخ به اليهود والنَّصارى تواريخهم المعروفة.
وذو القرنين أيضًا يُقال له "الإسكندر"، لأنَّ كلَّ مَن تولَّى المُلك يُسمَّى الإسكندر عند هؤلاء، كما أنَّ الرُّوم يسمون الملك عندهم قيصر، والفرس يسمونه كسرى، والحبشة يسمونه بالنَّجاشي.
إذن "الإسكندر" وصف وليس اسم، فلما رأوا أنَّ الملك اسمه إسكندر بن فيليبس المقدوني؛ ظنوا أنَّه هو الإسكندر ذو القرنين، وليس هذا هو ذاك، بل بينهما أكثر من ألفي سنة، فإسكندر ذو القرنين -رحمه الله- ملك صالح مؤمن، ذكر الله شأنه في سورة الكف، أمَّا الإسكندر ابن فيلبس المقدوني الذي بنى الإسكندريَّة هذا مشرك وكافر، وكان ارسطو وزيره، أمَّا ذو القرنين فكان مؤمنًا، والإسكندر ابن فيلبس لم يَبْنِ السَّدَّ ولم يصل إلى يأجوج ومأجوج في أقصاي الأرض في المشرق.
والمقصود من هذا: بيان ضلالة أرسطو، أنَّه لا يُعتد به ولا هو ولا أتباعه أولياء -عزَّ وَجلَّ- بل هم أعداء لله -عزَّ وَجلَّ- وهم رأس الإلحاد، وأعداء الرُّسل والرِّسالات.
فهذا ما يتعلق بهذه الجملة، قال: (وَكَذَلِكَ حُكَمَاءُ الْيُونَانِ مِثْلُ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ، كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ)، ومن الأشياء العجيبة أنَّ مَن يُظهر الإلحاد يقع في الشِّرك، وهذا قديمًا وحديثًا، فأوَّل وأعلى وأشهر مُلحد على وجه التَّاريخ هو فرعون، فإنَّ فرعونَ الذي أرسل الله -عزَّ وَجلَّ- موسى إلى بني إسرائيل في زمنه أظهر الإلحاد وقال الله تعالى على لسان: ï´؟وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىظ° إِلَظ°هِ مُوسَىظ° وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًاï´¾ [غافر 36، 37]، وقال للناس: ï´؟وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِيï´¾ [القصص: 38]، وقال: ï´؟فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىظ°ï´¾ [النازعات: 24].
فهذا المُلحد الذي يُظهر إلحاده وإنكارَه للخالق في نفس المقام كان يعبد غيرَ الله، قال تعالى: ï´؟وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَï´¾ [الأعراف: 127]، قال المفسرون: كان عنده صنم في السِّرِّ يعبده في بيته.
وهذه المسألة مسألة مهمَّة! وهي أنَّ الملاحدة مشركون، وبعض النَّاس يظنون أنَّ هؤلاء إذا أنكروا الخالق وأظهروا الإلحاد أنَّهم لا يعبدون شيئًا؛ بل يعبدون غيرَ الله، شاؤوا أم أبوا، وجاء في القرآن الكريم: ï´؟أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ غ– إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي غڑ هَظ°ذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌï´¾ [يس 60، 61]، فمن استكبر عن عبادة الله فقد عبدَ الشيطان، وأكثر ما يُبيِّن لك هذا هو حالُ فرعونَ -كما تقدَّم- وحال قلب الإنسان، فإنَّ فيه فقرٌ وافتقار وعبوديَّة، فإذا صرفها إلى الله وافتقر إليه وعبده صارَ موحِّدًا، وإذا لم يصرفها إلى الله صارَ إمَّا مشركًا أو مستكبرًا، والمستكبرُ مشرك أيضًا، ولهذا وصف الله -عزَّ وَجلَّ- فرعون بالشِّرك في مواضع في القرآن.
وهنا موضع من كتاب "العبوديَّة": لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول فيه -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكل من استكبر عَن عبَادَة الله لَا بُد أَن يعبد غَيره)، ثم قال: (عبدا لذَلِك المُرَاد المحبوب إِمَّا المَال وَإِمَّا الجاه وَإِمَّا الصُّور وَإِمَّا مَا يَتَّخِذهُ إِلَهًا من دون الله كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والأوثان)، ثم ذكر حالَ فرعونَ واستكباره وتكذيبه وقال: (وَقد وصف فِرْعَوْن بالشرك فِي قَوْله : ï´؟وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَï´¾ [127 الْأَعْرَاف]، بل الاستقراء يدل على أَنه كلما كَانَ الرَّجل أعظم استكبارًا عَن عبَادَة الله كَانَ أعظم إشراكًا بِاللَّه لِأَنَّهُ كلما استكبر عَن عبَادَة الله ازْدَادَ فقرا وحاجة إِلَى المُرَاد المحبوب، الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود مَقْصُود الْقلب بِالْقَصْدِ الأول فَيكون مُشْركًا بِمَا استعبده من ذَلِك).
ولما ترى الآن كفرة الملاحدة الذين انتشروا في هذا العصر الحديث؛ إذا أظهروا إلحادهم فهم في الحقيقة يعبدون إمَّا الصُّوَر أو المال، أو يُعظِّمون التَّماثيل والأوثان، وتسمعون عن بعض الطوائف التي تنتسب للهيئات مثل: الأمم المتَّحدة وغيرها ومَن عندهم يونسكو؛ تجدهم حريصين كلَّ الحرصِ على جمع الأصنام، وتفقد كلِّ ما يُعبَد من دون الله، وتعظيمه وحمايته؛ لأنَّهم أعظم النَّاس شركًا، وأغلب الأفكار الأرضيَّة الموجودة اليوم كالعلمانيَّة والليبراليَّة والشُّيوعيَّة والاشتراكيَّة ترجع إلى مفاهيمٍ طرحَها أولئك الغربيُّون أو غيرهم، وترجع أصولها إلى هذا المشرك أرسطو، ولكن هذا المسمَّى بأرسطو جاء كثيرٌ من الفلاسفة وحسَّنوا كلامَه وزيَّنوه، ولكن كلامهم كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم لا يستقيم على طريقةٍ واحدةٍ، ولا على قانونٍ واحدٍ، وإنَّما يرجعون إلى أصلٍ واحدٍ وهو الشَّك، ونحن لا نتكلم عن الفلسفة المتعلِّقة بالرِّياضيَّات ولا بالطَّبيعيَّات؛ لأنَّ الفلسفة هي الحكمة -كما تقدَّم- ولكنَّ الفلسفة تدخل في أمورٍ ثلاثة:
- الأمور الرِّياضيَّة، مثل الحساب والجبر، وهذا يُدرَّس وهو علم نافع، وليس مختصًّا بالفلاسفة، ولكنه من الأشياء التي درسوها.
- العلوم الطَّبيعية، مثل الطِّب والفيزياء والكيمياء والأحياء، وعلم أجزاء الجسم، وعلم النبات، وغيره، وهذا علم ليس مختصًّا بهم، وهو ممَّا يدرسونه، وعند بعضهم إتقان قديمًا وحديثًا، ولكن ليس هذا مختصًّا بهم.
وإنَّما الكلام الآن عن الفلسفة في الأمور الغيبية والإلهيَّة، ولهذا فهم متَّفقونَ على الشَّك ونشره، فيقول زعيمهم أرسطو ومَن تبعه: "من أراد الوصول إلى المعارف الإلهية فليَمحُ من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليَسعَ في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره، وليشك في جميع الأشياء، ثم ليكتشف بعقله ورأيه وليبحث".
فهم يأمرونه أن يشك في كل شيءٍ، ويجعلونَ بدايات تكوينه والأدلَّة عن طريقهم، فصار حقيقة الأمر عندهم هو أن ينزعوا الشَّخصَ من معتقداته فيرمونه على معتقداتهم، ولكن احتالوا عليه بأن صوَّروا له أن يشك في الأشياء، ثم يعطونه سمومهم وقوانينهم وقواعدهم في الأمور الغيبية؛ وبالتَّالي فصَلَوه عن الوحي، والوحي هو أصل الهُدَى.
والمتأخِّرون من الملاحدة اليوم والذين تنتشر مقالاتهم في الإنترنت ووسائل التَّواصل وراء كثير منهم اليهود، كما ذكر بعض الباحثين في بحثٍ نُشرَ في مجلة البحوث الإسلاميَّة قديمًا للأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود، وهذا البحث ذكر أنَّه ذهب للدِّراسة في فرنسا، وأنَّه بدأ يسمع من هؤلاء في ما يُسمَّى بعلم الاجتماع وعلم الأخلاق أشياء يُريدون أن يعتقد الناس أنَّ الرُّسل والأنبياء ليس عندهم شيء من الله، وليس عندهم رسالة من السَّماء، وإنَّما هم بشرٌ مثلك!
واربط هذا بالكلام الذي قرأناه في الدَّرس الماضي، لمَّا نقل الشَّيخ عن بعض المنافقين أنَّهم قالوا: إنَّ الرَّسول حاله كحال ملكٍ زعيم استطاع أن يسوس النَّاسَ برأيه، وأنَّ النُّبوَّة مكتسبة، وأنَّه فقط تميَّزَ عن الناس بذكائه وعقله وحسنِ تصرُّفه ونحو ذلك.
فقال هذا الباحث: بدأتُ أنظر في الأمر، وإذا بمجموعة من الأساتذة هم يهود!
وفي خلاصة المقال ذكر أنَّهم يُريدون هدم القيَم والأخلاق والدِّين في المجتمعات عمومًا، ليس في مجتمع دونما مجتمع!
ولكننا الآن نراهم يركِّزونَ على بلاد الإسلام بشكلٍ كبيرٍ، وإذا جاء الشَّابُّ أو الشَّابَّةُ أو الغِّرُّ ورأى كميَّة هؤلاء الكتَّاب ورأى التَّرويج في الإنترنت ووسائل التَّواصل؛ انبهرَ وظنَّ أنَّ عندهم شيء، وليسوا بشيءٍ!
فالمتأخِّرون من الملاحدة صَاروا على نهجِ أسلافهم، ومَن نراهم الآن من الملاحدة هم في الحقيقة ممثلون حقيقيُّون عن الفلاسفة الأوائل، وقد حملوا راية الإلحاد، وانتصروا لباطل أرسطو وأتباعه، وإن تحايلوا ومكروا بتغيير بعض العبارات وتزيينها، وكان هناك تأثير لبعض المنحرفين من المدَّعين للإسلام والمُظهرين له، ولهذا فإنَّ ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" في المجلد الثَّاني يقول عن الفلاسفة أنَّ كبارهم الذين كانوا قبل أرسطو هم أحسن منه في تعظيم الرُّسل والشَّرائع، فقال: "وأمَّا أرسطو فكان مشركًا يعبد الأصنام".
فابن تيمية وابن القيم والأئمَّة خَبَروا هذا الرَّجل وأمثاله من كتبه، والدكتور خالد علال أيضًا له بحوث قيمة في نقد هذه الشَّخصيَّة وتتبُّع كلامه.
ونريد أن نصل إلى نتيجة: أنَّ هؤلاء وإن أظهروا الإلحاد إلا أنَّهم مشركون وثنيُّونَ يَعبدون الأصنام، ويعبدون الكواكب، وأنتَ أيُّها الشاب -وأنتِ أيتها الشَّابة- لا تظنَّ أنَّ هذه حريَّة، بل هذا رقٌّ وعبوديَّة للشيطان وأوليائه، فكيف تهرب من عبوديَّة الخالق الذي أوجدكَ من عدمٍ، وعبوديَّة الذي يرزق ويُحيي ويُمين ويُدبر وتذهب إلى هذه المقالات الكادسة الفاسدة الفاشلة الخاسرة الحاسرة، والتي قد ثبت بطلانها، وقد تبرَّأ منها أصحابها، حتى الأوربيين الذين تقدموا في الصِّناعات والله ما تقدَّموا في هذه الصِّناعات بناءً على هذه المقالات، ولا على النَّهج الليبرالي، ولا على النَّهج العلماني، ولا على النَّهج الفلسفي؛ إنَّما تقدَّموا في الصِّناعات لمَّا أخذوا بمبدأ التَّجربة، فتركوا منهج الاستقراء والاعتماد عليه وحده، وهذا الأمر قد سبقهم إليه المسلمون في كثيرٍ من الأشياء، وهم يعرفون هذا، والمنهج الإسلامي -والحمد لله- لم ياتِ بمعارضة التَّجارب وما ينفع العباد، ولكن أتى بما يُخالف الشَّرع، فيمنعه لأنَّ فيه مضرَّة إمَّا آنيَّة أو لاحقة، وإمَّا ظاهرة أو خفيَّة.
ويقول الشيخ: (فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة، ممن يتستر باتِّباع الرُّسل، وهو منحل من كل ما جاءوا به، وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء).
وابن تيمية لما ذكر أرسطو هنا ذكره لأنَّ أتباعه ممَّن يدَّعي الإسلام يعظِّمونَه ويجعلونه "المعلَّم الأوَّل".
قال ابن القيم: (وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قلبوه، وما خالفه لم يعبأوا به شيئا، ويسمونه المعلم الأول).
ثم قال: (وقد بين نظَّار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان. وصنفوا فى رده وتهافته كثيرًا، وآخر مَن صنَّف فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف فى رده وإبطاله كتابين، كبيرًا، وصغيرًا)، ولعلَّه يُريد بالكتاب الصَّغير "نقد المنطق"، وقصد بالكتاب الكبير "درء تعارض العقل والنقل"، وكلاهما مطبوع ومتداول.
ثم ذكرَ أنَّهم أهل زندقة وإلحاد، وأحببتُ أنَّ الإخوة الكرام والأخوات يستفيدوا من كلام ابن القيم في إغاثة اللهفان عن هذا المجرم الذي يُعظَّم قديمًا وحديثًا.
والحافظ ابن الصَّلاح من علماء الإسلام الكبار يقول: "الفلسفة أسُّ السَّفهِ والانحلال"، ومراد العلماء بمصطلح الفلسفة: العلم الذي يتكلَّم في الغيبيات والإلاهيات، وليس مرادهم الرياضيات ولا العلوم النَّافعة، ولا العلوم الطَّبيعيَّة، فهذه متَّفقٌ على أنَّه يُستفاد منها -ولله الحمد- ولكن الكلام في الغيب وفي الرسالة وأصل والوجود، والكلام في البعث بعدَ الموت؛ هذا ليس لهؤلاء الجهلة.
قال ابن الصلاح: "الْفَلْسَفَةُ أُسُّ السَّفَهِ وَالِانْحِلَالِ، وَمَادَّةُ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، وَمَثَارُ الزَّيْغِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَمَنْ تَفَلْسَفَ، عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ عَنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْبَرَاهِينِ، وَمَنْ تَلَبَّسَ بِهَا، قَارَنَهُ الْخِذْلَانُ وَالْحِرْمَانُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَأُظْلِمَ قَلْبُهُ عَنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ثم قال مخاطبًا ولاة الأمور في زمنه: "فَالْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ أَعَزَّهُ اللَّهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ شَرَّ هَؤُلَاءِ الْمَشَائِيمِ، وَيُخْرِجَهُمْ مِنَ الْمَدَارِسِ وَيُبْعِدَهُمْ"، لأنَّ تدريس الفلسفة بهذا الوجه ضارٌّ بعقائد المسلمين وبأبنائهم وبناتهم.
قال ابن تيمية: (وَلِهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ، حَتَّى رَأَيْت لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ).
وأُضيفُ: أنَّ هؤلاء الفلاسفة هم سوسُ الملكِ وسوس الدُّوَل، فهم يُريدون إسقاط الدُّول، حتى أنَّ أحدَ الكبار من الفلاسفة المعاصرينَ يقول: "النظر العقلي المتحرر من كل قيد وسلطة تفرض عليه من الخارج، وقدرته على مسايرة منطقه إلى أقصى آحاده، وإذاعة آرائه بالغاً ما بلغ وجه التباين بينها وبين أوضاع العرف، وعقائد الدين، ومقتضيات التقاليد، من غير أن تتصدى لمقاومتها أو التنكيل بها سلطة ما".
فهم يُريدون إسقاط الدُّول والمَلَكيَّات، والمناداة بالديموقراطيَّة الوهميَّة.
وأيضًا هناك فتوى للجنة الدَّائمة للبحوث العلميَّة والإفتاء في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، يقول مشايخنا فيها: "لا يجوز تعلُّم القوانين الوضعيَّة لتطبيقها مادامت مخالفة لشرعِ الله، وتجوز دراستها وتعلُّمها لبيانِ ما فيها من دخلٍ وانحرافٍ عن الحقِّ، ولبيانِ ما في الإسلامِ من العدلِ والاستقامة والصَّلاح، وما فيه من غنًى وكفاية لمصالح العباد، ولا يجوز لمسلم أن يدرس الفلسفة والقوانين الوضعيَّة ونحوهما إذا كان لا يقوى عن تمييز حقِّها عن باطلها؛ خشية الفتنة والانحراف عن الصِّراط المستقيم، ويجوز لم يهضمها ويقوَى على فهمها بعدض دراسة الكتاب والسُّنَّة ليُميِّز خبيثها من طيِّبها، وليُحقَّ الحقَّ ويُبطل الباطل ما لم يشغله ذلك عمَّا هو أوجب منه شرعًا.
وبهذا يُعلَم أنَّه لا يجوز تعميم تعليم ذلك في دورِ العلم ومعاهده، بل يكون لمَن تأهَّلَ له من الخواصِّ، ليقوموا بواجبهم الإسلامي من نُصرَةِ الحقِّ، ودحضِ الباطل".
إذن الفلاسفة ليسوا أولياء الله، وهؤلاء تكلَّم فيهم العلماء ونقضوهم، وبيَّنوا خطرهم، وهذا المسلم الفاسد لهؤلاء ينعِقُون دائمًا بالتَّقدُّمِ والتَّجديدِ والرُّقيِّ والعصريَّةِ، ونبذِ الماضي، وفي الحقيقة هم يذمُّون الرَّجعيَّة بما فيها الكتاب والسُّنَّة، ويُريدون التَّقدميَّة.
فحقيقة أمرهم هو ردُّ الكتاب والسُّنَّة، والاعتماد على العقل، ثم إنَّ هذا العقل الذي يعتمدون عليه أيُّ عقلٍ!!
ثم يقول بعضهم: نحدد الأمر حسب المصالح!! من الذي يُحدد! فالفاسق شارب الخمر يُريد أن يشرب الخمر ويقول هذا مصلحةٌ لي! والزَّاني -أعزكم الله- يريد الزنا كذلك، وقاطع الطريق يُريد قتل الناس وأخذ اموالهم وسلبها!!
فلا يُمكن أن نركن إلى عقول البشر لتحديدِ مصالحنا؛ بل عندنا كتاب الله وسنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بفهم الصالح وهو الصَّحابة، فهذا هو الميزان القسط العدل، وما لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة؛ فهناك المصالح المرسلَة، وهنا يأتي دور المصالح لأهل العقل والحكمة من العلماء والنَّاصحين، الذين نظرهم نظرٌ مصلحيٌّ، وليس نظر تشهٍ.
فهذا تعليق على هذا الكلام، ليُبيِّن لك أن الفلاسفة ليسوا بأولياء الله، ولا يجوز تقديمهم ولا الاعتماد عليهم، ولا الاغترار ببعض حكمهم وأقوالهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ; وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعِ لِلرُّسُلِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ،وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ، وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ، وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ. قَالَ تَعَالَى : ï´؟هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَï´¾.
وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ؛ إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ، مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ، أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِمْ، فَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌï´¾، وَذِكْرُ الرَّحْمَنِ هُوَ: الذِّكْرُ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِثْلُ الْقُرْآنِ فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقُرْآنِ وَيُصَدِّقْ خَبَرَهُ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَ أَمْرِهِ؛ فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَيُقَيِّضُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَيَقْتَرِنُ بِهِ قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىï´¾، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذِكْرَهُ هُوَ آيَاتُهُ الَّتِي أَنْزَلَهَا، وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ، وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ -وَهُوَ الْقُرْآنُ- كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
قوله: (وَفِي أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمُشْرِكِي الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَالْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ لَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ).
المقصود بالعلم هنا: العلم بأمور الدنيا، أو العلم ببعض الحكم والمقولات ونحو ذلك من الزُّهد والعبادة.
قال: (وَلَكِنْ لَيْسَ بِمُتَّبِعِ لِلرُّسُلِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِمَا جَاءُوا بِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَلَا يُطِيعُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ وَلَا أَوْلِيَاءٍ لِلَّهِ)، فهذا تأكيدٌ للكلام السَّابق.
ثم قال: (وَهَؤُلَاءِ تَقْتَرِنُ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ وَتَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، فَيُكَاشِفُونَ النَّاسَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَهُمْ تَصَرُّفَاتٌ خَارِقَةٌ).
يعني: يحصل لهؤلاء أمور خارجة عن قدرة البشر أحيانًا، فلا تغترَّ بها أيُّها المسلم، فقد يقترن بهؤلاء الشَّياطين فيحصل لهم مُكاشَفة، والمراد بالمكاشفة هنا: العلم، مثل: أن يعلمَ شيئًا وقعَ في أرضٍ بعيدة، وليس هناك وسائل وصَّلت له هذه الملعومة، فيكون هذا قد كوشف.
وهذا لا يعني أنَّه وليٌّ؛ لأنَّ الشَّياطين تتنزَّل على بعض النَّاس، قال تعالى: ï´؟هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍï´¾.
استنبط الشيخ من الآية: أنَّ الأفَّاك -وهو كثير الكذب- لابدَّ أن يقعَ في إثمٍ وفواحش ومعاصي.
فكونهم يُكاشَفون فهذا من الشَّياطين، وأيضًا التَّصرُّفات الخارقة غير المكاشفات من جنس السِّحر، ومن جنس الكهَّان والسَّحرَة، مثل أن يحمل شيئًا عظيمًا بنفسه لا يحمله إلى عشرة رجال أو عشرين رجلًا، أو يصبر على تركِ الطَّعامِ والشَّرابِ شهرًا كاملًا، فلا يتحمَّل أحد إلا يوم أو يومين ثم يسقط، فتجد النَّاس يقولون بمثل هذا عن كافر من كفرة الهند مثلًا، ثم يتهوَّلون لذلك ويتعجَّبون!
فهذا ليس بعجيب، فإنَّ هؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق، فلا تغتر بهذه الخوارق، وقد بيَّن الله -عزَّ وَجلَّ- ذلك.
ثم قال الشيخ: (وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْمُكَاشَفَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ).
عرفنا أنَّ المكاشفات: هي أمور لا يعلمها الحاضرون، كأن يهتف الشَّيطان بأذنه، أو يبلغه بشيء، أو تنزل عليه الشَّياطين كالكهَّان فيُخبرونه بخبرٍ؛ فهذا ليس بشيءٍ كما قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{هل يُمكن يا شيخ أن مكاشفة لشخص من باب الفتنة في نفسه؟}.
لا شك؛ فقد يُفتَن هو، والشياطين تحاول أن تضلَّه، فأول الأمر تساعده بشيءٍ مباح، ثم يتعلق بهذه الشياطين فيبدأ يهتف بهم، فتكون فتنة له، فيقولون له مثلًا: سيارة فلان المسروقة في الوادي الفلاني! ويقول أنَّه جاءه كَشف، وقع في قلبي أن السيارة في الوادي، ثم تتوالى الشَّياطين على هذا بنحو هذه الأخبار حتى يتعلَّق قلبه بالشَّياطين، فيكون مفتونًا بهم، ثم يعبدهم من دون الله أو يطيعهم، قال الله في سورة الأنعام: ï´؟وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ غ– وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا غڑ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَاï´¾ [الأنعام: 128]، سبحان الله!
حصلت لهم مُتَعٌ في الدنيا من بعضهم إلى بعضٍ، فهذا تمتَّعَ بمعلوماتٍ أو بقدراتٍ خارقة، والجن تمتَّع بأنَّ هذا يعبده من دون الله، أو يُهيد المصحف، أو يسجد له، أو غير ذلك، فقال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَاï´¾.
قال الشيخ: (إذَا لَمْ يَكُونُوا مُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ)، لأنَّ الله قال: ï´؟تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍï´¾، فلابدَّ أن يحصل منهم كذب. ولهذا لو تتبَّعتَهم لوجدتَّ الكذب في مقالاتهم كثيرًا، ولكن هذا يحتاج إلى تتبُّع.
وقوله: (فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْذِبُوا وَتُكَذِّبَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ)، يعني لا يستقيم لهم هذا الشيء؛ بل يحصل لهم مرَّة أو مرتين أو ثلاث، مثل الكهَّان يأتيه الشَّيطان بالكلمة الواحدة سمعها واسترقها ثم يكذب معها تسعة وتسعين كذبة.
قال: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا هُوَ إثْمٌ وَفُجُورٌ، مِثْلُ نَوْعٍ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْغُلُوِّ، أَوْ الْبِدَعِ فِي الْعِبَادَةِ); وهذا من علامات التَّفريق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
فإذا وجدتَّ عندهم الإثم والفواحش والشِّرك عرفتَ أنَّهم أولياء الشَّيطان، وليسوا أولياء الرحمن، فلا تغتر بهم.
وإلحاق الكلام السَّابق عن الملاحدة الذين يُعظِّمونَ النَّهج الغربي الإلحادي؛ اُنظر إلى ما يُقرِّونه في أنظمتِهم مؤخَّرًا؛ فقد أقرُّوا في أنظمتهم في دولهم رسميًّا عبر وزارة العدل أو المسؤول عن الأنكحة، أنَّ الرَّجل رسميًّا يأتي ويسجل لينكِحَ رجلًا آخرَ، ويكون هذا الرجل بمنزلة الزَّوج والرجل الآخر بمنزلة الزَّوجة، وهذا رسمي عندهم على المحافل!!
ناهيكَ بنظام أنتجَ مثل هذه القاذورات وجعلها أمرًا مُقرًّا أمام الملأ؛ ناهيك بحقارتهم وحقارة أفكارهم، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذه المنزلة هم زُبالة البشر وأراذلهم! ولذي جعلهم هكذا أنَّ عندهم الجدّ والبطش بمن خالفهم، وإلا لولا هذا وهذا لهلكوا.
والشَّيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار النجدية -رحمة الله عليه- قال: "عندهم جدٌّ ولو أنَّ المسلك أعوج، فيكون لهم مفعول". والحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام.
فهؤلاء يشبهون هؤلاء مِن حيث أنَّ عندهم الإثم مُعلنًا -الرجل ينكح رجلًا ويكتفي به- ويحاول بعض المجرمين ترويج هذه الأشياء في بلدان المسلمين، ويسمُّونَه بالتَّسميات المُخفِّفَة لهذه الجريمة البشعة التي عذَّبَ الله بها قومَ لوطٍ وأهلكهم عن آخرهم بعدَ الشِّرك الذي وقع منهم، ويسمُّونهم "المثليِّين" وهذا ليس اسمهم، بل إن اسمهم الحقيقي الذي يجب أن نسمِّيهم به أنَّ هؤلاء كما قال الله -عزَّ وَجلَّ- أنَّهم أهل الفواحش، لأنَّ هذه فاحشة كبيرة، وهي أعظم من الزنا وهو موجبٌ للقتل، وقتله بطريقة شريعة عن طريق ولاة الأمور، ولكن الشاهد من هذا هو بيان باشعة أحوال هؤلاء.
فالحمد لله الذي فضحَ هذه الأفكار، ولكن أين مَن يتبصَّر، قال تعالى: ï´؟وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَï´¾ [يوسف: 105].
وقد بيَّن الشَّيخُ المراد بالذِّكر في قوله تعالى: ï´؟وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌï´¾، وأنَّه هو القرآن، واستشهد بآيتين أخريين، وهما:
- الآية الأولى: وصف الله -عزَّ وَجلَّ- للقرآن بقول: ï´؟وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُï´¾.
- الآية الثانية: ï´؟وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًاï´¾.
إذن معنى قوله ï´؟ذِكْرِيï´¾ هو: القرآن، وليس مجرد الذكر الذي هو التسبيح، فهذا له فضل كبير وأجر كبير، وثوابه عظيم.
والفائدة الثانية التي أوردها ابن تيمية هنا: أنَّ الإعراض عن القرآن يُقيِّد لصاحبه شيطانًا، قال تعالى: ï´؟وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌï´¾.
إذن؛ الذي مع القرآن هو من أولياء الله، والذي يعرض عن القرآن هو من أولياء الشيطان، قال: ï´؟وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَï´¾.
ثم قال في ختام الكلام: (وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا)، كأن يقول: "سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله"، وبعض المتصوفة يذكرون بالذكر المبتدع "الله، الله، الله" أو يقول: "حي، حي، حي"، أو يقول: "هو، هو، هو" الضمير المفرد.
قال الشيخ: (وَلِهَذَا لَوْ ذَكَرَ الرَّجُلُ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دَائِمًا لَيْلًا وَنَهَارًا مَعَ غَايَةِ الزُّهْدِ، وَعَبَدَهُ مُجْتَهِدًا فِي عِبَادَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ - وَهُوَ الْقُرْآنُ - كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)، ولا عبرة بهذه الأذكار التي ذكرها ما دام معرضًا عن القرآن.
ثم قال: (وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْهَوَاءِ. وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)، يعني سيأتي ذكر هذا.
والمقصود: أنَّ العلامة الفارقة التي ذكرها من علامات أولياء الله هو اتباع القرآن والعمل به، ومن علامات أولياء الشيطان الإعراض عن القرآن، ولهذا فإنَّ الكفَرة في الأرض هم أولياء للشيطان، لأنَّهم معرضون عن القرآن، وإذا أسلموا صاروا من أولياء الله، لأنَّهم أقبلوا على الإسلام الذي جاء به القرآن.
والحمد لله الذي جعلنا مسلمين، والحمد لله الذي منَّ علينا باتِّباع النبي الكريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه المسائل مسائل مهمَّة، وسيأتي تفصيلها أيضًا وتَكرارها في مواضع من هذه الرِّسالَة القيِّمَة "الْفُرْقَانُ بينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ".
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يثبِّتنا وإيَّاكم على صراطِه المستقيم، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:41   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرْقَانُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ
الدَّرسُ الخامِسُ (5)
فضيلة الشيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكم الله وبارك الله فيكم.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في فصل "صفات المنافقين وأمور الجاهليَّة" من كتاب "الفُرْقَانُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ"}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
نحمدُ الله -سبحانه وتعالى- أن جعلنا من أهل الإسلام، ونسأل الله أن يُثبِّتنا عليه، وقد أمرنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الفاحة أن ندعوه بهذا الدُّعاء: ï´؟اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَï´¾ [الفاتحة: 6-7]، فبيَّن أنَّ الصِّراط الموصل إلى الله الذي يجب طلبه ولزومه والاستقامةَ عليه حتَّى الممات هو المستقيم الذي عليه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو أوَّلُ المنعَم عليهم، وعليه الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وبيَّن -سبحانه وتعالى- يُخالفُه قسمان:
• الأولى: المغضوب عليهم.
• والثانية: الضالُّون.
وفي هذا إشارة واضحة ودليل صريحٌ على أنَّ العباد ينقسمون إلى:
• أولياء لله -جلَّ وعَلا: وهم المؤمنون المتَّقون المتَّبعون للرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المستقيمون على هذا الصِّراط.
• أناسٌ خالفوا هذا الصراط: سواءٌ كانوا من اليهود والنَّصارى، أو مَن شابَهَهم، فهم إمَّا مغضوب عليهم، عندهم علم ولكنَّهم تركوا الحقَّ عن عنادٍ واستكبارٍ، أو أنَّهم ضالُّون قد عبدوا الله على جهلٍ.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في كتاب الفُرقَان فيما تقدَّم قراءته الأمثلة والأدلَّة والبراهين على التَّفريق بينَ أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان، وذكر جملة صالحةً من العلامات المبيِّنَة لهؤلاء وهؤلاء، حتى لا يلتبس أمرهم على المسلم، وبيَّنَ النُّصوص الشَّرعيَّة في هذا، وفصَّلَ أحسنَ تفصيلٍ.
ثم بدأ في هذا الفصل يتكلَّم عن مسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- لا يلزم أن يكونوا على حالٍ واحدةٍ، بل قد يفعلون المعاصي، وقد يقع فيهم التَّقصير والنَّقص، وقد يقع فيهم النِّفاق الأصغر، فهذا حال المؤمن العاصي الذي يقع في المعاصي والذُّنوب التي لا تصل إلى حدِّ الشِّركِ الأكبر، ولا تصل إلى حدِّ الكُفر الأكبر، فيكون فيه أمران:
• الأول: ولايته لله -عزَّ وجلَّ- بفعل الواجبات وترك المحرمات.
• والثاني: ولايته للشيطان بفعله لتلك المعاصي، أو وقوعه في ذلك النِّفاق الأصغر، أو البدعةِ التي لا تكفره، ونحو ذلك.
فهذا قد يقع من المؤمن، ولا يخرج من الملَّة، فهؤلاء ليسوا بأولياءٍ خُلَّص لله، وليسوا بأولياء للشيطان خُلَّص؛ بل فيهم ولايةٌ لله -عزَّ وجلَّ- بإيمانهم وإسلامهم، وفيهم ولايةٌ للشيطانِ بسبب مَعاصيهم، أو نفاقهم الذي لم يُخرجهم من الملَّة، فيكونُ فيهم شُعبةٌ من الإيمان، وشُعبَةٌ من النِّفاق، المؤلف يتكلَّم هنا عن هذا الفريق.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فصلٌ في صفات المنافقينَ وأمور الجاهليَّة)}.
هذا العنوان ليسَ من وضع المصنِّف، وكذلك ليس مضمون هذا الفصل ما كُتِبَ في هذا العنوان، فلعله من اجتهاد الطَّابع.
{قال: (فَصْلٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ نِفَاقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ؛ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ : «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ»، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ مَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا)}.
هذا اجتماع الإيمان والنِّفاق، والمراد بالنِّفاق هنا النِّفاق الأصغر، فمن الناس مَن يقع في هذا، وعلى المؤمن أن يسعى إلى التَّخلُّص من المعاصي والنِّفاق والبدع.
وقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً»، فيه فائدة، وهي: أنَّ الولاية لله -عزَّ وجلَّ- تتفاضل، ويتفاضل أهلها بحسبِ ما قام بهم من شُعَب الإيمان، فإذا اجتهد في تحقيق شُعب الإيمان زاد إيمانه، وزادت ولايته لله، وإذا نقصَ نقصَت، فالإيمان يزيد وينقص.
{قال: (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ -وَهُوَ مِنْ خِيَارِ الْمُؤْمِنِينَ: «إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ».
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ» )}.
أبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من السَّابقين الأوَّلين من المهاجرين، فهو من خيرة أهل الإسلام، وقدَّم الله تعالى السَّابقين الأولين من المهاجرين في القرآن، وبيَّنَ فضلَهم، فأبو ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له فضل عظيم، وهو يوازي في العلم ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فهو من خيرة الصَّحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
فلمَّا قال لغلامه المملوك: يا ابن السَّوداء، لَمَّا غضب عليه، فسبَّه وعيَّره بأمِّه، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذر: «إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ». ثم قال له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»، وهذا الحديث في الصحيحين.
والشَّاهد هو: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّك امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّةٌ»، يعني: خصلَة من خصال الجاهليَّة، وهذا يدل على أنَّ المؤمن قد يقع فيه هذا الشيء، وهو من أولياء الله، ولكن قد ينقص إيمانه.
وبعد هذا أكرمَ أبو ذرٍّ خادمَه وأحسنَ إليه واعتذر منه، وصار إذا دخل في مجلس يرونه يُلبس خادمه مثلما يلبس من الثياب الطيبة، حتى كان الناس يتعجَّبون من لُبسِه لهذا وهو خادم، فكان أبو ذر يُلبسه لباس الأحرار ويُكرمه بعدما وجَّهَه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذلك؛ لأنَّه من خيار الصَّحابة.
وعلى كلِّ حال؛ إذا كان هذا الصَّحابي الجليل قيل فيه هذا، فما بالك بمَن دونه من الناس؟!
فنحن مُطالبون جميعًا بأنَّنا نتخلَّص مِن هذه الأخطاء، ونستعين بالله -عزَّ وجلَّ- ونستغفره ونتوب إليه.
وكذلك الحديث الآخر: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»، وفي رواية: «لا يتركونهن».
قال: «الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ»، يعني: الفخر بالأمجاد التي كانت لقبيلةٍ أو ما شابه ذلك.
قوله: «وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ»، يعني: يطعنُ في أنسابِ النَّاس.
قال: «وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»، برفع الصَّوتِ وشَقِّ الجيوب، ونفشِ الشُّعور، والدُّعاء بدعوة الجاهليَّة.
قال: «وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ»، يعني: نِسبَة السُّقيا -أي المطر- إلى النُّجوم.
فهذه كلها من أمور الجاهليَّة، ومن قامت به فقد وقعَ في أمرٍ من أمورِ الجاهليَّة، وكان فيه جاهليَّة.
هل هي جاهليَّةٌ مُطلقَةٌ؟
نقول: لا، هي من جنس الكبائر، فهي كبيرة من كبائر الذنوب، فيستغفر الله ويتوب إلى الله منها.
أمَّا حديث أبي هريرة في آية المنافق، فهذا مثل: الحديث الأوَّل في صفات المنافق -نسأل الله العافية والسَّلامة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِï´¾، فَقَدْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مخلِّطون وَكُفْرُهُمْ أَقْوَى وَغَيْرُهُمْ يَكُونُ مُخَلِّطًا وَإِيمَانُهُ أَقْوَى)}.
يقول: (أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ)، يعني: أنَّهم لا يُزكُّونَ أنفسَم، وهذا من كمال إيمانهم، وشدَّة خوفهم من الله -عزَّ وجلَّ- وهم أطهر النَّاس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلُّهم تكلُّفًا، وأقواهم إيمانًا، فهم قدوة المسلمين، فإذا كان هذا فعل الصَّحابة وحالهم؛ فيجب على بقيَّة المسلمين أن يخافوا من النِّفاق، ولا يأمنوه على أنفسهم، ويجب على المؤمن أن يكون بينَ الخوف والرجاء، فإذا خاف الإنسان على نفسه النِّفاق اتَّقاه، وابتعدَ عن أسبابه، واتَّقى الوقوع فيه، وهذا يؤيِّد المسألة التي سبقت، وهي أنَّ المؤمن الوليَّ لله -عزَّ وجلَّ- قد يكونُ فيهِ نفاق، فإذا وقع فيه شيءٌ من هذا فلْيتُب إلى الله ولْيستغفر، ولكن الصَّحابة ليسوا منافقين وليس فيهم نفاق، وإنَّما المراد بالنِّفاق هنا هو يسير الرِّياء، أو النِّفاق الأصغر الذي يقع فيه المؤمن، مثلما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصحابة: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ» . فهذا هو المراد.
ومع هذا فهم أطهر الناس، وأنقاهم قلبًا، وأبعدهم عن هذا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم- ولكن من شدَّةِ خوفهم من الله، ومن شدَّة خشيتهِم لله -عزَّ وجلَّ- وتعظيمهم لأمره يكون عندهم شدَّة خشية وخوف من هذه الأمور، وأعظمهم وقدوتهم رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي قال: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» ، فاللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه.
وقال الله -عزَّ وجلَّ- في المنافقين: ï´؟وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِï´¾، فجعل الله مَن قالوا هذه المقولة ضعفاء الإيمان، وجعلهم أقربَ للكفرِ من الإيمان، فدلَّ على أنَّ إيمانهم ضعيف، وهذا الضَّعف سببه النِّفاق والهوى.
قال الشيخ: (فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مخلِّطون وَكُفْرُهُمْ أَقْوَى وَغَيْرُهُمْ يَكُونُ مُخَلِّطًا وَإِيمَانُهُ أَقْوَى)، يعني: أنَّ هذا يحصل، فمن الناس مَن يكون إلى الكفرِ أقرب، ومنهم مَن يكون إلى الإيمان أقرب، والناس في هذا يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا.
والمنافقون النَّفاق الأصغر أيضًا يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا، فمنهم مَن يكون نفاقه قليلًا جدًّا فيكون أقرب للإيمان، ومنهم مَن يكون نفاقه الأصغر كثيرًا جدًّا فيكون أقرب إلى الكفر، فالناس يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في هذه الأحوال تفاوتًا عظيمًا جدًّا، ولهذا فإنَّ المؤمن يسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يقوي إيمانه ويثبته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ هُمْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَبِحَسَبِ إيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلَايَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَكْمَلَ وِلَايَةً لِلَّهِ.
فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَï´¾. وَقَالَ تَعَالَى : ï´؟إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِï´¾. وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْï´¾. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ ï´؟فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًاï´¾.
فَبَيَّنَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ قِسْطٌ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ قِسْطٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًاï´¾. وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْï´¾)}.
هذا خاتمة الفصل، وفيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- يتفاوتون بحسبِ إيمانهم وتقواهم لله -عزَّ وجلَّ.
يقول العلماء: "مَن كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا"، فكل مؤمن ولي، ولكن ليسوا في منزلةٍ واحدةٍ، كما نقول في الإيمان: إنَّ أهله ليسوا بمنزلةٍ واحدةٍ، فهم مُتفاضلونَ تفاضلًا عظيمًا، وكلَّما اجتهدَ المؤمن في الطَّاعة والتَّقوى والإيمان زادَ في الخير، وزادت منزلته عند الله، قال تعالى: ï´؟إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌï´¾ [الحجرات: 13].
وهذا فيه ردٌّ على طائفتين: طائفة الخوارج، وطائفة المرجئة.
وفيه بيان أنَّ الإيمان ليسَ شيئًا واحدًا، وإنَّما الإيمان قولٌ واعتقادٌ وعملٌ؛ وأنَّه يزيد وينقُص، فالمُرجئة يقولون: إنَّه شيءٌ واحدٌ لا يزيد ولا ينقص، والخوارج يقولون: إنَّ الإيمان شيءٌ واحدٌ إذا زالَ بعضُه زالَ كله، فإذا ارتكبَ الكبائر أو تركَ الواجبات ولو بعضًا منها كفرَ، وأخرجوه من الملة.
وأهل السنة والجماعة يقولون: إنَّ الإيمان قولٌ باللسانِ، واعتقادٌ بالجنَانِ، وعملٌ بالجوارحِ والأركانِ، يزيد بالطَاعةِ وينقُص بالعصيانِ، فالإيمان يزداد ويقوى حتى يبلغ مرتبة الإحسان، ويضعف ضعفًا شديدًا حتى لا يبقى منه شيءٌ -نسأل الله العافية والسَّلامة.
يقول الشيخ: (وَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)، كما قلنا في الإيمان إنَّهم يتفاضلون فكذلك في الكفر والنفاق يتفاوتون، وذكر الأدلة الصَّريحة الدَّالَّة على هذا، مثل قوله تعالى: ï´؟فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَï´¾. وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِï´¾. وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: ï´؟فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًاï´¾.
فبيَّن -سبحانه وتعالى- أنَّ الشخص الواحد يكون فيه قسطٌ من ولاية الله بحسبِ إيمانِهِ، ويكون فيه قسطٌ من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه.
وخلاصة هذا الفصل: أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- هم المؤمنون، وأنَّهم قد يكون عندهم نقصٌ بسبب الذنوب والمعاصي، أو النفاق الأصغر، أو البدع الصغرى، ولا يخرجون من الإسلام، ولا يخرجون من الولاية.
وفي مُقابل هذا نجد أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى طَبَقَتَيْنِ: سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ، وَأَصْحَابُ يَمِينٍ مُقْتَصِدُونَ. ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَآخِرِهَا، وَفِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ؛ وَالْمُطَفِّفِينَ وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذَكَرَ فِي الْوَاقِعَةِ الْقِيَامَةَ الْكُبْرَى فِي أَوَّلِهَا، وَذَكَرَ الْقِيَامَةَ الصُّغْرَى فِي آخِرِهَا فَقَالَ فِي أَوَّلِهَاك ï´؟إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَï´¾ فَهَذَا تَقْسِيمُ النَّاسِ إذَا قَامَتْ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهَا الْأَوَّلِينَ والآخرين، كَمَا وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ: ï´؟فَـلَوْلَاï´¾ أَيْ: فَهَلَّا. ï´؟إذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: ï´؟إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًاï´¾ الْآيَاتِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ فَقَالَ: ï´؟كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَï´¾)}.
هذا الفصل تابع للفصل السابق في بيان تفاضل أولياء الله -عزَّ وجلَّ- وهم المؤمنون، فذكر أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على طبقتين:
• أولًا: السابقون المقربون.
• ثانيًا: أصحاب اليمين المقتصدون.
وذكر أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- بيَّن هاتين الطبقتين في مواضع من القرآن، مثل: سورة الواقعة، وأورد الشيخ الموضوعين من سورة الواقعة، في أول السورة وآخرها، وأورد أيضًا الآيات من سورة الإنسان، وكذلك في سورة المطففين، وأمَّا سورة فاطر فقد أخَّرها للفصل الذي بعدَ هذا؛ لأنَّ سورة فاطر فيها ثلاث طبقات: ï´؟ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُï´¾ [فاطر: 32]، فأضاف طبقة "الظَّالم لنفسه" على الطبقتين السَّابقتين.
والمقصود: أنَّ أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينقسم الناس فيها إلى ثلاثة أقسام:
• السابقون بالخيرات: وهم أعلى الأولياء.
• المقتصدون: الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات.
• الظَّالمون لأنفسهم: وسيذكرهم الشيخ بالتفصيل، وما يُستفاد من هذه الطَّبقة، وهم الذين تركوا بعض الواجبات، أو فعلوا بعضَ المحرَّمات.
نأخذ الموضع الأوَّل في سورة الواقعة، لَمَّا قال الله -عزَّ وجلَّ: ï´؟وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةًï´¾، فذكر الله:
• أصحاب الميمنة: وهؤلاء هم المقتصدون أصحاب اليمين.
• وأصحاب المشئمة: وهؤلاء الكفار أهل النار.
• والسابقون: وهم المقرَّبون، وهم أعلى درجة.
وفي آخر السورة قال: ï´؟فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِï´¾ فهاتين طبقتين:
• طبقة المقربين.
• وطبقة أصحاب اليمين.
ثم ذكر أهل النار: وهم المكذِّبونَ الضَّالُّونَ. وهذا هو الذي في سورة الواقعة.
أمَّا في سورة الإنسان، فقال تعالى: ï´؟إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًاï´¾، يعني: أنَّ الأبرار في طبقة المقتصدين، وليسوا في طبقة السَّابقين؛ لأنَّ الله قال في الآية: ï´؟يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَاï´¾ يعني: ممزوجة بالكافور وليست صرفًا خالصَة.
ثم قال: ï´؟عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِï´¾، يعني: عباد الله يشربونها صرفًا خالصة، والمقصود بهم هنا السَّابقين المقربين.
ثم ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في سورة المطففين الطبقتين: ï´؟كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَï´¾، هم المقتصدون.
ثم قال: ï´؟يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍï´¾، أي: يُمزَج لهم من عينٍ تُسمَّى: "تسنيم".
ثم قال: ï´؟عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَï´¾، إذن المقربون يشربونها خالصةً صرفًا، ليس فيها خلطٌ، إذن المقربون أعلى من الأبرار.
فهذا بيان طبقة السابقين المقربين، وطبقة أصحاب اليمين المقتصدين.
والآن سيذكر شرح ابن عباس للآيات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ قَالُوا: يُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَهُوَ كَمَا قَالُوا.
فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ï´؟يَشْرَبُ بِهَاï´¾ وَلَمْ يَقُلْ: يَشْرَبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ ضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: يَشْرَبُ يَعْنِي: يُرْوَى بِهَا، فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ مِنْهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرِّيِّ، فَإِذَا قِيلَ: يَشْرَبُونَ بِهَا كَانَ الْمَعْنَى يَرْوُونَ بِهَا، فَالْمُقَرَّبُونَ يَرْوُونَ بِهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى مَا دُونَهَا؛ فَلِهَذَا يَشْرَبُونَ مِنْهَا صِرْفًا، بِخِلَافِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؛ فَإِنَّهَا مُزِجَتْ لَهُمْ مَزْجًا)}.
إذن أصحاب اليمين الذين مُزِجَت لهم مزجًا أقل في النَّعيم من المقربين؛ لأنَّ المقربين يشربونها خالصة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ: ï´؟كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًاï´¾. فَعِبَادُ اللَّهِ هُمْ الْمُقَرَّبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي تِلْكَ السُّورَةِ)}.
فالمراد بقوله تعالى: ï´؟عِبَادُ اللَّهِï´¾ أي: المقربون.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ؛ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي السُّنَنِ «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا الرَّحْمَنُ؛ خَلَقْت الرَّحِمَ، وَشَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ» وَقَالَ: «وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ» وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ)}.
يقصد الشَّيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بهذه النُّصوص أنَّ الجزاء من جنس العمل، فلمَّا كان حال المقربين في الدُّنيا حالُ اجتهادٍ عظيمٍ في فعل الفرائض وترك المحرمات، والاسكثار من النوافل؛ وعدم التَّخليط، فلم يخلطوا حياتهم بالمعاصي، ولم يخلطوا حياتهم بالإضاعة والتَّفريط؛ فصار جزاؤهم في الآخرة أنَّهم يشربون ويروون بالعينِ دونِ مزجٍ لهم، فما مُزجَت لهم، وصارت خالصَةً صرفًا لهم؛ لأنَّهم اجتهدوا في الدنيا اجتهادًا عظيمًا بطاعة الله ورسوله، والتَّحقُّق بالإيمان والتَّقوَى، فصار جزاؤهم من جنسِ العمل، أنَّهم يروون بها خالصة، بخلاف مَن دونهم من المقتصدين فإنَها تُمزَج لهم، فيشربون من هذه الكؤوس التي فيها الشَّراب الطَّيب، ولكنه ليس مثل شراب المقربين، وكله خير، ولكن هؤلاء أعلى، ولَمَّا كان هؤلاء في الدنيا أعلى؛ صار جزاؤهم في الآخرة أعلى.
فأراد الشيخ أن يُبيِّن أنَّ هذه القاعدة واضحة في الكتاب والسنَّة، وهي أنَّ الجزاء مِن جنس العمل، فالجزاء في الآخرة من جنس عملك في الدنيا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، كُل هذا يدل على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
فإذا سترتَ على مسلمٍ ولم تفْضحه ولم تسعَ في نشرِ ضلالاته أو أخطائه؛ بل نصحتَه وذكَّرتَه بالخيرِ لعلَّه يتوب؛ فإذا تاب في سِترٍ، فلا تفضحه ولا تتبع عوراته، ولا تتكلَّم في شأنه، فإذا سترته رغم وقوعه في الزَّلَّة؛ فإنَّ الله يسترك في الدنيا وفي الآخرة، فجزاؤك صارَ من جنس عملك. وهذا فيمن يستحق الستر.
أمَّا إذا أعلنَ البدعة أو شاقَّ بالمعاصي كأن يكون مجاهرًا بها؛ فهذا يجب أن يُؤخَذ على يده عن طريق وُلاة الأمر، حتى لا يقع الفساد في الأرضَ، كالمحاربين وقُطَّاع الطُّرقِ ونحوهم، فهؤلاء الذين يجنون هذه الجنايات لا يُستَر عليهم، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا» . فالمراد هنا بيان أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وكذلك حديث: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، صارَ الجزاء من جنس العمل، ومثله ما يتعلَّق بصلة الرَّحم.
لَمَّا قرأنا الآيات الكريمة وفيها أنَّ المقربين يشربونها صرفًا خالصةً كما في قوله: ï´؟عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِï´¾، وكذلك في سورة المطففين: ï´؟عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَï´¾؛ عرفنا أنَّهم كانوا في دنياهم على اجتهادٍ عظيمٍ، فصار جزاؤهم من جنس عملهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَوْعَيْنِ: مُقَرَّبُونَ وَأَصْحَابُ يَمِينٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَلَ الْقِسْمَيْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْلِيَاءِ فَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا».
فَالْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ هُمْ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَيْهِ بِالْفَرَائِضِ، يَفْعَلُونَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُكَلِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَنْدُوبَاتِ، وَلَا الْكَفِّ عَنْ فُضُولِ الْمُبَاحَاتِ.
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، فَفَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ والمستحبات، وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، فَلَمَّا تَقَرَّبُوا إلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ؛ أَحَبَّهُمْ الرَّبُّ حُبًّا تَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى : «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، يَعْنِي الْحُبَّ الْمُطْلَقَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ï´؟اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَï´¾، أَيّ: أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ الْإِنْعَامَ الْمُطْلَقَ التَّامَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًاï´¾، فَهَؤُلَاءِ الْمُقَرَّبُونَ صَارَتْ الْمُبَاحَاتُ فِي حَقِّهِمْ طَاعَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَاتٍ لِلَّهِ، فَشَرِبُوا صِرْفًا كَمَا عَمِلُوا لَهُ صِرْفًا، وَالْمُقْتَصِدُونَ كَانَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا فَعَلُوهُ لِنُفُوسِهِمْ، فَلَا يُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَشْرَبُوا صِرْفًا، بَلْ مُزِجَ لَهُمْ مِنْ شَرَابِ الْمُقَرَّبِينَ بِحَسَبِ مَا مَزَجُوهُ فِي الدُّنْيَا)}.
هذا تأكيدٌ على المعنى السَّابق، وذكر حديث «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا»، وذكر الله -عزَّ وجلَّ- في هذا الحديث أنَّ العبد إذا تقرَّبَ إليه بالفرائض فهذا أحب ما يكون إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- فقال: «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، إذن الأوَّل: فَعَلَ الفرائض وَتَرَكَ المحرَّمات، وهذا هو المقتصد.
أمَّا الثَّاني: ازداد في النَّوافل، وترك فضول المباحات؛ فهذا أعلى وأكمل، فاستحقَّ الحب المُطلَق -أي الكامل- وهذا معنى قوله تعالى: ï´؟صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْï´¾، فالمنعَم عليهم الإنعام الكامل هؤلاء أكمل الناس إيمانًا، وهؤلاء هم المقرَّبون.
وأمَّا الذين فعلوا الفرائض وتركوا المحرَّمات، وخلَّطوا بفضول المباحات؛ وربَّما أتوا ببعض المكروهات، فهؤلاء أقل في المنزلة، وإن كانوا محل محبَّةِ الله ومحل إنعامه.
حتى الظَّالم لنفسه فإنَّه محلٌّ لمحبَّةِ الله لِمَا معه من إسلام وإيمان، ولكنَّه في نفس المقام محلُّ غضب الله بما معه من معصيةٍ وطغيان لم يُخرجه من الدين.
وهذا التَّكرار من المصنف يُبيِّن فيه -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ الأدلَّة الشَّرعيَّة دلَّت على تفاضل أولياء الله -عزَّ وجلَّ- وهو تفاضل الموحِّدين ومراتبهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَنَظِيرُ هَذَا انْقِسَامُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- إلَى عَبْدٍ رَسُولٍ وَنَبِيٍّ مَلِكٍ، وَقَدْ خَيَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا؛ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ مِثْلُ داود وَسُلَيْمَانَ وَنَحْوِهِمَا -عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ الَّذِي ï´؟قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍï´¾ أَيْ أَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت لَا حِسَابَ عَلَيْك، فَالنَّبِيُّ الْمَلِكُ يَفْعَلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمَالِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ عَلَيْهِ)}.
يعني أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ما يُحاسبه على ذلك؛ لأنَّ تقسيم الأموال جعله الله إلى النَّبي الملك الذي أعطاه الله الملك، وهذا يُبيِّن لك أنَّه توسَّع في هذا الأمر بما أباح الله -عزَّ وجلَّ- فالله أباحَ له أن يُعطي مَن يشاء ويُمسك عمَّن يشاء من غير أن يُحاسبه الله -عزَّ وجلَّ.
وسيأتي أنَّ النَّبيَّ الرَّسول أعلى منزلةً من النَّبي الملك، فهذا يُبيِّن لك أيضًا أنَّ الأنبياء يتفاضلون -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
وقد خيَّرَ الله نبينا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يكونَ عبدًا رسولًا وبينَ أن يكونَ نبيًّا ملكًا مثل إخوانه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مثل سليمان وداود، وغيرهم؛ فاختار -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون عبدًا رسولًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا الْعَبْدُ الرَّسُولُ فَلَا يُعْطِي أَحَدًا إلَّا بِأَمْرِ رَبِّهِ وَلَا يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُ مَنْ يَشَاءُ، بل يُعطِي مَنْ أمرَه ربُّه بإعطائه، ويُولِّي مَن أمره ربُّه بتوليته، فأعماله كلها عبادات لله تعالى، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قَالَ: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت»، وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْوَالَ الشَّرْعِيَّةَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ï´؟قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِï´¾ وقَوْله تَعَالَى ï´؟مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِï´¾ وقَوْله تَعَالَى ï´؟وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِï´¾)}.
هذه الآيات تدلُّ على أنَّ الرَّسول غير منفردٍ بقَسْمِ هذه الأموال، وكذلك الحديث الذي قال فيه: «إنِّي وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت»، فصار النبي الرسول في قَسْم الأموال والعطاء إنَّما هو بأمر الله -عزَّ وجلَّ- وليس فيما يشاؤوه منفردًا عن ربِّه، ولهذا فإنَّ إضافة الأموال إلى الله والرسول تدلُّ على هذا المعنى.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تُصْرَفُ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَيُذْكَرُ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد، وَقَدْ قِيلَ فِي الْخُمُسِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى خَمْسَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَعْرُوفِ عَنْهُ، وَقِيلَ : عَلَى ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ)}.
قوله: ï´؟وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِï´¾.
لله وللرسول قِسمٌ، ولذي القربى قسمٌ ثانٍ، ولليتامى قسمٌ ثالث، وللمساكين قسمٌ رابعٌ، ولابن السَّبيل قسمٌ خامس؛ فوليُّ الأمر يقسم الغنيمة على خمسةٍ.
وقال أبو حنيفة: يُقَسم على ثلاثة.
فالعلماء اختلفوا في قسم الغنائم، والمقصود هنا هو بيان هذا أنَّ حال الرسول أعلى وأكمل من حال النَّبي.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ الْمَلِكِ، كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا -عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَفْضَلُ مِنْ يُوسُفَ وداود وَسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُقَرَّبِينَ سَابِقِينَ، فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَمَنْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ)}.
خلاصة الكلام: أنَّ الأنبياء والرُّسل يتفاضلون، وأنَّ منهم من هو عبدٌ رسول، ومنهم مَن هو نبي ملك -وهو رسول أيضًا- ولكن هذا أعطاه الله الملك، وهذا لم يُعطه الله -عزَّ وجلَّ- الملك.
وذكر من الأمثلة على الأوَّل: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- وهؤلاء أفضل من سليمان وداود ويوسف؛ لأنَّ هؤلاء أعطاهم الله الملك.
قال الشيخ: (كَمَا أَنَّ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)، وكل منهم في الجنة.
قال: (فَمَنْ أَدَّى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُحِبُّهُ)، أي ما يُحبُّه الشَّخص (فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ)، يعني من أصحاب اليمين، وليس من المقربين، لأنَّه فعل المباحات، وتوسَّع فيما تحبه نفسه مما ليس بمحرَّمٍ.
ثم قال: (وَمَنْ كَانَ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ)، فهذا حياته كلها لله، يستثمر كل حياته ودقائقه، ولا يريد هوى نفسه، وحتى في المباح يتجاوز إلى ما يُحبه الله، أو ينوي بالمباح أن يستعين به على طاعة الله.
قال: (وَيَقْصِدُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَا أُبِيحَ لَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أُولَئِكَ)، يعني من المقربين.
فالمقصود من خلال الكلام السابق: هو تفاضل الأولياء، وتفاضل أهل الإيمان إلى سابقين مقربين، وإلى أصحاب يمين مقتصدين، وسيأتي في الفصل القادم -بإذن الله- الكلام عن القسم الثالث وهم الظالمون لأنفسهم من هذه الأمَّة.
نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وجميع إخواننا المسلمين لسلوكِ الصراط المستقيم، وأن يثبتنا على الحق، وألا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:41   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرْقَان بَينَ أَولياءِ الرَّحمنِ وَأَولياءِ الشَّيطانِ
الدَّرسُ السَّادِسُ (6)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حياكم الله، وحيا الله الإخوة جميعًا.
{سنبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله من فصل: أقسام توجد في أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: ï´؟ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌï´¾ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَاصَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُï´¾.
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُمْ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ بَعْدَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَسَّمَهُمْ إلَى:
ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ؛ بِخِلَافِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ وَالِانْفِطَارِ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهَا جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَافِرُهُمْ وَمُؤْمِنُهُمْ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَا. وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ.
وَالسَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ: هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبَّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرفِ الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد؛ فلا يزال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يُبيِّن أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- مراتب، وذكرَ جملةً صالحةً فيما تقدَّم ممَّا يشهد لهذا المعنى من كتاب الله ومن سنَّة رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهنا خصَّصَ الحديث عن آيةِ سورةِ فاطر، والتي بيَّنَ الله -عزَّ وجلَّ- فيها أقسام هذه الأمَّة المحمَّديَّة، فقال -سبحانه: ï´؟ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَاï´¾، فهذا الاصطفاء للأمَّة المحمَّديَّة، فهي أمَّةٌ مَرحومةٌ.
قال: ï´؟فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِï´¾، أمَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أورثوا الكتاب بعد الأمم السَّابقة، وليس معنى هذا أنَّ المراد بهم هُم حفَّاظ القرآن فقط، ولا شكَّ أنَّ حفظ القُرآن نعمةٌ عظيمةٌ وسببٌ لرحمةِ الله وهدايته، وتوفيقه للعبد، وفوزه بالجنَّة في الآخرة إذا صدق ونصح وأخلص، ولكن كل مَن آمن بالقُرآن فهو ممَّن أُورث الكتاب، فكل من آمن بالقرآن فهو من أهل القرآن حتى ولو لم يحفظه حفظًا كاملًا.
ولهذا قال الشيخ هنا: (وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِحُفَّاظِ الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ).
ثم قال: (وَقَسَّمَهُمْ)، أي: قسَّم هذه الأمَّة.
قوله: (إلَى: ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ بِالْخَيْرَات)؛ إذن صارت أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها هذه الأقسام الثَّلاثة، وكما قال الشيخ هنا: (وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، بخلاف الأمم السَّابقة.
وانظر إلى قوله تعالى في سورة المائدة: ï´؟وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم غڑ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ غ– وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَï´¾ [المائدة: 66]، فذكر القسمين -الأمَّة المقتصدة، وأنَّ كثيرًا منهم أساؤوا- فاشتهر عنهم القسمان، بخلاف أمَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومثل قوله تعالى: ï´؟وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَï´¾ [الأعراف: 159]، ومثل قوله تعالى عن أتباع عيسى: ï´؟فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ غ– وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَï´¾ [الحديد: 27]، فهذه الآيات تدل على أنَّ الأغلب والأعمَّ فيهم هذان القسمان: المقتصد والظالم لنفسه.
يقول ابن كثير -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تعليقًا على قوله تعالى: ï´؟مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ غ– وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَï´¾، قال: "فجعل أعلى مقاماتهم -يعني: أهل الكتاب- الاقتصاد، وهو أوسط مَقامات هذه الأمَّة، وفوق ذلك في هذه الأمَّة رتبة السَّابقين"، كما في هذه الآية ï´؟فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِï´¾، وبهذا صارت هذه الأقسام الثلاث من خصائص أمَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا مِن فضل الله -عزَّ وجلَّ- ورحمته بهذه الأمَّة، والحمد لله ربِّ العالمين.
وقد جاءت أحاديثٌ وآثارٌ عن الصَّحابةِ تدلُّ على أنَّ هذه الأقسام في هذه الأمَّة خاصَّة وليست في الأمم السَّابقة، فيكون في الأمم السَّابقة: المقتصد والظَّالم لنفسه، وأمَّا السَّابقين بالخيرات فيكونون هم الأنبياء والرُّسل.
والشيخ محمد بن صالح العثيمين يقول تفسيره: "فكأنَّ بني إسرائيل السَّابق بالخيرات فيهم قليل، بحيث لا يُقام له وزنٌ مِن جِهة العدد، ولا يُذكر في التَّقسيم، وإلا فلا شكَّ أنَّ فيهم سابقٌ بالخيرات، ومنهم مَن أدرك الإسلام وأسلم، مثل: عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وغيره من اليهود والنَّصارى الذين أدركوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسلموا".
عرفنا مزيَّة خاصَّة لهذه الأمَّة، وهي أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جعلهم ثلاثة أصناف، وكلهم من أهل الرحمة، ولهذا قال تعالى: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾
يقول أهل العلم: "حُقَّ لِهَذِهِ الْوَاوِ أَنَّ تُكْتَبَ بِمَاءِ الْعَيْنَيْنِ"؛ لأنَّ فيها رحمة من الله أن وعد كل هذه الأقسام بدخول الجنة.
وسيأتي شرح يتعلق بالظَّالم لنفسه، وأنَّه من أهل الوعيد، فهو تحتَ مشيئة الله -عزَّ وجلَّ.
أمَّا الآيات التي في سورة الواقعة، وفي سورة المطففين، وفي سورة الإنسان، وسورة الانفطار، وكذلك في سورة الرحمن؛ ذكر الله -عزَّ وجلَّ- الأمم كلها في الجزاء الأخروي، فيدخل في ذلك المؤمن والكافر.
ففي سورة الواقعة: ذكر السَّابقين وأنَّهم ثُلَّةٌ وأنهم قليل، وذكر أصحاب اليمين وأنَّهم ثُلَّة وأنهم كثير، ثم ذكر أهل النار.
وأما في سورة فاطر: فذكر أنَّ الأقسام الثلاثة يدخلون الجنة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ثم جاء بعد ذكر هذه الآية القسم الرابع وهم النَّار، فقال: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌï´¾ ثم قال: ï´؟وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍï´¾ [فاطر: 36]، فصارت الأقسام في سورة فاطر أربعة، الأمة المرحومة ثلاثة أقسام -الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات- والقسم الرابع هم أهل النار من الكفار.
فمن هو الظالم لنفسه؟
قال الشيخ: (فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: أَصْحَابُ الذُّنُوبِ الْمُصِرُّونَ عَلَيْهَا)، يعني: لقوا الله -عزَّ وجلَّ- وهم مُصرون على الذنوب، إمَّا ترك بعض الواجبات والتَّفريط فيها، وإمَّا أنَّهم مُصرِّون على بعض الذنوب المحرمات كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، أو النَّميمة، أو شُرب الخمر -والعياذ بالله- ونحو ذلك، فهؤلاء إذا لقوا الله -عزَّ وجلَّ- بهذه الذنوب فهم على خطرٍ عظيمٍ، ولكن لابدَّ أن يكون مآلهم إلى الجنَّة إذا ماتوا على التَّوحيد، فهم تحت مشيئة الله، إن شاء الله عذَّبهم، وإن شاء عفا عنهم، وإن عذَّبهم فإنَّهم لا يُخلَّدون في النار.
قال الشيخ: (وَالْمُقْتَصِدُ: الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَحَارِمِ)، يعني: هُو لم يستكثر من النَّوافل، ولم يَتَوَقَّ من المكروهات.
قال الشيخ: (وَالسَّابِقُ لِلْخَيْرَاتِ: هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ كَمَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ)}.
هذا كلام عظيم جدًّا!
أنَّ الإنسان قد يكون ضالًّا لنفسه ثم يمنُّ الله عليه بتوبةٍ نصوحًا، فيَرقَى إلى منزلة المقتصدين أو منزلة السَّابقين، فلا ييأس الإنسان من روحِ الله؛ بل يطمع في رحمته، قال تعالى: ï´؟وَفِي ذَظ°لِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَï´¾ [المطففين: 26]، فهذه الدَّار هي درا مُسابقةٍ إلى الخيرات.
كذلك السَّابق بالخيرات الذي أحسنَ واجتهدَ، لو قُدِّرَ أنَّه هفا هفوة أو زلَّ زلةٍ أو وقع في الذُّنوب؛ فلا ييأس من روح الله، فهو إذا تاب من ذنبه توبة نصوحًا رجعَ إلى حاله، وهو السَّابق بالخيرات أو المقتصد.
فهذا كلام عظيم يجب أن نهتمَّ به (وَمَنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ السَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ)
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: ï´؟وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَï´¾)}.
الشاهد من هذه الآيات: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- وصفهم بالمتَّقين، ووصفهم بالمحسنين، وأثنى عليهم، ثم ذكر أنَّهم قد يقع منهم فِعل الفَاحشة أو الظلم لأنفسهم؛ لكنَّهم يُسارعون إلى التَّوبة.
إذن ليس من شأن المؤمن أَلَّا يُذنب مُطلقًا؛ بل المؤمن قد يُذنب ولكنَّه يُسارع إلى التوبة كما في هذه الآيات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلُهُ: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ، وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَهْلِ الْكَبَائِر، وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ.
فَمَنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا، كَمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ، وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا)}.
قوله -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَوْلُهُ: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾)، الآية التي في سورة فاطر تدل على أنَّ الأصناف الثلاثة يدخلونها -الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات.
فالظَّالم لنفسه: هو الذي يرتكب الذنوب، ويلقى الله بهذا الحال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ)؛ لأنَّ الله تعالى وَعدهم بدخول جنَّاتِ عدنٍ، فدلَّ هذا على أنَّ الظَّالم لنفسه لو قَدَّرَ الله له أن يُعذِّبَه فإنَّه لا يُخلَّد؛ بل يكون مآله إلى الجنة، ويتحقق فيه وعد الله في قوله: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾.
ولا يزال الكلام أنَّ هؤلاء الأولياء منهم سابق بالخيرات ومنهم مُقتصد، وقد يقع الواحد من هؤلاء في الظُّلم لنفسه ثمَّ يتوب، ولهذا استطرد الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- فقال: (وَأَمَّا دُخُولُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، التواتر: يعني الحديث الذي يعتبر قطعيًّا، بلغ حَدَّ التَّواتر أي: رواه الجمع الغفير الذي يُعرَف عدم تواطئهم على الغلط.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا تَوَاتَرَتْ بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ، وَشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَهْلِ الْكَبَائِر، وَإِخْرَاجِ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ).
يعني: ثبت في السُّنَن أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبر أنَّه رآهم في النَّار، وأنَّه يشفع في أُناسٍ من أهل الكبائر، ويُخرَجون من النَّار بشفاعته وشفاعة غيره، وهذا دليل على أنَّ أهل الكبائر يدخل منهم جملةٌ كبيرةٌ النَّار.
ثُم انتقل الشَّيخُ إلى مناقشَة الطَّائفتين الضَّالتين في هذه المسألة: طائفة الخوارج وطائفة المرجئة؛ فقال: (فَمَنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا)، فهذه من ضلالات المعتزلة.
قالوا: إنَّ قوله: ï´؟فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾ فزعموا أنَّ الضمير في قوله: ï´؟يَدْخُلُونَهَاï´¾ يعود على آخر قسم فقط وهو السَّابق بالخيرات.
فزعموا أنَّ المقتصد لا يدخل الجنة، وأنَّ الظَّالم لنفسه لا يدخلها؛ حتى يستقيم على أصولهم الباطلة، وهي أنَّ الظالم لنفسه المرتكب للكبائر خالد مخلَّد في النَّار!
والآية تقول: ï´؟جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَاï´¾، وهذا مُناقضٌ لأصولهم؛ فأرادوا الاحتيال والتَّحريف لكلام الله -عزَّ وجلَّ.
قال: (وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ السَّابِقِينَ هُمْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَهَا، وَأَنَّ الْمُقْتَصِدَ أَوْ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ لَا يَدْخُلُهَا، كَمَا تَأَوَّلَهُ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ)؛ وجواب الكلام مَحذوف مُقدَّر، أي: فهذا تأويلٌ باطلٌ.
ثم ردَّ الشيخ فقال: (فَهُوَ مُقَابَلٌ بِتَأْوِيلِ الْمُرْجِئَةِ)، يعني: نرد على ضلالة المعتزلة ببيان ضلالة الْمُرْجِئَةِ، فإذا اتَّضحَت لك ضلالة المرجئة وضلالة المعتزلة والخوارج عرفتَ أنَّ الصراط المستقيم بينَ هؤلاء، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهؤلاء غلو في الوعيد، وهؤلاء غلو في الوعد.
ثم أورد قول الْمُرْجِئَةِ فقال: (الَّذِينَ لَا يَقْطَعُونَ بِدُخُولِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ النَّارَ)، يقولون: إنَّ جميع أهل الكبائر لا ندري هل يدخلون النار أولا.
قال: (وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ قَدْ يَدْخُلُ جَمِيعُهُمْ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ)، وهذا من ضلالات المرجئة، فيقولون إنَّ جميع أهل الكبائر قد يدخلون جميعًا بدون استثناء الجنَّة، ولا يُمكن أن يمسَّهم عذاب.
أمَّا أهل السُّنَّة فيقولون: إنَّ أهل الكبائر قد يدخلون الجنة؛ لأنَّهم تحت المشيئة، وهذا هو الفرق بين أهل السنَّة والمرجئة؛ لأنَّه قد ثبتت النُّصوص أنَّ قومًا من أهل الكبائر وجماعة كبيرة وفئامًا كثيرة رآهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النار، فكيف نقول: إنَّهم لا يدخلون النار؟!
وهذا من الأقوال المشتهرة -مع الأسف- عند بعض المتأخرين، حتى عند بعض المذهب الأشعري وغيرهم توجد هذه المقالات في كُتبهم، ويقولون هذا القول بعينه!
وسبحان الله! فقد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه رأى أكَلَة الرِّبا والزُّناة والزواني في تنورٍ من نارٍ، ورأى الذي نام عن الصَّلاة المفروضَة تُضرَب رأسُه بالحجارة، وأخبر أنَّه يشفع في قومٍ من هذه الأمَّة ليُخرجهم من النار، ثم يُحد الله له حدًّا...؛ في أحاديث مُتواترة، ثم يأتي هؤلاء ويقولون: قد يُغفَر لهم كلُّهم!
هذا غير صحيحٍ، فقد يُغفَر لبعضهم إذا شاء الله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾ [النساء: 116].
ثم ختم الشيخ كلامَه فقال: (وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا)، يقصد الخوارج والمعتزلة طرف، والمرجئة الطَّرف الثَّاني.
والشيخ سيستنبط من الآيات التي ستأتي ردًّا على الطَّائفتين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ دَلَّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ، وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ، فَلَا يُعلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُï´¾.
فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ، فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ خَصَّصَ وَعَلَّقَ، فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، وَمِنْ الشِّرْكِ: التَّعْطِيلُ لِلْخَالِقِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ. وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ، أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾؛ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ)}.
إذن هذه الآية الكريمة تدلُّ على فَساد قول الخوارج، ويتبعهم المعتزلة، وكلُّ مَن قال بقولهم من أهل البدع، فكثيرٌ من أهل الضلال والبدع قال بهذا القول، وهو أنَّ الرَّجل إذا ماتَ مُرتكبًا للكبيرة فهو خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾، يعني: ما دون الشِّرك، فكيفَ تقولون إنَّه خالدٌ مخلَّدٌ في النَّار، والله -عزَّ وجلَّ- علَّقَ مغفرتَه عليه بمشيئته؟!
فاحتالوا بحيلة ليحرفوا الكلام عن مواضعه، فقالوا: إنَّ هذه الآية في التَّائب ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾، يعني: إذا تاب قبل أن يموت من ذنوبه كلها فهو مغفورٌ له!
نقول: هذا تحريفٌ ومخالفٌ لصريح القرآن، فإنَّ التَّائب لا يُفرَّق فيه بينَ المشرك وغير المشرك، فكلُّ مَن تابَ تابَ الله عليه، فلا يقول الله -عزَّ وجلَّ- للمشرك: إنَّه لا يغفر له ولا يتوب عليه وغير المشرك يتوب عليه، فإذا كان المراد هو التَّوبة فإنَّ الآية العامَّة هي التي تُذكَر في هذا المقام: ï´؟قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُï´¾ [الزمر: 53]، فالمراد هنا أنَّ الله يغفر الذنوب جميعًا بالتَّوبة، فإذا تَاب العبد؛ غفر الله له ذنوبه، وتشمل الشِّرك فما دونه.
أمَّا آية النساء: ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾، لا يُمكن أن يُقال: إنَّ المراد أنَّ الله يغفر للتائب ممَّا دون الشِّرك ولا يغفر للمشرك؛ بل إنَّ المشرك إذا تابَ تابَ الله عليه، كلُّ مَن تابَ من أيِّ ذنبٍ تابَ الله عليه.
وقوله: ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِï´¾ يُراد به إذا مات على ذلك من غير توبة؛ فإنَّنا ننظر:
- إذا مات على الشِّرك فإنَّه لا يُغفَر له.
- وإذا مات على ما دون الشِّرك من الذنوب والمعاصي، مثل: شرب الخمر، أو السَّرقة؛ فإنَّه تحت مشيئة الله، قال تعالى: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾.
فالآية الكريمة ظاهرة وصريحة جدًّا في أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جعل ما دون الشِّرك من الذُّنوب تحت مشيئته، فلا يُمكن أن نقول: إنَّه يُخلَّد في النَّار، أو إنَّ الله لا يغفر لهم، لأنَّ المخلد في النار لن يغفر الله له.
قال الشيخ: (فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ التَّائِبُ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ)؛ لأنَّ هذا من تحريفاتهم.
قال: (لِأَنَّ الشِّرْكَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ تَابَ، وَمَا دُونُ الشِّرْكِ يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْضًا لِلتَّائِبِ، فَلَا يُعلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ; وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِينَ قَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُï´¾.
فَهُنَا عَمَّمَ الْمَغْفِرَةَ وَأَطْلَقَهَا)، يعني: سورة الزمر في قوله: ï´؟إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًاï´¾.
قال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِلْعَبْدِ أَيَّ ذَنْبٍ تَابَ مِنْهُ، فَمَنْ تَابَ مِنْ الشِّرْكِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ تَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَأَيُّ ذَنْبٍ تَابَ الْعَبْدُ مِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
فَفِي آيَةِ التَّوْبَةِ)، يعني: سورة الزمر في قوله: ï´؟إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًاï´¾ هذه هي آية التَّوبة، وليس المقصود من كلام الشيخ سورة التَّوبة.
قال: (عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ)، أي: في سورة النساء ï´؟إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾ (خَصَّصَ وَعَلَّقَ)، يعني: خصَّصَ ما دون الشِّرك بالمشيئة. قال: (فَخَصَّ الشِّرْكَ بِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، وَعَلَّقَ مَا سِوَاهُ)، يعني: ما دونَه (عَلَى الْمَشِيئَةِ).
هنا استطرادٌ للشيخ: (وَنَبَّهَ بِالشِّرْكِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ كَتَعْطِيلِ الْخَالِقِ)، يعني: لا تظنَّ الْمُلحد أقلُّ شأنًا من المشرك؛ بل إنَّ الْمُلحد مُشرك وزيادة.
قال: (وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَجْزِمُ بِالْمَغْفِرَةِ لِكُلِّ مُذْنِبٍ)، يعني: المرجئة هُم من يجزمون بذلك؛ لأن المسالة مُعلَّقة بالمشيئة وليست مُطْلَقة.
قال: (أَوْ يَجُوزُ أَلَّا يُعَذَّبَ بِذَنْبِ)، يعني يقول: يجوز ألا يُعذِّبَ الله أحدًا بذنب، وهذا قول المرجئة.
ثم قال الحجَّة: (فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ)، وهذا في قوله تعالى: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾.
قال: (وَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ مَغْفُورًا لَهُ بِلَا تَوْبَةٍ وَلَا حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ لَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ بِالْمَشِيئَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾)؛ إذن هناك أُناسٌ يغفر الله لهم، وهناك أُناسٌ شاء الله ألَّا يغفر لهم وأن يُعاقبهم، ولكن يُعاقبهم بقدر ذنوبهم، ثم يكون مآلهم إلى الجنَّة، وهذا في أهل التَّوحيد.
ثُمَّ خَتَمَ بقوله: (وقَوْله تَعَالَى: ï´؟وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُï´¾، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَغْفِرُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، فَبَطَلَ النَّفْيُ وَالْوَقْفُ الْعَامُّ).
النَّفي هنا: هو نفي المغفرة الذي صرَّح به المعتزلة وقالوا: لا يُغفر لأهل الكبائر؛ بل هُم خالدون مخلَّدون في النَّار.
والعفو العام: هو مَذهب المرجئة، فيقولون: إنَّ الله سيعفو عن جميع المذنبين مِنَ الكبائر.
فبطل قولهم؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال: ï´؟لِمَنْ يَشَاءُï´¾.
وهذا الكلام -أيُّها الإخوة- كُله يُبيِّن أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على درجات ومراتب، وليسوا في منزلةٍ واحدةٍ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هُمْ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، فَهُمْ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي عَدَاوَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى: الْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ وَجِمَاعُ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَالْإِيمَانُ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ هُوَ: الْكُفْرُ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكُفْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الرِّسَالَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًاï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: ï´؟كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍï´¾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس: ï´؟لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَï´¾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ؛ فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ)}.
هذا الفصلُ تمهيدٌ للفصلِ الذي بعدَه، وهو بيانٌ لأصلٍ تقدَّمَ ذكره، وهو أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- هم أهلُ الإيمانِ والتَّقوى، والنَّاس يتفَاضَلون في الإيمان والتَّقوى.
وأصلُ ذلك: هو الإيمانُ بما جاءت بِه الرُّسل، وأعظمُ ذلك هو الإيمان بما جاء به محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتم الأنبياء والمرسَلين، فصَلَوات الله وسَلامه عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والرُّسل جميعًا، فالإيمان بما جاء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشمل الدِّين كله.
وعكس الإيمان: الكفر والنِّفاق.
فالكفر هو: الرَّدُّ والجَحْدُ والإعراض، والعِناد والاستكبار، وإيباء ما جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والنِّفاق: أن يُظهر بِلسَانِه الموافَقة، وقلبُه منطوٍ على التَّكذيب والكفر برسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا وُجِدَ في قلبِ العبدِ الكفرُ والنِّفاقُ فإنَّه لا يُمكن أبدًا أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ، وإذا لم يُوجد الإيمانُ والتَّقوى فلا يُمكن أبدًا أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ.
ثم استطردَ الشَّيخ في بيان أنَّ المستحق للعقوبة في الآخرة وهو مَن كذَّبَ كفرَ، وبلَغَته الرِّسالة، وذكر الآية: ï´؟وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًاï´¾، وقوله تعالى: ï´؟رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِï´¾، فهذا معناه أنَّ الله أرسلَ الرُّسلَ لإقامة الحجَّة وقَطْع العذر.
فلا يقول أحد: لم يبلغني شيء! الحمد لله، الآن نرى في مشَارق الأرض ومغاربها كلٌّ قد سمع بدين الإسلام، فحجَّة الله قامت عليهم.
والواجب على كلِّ أنسيٍّ وجنيٍّ في العالَم أن يسألَ عن الحقِّ ويبحث عنه، فإذا أعرض فإنَّه كافر، وحتى لو لم يُعرِض وبقِيَ على حالِه ولم يدخل في الإسلام فهو كافر أيضًا، ولكن حجَّة الله بلغته، وهو الذي فرَّطَ.
قال: (وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ: ï´؟كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍï´¾، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَوْجٌ أَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ جَاءَهُمْ النَّذِيرُ فَكَذَّبُوهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إلَّا مَنْ كَذَّبَ النَّذِيرَ).
فهؤلاء الذين بلَغهم أنَّ رسولًا أُرسِلَ وهو محمد بن عبد الله -صَلوات الله وسَلامه عليه- ولم يسألوا ولم يتَّبعوه، فقد جاءَهم النَّذير وأبوا -نسألُ الله العافية والسَّلامة.
ثم قال: (وَقَالَ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لإبليس ï´؟لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَï´¾ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا بإبليس وَمَنْ اتَّبَعَهُ; فَإِذَا مُلِئَتْ بِهِمْ لَمْ يَدْخُلْهَا غَيْرُهُمْ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا مَنْ تَبِعَ الشَّيْطَانَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ الشَّيْطَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، وَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالرُّسُلِ).
وقد قَطَعَ الله -عزَّ وجلَّ- المعاذير، فالحمدُ لله أنَّ حجَّة الله قد بلغَت، ولكن قد يوجد مثل الطِّفل الصَّغير مِن أطفالِ الكفَّار يموت، أو الهَرِم، أو المجنون، أو الذي لم تبلغه أي دعوة كالذي يعيش في الأدغال ونحو ذلك؛ فهؤلاء يُقال عنهم أهل الفترة، فهم ليسوا مسلمين، وأصح الأقوال فيهم كما قال أهل العلم أنَّهم يُمتَحَنون يوم القيامة ويُختَبَرون، فمَن أطاعَ الله دخل الجنَّة، ومن عصَاه دخل النَّار.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِالرُّسُلِ إيمَانًا مُجْمَلًا، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَغَهُ كَثِيرٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ بَعْضُ ذَلِكَ فَيُؤْمِنُ بِمَا بَلَغَهُ عَنْ الرُّسُلِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَوْ بَلَغَهُ لَآمَنَ بِهِ، وَلَكِنْ آمَنَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ إيمَانًا مُجْمَلًا فَهَذَا إذَا عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهِ مَعَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَمَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ مَعْرِفَتَهُ وَالْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ بِهِ، فَلَا يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِهِ; لَكِنْ يَفُوتُهُ مِنْ كَمَالِ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ)}.
هذا مِن التَّفاضل بينَ أولياء الله والمؤمنين؛ وهو أنَّ بعض المؤمنين لم يبلغه العلم بسبب بُعده أو بسببٍ مِن الأسباب الأخرى، فيؤمن إيمانًا مجملًا، وهناك مَن يؤمن إيمانًا مفصَّلًا، فيُدرك العلم والأحاديث، ويعرف تَفاصيل الشَّريعة فيعمل بها بما علَّمه الله؛ فهذا أكمل.
والثَّاني الذي آمن إيمانًا مُجملًا سَلِمَ مِن عَذَابِ الله، وله نصيب مِنَ الولاية والتَّقوى والإيمان، ولكنَّه ليس مثل الأوَّل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَمَنْ عَلِمَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَآمَنَ بِهِ إيمَانًا مُفَصَّلًا وَعَمِلَ بِهِ؛ فَهُوَ أَكْمَلُ إيمَانًا وَوِلَايَةً لِلَّهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَكِلَاهُمَا وَلِيٌّ لِلَّهِ تَعَالَى)}.
كلاهما وليٌّ ما دام أنَّهما آمنوا واتَّقوا، ولكن تَفاضلوا في العلم والعمل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَةٌ تَفَاضُلًا عَظِيمًا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ إيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ. قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًاï´¾، فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ يَمُدُّ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ مِنْ عَطَائِهِ، وَأَنَّ عَطَاءَهُ مَا كَانَ مَحْظُورًا مِنْ بَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ï´؟انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًاï´¾.
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ دَرَجَاتِهَا أَكْبَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا)}.
الشَّاهد قوله تعالى: ï´؟انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًاï´¾، فكما أنَّ النَّاس في الدُّنيا يتفَاضَلون؛ ففي الآخرة يتفَاضلون تفَاضلًا أكبرَ ممَّا تفاضلوه في الدُّنيا.
قال: (فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ دَرَجَاتِهَا أَكْبَرُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا).
إذن؛ الأولياء يتفَاضَلون تفاضلًا عظيمًا جدًّا في الدُّنيا في أعمالهم، ويتفَاضَلون في الآخرة أكبرَ مِن تفاضلهم في الدُّنيا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَتَفَاضُلِ سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَعَالَى: ï´؟تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًاï´¾.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن، وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًاï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌï´¾)}.
هذه المواضع يُبيِّنُ فيها -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ التَّفاضل عظيم جدًّا.
وتتضمَّن هذه النُّصوصُ الشَّرعيَّة بيان أقسام وأنواع المؤمنين، وأنَّهم درجات ومراتب، وعلى أعمالٍ متنوِّعة، فنتدبَّر هذه النُّصوص الآن:
بدأ الشَّيخ بمقدِّمَةٍ حتى يُمهِّدَ، فقال: (وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَتَفَاضُلِ سَائِرِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)، ثم ذكر آيات تتعلق بتفضيل بعض الرُّسل على بعضٍ، ولكن كما النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ»، فالتَّفضيل بين الأنبياء ليس للتعصُّبِ أو للتَّنقُّص من بعضهم، وإنَّما لبيان ما أكرمَ الله به بعضهم، وكلُّهم قد أكرمَهم الله بالنُّبوَّة والرِّسالة.
ثم ذكر حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، يعني: أنَّ المؤمِنَ القوي في إيمانه خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف في إيمانه.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، فقوي الإيمان فيه خير، وضعيف الإيمان فيه خير.
إذن لا تَحقِر المؤمن إذا كان ناقصًا في العمل ولم يجتهد فيه، أو وقع في بعض التَّقصير.
وفي هذا تنبيه على أنَّ بعض النَّاس يدَّعي أنَّ هؤلاء أولياء، وأنَّ هؤلاء مسلمون وليسوا بأولياء؛ يقول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ».
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن»، فيه الأمر بالأخذ بالأسباب.
ثم قال: «وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»، يجوز «قَدَر» بالتَّخفيف، ويجوز «قدَّرَ» بالتَّشديد، والمشهور «قَدَرُ».
ثم ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فالقضاة والحكَّام يدخلون في قضيَّة التَّفاضل، وكلَّهم أولياء لله، لأنَّ هذا له أجر وهذا له أجران.
ثم ذكر في الإنفاق قوله اللَّهِ تَعَالَى: ï´؟لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَï´¾ هؤلاء الصَّحابة الذين أنفقوا وأسلموا قبل صلح الحديبية.
قال: ï´؟أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىï´¾، إذن الأولياء وأهل الإيمان يتفاضلون.
ثم ذكر الآية التي فيها ذكر المجاهدين والقاعدين عن الجهاد لعذر فقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىï´¾.
ثم ذكر في سورة التَّوبة أهلَ الإيمانِ والهجرةِ والجهاد ِفي سبيلِ الله بأموالهم وأنفسِهم.
ثمَّ ذكرَ أهلَ القيامِ في سورة الزُّمر، فقال: ï´؟أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِï´¾، يجمعونَ بين الخوفِ والرَّجاء.
ثم ذكر أهل العلم في قوله تَعَالَى: ï´؟يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌï´¾، فكل من هؤلاء يعتبرون من أولياء الله -عزَّ وجلَّ- على تفاضلٍ بينهم.
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يوفقنا وجميع إخواننا المؤمنين لسلوك الصراط المستقيم، ولأن نكون على ما يُحبه الله ويرضاه، ونسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يوفقنا للتوبة النَّصوح، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:42   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرقَان بَينَ أَولياءِ الرَّحمَنِ وَأَولياءِ الشَّيطَانِ
الدَّرسُ السَّابِعُ (7)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيا الله الإخوة الكرام.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا تَقِيًّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ -وَقَدْ تَقَدَّمَ- يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ: «وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا تَقِيًّا حَتَّى يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ، فَيَكُونُ مِنْ الْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَإِنْ قَدَرَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ؛ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إلَّا إذَا كَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ لَا بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلَا بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ وَالْأَطْفَالُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ عَلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ تَصِحُّ عِبَادَاتُهُ وَيُثَابُ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ عِبَادَاتِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيمَانٌ وَلَا كُفْرٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ لِأُمُورِ الدُّنْيَا كَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ.
فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَزَّازًا وَلَا عَطَّارًا وَلَا حَدَّادًا وَلَا نَجَّارًا وَلَا تَصِحُّ عُقُودُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا نِكَاحُهُ وَلَا طَلَاقُهُ وَلَا إقْرَارُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِ؛ بَلْ أَقْوَالُهُ كُلُّهَا لَغْوٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ؛ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَإِنَّ لَهُ أَقْوَالًا مُعْتَبَرَةً فِي مَوَاضِعَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَفِي مَوَاضِعَ فِيهَا نِزَاعٌ.
وَإِذَا كَانَ الْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَلَا التَّقْوَى وَلَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ مِثْلِ أَنْ يَرَاهُ قَدْ أَشَارَ إلَى وَاحِدٍ فَمَاتَ أَوْ صُرِعَ، فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَهُمْ مُكَاشَفَاتٌ وَتَصَرُّفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ كَالْكُهَّانِ وَالسَّحَرَةِ وَعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدَى بهداه.
هنا يُبيِّن شيخ الإسلام -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أنَّ الوليَّ لا يُمكن أن يكون من المجانين أو فاقدي العقل؛ لأنَّ هذه المسألة ضلَّ فيها أناسٌ كثيرون، وظنوا في كثيرٍ من المجانين أو أشباههم الولاية؛ لِمَا رأوا منهم من تصرُّفاتٍ خارقة للعادة، فبيَّن الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ هذا غيرُ صحيح، وأنَّه لا يُمكن للمجنون أن يكون وليًّا لله -عز وجل.
وقدَّم الشيخ بمقدمة، وهي أنَّه لا يُمكن لأحدٍ أن يكون وليًّا لله -عزَّ وجلَّ- إلا إذا وُجد فيه الإيمان والتَّقوى، فمعلوم أنَّ الكفار والمنافقين فقدوا الإيمان والتَّقوَى بسبب كُفرهم ونفاقهم، إذن هم لَيسوا أولياء، وكذلك إيمان مَن لا يصح إيمانه؛ فلو قُدِّر أنه صلَّى فلا تصحُّ صلاته، ولو قُدِّرَ أنَّه زكَّى أو صام؛ فلا يَصح منه بسبب فقدِ العقل، فهؤلاء لا يُمكن أن يُوصفوا بأنهم أولياء لله -عزَّ وجلَّ.
وضربَ لذلك أمثلة، فقال: (مِثْلُ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، ونَحوهم)، يعني: أهل الفترةِ، والهَرم الخَرِف الذي بلغته الدَّعوة وهو لا يَعقل شيئًا، ونحو هؤلاء؛ فهؤلاء اختُلف فيهم.
قال الشيخ: (وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولٌ)، هذا أحد الأقوال، وهو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يختبرهم يوم القيامة، فإذا أطاعوا الله -عزَّ وجلَّ- دخلوا الجنَّة، وإذا عصوه دخلوا النار، وقيل فيهم غير ذلك، ولكن على كلِّ حالٍ لا يُمكن أن يكونوا أولياء لله -عزَّ وجلَّ- وهم لم يُؤمنوا ولم يتقوا، فمَن لم يتقرَّب إلى الله بالحسنات والإيمان والتَّقوى وتركِ السَّيئات فليس من أولياء الله،.
وبيَّن الشيخ أنَّه لا يصح أن يُقال في الصَّبي: إنَّه وليٌّ لله -عزَّ وجلَّ- إلا إذا أسلم، وهذا في المميز فقط، إذا كان من أطفال المشركين ثم أسلم فإنَّه يصح إسلامه، كما أنَّه يصح إسلام البالغ بلا إشكال، أمَّا المولود من أبوين مُسلمين وهو مميز فإن عبادته تصح منه ويؤجر عليها وإن كانت لا تجب عليه؛ لأنَّه قد رُفع عنه القلم، فتصح عباداته ويُثاب عليها، وكذلك يصح إسلام الطفل لو كان مميزًا، كأن يكون بين أبوين كافرين ثم يدخل الإسلام، فهذا يُثاب على هذه العبادات، ويُثاب على إسلامه، ولكن وجوب الواجبات وتأكُّدها والمعاقبة على تركها إنَّما يكون بعدَ البلوغ، ولكن على الأبوين التربية له؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» ، فهذه واجبات على الوالدين لتربية الأولاد.
والمقصود: أنَّ هذا الحديث يدل على رفع القلم -أي: رفع التكليف- فإذا رُفع القلم عن هؤلاء الثلاثة عُلم أنَّ المجانين والمجاذيب والمتولِّهين -كما يُسمونهم- هَؤلاء لا يُمكن أن يكونوا أولياء؛ بل إنَّ الناس لا يأتمنونهم على تجاراتهم ولا على صناعاتهم؛ فلا يصح أن يكون بزَّازًا -يعني: يبيع القماش- ولا عطَّارًا، أي: يبيع الأطياب، ولا حدَّادًا، ولا نجَّارًا، ولا يَصح منه العَقد إذا عقدَ عقدَ بيعٍ أو عقد إجارةٍ أو عقدَ زواج؛ فكل هذا يدلُّ على أنَّهم لا يتعلق بتصرُّفاتهم أحكامٌ شرعيَّة، ولا ثوابٌ ولا عقاب.
أمَّا المميز من الصبيان ففيه أمور تصح منه وتُقبَل كالعبادات، وفيه أمور لابدَّ فيها من إذنِ وليِّه في البيع ونحو ذلك، وفيه أمور فيها خلاف بينَ أهل العلم.
أمَّا المجنون فلا خلاف في أنَّه لا يصح منه شيء إلا بالإيمان والتَّقوى، فإذا رجَع إليه عقله وآمن وثبتَ على إسلامه وإيمانه؛ فإنَّه حينئذٍ يكونُ وليًّا لله -عزَّ وجلَّ- لإيمانه وتقواه، أمَّا إذا كان فاقدًا لعقله فلا يصح منه شيء.
وإنَّا لنتعجَّب أحيانًا من كون هذه المسائل واضحة جدًّا؛ فكيف يذكرها شيخ الإسلام!
والجواب: إنَّ المتصوفة الذين غلَوْ في هذا الباب قد وقعوا في طوام عظيمة، وتقرأ في التَّاريخ عن أحوال بعض الأمراء وبعض الملوك قديمًا على عهد ابن تيمية وبعده، أنَّهم يُقدِّمون هؤلاء المجانين -أو مَن يُظنُّ أنهم مجانين- ويرونهم في بعض التَّصرفات الخارقة للعادة والغريبة، فَيُعطونهم نوعًا منَ التَّقديس، ونوعًا من الزَّنِ والاعتقاد فيهم، وإلى عهدِ الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان فيه أناس من هذا القبيل، تاج، وشمسان؛ كانوا يتركون الصلوات ويفعلون المنكرات، ومع ذلك يعتقدون فيهم أنَّهم أولياء، وأنَّه يُتبرَّك فيهم، وبعضهم يقول: هؤلاء سادة! وبعضهم يقول: هؤلاء فيهم اعتقاد!
فلا تتعجبوا يا إخواني أن هذه الأمور تُبيَّن وتُوضَّح، لمسيس الحاجة إليها؛ ولأنَّ الناس سُرعان ما يرجعون إلى الجهالات، بل حتى في عصر التكنولوجيا -كما يقولون- يوجد مَن يُصدِّق بمثل هذه الخرافات كما نبَّهَ أهل العلم وحذروا مَن الوقوع فيها.
ما حجَّة هؤلاء الخرافيين على تقديس شخصٍ واعتقاد أنَّه ولي؟
يقولون: حصلت منه كرامة!
والكرامة: أمرٌ خارقٌ للعادة، ونحن لا نُوافقهم على تسميتها كرامة؛ بل نقول: إنَّ هذه خوارق للعادات، وهذه الخوارق تقع من الأنبياء، وهي أعظم ما تكون، وتسمى: "معجزات، أو آيات، أو دلائل نبوة"، وتقع من أهل الإيمان والتقوى من الصَّالحين وتسمى: "كرامات"، وتقع من السَّحرة ومن الكهَّان والمشركين والكفار وتسمى: "خوارق شيطانيَّة"؛ فلا حُجَّة فيها، وليست العبرة أنَّه طارَ، أو أنَّه طلبَ أكلًا فوجدَ الأكلَ أمامَه!
وقد حذَّرنا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أن نغتر بمثل هذه الأمور كما في أخبار كثيرة عن الدَّجال، فإنَّ الدَّجالَ كذَّابٌ ويدَّعي الألوهيَّةَ، فحَّذرنا نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الخوارق التي تكون معه، فهذا هو معنى كلام الشيخ: (فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يُعْتَقِدَ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لَا سِيَّمَا أَنْ تَكُونَ حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إمَّا مُكَاشَفَةُ سَمْعِهَا مِنْهُ أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ).
المكاشفَة: أمورٌ معلومات تُكشَف له، وهذا قد يكون بإعانة الجنِّ له أو باستراق السَّمع، فإنَّ الجنَّ قد يُبلِّغونه بشيءٍ يُلقونه على لسانه فيتكلم به -وهو مجنون- فيقول الناس: ما دام أنَّه تكلم بهذا إذن هذا ولي! لا، إذا ألقت الجن عليه الكلمة، وكُشف له عن علم؛ فلا يعني أنَّه وليًّا.
قال الشيخ: (أَوْ نَوْعٌ مِنْ تَصَرُّفٍ)، التَّصرُّف هنا يعني: القدرة الخارقة، مثل: أن يحمل شيئًا ثقيلًا بنفسه لا يحمله إلا عشرة، أو أنَّه يجلس تحت السيارة فتمشي فوقه، أو يأكل مسامير؛ فكل هذه الأفعال تعتبر خوارق شيطانيَّة لا عبرةَ بها، ولا يُلتفت إلى مَن وقعت له، ولذلك يجب الحذر منها؛ لأنَّ مَن يفعلها إمَّا أن يكون من السَّحرَة والكهَّان، أو ممَّن تلبَّسته الشَّياطين، ولهذا فلا يجوز حضور هذه الأشياء ولا المشاركة فيها، ولا تقديس أو تقدير أصحابها؛ بل يجب منعها، والواجب على وُلاة أمور المسلمين منع هؤلاء وزجرهم، وإذا قُدِّرَ أنَّ بعضهم فاقد للعقل فيُمنَع إمَّا بحبسٍ، أو وضعهم في مشفى خاصٍّ بهم، ولا يتركون يعبثون بعقول النَّاس، أو أن يَظن النَّاس فيهم هذه الأشياء، فإنَّ هذا من أسباب انتشار الشِّرك، ومن أسباب تضييع أوامر الله والتَّلاعُب بالصَّلوات، وإضاعَة الواجبات؛ وهذا خلاف الواجب على مَن تولَّى إمامة المسلمين؛ فإنَّ الواجب هو حفظ دين المسلمين ورعاية أمورهم، ومن هذا تولِّي هؤلاء وكف شرِّهم عن المسلمين.
فهذا الشيء الذي يقع مِن الخوارق أو الأشياء الغريبة تقع مِن الكُهَّان والمشركين والسَّحرة وعبَّاد المشركين وأهل الكتاب-كما يقول الشيخ- ولا يجوز أن يُستدلَّ بها على أنَّ الشَّخصَ وليٌّ لله -عزَّ وجلَّ.
نقرأ النَّص مرة ثانية: {(فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ وَلِيًّا لِلَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ، فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ وِلَايَةَ اللَّهِ، مِثْلُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا، بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ الظَّاهِرَ دُونَ الْحَقِيقَةِ الْبَاطِنَةِ. أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمْ السَّلَامُ.
أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ أَوْ هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ، فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ، فَضْلًا عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَمَنْ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)}.
يعني: أنَّ هؤلاء قد يصدر منهم أقوالًا مُناقضة للدِّين الإسلامي، فهذا يؤكِّد أكثر وأكثر على أنَّهم ليسوا بأولياء؛ بل هم كفَّار، فإذا كان هذا خاتمة أمره ثم فقدَ عقله، فخاتمة أمره أنَّه يقول: إنَّه لا يجب اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو عاقل، ثمَّ جُنَّ بعدَ ذلك وصار يُكرر هذا الكلام وهو مجنون؛ فإنَّ آخر أمره قبل أن يَجِنَّ كان يُكرِّر هذا الكلام الكفري من أنَّه لا يجب اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يقول: نحن نتبعه في الشَّرع الباطن وأنتم تتبعونه في الشَّرع الظاهر؛ لأنَّ بعض الصوفيَّة يقولون: إنَّ هناك شريعة وهناك حقيقة.
فالشَّريعة: هي الصلوات والزَّكاة والصوم والحج.
والحقيقة: هي الأمور الباطنة، يقولون: إنَّها لهم حتى ولو لم يُؤدُّوا الأمور الظَّاهرة.
أو يقولون: إنَّ هناك طريق إلى الله غير طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
ويقولون: أنتم تسيرون على طريق النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى يوصلكم إلى الجنة، ولكننا لنا طريق آخر، لا يجب علينا اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسوف نصل إلى الله، ونصل إلى الجنة!
وكل هذه مقولات الزَّنادقة الكفار، وليست من مَقولات أهل الإيمان؛ بل إنَّ هذه المقولات تُناقض الإسلام تمامًا.
قوله: (أَوْ يَقُولُ: إنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ) نستغفر الله العظيم!
هذه الكلمة يَقولها بعض الخرافيين وأهل وحدة الوجود، والشيخ ما نقل هذه الكلام إلا لكونها مَوجودة في زمنه، وإلى الآن هناك مَن يتَّهم شريعة الإسلام بمثل هذا، فمن قال هذا الكلام فهو كافر ولا شك؛ لأنه تنقَّصَ أنبياء الله -عزَّ وجلَّ- وتنقَّصَ الأديان التي أنزلها الله، وتنقَّصَ الإسلام الذي هو الدين الخاتم، قال تعالى: ï´؟أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَاب يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًاï´¾ [النساء: 51] ï´؟وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُï´¾ [آل عمران: 85]، فكيف ضيقوا! وبالعكس فإنَّ هذا الدين يُسر كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» .
أو يقولون: (هُمْ عَلَى قُدْوَةِ الْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ)، يعني: عوام النَّاس يتَّبعون الأنبياء، أمَّا نحن الخواص لا يجب علينا أن نتبع الأنبياء.
قال الشيخ: (فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ مَا يُنَاقِضُ الْإِيمَانَ)، يعني أنَّ هذه كلمات كفريَّة تُناقض الإيمان فضلًا عن أن يُدَّعى فيهم أنَّهم أولياء، فلا يُمكن أبدًا.
قال: (فَمَنْ احْتَجَّ بِمَا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ عَلَى وِلَايَتِهِمْ كَانَ أَضَلَّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَجْنُونًا يُنَاقِضُ أَنْ يَصِحَّ مِنْهُ الْإِيمَانُ وَالْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ)}.
إذا كان مجنونًا فلا تصح منه الصلاة؛ لأنَّ مِن شُروط صحة الصلاة العقل والتَّمييز، وكذلك لا تصح منه بقيَّة العبادات، وكذلك الإيمان، فوجود الجنون يُناقض الإيمان والعبادات التي هي شرط الولاية، قال تعالى: ï´؟الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾ [يونس: 63]، فبسبب الجنون زالَ عنه الإيمان وزالت عنه التَّقوى، فلا يكونُ وليًّا حالَ جنونه.
أمَّا قوله: (وَمَنْ كَانَ يَجُنُّ أَحْيَانًا وَيُفِيقُ أَحْيَانًا)، ففي حال جنونه غير مُؤاخذ، وفي حالِ إفاقته ننظر إن كان على الإيمان والتقوى فهو مُؤمن ولي، وإن كان مُضيِّعًا فهو عاصٍ، وإن كان كافرًا بالله وبرسوله فهو كافر.
{قال: (إذَا كَانَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ ; فَهَذَا إذَا جُنَّ لَمْ يَكُنْ جُنُونُهُ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَى إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ الَّذِي أَتَى بِهِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، وَيَكُونُ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ وَيَأْجُرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَلَا يُحْبِطُهُ بِالْجُنُونِ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ فَعَلَهُ، وَالْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ)}.
مَن يَطرأ عليه الجنون يُعتبر كأنَّه طرأ عليه الموت، فلو طرأ عليه الجنون وجلس سنة أو سنتين أو عشر؛ ثم مات وهو مجنون، فهو على حاله، إن كان طُروء الجنون مؤمنًا فهو على الإيمان، كأنَّه طرأ عليه الموت، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا يُحبط إيمانه وتقواه بسبب الجنون.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَظْهَرَ الْوِلَايَةَ وَهُوَ لَا يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَلَا يَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ؛ بَلْ قَدْ يَأْتِي بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، فَإِنَّ هَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَجْنُونًا، بَلْ كَانَ مُتَوَلِّهًا مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ، أَوْ كَانَ يَغِيبُ عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ تَارَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، وَهُوَ لَا يَقُومُ بِالْفَرَائِضِ؛ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ كَافِرٌ.
وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهُ الْقَلَمُ؛ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عُقُوبَةَ الْكَافِرِينَ؛ فَلَيْسَ هُوَ مُسْتَحِقًّا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)}.
يعني أنَّ الذي فقدَ العقل وليس عنده إيمان ولا تقوى كما أنَّه ليس عنده كفرٌ ولا فسوق؛ بل هو مجنون، فهذا مرفوع عنه القلم، ولا نقول عنه: إنَّه ولي أبدًا، وإن لم يكن مُعاقب عقوبة الكافرين فأيضًا هو ليس مُستحقًا لثواب المؤمنين -كما تقدم في أهل الفترة ونحوهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ حَالَةٌ فِي إفَاقَتِهِ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ مُتَّقِيًا؛ كَانَ لَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ نِفَاقٌ أَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَجُنُونُهُ لَا يُحْبِطُ عَنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ حَالَ إفَاقَتِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ)}.
يعني: يُعامل بحسب حاله قبل طروء الجنون.
لنفرض مثلًا: أنَّ رجلًا عاش خمسين سنةً وهو عاقل، ثم طرأ عليه الجنون بعد ذلك، لما كان إلى خمسين سنةٍ ماذا كان حاله؟
الحالة الأولى: إن كان مُؤمنًا ثم طرأ عليه الجنون فإنَّه مُثابٌ على إيمانه وتقواه، ويُمكنُ أن يكونَ وليًّا لله قبل طُروء الجنون بسبب إيمانه وتقواه، فيُقال عنه: إنَّه وليّ لأنَّه مُؤمنٌ تقي، ولكن بعد الجنون زالَ عنه التَّكليف، وعند الله في الآخرة يُثاب على إيمانه ولا يحبط عمله؛ لأنَّ الجنون خارج عن إرادته، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ» ، فتعوَّذ بالله من الجنون، فهو بلاءٌ قد يُصيب الإنسان -نسأل الله العافية والسلامة لنا ولكم والمسلمين.
الحالة الثانية: إن كان عُمِّر الخمسين وكان آخر أمره كُفرًا ثم فقدَ عقلَه، فإنَّه يكون في الآخرة مُعاقَبًا عُقوبة الكافرين، حتى لو أمضى عشر سنوات وهو مجنون قبل أن يموت، فهذا يُحاسَب على ما خُتم له به قبل فقدِ عقله.
أمَّا إذا كان له حال إفاقة وحال جنون، فبعض أنواع الجنون يُفيق أحيانًا ويرجع إليه عقله، ثم بعدَ يومٍ أو نحوه يفقد عقله -نسأل الله العافية والسلامة- فهذا بحسب حاله في حال إفاقته، إن كان فيها إيمان وتقوى ومحافظة على الصَّلاة والدِّين فهو مأجورٌ مثاب، وإن كان فيها تضييع أو كُفر فهو على حسبِ ذلك، لكن لا يُمكن أبدًا أن نقول إنَّ المجنون أو المتولِّه-كما يُعبِّرونَ- أو المجذوب من الأولياء.
والتَّولُّه: هو التَّحيُّر بسبب الحبِّ أو الخوف.
والمجذوب وهو الذي انجذبَ عقله، فيقولون: فلان من المجاذيب، أو فقراء المجاذيب.
وهذه كلها من عبارات الصُّوفيَّة، فيقولون: فلان من فقراء المتولِّهينَ، والفقير عندهم ليس مَن نَقَصَ مالُه، وإنَّما يريدون الفقير إلى الله، فيصفونه بالتولُّه أو بالتَّحيُّر أو بالجنون، ونحو ذلك، فهذه العبارات غير شرعية، ولا يُستحب أن تُقال، وفي نفس الوقت عرفنا المراد بها، وأنَّ وصف هؤلاء بالولاية غير صحيح، ولا يجوز تسميتهم أولياء بسبب خوارق العادة، ولا نسميها كرامات؛ لأنها وقعت من أناس عصاة أو كفَّار، فلا نغتر بما حصل لهم من خوارق العادات.
فخلاصة هذا الفصل:
أنَّه حتى يوصف المرء أنَّه وليٌّ لله لابدَّ أن يكون على الإيمان والتَّقوى، فمن فقدَ الإيمان والتَّقوى سواء كان من الكفَّار والمنافقين فلا يُمكن أن يكون وليًّا لله، ومَن فقدَ الإيمان والتَّقوى بسبب الجنون وفقد العقل فلا يُمكن أن يكون وليًّا لله، وبالتَّالي عرفنا أنَّ تسمية المجانين والمجاذيب والمتولِّهين وفاقدي العقل بأولياء لله ضلالٌ مبينٌ، فما يقع فيه بعض المتصوفة من تسمية هؤلاء بالأولياء ضلال مبينٌ وإفكٌ عظيمٌ.
وذكر بعضُ المؤرِّخينَ قَصص عن بعض الملوك أنَّه كان يُعظِّم هؤلاء المجانين، ويأتي بعض الصُّوفيَّة ويقول له: هذا له حالٌ مع الله، هذا له كذا..، هذا له كذا...، مع أنَّه لا يُصلِّي ويصدر منه ما يدل على فقد العقل، ولكن لكونه خارقًا للعادة عظَّموه، حتى يقع منه ما يُستقبَح فيرجعون؛ وهذا كلُّه من المخالفَة للإسلام، ومخالفَة لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتَّضحَ لنا هذا في هذا الفصل ولله الحمد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ شَيْءٌ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ النَّاسِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُبَاحَاتِ، فَلَا يَتَمَيَّزُونَ بِلِبَاسِ دُونَ لِبَاسٍ إذَا كَانَ كِلَاهُمَا مُبَاحًا، وَلَا بِحَلْقِ شَعْرٍ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ ظَفْرِهِ إذَا كَانَ مُبَاحًا، كَمَا قِيلَ : كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ)}.
المراد من هذا الفصل: توضيح أنَّ أولياء الله من أهل التقوى وأهل الإسلام ليس لهم لباس خاص يتميَّزونَ به عن سائر المسلمين، خلافًا لما يعتقده بعض الضلال أنَّه يتميَّز عن النَّاس بلباسٍ مُعيَّن، فهم يلبسونَ ما أباح الله -عزَّ وجلَّ.
وكذلك الشَّعر؛ فلا يقول قائل: إنَّ الأولياء لابدَّ أن يحلقوا رؤوسَهم، ويستمر الحلق معهم، أو أنَّهم يتركوه أو يُقصِّروه على نحوٍ مُعيَّنٍ، أو يجعلونه ضفائر، ويلتزمون هذا بأنَّه شعار للأولياء؛ لا، وإنَّما الأولياء مُتَّبعون للسُّنَّة ومُلتزمون بها، ولا يُخالفون العُرف المباح، قال تعالى: ï´؟خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَï´¾ [الأعراف:199]، ولهذا قيل: "كَمْ مِنْ صِدِّيقٍ فِي قَبَاءٍ وَكَمْ مِنْ زِنْدِيقٍ فِي عَبَاءٍ".
العباء: لباس خاص يتميَّز به بعضهم، فيظنُّ أنَّه من الأولياء، وهو زنديق.
القباء: هو اللبس الذي يتناوله الناس كلهم، كالجبَّة ونحوها.
ويعني بهذا أنَّ الصَّالح التَّقي الذي يُحبه الله لا يتميز عن الناس بألبسةٍ خاصَّةٍ، وبعض مَن يظن أنَّ هناك ألبسة خاصَّة قد يلبس هذه الملابس الخاصَّة وهو زنديق.
فخلاصة الكلام: أنَّه ليس هناك شكل معيَّن أو شعار مُعيَّن إذا صار الإنسان وليًّا لله لابدَّ أن يلتزمَ به؛ لا، فقد يوجد أهل الإيمان والتَّقوى حتى في ألبسة الفقراء، وألبسة الصنَّاع، فقد يكون ميكانيكي، وقد يكون فلاحًا، وقد يكون نجارًا، وقد يكون حدَّادًا،...، كل الأنواع؛ ولكن إذا قام بالإيمان والتَّقوى وعمل بطاعة الله ورسوله واتَّقى الحرام فهو ولي لله -عزَّ وجلَّ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَلْ يُوجَدُونَ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الظَّاهِرَةِ وَالْفُجُورِ، فَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُوجَدُونَ فِي أَهْلِ الْجِهَادِ وَالسَّيْفِ، وَيُوجَدُونَ فِي التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَصْنَافَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْله تَعَالَى: ï´؟إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُï´¾.
وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الدِّينِ وَالْعِلْمِ " الْقُرَّاءَ " فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالنُّسَّاكُ)}.
يقول: الأولياء يوجدون في جميع أصناف أمة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لم يكونوا من أهل البدع الظَّاهرة والفجور؛ فهؤلاء أهل إيمان وتقوى، ما نُخصص لهم لباسًا خاصًّا، فلا نقول: إذا أنتَ صرتَ ملتزم بدين الله ومستقيم على طاعة الله، وولي لله؛ فالبس هذا اللبس المعيَّن وهذا اللون المعين؛ لا، فليس هذا في دين الله في شيء، ولكن البس اللبس المباح الذي أحلَّه الله -عزَّ وجلَّ.
وذكر الشيخ أنَّ أهل الإيمان والتَّقوى -أي: الأولياء- يوجدون في أهل القرآن، ويوجدون في أهل العلم، وأهل الجهاد، فيوجدون في الجنود في الجيش، ويوجدون في الدَّارسين وطلبَة العلم، ويوجدون في حفاظ القرآن، وكذلك يوجدون في التُّجار إذا اتقوا الله -عزَّ وجلَّ- واتَّقوا المحارم، فلا يأكلون الربا، ويبتعدون عن الخنا والفجور، فإذا اتقوا الله صاروا أولياء.
وهكذا أصحاب الصِّناعات، والزُّراع والفلاحين، وهكذا رُعاة الغَنم والإبل؛ كلٌّ من أصناف العمل المباحة إذا اتقوا الله -عزَّ وجلَّ- فيها وآمنوا وعملوا بما أمرَ الله؛ فهؤلءا أولياء.
ثم ذكر الآية الكريمة في آخر سورة المزمل: ï´؟وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِï´¾ فهؤلاء هم التُّجار. قال: ï´؟وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِï´¾ فهؤلاء هُم المجاهدون.
إذن؛ ليس هناك شعارٌ خاصٌّ لمن وفَّقه الله في دينه واستقام على الدين، فليس هناك شعار خاص أو لباس خاص.
أمَّا تسميتهم؛ فكانوا قديمًا في زمن الصَّحابة يُسمون بالقراء؛ لأنهم يقرؤون القرآن كثيرًا ويعلمون ما فيه، ويسمون أيضًا بالعلماء والنُّسَّاك وأهل العلم، ونحو ذلك. فهذه التَّسميَّات لا بأس بها.
وبعض الطُّرق الصُّوفيَّة المنحرفة عندهم بعض الأشخاص في نفس الطريقة يلبس لبسًا مُعيَّنًا، ويلبس العمامة بشكل مُعيَّن، وبعضهم عنده لبسة خاصَّة، فيلبس ثوبًا مُرقَّعًا له ألوان، لون أحمر وأصفر وازرق، فالرُّقَع ظاهرة في هذا الثوب، وليس هذا من الفقر، ولكن هذا المسلك الوخيم المبتدَع وهو أنَّه يظن أنَّ هذا شيءٌ مَشروعٌ، وهؤلاء لاشكَّ أنَّهم أهل ضلال وابتداع.
وعلى كل حال فأهل الإسلام إذا استقاموا على دين الله -عزَّ وجلَّ- وعلى سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واتقوا ما حرم الله فإنَّهم أولياء لله، أيًّا كانوا في أي مكانٍ عملوا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْمُ "الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ")}.
الاسم القديم الذي عليه السلف: أهل العلم، أهل الدين، القرَّاء، العلماء، النُّسَّاك؛ فهذه أسماء شرعيَّة.
أمَّا الأسماء التي حدثت فيما بعد كالصُّوفيَّة، فهذا الاسم حدث في سنة مائة وخمسين أو مائة وستين، ثُمَّ انتشر في سنة مائتين وما بعدها، وكان للعلماء موقف من هؤلاء وأغلاطهم قديمًا.
وكان فيهم قديمًا أناس لم تكن عندهم البدع التي جاءت عند المتأخِّرين، ولذلك فإنَّ مُتقدميهم خيرٌ من مُتأخِّريهم، فمتقدموهم في زمنِ الأئمة لم يقعوا في البدع الكبار كما وقع المتأخرون، ولكن طائفة الصُّوفية تنزَّعت وتوزَّعت وتقسَّمت، وزاد بعضهم زيادات كثيرة، وضلالات عظيمة، فهذا ما أوجب بحث "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان"، فليس لأهل الإسلام لبسة معيَّنة كما يظن هؤلاء الصوفية، أو شكل معين، أو شعرٌ معين، أو عمامة معينة، فلا يجب أن نُلزم الناس بلبسٍ معينٍ ونقول: البسوا لبسة أهل البلد الفلاني، أو المنطقة الفلانية؛ لا، ولكن البسوا ما أحل الله -عزَّ وجلَّ- وأباح، واتقوا ما حرَّم.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللَّه لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ و لا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» ، فالعبرة ليست بشكلك، وكذلك يجب أن يكون الثوب الذي تلبسه مُوافقًا لِمَا جاء في الشَّريعة من الضوابط، مثل: ألا يلبس الرجل حَريرًا، ولا يكون مُسبلًا في ثوبه، ولا يلبس لباس شهرة، فإنَّ هذا محرَّم في الشَّريعة، وفي الحديث: «إنّ للهِ عِبادًا لَو أَقسَمُوا على اللهِ لأَبَرَّهُم» «رُبَّ أَشعَثَ أَغْبرَ ذِي طِمْرَينِ لَو أَقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ»، وفي رواية «مَدفُوعٍ بالأبوابِ»، وقال: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كانَ فِي السَّاقَة»، فليست العبرة بالمظاهر، ولكن العبرة بموافقة الشَّرع ظاهرًا وباطنًا.
وبدأ الشيخ الآن في موضوع الصُّوفيَّة، وسيُعرِّف بهذه الطَّائفة، ولماذا قيل عنهم صوفيَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاسْمُ "الصُّوفِيَّةِ" هُوَ نِسْبَةٌ إلَى لِبَاسِ الصُّوفِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ)}.
هذا هو القول الصحيح، والأقوال الأخرى أقوال ضعيفة، فسُمِّيَ الصُّوفيَّه بهذا الاسم نسبةً إلى الصُّوف؛ لأنَّ قدماءهم كانوا يَلبسونَ الثياب من الصُّوف، وهذه ثياب قاسية، وكانوا يلبسونها لزهدهم.
ويُشدِّدونَ على أنفسهم، وهذا من الأغلاط، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُوجب على أمَّته ولم يشرع تخصيص لبس الصوف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ نِسْبَةٌ إلَى صَفْوَةِ الْفُقَهَاءِ، وَقِيلَ إلَى صُوفَةَ بْنِ أد بْنِ طابخة، قَبِيلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالنُّسُكِ، وَقِيلَ إلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفَا، وَقِيلَ إلَى الصَّفْوَةِ، وَقِيلَ إلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: صفي أَوْ صَفَائِيٌّ أَوْ صفوي أَوْ صفي وَلَمْ يَقُلْ صُوفِيٌّ)}.
بيَّنَ لك الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ هذه الأقوال ضعيفة، وأنَّ الصَّحيح هو تسميتهم صوفيَّة لأجل لُبس الصُّوف.
أيضًا اسم "الفقراء" اسمٌ حادث، فتسمية الناس الصالحين أو العباد -الذين يشتغلون بالعبادة والزُّهد- بـ "الفقراء" حدث بعد عهد الصحابة والتابعين.
الآن في هذا الزمن ليس مَشهورًا هذا الاسم، ولكن لا يزال المتصوفة يعرفون هذا المصطلح ويُطلقونه على بعض أشخاصهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَصَارَ أَيْضًا اسْمُ "الْفُقَرَاءِ" يَعْنِي بِهِ أَهْلَ السُّلُوكِ وَهَذَا عُرْفٌ حَادِثٌ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ أَيُّمَا أَفْضَلُ مُسَمًّى "الصُّوفِيُّ" أَوْ مُسَمَّى "الْفَقِيرِ"؟ وَيَتَنَازَعُونَ أَيْضًا أَيُّمَا أَفْضَلُ: الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ أَوْ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ؟)}.
سيأتي أن اسم الفقراء ذُكروا في القرآن بأنهم هم الذين يستحقون الزكاة لنقص الأموال عندهم.
وذُكر في الفقراء: المهاجرون من الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، فوصفوا بهذا، ومدحهم الله -عزَّ وجلَّ.
فتنازع الناس أيهما أفضل، اسم "الصُّوفي" أو اسم "الفقير" لأنَّ كلا الاسمين حادث وليس مَشروعًا، ولكن لو قيل: إنَّ اسم الفقير وردَ في القرآن والسُّنَّة؛ أمَّا الصُّوفي فليس واردًا لا في القرآن ولا في السُّنَّة، فليس له معنًى صحيح، والمعنى الذي ذكروه أنَّه نسبة إلى لبس الصُّوف غير مُعتبرٍ به شرعًا؛ لأنَّ لبس الصُّوف أمرٌ خاضع لحالة الإنسان الماديَّة ونحو ذلك.
أما التَّنازُع في أفضيلة الغني الشَّاكر والفقير الصابر؛ فهذا نزاع معروف، وسنعرف الراجح فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ قَدِيمٌ بَيْنَ الجنيد وَبَيْن أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَطَاءٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ، وَالصَّوَابُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيْثُ قَالَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾.
وَفِي الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: «أَتْقَاهُمْ».
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك فَقَالَ: «يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ يَعْقُوبَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إسْحَاقَ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ». فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُك. فَقَالَ: «عَنْ مَعَادِنَ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إذَا فَقِهُوا».
فَدَلَّ الْكتَابُ وَالسُّنَّةُ أنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ)}.
إذا قيل أيُّهما أفضل: الغني الشَّاكر أم الفقير الصَّابر؟
فالغني الشَّاكر يُؤدِّي الزَّكاة ويشكر الله دائمًا، والفقير صابر؛ فهؤلاء اختلف العلماء فيهم، فذكر ابن القيم هذه المسألة في عدَّة الصَّابرين ورجَّح أنَّ الأفضل هو الأتقى، ورجَّح ابن تيمية أيضًا وغيره هذا القول، لقوله تعالى: ï´؟إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾، كما يُقال في العرب والعجم، والأبيض والأسود، ونحو ذلك ï´؟إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى. كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ».
وَعَنْهُ أَيْضًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ».
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَتْقَى لِلَّهِ فَهُوَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي التَّقْوَى اسْتَوَيَا فِي الدَّرَجَةِ)}.
وانظر إلى سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرُّومي؛ جماعات من السَّابقين الأولين من المهاجرين قد فاقوا قبائل من العرب، فالعبرة بالتَّقوى والإيمان، فمَن تحقق بها كان أفضل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِï´¾ [ ص: 197 ] وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِï´¾)}.
إذن قوله تعالى: ï´؟إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِï´¾ هذا الفقر من المال، والآية الثانية: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِï´¾، في فقر المخلوق عند خالقه.
ولعلنا نقف عند هذا الموضع، ونُلخِّص ما سبق:
أنَّنا نؤكِّد كما ذكر الشيخ -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّ أولياء الله -عزَّ وجلَّ- ليس لهم لباسٌ خاصٌّ، أو طريقةٌ خاصَّةٌ، أو مَسلكٌ خاصٌّ يتميَّزون به عن النَّاس، بل إنَّ مسلكهم مسلك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصَّحابة، طريقتهم وحالهم حال المتأسِّي بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا فيه ردٌّ على مَن يظنَّ أنَّ المؤمن أو الولي يتميَّز عن الناس، ولكن إذا تميَّزتَ عن النَّاس يأتيك الرياء، ويأتيك الشيطان إذا لبست لبسًا خاصًّا وصار الناس يُشيرون غليك بالأصابع، فهذا سبب للرياء، فعوَّذ بالله من الرياء وكن متَّبعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا تكن مبتدعًا.
هذا ما تيسر في هذا المجلس، ونسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يثبتنا على الإسلام والسُّنَّة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:42   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرقَان بَينَ أَولياءِ الرَّحمَنِ وَأَولياءِ الشَّيطَانِ
الدَّرسُ الثَّامنُ (8)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ: الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{نُكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- من عند ما انتهينا منه في الحلقة الماضية}.
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداة.
تقدَّمَ في الدَّرسِ الماضي أنَّ الشَّيخَ عقدَ فصلًا يُبيِّنُ فيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- ليسَ لهم لباسٌ خاصٌّ يتميَّزونَ به عن بقيَّة النَّاس، ولا ضفرٌ لشعرٍ أو حلقٌ له، ولا صفةٌ خاصَّةٌ من جهةِ الألبسةِ والمظاهر، وأنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- يكونون في القرُّاء والعلماء، ويكونون في المجاهدين، ويكون أيضًا حتَّى في الصُّنَّاع والتُّجار والزُّرَّاع، كالفلَّاح والتَّجار والخيَّاط والحدَّاد والبزَّاز، ونحوهم ممَّن يعمل في هذه الأعمال، إذا اتَّقى الله -عزَّ وَجَلَّ- وقام بما أوجبَ الله -عزَّ وَجَلَّ- عليه؛ فإنَّه يكونُ وليًّا لله -عزَّ وَجَلَّ- وذكر الشَّيخُ الأدلَّة على هذا.
ثم جرَّ الحديثَ إلى اسم الصُّوفيَّة، وأنَّه نسبةٌ إلى لباسِ الصُّوفِ، ثمَّ ذكر تنازع النَّاس في أيُّهما أفضل؛ الفقير الصَّابر أم الغني الشَّاكر، وذكر أنَّ الأفضل هو الأتقَى لله منهما، وهذا هو التَّحقيق.
ثم ذكر الكلام في لفظ "الفقر" فبعض النَّاس يُطلِق لفظ "الفقير" على أهل الصَّلاحِ والتَّقوَى من جهةِ أنَّهم فقراء إلى الله، ويستشعرون هذا المعنى، وبعضهم يقول: إنَّ الأفضل هو لفظ الصُّوفيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا غير صحيحٍ.
وذكر الشَّيخ أنَّ لفظ "فقراء" واردٌ، ولكن له معنيان في الكتاب والسُّنَّة، وهنا يأتي شرحُ هذين المعنيين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَفْظُ " الْفَقْرِ " فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْفَقْرُ مِنْ الْمَالِ، وَيُرَادُ بِهِ فَقْرُ الْمَخْلُوقِ إلَى خَالِقِهِ:كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِï´¾، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ فَقَالَ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًاï´¾، وَقَالَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي -وَهُمْ أَفْضَلُ الصِّنْفَيْنِ: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَï´¾.
وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ»)}.
هذا الكلام يُوضِّح أنَّ "الفقر" لفظٌ واردٌ في الكتابِ والسُّنَّة ويُستعمَل على وجهين:
الوجه الأوَّل: الفقر مِن المال: فالفقراء هُم الذينَ ليسَ لهم مالٌ، وشرعَ الله -عزَّ وَجَلَّ- أن يُعطى هؤلاء من الصَّدقات والزَّكوات، فقال تعالى: ï´؟إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِï´¾.
الوجه الثَّاني: استشعار المخلوقِ حاجته إلى خالقِه، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِï´¾، ومنه قول موسى -عليهِ السَّلام: ï´؟رب إني لما أنزلت إلي من خير فقيرï´¾ [القصص: 24].
فالفقراء الذينَ ليسَ لهم مالٌ يُمدَحون إذا كانوا على التَّعفُّفِ وكانوا على طاعةِ الله، والذينَ يستشعرون بقلوبهم فقرهم وفاقتهم إلى الله -عزَّ وَجَلَّ- فهؤلاء قد أثنَى الله -عزَّ وَجَلَّ- عليهم، قال الشيخ: (وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ صِنْفَيْنِ مِنْ الْفُقَرَاءِ: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ وَأَهْلَ الْفَيْءِ)، ثمَّ ذكر الآية في سورة البقرة: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًاï´¾، وهذا يدلُّ على فضلهم؛ لأنَّهم يتعفَّفونَ فيظنُّ الذي لا يعرف حالَهم أنَّهم أغنياء، وهذا الذي ينبغي للمسلم إذا افتقرَ؛ فيتعفَّف ويتصبَّر ويسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- من فضله حتى يُغنيه الله.
وأمَّا الصِّنف الثَّاني: هم الذينَ مُدِحُوا في سورةِ الحشرِ بالمعنى الثَّاني وليس بالمعنى الأوَّل، ولكن هم أيضًا قد نقصَ عندهم المال، فقال تعالى: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَï´¾.
والمراد بهذه الآية: الذينَ هاجروا مع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكَّة إلى المدينة؛ فهؤلاء هم المعنيُّونَ بهذه الآية، فوصفَهم الله بهذه الصِّفَة، لأنَّهم تركُوا أموالهم وبيوتهم ومساكِنَهم، وتركوا كلَّ ما لديهم، وخرجوا ناصرينَ للدِّين مهاجرين إلى الله ورسوله -رضيَ الله عنهم وأرضاهم- فافتقروا، ولهذا لمَّا نزلوا المدينةَ حثَّ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على إيوائهم ومساعدتهم، وقال الله في مدح الأنصار في الآية التي بعدها: ï´؟وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىظ° أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ غڑ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾ [الحشر: 9].
ثم قالَ في الآية التي بعدها: ï´؟وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌï´¾ [الحشر: 10]، وهذه الآية إلى أن تقوم السَّاعَة، فكلُّ مَن اتَّصفَ بهذا الوصف فهو مِن التَّابعين وأتباع التَّابعين، ومن سَارَ على هذا المنهج إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومَن عليها.
ولهذا قال الإمام مالك وجماعة من أهل العلم: "مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ فِي قَلْبِه غِلٌّ عَليهم فَلَيسَ لَه نَصيبٌ فِي الْفَيء" ؛ لأنَّ قوله تعالى: ï´؟وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىظ° رَسُولِهِï´¾ [الحشر: 6]، الفيء يعني: الغنائم التي تنتُج عن القتال في سبيل الله والجهاد، وهذا الفيء يُقسَم إلى ثلاثة أصناف:
الصِّنف الأوَّل ذكرهم الله تعالى في قوله: ï´؟لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَï´¾، فاللام هنا للتَّمليك، أي: أن الفيء يُقسَم على هؤلاء.
الصِّنف الثَّاني: ذكره تعالى في قوله: ï´؟وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَï´¾.
الصِّنف الثَّالث: ذكره تعالى في قوله: ï´؟وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْï´¾ يعني: يكون لهم نصيب في الفيء.
فقال الإمام مالك وغيره من العلماء: "من سبَّ أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان في قلبه غلٌّ على أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كالرافضة؛ ليس له نصيبٌ في الفيء"؛ لأنَّهم خرجوا بهذا الغل الذي وُجدَ في قلوبهم؛ فليسوا من هؤلاء.
قال الشيخ: (وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا)، يعني: جمعوا بينَ الهجرة والمجاهدة مع قلَّة ذات اليد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
فهؤلاء وُصفوا بكونهم فقراء، وهذا وصفُ مدحٍ هنا وثناء، لكن لا يكون هذا الوصف لكلِّ أحدٍ، إنَّما مَن كان على نفس المهنج ونفس طريقة الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أمَّا مَن ابتدَعَ وخرجَ عن السُّنَّة فلا يستحق هذا الوصف.
قال الشيخ: (كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ»).
أمَّا لفظ: «فِي طَاعَةِ اللهِ»، هو اللفظ الموافق للفظ الحديث.
بعدما ذكر الشَّيخُ أنَّ لفظ "الفقر" واردٌ في الكتاب والسُّنَّة؛ سينتقل الآن إلى موضوعٍ مهم جدًّا له علاقة وثيقة بموضوع الفصل، وهو أنَّ كثيرًا من هؤلاء المتصوِّفينَ والمتعبِّدينَ والمتنسِّكِينَ تركوا الجهادَ في سبيلِ الله؛ بل ذمُّوا مَن يُجاهد في سبيل الله مِن جنود الإسلام وعساكر المسلمين وتنقَّصوهم، وقالوا: إنَّ الجهاد الأكبر هو جهاد النَّفس، وسيُبيِّن الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ أولياء الرحمن لا يُمكن أن يتنقَّصوا ما أحبَّه الله ورسوله وهو الجهاد في سبيلِ الله، ولكن هذا بشروطه وبضوابطه الشَّرعيَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (أَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيه بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْعَالِهِ)}.
إذن حديث «رَجَعْنَا مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»، حديث كذب على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يحلُّ لأحدٍ أن ينسبه إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا ليُحذِّر النَّاس، ويقول لهم: هذا كذب على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا ترووه لا تنقلوه عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنَّه لا أصل له، ومخالفٌ لآيات وأحاديث كثيرة -كما سيأتي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجِهَادُ الْكُفَّارِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ ; بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًاï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌï´¾.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَنْ أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا ذَكَرْتُمَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ إذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ سَأَلْته فَسَأَلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ")}.
أنزلَ الله تعالى قوله ï´؟أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِï´¾، فبيَّنَ الله -عزَّ وَجَلَّ- في هذه الآية الكريمة وفي غيرها أنَّ الجهاد أفضل، وقال -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةًï´¾، فجهاد الكفَّار من أعظَمِ الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوَّع به الإنسان.
وقد اختلفَ العلماء في أفضلِ التَّطوُّع بعدَ الفرائض، ففضَّل بعضهم العلم، وفضَّل بعضهم الجهاد، والحقيقة أنَّ طلب العلم لنصرة الإسلام ونُصرَة سنَّة النَّبي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- والرَّد على مَن يُشكِّك في هذا الدين أو ينشر الشُّبهات هذا من الجهاد في سبيل الله.
وهذه النُّصوص تُبيِّن لك بُطلان ما يظنُّه بعضُّ النَّاس من أنَّ الجهاد الأكبر هو جِهاد النَّفس؛ بل إنَّ الجهاد الأكبر والأفضل عند الله هو جهاد أعداء الله بالقتال في سبيل الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قُلْت: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي")}.
وهذا صريحٌ في تقديم برِّ الوالدين على الجهادِ في سبيلِ الله، وهذا يُبيِّنُ لك عِظَم حقِّ الوالدين، فبعض مَن لا فقه عنده ولا بصيرة ولا معرفة بالشَّريعة يظنُّ أنَّ الجهاد مقدَّمٌ على برِّ الوالدين، والرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخَّره مع فضله العظيم، فبيَّنَ أنَّ البرَّ مقدَّمٌ، ومع الفضلِ العظيم للجهاد والذي كثُرَت فيه الأحاديث والآيات في فضائله وثوابه العظيم، فلمَّا قدَّم البرَّ علمنا أنَّ فضلَ برّ الوالدين أعظم مِن الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل الذي جاءه يستأذنه في الجهاد: « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ أحدهما أو كلاهما؟». قال: بل كلاهما. قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» ؛ فلابدَّ من تقديم حقِّ الوالدين واستئذانهما أيضًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ -سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: «إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ «حَجٌّ مَبْرُورٌ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلِ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: «لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ»، قَالَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ؟»)}.
الله أكبر!
هل يستطيع أحد أن يصومَ الأيَّامَ كلَّها ولا يُفطر، ويقوم الليل ولا يفتر؟
الجواب: لا يستطيع! فالمجاهد الذي يُجاهد أعداء الله بقتالهم والدِّفاع عن بلاد الإسلام لا شكَّ أنَّه حازَ هذا الأجر وهذا الثَّواب العظيم، ولا أحد يستطيع أن يلحق به، وهذا يُبيِّنُ لك فضل الجهاد، وليس كما يزعم هؤلاء أنَّ الجهاد الأكبر هو مجاهدة النَّفس، لا شكَّ أنَّك يجب عليك أن تُجاهدَ نفسَك، والجهادُ أنواعٌ؛ ولكن أعلى درجاتِه هو جهادُ الكفَّار، وجهادُ الشيطان، وجهادُ المنافقين، وجهادُ النَّفسِ الأمَّارة بالسُّوء، وجهادُ أهل المعاصي أيضًا، ولكن لكلِّ مقامٍ مقالًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَفِي السُّنَنِ عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ وَصَّاهُ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ؛ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ». وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ إنِّي لَأُحِبُّك، فَلَا تَدَعُ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك». وَقَالَ لَهُ - وَهُوَ رَدِيفُهُ - «يَا مُعَاذُ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟» قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ».
وَقَالَ أَيْضًا لِمُعَاذِ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَبْوَابِ الْبِرِّ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَقِيَامُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ ï´؟تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَï´¾» ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ أَلَا أُخْبِرُك بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟». قُلْت بَلَى. فَقَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْك لِسَانَك هَذَا فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»)}.
هذه الأحاديث عَن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كلُّها تدلُّ على أنَّ هذه الأعمال هي أعمال أولياء الرَّحمن، وهي أعمال يُحبُّها الله ورسوله، وأعمالٌ شرعَها الله لعبادِه كلِّهم، فالتَّقوى وإتباع السِّيئة بالحسنة، والخلق الحَسَن، والدُّعاء لله بقول: «اللَّهُمَّ أَعَنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك»، ومعرفة حق الله -عزَّ وَجَلَّ- وهو الذي قال لمعاذ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، ثم ذكر له الصَّوم وقيام الليل والصَّدقة، وأيضًا إمساك اللسان؛ فكلُّ هذا يُبيِّنُ أنَّ هذه أعمالُ الخيرِ وأعمالُ البرِّ هي أعمالُ عبادِ أولياء الرَّحمن أولياء الله، فلا يجوز أن نُهوِّن بها أو نستخفَّ بها، أو نقول هذه أشياء صغيرة أو نحتقرها، أو نقول إنَّ هذه للعامَّة دون الخاصَّة، فهؤلاء أفضل النَّاس، وهذه هي وصايا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
وفي قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟». فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا»، فهذه مسألة عظيمة جدًّا، وهي معرفة حقِّ الله الذي فرضَه على عباده.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟»، فهذا حق تكرَّم الله به على عباده فضلًا منه وجودًا وإحسانًا؛ قال: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ». نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن حقَّقَ التَّوحيد.
والشَّيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللهُ- بنَى عنوان كتابه المشهور العظيم النَّفع "كتاب التَّوحيد الذي هو حق الله على العبيد" من هذا الحديث، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».
وأورد الشَّيخ أربعة أحاديث عن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثم ذكر آخرها حديث إمساك اللسان، وأنَّ إمساكه سببٌ للخيرِ، فتساءل معاذ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»)، سبحان الله! اللسان هو الحصَّادة التي تحصد يوميًّا كلَّ كلمةِ، سواء غِيبةٍ أو نميمةٍ، أو سبٍّ، أو كذبٍ، إلى آخره؛ فلا يشعر بكثرة هذه الكلمات من كثرة كلامه؛ فكلها تجتمع عليه، فإذا تابَ تاب الله عليه.
والمقصود هنا: أنَّ الشَّيخ خرجَ إلى جانبٍ مُهم غلط فيه أيضًا المتصوفة وغيرهم، وهو موضوع السُّكوت والصَّمت، فاحتاج أن يوضِّح هذا المعنى بما سنقرأه الآن..
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، فَالتَّكَلُّمُ بِالْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَالصَّمْتُ عَنْ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَأَمَّا الصَّمْتُ الدَّائِمُ فَبِدْعَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَنْ أَكْلِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشُرْبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟». فَقَالُوا: أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»)}.
فهذا مِن الأغلاط -كما تقدَّم- وهو أنَّ بعضَ المتصوِّفة يرى أنَّ الصَّمت مُطلقًا عبادة، فيسكت يومًا أو يومين أو ثلاثة ولا يتكلَّم مع أحدٍ، ولا يجيب أحدًا ولا يردُّ على أحدٍ، ويتديَّن لله بهذا، ويسمُّون هذا الصَّمت الدَّائم، فيقول: أنا ما أقول إلَّا الذكر. وبعضهم يقول: أنا أردُّ بالآيات القرآنيَّة فقط! وهذا كله من البدع المنهي عنها.
أولًا: الكلامُ بالخيرِ مَطلوبٌ، إذا كانَ الكلام واجبًا صارَ كلامه حينئذٍ واجبًا، مثل: الأمر بالمعروف، ومثل: تذكير النَّاس بالخير، ومثل: الرَّد على الوالدين وخدمتهما، والكلام الطيب، وخفض الجناح لهما، ومثل ما يجب على الإنسان ما يقوله تجاه زوجته أو تجاه ولده أو تجاه خادمه، ومثل: ألفاظ عقود البيع والشراء، فهذه واجبة حتى تتم العقود وتصح.
ثانيًا: هناك كلمات ليست بشرٍّ وليست بخيرٍ؛ مثل: الكلام المباح؛ فحينئذٍ نقول: لو سكتَ عن الكلام الذي لا ينفعه فالسُّكوت فيه مصلحةٌ هنا، إذا كان الكلام ليس فيه خيرٌ وليس فيه حسنةٌ ولا فائدةٌ؛ فلو سكت عنه لكان طيبًا.
ثالثًا: التَّكلُّم بالشَّرِّ إثمٌ ومعصيةٌ.
أمَّا أن يقول: أنا أسكتُ مُطلقًا؛ فهذا الصَّمتُ بدعة.
ومثل ذلك: الامتناع عن أكلِ الخبز، وبعضهم لا يأكل اللحم، وبعضهم لا يشرب الماء، وبعضهم لا يتزوَّج ويتبتّل؛ فهذا كله من البدع المذمومة المنهي عنها.
وذكر المؤلف رجلًا في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كنيته أبو إسرائيل، نذَرَ أن يقف في الشَّمسِ ولا يستظل، ويظنُّ أنَّ هذا يُقرِّبه إلى الله وأنَّ هذا عملٌ طيبٌ، فألزم نفسَه بهذا النَّذر.
وبعض النَّاس يقول: أنا نذرتُ ويجب أن أوفي بنذري!
نقول: لا، انتبه! وانظر إلى حُكِم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هنا، وهذا الرجل نذرَ أن لا يتكلَّم مع أحدٍ وأن لا يرد على أحد ويتقرَّب لله بهذا، ونذر أن يصوم، فجمع في نذره بين شيئين مَنهيٌ عنهما، وشيء مَشروع وهو الصَّوم.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ»؛ لأنَّه نذر أن يقوم في الشَّمس.
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ»؛ لأنَّه لا يجوز الامتناع عن الكلام.
ثم قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ»، فنهى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن البدعة وأمر بالسُّنَّة، وميَّز بينهما، وهذا هو الواجب في الفتاوى وفي القضاء؛ فإذا جاءت الأمور فيها جهالات وبدع وفيها شيء من الحق من أجل أن يُفصَل بينهم، فتُردُّ الجهالات إلى السُّنَّة كما قال عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا سَأَلُوا عَنْ عِبَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَأَنَّهُمْ تقالوها، فَقَالُوا وَأَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا! وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُï´¾ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ كُلَّ يَوْمِ جُمْعَةٍ)}.
هذه قصَّةٌ عظيمةٌ، فهؤلاء الذي تقالُّوا عبادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واعتذروا له بأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد غَفرَ الله له ما تقدَّمَ مِن ذنبِه وما تأخَّرَ، وأمَّا هم فليسوا كحال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وظنُّوا أنَّهم لابدَّ أن يجتهدوا في العبادة، والنَّفس البشريَّة يأتيها أحيانًا مثل هذا الاندفاع والإقبال على العبادة، ويظنُّ الإنسان أنَّه سوف يستمر على هذا، وخاصَّة الشَّباب يأتيهم مثل هذا المعنى، وقد يأتي حتى بعض الكبار الكهول ونحوهم؛ وهذا بيَّنه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيانًا شافيًا واضحًا لا تعقيب على ما قاله الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبدًا، فبعض النَّاس يتعقَّب الرِّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدل على الزَّيغ، فهذه مسألةٌ خطيرةٌ.
فبعض هؤلاء امتنع من أكل اللحم تعبُّدًا لله، حتى إنَّ بعض المتأخرين من الصُّوفيَّة يقول: "لو أكلت قطعَة لحمٍ قَسَا قلبي كذا وكذا من السِّنين"! أيشٍ هذا! هل قلبك أطهر من قلب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقلب أبي بكرٍ والصَّحابة؟! فهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- قد أكلوا اللحم، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكلَ اللحم، فكيف تمتنع وتتباهى بذلك، أو يأتي أتباعه ويتباهون ويمدحونه بشيءٍ نهى عنه الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
فدين الإسلام دينٌ وسط، ليس فيه غلو هؤلاء، ولا جفاء هؤلاء، فلا نأكل ما حرَّم الله علينا، بل نأكل ما أباح الله لنا باعتدال، قال تعالى: ï´؟وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا غڑ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَï´¾ [الأعراف: 31].
والثَّاني يقول: أنا أصوم ولا أفطر، وهذا غلط.
والثالث: يقوم الليل ولا يرقد.
والرابع: يمتنع عن الزَّواج.
فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك كلِّه وشدَّدَ فيه، وخطبَ المسلمين على المنبر وقال: «مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا!».
إذن هذا الأمر يحتاج إلى بيانٍ للنَّاس؛ لأنَّه يأتي لبعض النُّفوسِ مثل هذا الإقبال أو هذا الاندافع والتَّشديد على النَّفس، وهذا ليس من الإسلام في شيء، والدليل على ذلك: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، وهذه براءة من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسبحان الله! بعضهم يقول: أنا أُصلِّي العشاء، ثم أصفُّ قدماي وأُصلِّي وأُصلِّي وأُصلِّي الليلَ كلَّه حتى يطلع الفجر! وقد يمدح بعضُهم بعضًا فيقول: هذا فلانٌ يُصلِّي الفجرَ بوضوء العشاء كذا وكذا من السَّنوات!
وهذا غلطٌ! حتى لو فعله رجلٌ فيه خيرٌ فقد أخطأ أيضًا وخالفَ السُّنَّة؛ فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصلِّي ويرقد في الليل، فالسُّنَّة أنَّه إذا صار نشيطًا وعنده قُدرةٌ يقوم نصف الليل أو ثلثَه أو سدسه أو يُصلِّي ما تيسَّرَ له، لابدَّ أن يُصلِّي لأنَّ هذا من السُّنَّة، ولكن لو لم يُصلِّ في الليل وقد صلَّى العشاء والفجر فالحمد لله، كما في حديث الأعرابي قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» .
ولكن يأتي عند بعض النَّاس اعتقادٌ أنَّ الصَّلاة طوال الليل وألَّا ينام هو الأكمل! فمن اعتقدَ هذا الاعتقاد أو عمل بهذا فقد خالف السُّنَّةَ.
يقول الشيخ: (أَيْ سَلَكَ غَيْرَهَا ظَانًّا أَنَّ غَيْرَهَا خَيْرٌ مِنْهَا، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَيْسَ مِنِّي»، وأنت يا مسلم وأنتَ تسمع هذا الكلام هل ترضَى أن يقول لك النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتَ لستَ مني؟! لا شكَّ أنَّه لا يوجد مسلم يرضى بهذا!
فاحذر مِن هذه الأمور التي تجعلك لست من النَّبي في شيء، وهي التَّشدُّد على النَّفس، والتَّكلُّف على النَّفس في العبادة، وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخطبة التي يُكررها كلَّ جمعة: «أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العبادة، وفي الاعتقاد، وفي الأخلاق، وفي الأعمال، وفي الأحكام والقضاء؛ وهديه في كل ما جاء به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا هو الواجب.
إذن؛ عرفنا من خلال هذا الفصل:
ïƒک أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- أولياء الرحمن ليس لهم علامات يتميَّزونَ بها، أو وظيفة مُعيَّنة، أو مَنصب مُعيَّن، أو لباس مُعيَّنٌ.
ïƒک وأنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- يكونوا في التُّجار، ويكونون في الصُّنَّاع، ويكونون في الزُّراع، ويكونون في المجاهدين، ويكونون في القُرَّاء والعُلماء؛ إذا اتَّقوا الله وعملوا بما أوجبَ الله وتركوا ماحرَّم الله.
ïƒک وعرفنا الغلطَ في المسائل التي مرَّت معنا، مثل ما يقع فيه بعض المتصوفة من ترك الكلام، أو التَّهوين من شأن الجهاد في سبيل الله، والاستخفاف به، أو الامتناع من أكل المباح واللبس المباح؛ فهذا ليس من الدين الإسلامي، ومَن فعل هذه الأشياء عرفنا أنَّه خرج عن طريق أولياء الرحمن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَلَيْسَ مَنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا لَا يَغْلَطُ وَلَا يُخْطِئُ ; بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمُورِ الدِّينِ، حَتَّى يَحْسَبَ بَعْضُ الْأُمُورِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَكونُ وَمِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ فِي بَعْضِ الْخَوَارِقِ أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ لَبَّسَهَا عَلَيْهِ لِنَقْصِ دَرَجَتِهِ وَلَا يَعْرِفُ أَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى ; فَإِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ï´؟آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَï´¾.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ- اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ: «قَدْ فَعَلْت». فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ï´؟وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌï´¾ قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْهَا قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُولُوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا»، قَالَ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَاï´¾ إلَى قَوْلِهِ: ï´؟أَوْ أَخْطَأْنَاï´¾ قَالَ اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْت». ï´؟رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَاï´¾ قَالَ: «قَدْ فَعَلْت». ï´؟رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَï´¾ قَالَ: «قَدْ فَعَلْت»)}.
هذا الفصل يُبيِّن فيه -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الولي ليس بمعصومٍ، وهذا فيه ردٌّ على عقيدةٍ ضالَّة تُوجد عند بعض الفئات الضَّالَّة والفِرَق المنحرفَة، وهو أنَّهم يعتقدونَ أنَّ الولي أو الإمام معصومٌ من الخطأ صغيره وكبيره، وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ؛ بل إنَّ الولي حقًّا وهو المؤمن التَّقي ليس بمعصومٍ، فكيفَ بمَن يدَّعونَ فيه الولاية وهو ليس بوليٍّ أصلًا، مثل أن يكون من أولياء الشيطان!
ثم فصَّل الشَّيخ في هذا وبيَّن أنَّ المؤمن الذي هو ولي حقًّا قد يكون جاهلًا فتخفَى عليه بعضُ الأحكامِ الشَّرعيَّة، وقد تشتَبِه عليه الأمور، وهذا مِن الجهل أيضًا، ولكن بسببِ وجود بعض الخوارق أو الأشياء الغريبة التي تخرج عن العادة؛ فيظن أنَّها علامات على صحَّة الشَّيء فيُخطِئ.
إذن؛ الولي قد يجهل وقد يُخطِئ، ولكن إذا كانَ مستقيمًا على الإيمان والتَّقوى وعلى السُّنَّة فإنَّ هذا الخطأ الذي وقعَ فيه أو الجهل الذي وقع فيه لا يُخرجه عن السَّنَّة، ولا يُخرجه عن الإيمان، وهو ممَّن وعدَهم الله بالمغفرة، وأوردَ الآيات التي في آخر سورة البقرة، والآية التي في سورة الأحزاب، وهي تدلُّ على أنَّ الخطأ الذي يقع فيه المؤمن أنَّه محل مغفرة الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ï´؟وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْï´¾.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ، بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ; وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ وَلِيُّ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَغْلَطَ لَمْ يَجِبْ عَلَى النَّاسِ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ وَلِيٌّ لِلَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ نَبِيًّا ; بَلْ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ فِي قَلْبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ، وَعَلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يَرَاهُ إلْهَامًا وَمُحَادَثَةً وَخِطَابًا مِنْ الْحَقِّ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ وَإِنْ خَالَفَهُ لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَمُوَافِقٌ هُوَ أَمْ مُخَالِفٌ ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ)}.
قوله: (وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرِو بْنِ العاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- مَرْفُوعًا أَنَّهُ قَالَ «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»)، إذن الحق واحد ولا يتعدَّد، وبهذا نعرف غلط من يزعم نسبيَّة الحق وأنَّه يتعدَّد، فهذا كلام باطل! قال تعالى: ï´؟فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ غ– فَأَنَّىظ° تُصْرَفُونَï´¾ [يونس: 32].
وَلَمَّا كان القاضي محلَّ اجتهادٍ لم يُؤثِّم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المجتهد المُخطئ؛ لأنَّه قال: «فَلَهُ أَجْرٌ»، قال الشيخ: (فَلَمْ يُؤَثِّمْ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ، بَلْ جَعَلَ لَهُ أَجْرًا عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَجَعَلَ خَطَأَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُصِيبَ لَهُ أَجْرَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ)، ولا شكَّ أنَّ المجتهد المصيب أفضل، ولكن لم يخرج المجتهد المخطئ عن ولاية الله، ولكن الذي أصاب أعلى منه درجة؛ لأنَّ الله وفَّقَه؛ ولأنَّه قام بالعلم.
ومن هُنا نصلُ إلى النَّتيجة المهمَّة، وهي: أنَّ ما يقوله وليُّ الله لا يجب قبوله على الإطلاق؛ بل يُعرَض كلامه هلى الكتاب والسُّنَّة، فما وافق الكتاب والسُّنَّة فهو حقٌّ، وما خالف الكتاب والسُّنَّة فهو مردودٌ، ولو قاله مَن هو ليٌّ لله، وذلك حتى لا يُجعَلُ نبيًّا، لأنَّه إذا قلنا إنَّ كل ما قاله وليُّ الله يُقبَل؛ جعلناه بذلك نبيًّا، وهذا لا يُمكن.
وحتى الشَّخص الذي يُقال عنه: إنَّه وليُّ الله -وهو المؤمن التَّقي- لا يجوز له أن يعتمِدَ على ما يُلقَى في قلبه، فلا يقول: أُلقيَ في روعي، أو حسستُ، أو شعرتُ بأن هذا القول أحسن؛ بناء على الشعور النفسي المجرد، أو يقول إني أُلهِمتُ إلهامًا.
نقول: لا؛ لا تعتمد على الإلهام ولا على الشُّعور النَّفسي، ولا على ما يُلقَى في قلبك.
يقول مثلًا: أنا سمعتُ صوتًا، أو هتفَ هاتفٌ في أذني أنَّ هذا هو الصَّواب.
نقول: لا تعتمد على هذه الأشياء إطلاقًا، ولكن المعتمَد عليه هو ما جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن كان هذا الكلام موافِقًا لما جاء به الرَّسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلناه، وإن كان مخالفًا لِما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَددنَاه، ويجب عليك أنتَ أن تردَّهُ، وإذا لم نعلم هذا موافق أو غير موافق لكوننا لم نتضلَّع في العلم فنتوقَّف، ولكن لا نجعل كلام الولي في شعوره وفي أحاسيسه هو الحجَّة!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ طَرَفَانِ وَوَسَطٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَافَقَهُ فِي كُلِّ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ حَدَّثَ بِهِ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ، وَسَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا رَآهُ قَدْ قَالَ أَوْ فَعَلَ مَا لَيْسَ بِمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ أَخْرَجَهُ عَنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَهُوَ أَنْ لَا يُجْعَلَ مَعْصُومًا وَلَا مَأْثُومًا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا، فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ: اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِقَوْلِ الْمُخَالِفِ وَيَقُولَ هَذَا خَالَفَ الشَّرْعَ)}.
هذه المسألة نختم بها هذا الدرس.
النَّاس في هذا المقام يقع فيهم غلو في الطَّرفين، وخيرُ الأمور أوسطها.
الطَّرف الأوَّل: إذا اعتقد أنَّ هذا الشَّخص وليٌّ لله -عزَّ وَجَلَّ- يقول: نقبل كلَّ ما قاله، وكل ما حُدِّثَ به قلبه، ونُسلِّم إليه في كلِّ شيء؛ فيقبله على عَلَّاته وتجاوزاته بزعمِ أنَّه وليٌّ لله، وهذا غلط؛ بل يجب أن يُعرَض كلامه على الكتاب والسُّنَّة، فليس الولي مصدرًا للتَّلقِّي عندنا، فمَن يزعم أنَّ الولي مَعصوم فهذا مخالفٌ للكتاب والسُّنَّة، وستأتي دلائل كثيرة تدل على هذا، وأنَّ أفاضل عباد الله المؤمنين من الصَّحابَة قد غلطوا ونُبِّهوا على غلطهم، فلا يُجعَل الولي محل عصمة؛ لأنَّ هذا مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّة.
الطَّرف الثَّاني: مَن إذا رآى الولي المؤمن الصَّالح التَّقي قال قولًا مخالفًا للشَّرع؛ قال: هذا ليسَ بوليٍّ، وليسَ بمؤمنٍ، وأخرجه من ولاية الله بالكليَّة بناء على خطأ أخطأه، ومعلوم أنَّ الخطأ إذا كان صادرًا عن اجتهادٍ فإنَّه مغفورٌ -كما مرَّ معنا في الآيات، فكيف تُخرجه عن ولاية الله! فهذا الصِّنف يتعامل مَع المجتهد المخطئ تعاملًا قاسيًا.
الطَّرف الثَّالث: لا يجعله مَعصومًا، ولا يجعله مَأثومًا إذا كان مُجتهدًا، فإذا أخطأ لا يُؤثِّمَه ولا يُخرجه من ولاية الله، قال الشيخ: (فَلَا يُتَّبَعُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ مَعَ اجْتِهَادِهِ).
أمَّا إذا كانَ غيرَ مجتهدٍ؛ فإذا ادُّعِيَت فيه الولاية فهو كذَّاب، أو ادُّعِيَت فيه الولاية وهو يتعمَّد مخالفةَ الكتاب والسُّنَّة؛ فهذا ليس بمجتهدٍ، وهذا يُحكَم عليه بمقتضَى ما عمل، فإن كانَ عمِلَ كفرًا، فيُحكَم عليه بالكفر كأن يدَّعي أحدهم أنَّه هو الله -تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا- فيقول: ما في الجُبَّة إلَّا الله. ويقول إنَّه يُصلِّي لنفسِهِ، وأنَّ الصَّلاة له هو! فهذا كله يُحكَم عليه بالكفرِ، لأنَّه أظهر الكفرَ وهذا ليسَ محلَّ اجتهاد.
فالكلام هنا في المؤمن التَّقي إذا صدرَ منه اجتهادٌ في محلِّه وهو من أهل الاجتهاد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْوَاجِبُ عَلَى النَّاسِ: اتِّبَاعُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَوَافَقَ قَوْلَ آخَرِينَ)، يعني إذا اتَّبع هذا الولي قولَ فقيه دونَ غيره وكانت المسألة فيها خلاف؛ فحينئذٍ لا يُمكن أن نُلزمه بقول مَن خالفَهُ، ونقول إنَّه خالف الشَّرع، لأنَّه محلَّ اجتهادٍ وخلاف بينَ أهل العلم، وهذا إذا لم يظهر الدَّليل، أمَّا غذا إذا ظهرَ الدَّليل ووضح الحق فلا يجوز أن يأخذ بقول فقيه ويترك الدليل.
فنقول: يجب اتِّباع ما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ولو قال بعضُ الفقهاء قولًا مخالفًا للكتاب والسنَّة فقد خالف الشَّرع، والواجب على جميع المسلمين أن يتَّبعوا الشَّرع، وإذا ظهر الدَّليل بخلاف قول الفقيه فلا يُتَّبع قول الفقيه، وهذا في الخلاف المتوازن بينَ العلماء، وكلٌّ يتمسَّك بشيءٍ ظهَرَ له، ولم يظهر فيه الدليل الصَّريح الذي يُبيِّن الحق، فلا إنكار في مسائل الاجتهاد، أمَّا المسائل التي ليست محلَّ اجتهادٍ لظهور الدَّليل؛ فإنَّه يُنكرُ على مَن خالفَ الدَّليلَ.
ونقفُ عند هذا الموضع، ونُكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرس القادم، ونسأل الله -جلَّ وع!لا- لن!ا ولكم التَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:43   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
الدَّرسُ التَّاسِعُ (09)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد؛ فأهلًا وسهلًا بكم مفضيلة الشَّيخ}.
الله يحييكم ويُحيي الإخوة جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله واصحابه ومَن اعتدى بهداه.
لازلنا نقرأ في هذا الفصل المهم الذي عقده الشَّيخ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب الفرقان، والذي يُبيِّنُ فيه أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يُشترط أن يكونوا مَعصومينَ، بل يجوز عليهم الخطأ والغلَط، ويخفَى عليهم بعضُ العِلم، وقد يقَعونَ في المخالفةِ بسببِ النِّسيانِ أو الخطأ أو الذَّنب، وهذا لا يُنقِصُ مِن مِقدارهم إذا كانوا على الشَّريعة، وذكرَ الشَّيخ أدلَّةً على هذا، وذكرَ أنَّ النَّاس في هذا المقام طرفانِ ووسط، فمنهم مَن إذا اعتقدَ في الشَّخص أنَّه وليُّ لله وافقه في كلِّ ما يقول، ومنهم مَن يعتقد أنَّه إذا وقعَ في مخالفةٍ عادَاه وأبغضَهُ حتى ولو كانت المخالفة يَسيرة، ومنهم الوسَط، وهو ألَّا يجعل الوليَّ مَعصومًا، ولا يُجعَل مأثومًا إذا كان مُجتهدًا مُخطئًا، أمَّا إذا كانَ غيرَ مُجتهدٍ مثل: أن يتعمَّد الضَّلالة، وعرفَ الحقَّ وعاندَ؛ فهذا -والعياذ بالله- يُحكم عليه بمقتَضَى ما خالفَ، إن كانَ فسقًا فهو فاسقٌ، وإن كان كُفرًا فهو كافر، بحسبِ ما ارتكبَ من جِناية، فيخرج بذلك عن ولاية الله -عزَّ وَجَلَّ.
وهكذا النَّظر في كلام الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- إذا اختلفوا في الأدلَّة أو الأقوال، فيُنظَر في هذا بالنَّظر الوسَطِي -كما قال أهل العلم- فيؤخَذ بقولِ مَن يكون معه الدَّليل، ولا يُقلَّدَ الفقيه إذا خالفَ الدَّليلَ، فالإنكارُ يكونُ عند مخالفةِ القُرآنِ والسُّنَّةِ واجبًا، وأمَّا القول بأنَّه لا إنكار في مَسائل الخِلاف فهذا غيرُ دقيقٍ، بل لا إنكار في مسائلِ الاجتهادِ التي يَسُوغ فيها الاجتهاد؛ لأنَّ هذا فيه البيان والتَّوضيح، وكلٌّ يُدلي برأيه وحُجَّته، أمَّا المسائل التي وضحَ فيها الدَّليلُ ووضَحَ فيها حُكمُ الله وحُكم ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيجب فيها الإنكار على مَن خالف.
والآن بدأ الشَّيخ -رَحِمَهُ اللهُ- يتكلَّم عن أحد البراهين الكبرى، أنَّ أولياء الله -عزَّ وَجَلَّ- لا يشترط أن يكونوا معصومينَ لا يُخطِئونَ، بل يُرَدُّ عليهم الخطأ، وضربَ مثالًا بمَا أجمعَت الأمَّة على هدايتهِ وولايتهِ وفضلهِ، وهو عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهو ثاني الخلفاء الرَّاشدين، وهو الفاروق أمير المؤمنين، وهو الخليفة بعد أبي بكر الصِّديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين- ومكانته من رسولِ الله المكانة المعروفة، وسيأتينا الآن النَّظر في بعض المسائل التي غلِطَ فيها -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبَّهه عليها، وهذا لِنربطَ ما سبقَ بدرسِ اليوم -إن شاء الله.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» وَفِيهِ: «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرُ»)}.
هذه الأحاديث بعضُها صحيحٌ وبعضُها غيرُ صحيحٍ، ولكن أرادَ المصنِّف -رَحِمَهُ اللهُ- بيان فضل عمر، فقد يتسَاهل بعضُ أهلِ العلم في روايةِ ما ضَعُفَ في باب الفضائلِ من باب الاعتضاد لا مِن باب الاعتماد، فالحديث: «لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ» لا يصح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد وُجِدَ في إسناده مَن لا يُعتمَد عليه. وكذلك حديث «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي لَكَانَ عُمَرُ»، في سنده مقال، ولكن يقول فيه الترمذي: "حديث حسن غريب".
أمَّا حديث: «قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ مِنْهُمْ»، ففي البخاري ومسلم، وفي الحديث الآخر: «إنَّ اللَّهَ ضَرَبَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ» حديث صحيح في السُّنن.
ومعنى: «محدَّثُون»، أي: مُلهَمون، يعني يُلقَى في قلبهِ وروعهِ معانٍ صحيحةٌ، ويجري على لسانِه الصَّواب من غيرِ قصدٍ، فهذا من فضلِ الله عليه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "مَا كُنَّا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ". ثَبَتَ هَذَا عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ )}.
إذن؛ موقف عليٍّ من عمر هو موقف المحبَّة، وليس كما يُصوِّر الرافضة والنَّواصب أعداء الأمَّة في إثارة الأمور بين الصحابة، فإنَّ الصَّحابَة بينهم المودَّة والمحبَّة والألفة كما ترون.
{قال: (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "مَا كَانَ عُمَرُ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: إنِّي لَأَرَاهُ كَذَا إلَّا كَانَ كَمَا يَقُولُ". وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَارِقٍ قَالَ: "كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عُمَرَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ مَلَكٌ".
وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: "اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ")}.
يعني أنَّ الصَّالحين الرَّاسخين في العلم ممَّن أطاعوا الله -عزَّ وَجَلَّ- دائمًا يكون كلامهم طيِّبًا ونافعًا، فالاقتراب مِن مجالسِ أهل العلم الرَّاسخين والاستماع منهم والاستفادة مِن علمهم؛ يُقرِّب المؤمن من الحقِّ ويُبعده عن الباطل؛ فإنَّه تتجلَّى لهم أمور صادقة، يعني: حتى في مواقفهم من بعض الأشخاص أحيانًا قد يلمِسُون منه بعض الكلام أو لحنِ القول فيُنبِّهَه، فتنتفع بتحذيرٍ هذا المؤمن من ذاك الرَّجل، كيفَ عرف أنَّه منحرف أو ضالٌّ وربَّما ذلك المنحرف لم يُصرِّح بشيء؟ ظهرَ ذلك من لحْنِهِ في القولِ، وهذا لِرسُوخه في العلم ولقوَّة الطَّاعة والإيمان يفتح الله عليه، فينتبه لانحراف بعض المنحرفين قبلَ أن يشتهرَ عند النَّاس، وهذا يلمسه طلبة العلم، ويلمسه المقربون من الرَّاسخين مِن أهل العلم، فكلَّما جلسَ طالب العلم عند الرَّاسخين من أهل العلم وجدَ عندهم من الفِطنةِ والتَّنبُّهِ والمعرفةِ بمقاصد الشَّريعة وأحوالِ النَّاس تجاهَ هذا ما يتعجَّب منه، وهذا يُبيِّن لك فضل مجالس العلماء ومجالسة أهل العلم، خصوصًا الذين رسخوا في العلم، ولهذا ينبغي أن تسأل الله -عزَّ وَجَلَّ- وتقول: اللهم ارزقني مجالسة أهل العلم الرَّاسخين، أهل الطَّاعة والتَّقوَى، اللهم ارزقني مصاحبتهم ومجالستهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذِهِ الْأُمُورُ الصَّادِقَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهَا تَتَجَلَّى لِلْمُطِيعِينَ هِيَ الْأُمُورُ الَّتِي يَكْشِفُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ، فَأَفْضَلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)}.
قوله: (فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ مُخَاطَبَاتٍ وَمُكَاشَفَاتٍ)، قصدُ الشَّيخِ بالمخاطبات -والله أعلم: الإلهام، وإلا فليس هناك وحيٌ غير ما أُنزل على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إطلاقًا، ولكن يأتيه إلهامٌ أحيانًا، أو يُلقَى في قلبه معنًى صحيحٌ، أو تبدو له فكرةٌ صحيحةٌ ومعنًى جديدٌ فيستفيد منه المؤمنون، كأن يكونَ مع الجيش مثلًا فيقول لهم: انزلوا في هذا المكان؛ لأنَّه أفضل، وفي ظنِّي كذا؛ فيفتح الله عليه أحيانًا، لكن لا تكون سليمة على كل حالٍ،.
فالمخاطبات أو ما يُلقَى في قلبِ الإنسان، أو ما يجده الإنسان في نفسِه؛ قد يكون صحيحًا وقد يكون خطأً، ولكن هذا وقعَ للصَّحابة والتَّابعين ولكثيرٍ من أهل الإيمان، لكن لا يُعتمَد عليه ولا يُجعل مرجعًا.
أما المكاشفات: فهي الأمور التي تُكشَف كالعلم، فيُكشَف له أمرٌ غاب عن الحاضرين، مثلما وردَ أنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "يا سارية؛ الجبلَ الجبلَ"، فهذا كشفٌ كشفه الله -عزَّ وَجَلَّ- لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وللمؤمنين الذين قاتلوا الروم مع سارية -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال له عمر: الجأ إلى الجبل وتحصَّن به، فكانوا في القتال فسمعوا صوتًا يقول: "يا سارية، الجبلَ الجبلَ"، فهذا من كرامات الله -عزَّ وَجَلَّ- التي ثَبتت.
وفي القُرآن مَا يدلُّ على ثُبوت الكرامات، كما في قوله تعالى: ï´؟كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًاï´¾ [آل عمران:37].
وهذا كلُّه ثابتٌ، ولا يعني أنَّ مَن وقعت له هذه الكرامات أنَّه لا يُخطئ؛ بل قد يخطيء ويغلط ويُذنب، فلا يُتَّبَع في كلِّ ما يقوله، وهذا هو المقصود من هذ الفصل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ تَعْيِينُ عُمَرَ بِأَنَّهُ مُحَدَّثٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَيُّ مُحَدَّثٍ وَمُخَاطَبٍ فُرِضَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعُمَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَفْعَلُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِضُ مَا يَقَعُ لَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَارَةً يُوَافِقُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِ عُمَرَ، كَمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِمُوَافَقَتِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَتَارَةً يُخَالِفُهُ فَيَرْجِعُ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ)}.
إذن، أيُّ إنسانٍ يُفترَض أنَّه من الصَّالحين بعدَ الصَّحابَة، ويُعتقَد فيه أنَّه وليٌّ، ويُقال: إنَّه يُحدَّث أو يُلهَم أو يسمع هاتفًا أو كذا؛ فعمر خيرٌ منه بالإجماع.
وكان حال عمر أنَّه إذا عرض له في قلبه معنًى؛ فإنَّا لا يعتمد على هذا الشَّيء، بل يعرضه على ما جاء عن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالفيصل هو ما جاءَ عن رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فربَّما وافقه الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأيَّدَه على ما قاله وأثنَى عليه، فهذا يعتبر من فضائل عمر أنَّه وافق القرآن والوحي في عدَّة مواضع، وربَّما خالفَه، فيرجع عن ذلك عمر، ولا يستمر على رأيه، ولا يقول: إنَّي قد أُلقيَ في قلبي هذا المعنى وسأستمر!
وفي هذا الرَّد على مَن يدَّعي أنَّ الأولياء يُتَّبعونَ فيما أُلقيَ في قُلوبهم وفيما حُدِّثوا به، فعمر خيرٌ منهم آلاف المرَّات، ولا مُقارنَة بينهم وبينه، ومع ذلك كانَ عمر يرجع إذا تبيَّنَ له أنَّه مخالفٌ للسُّنَّة، كما حصل يوم الحديبية، وسيأتي بالتَّفصيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا رَجَعَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا كَانَ قَدْ رَأَى مُحَارَبَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ اعْتَمَرَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ نَحْوُ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَيَعْتَمِرَ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ، وَشَرَطَ لَهُمْ شُرُوطًا فِيهَا نَوْعُ غَضَاضَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَم وَأَحْكَمَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَكَانَ عُمَرُ فِيمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟" قَالَ: «بَلَى» قَالَ: "أَفَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟" قَالَ: «بَلَى». قَالَ: "فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَلَسْت أَعْصِيه».
ثُمَّ قَالَ: "أَفَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا نَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟" قَالَ: «بَلَى. قَالَ: أَقُلْت لَك أَنَّك تَأْتِيه الْعَامَ؟» قَالَ: "لَا" قَالَ: «إنَّك آتِيه وَمَطُوفٌ بِهِ»
فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مِثْلَ جَوَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ يَسْمَعُ جَوَابَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَكْمَلَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَلِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عُمَرَ، وَعُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: "فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا")}.
أبو بكر لم يكن يعلم بالمحادَثة والمحاورَة التي جرت بينَ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعمر تضايق وكذلك كثير من الصَّحابة لِمَا رأوا من الشُّروط القاسية، فكان مِن ضِمن الشُّروط أنَّهم لا يعتمرون في تلك السَّنة ويرجعون إلى المدينة مع أنَّهم أَحرموا من الميقات، ومعهم من الهَدْي ما أرادوا به تعظيم البيت؛ ثم يُقال لهم: ارجعوا وليس هناك عمرة هذا العام! فكان هذا الأمر شديدًا عليهم.
وكان مِن ضِمن الشُّروط: إن ذهب أحد من مكَّة إلى المسلمين ردُّوه إليهم، ولو خرج واحدٌ من المسلمين إلى مكَّة لا يردُّوه إليهم! وكان هذا شديدًا على المسلمين، وفيه نوعُ غضاضةٍ، ومع ذلك وافق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه الشروط.
ولمَّا فُرغَ من كتابة الكِتَابِ تأثَّر عمر، وجاء أبو جندل، ولهذا سُمِّيَ هذا اليوم بيوم أبي جندل، فأبو جندل صحابي مسلم، وكان محبوس في مكَّة، وأبوه هو سهيل بن عمرو مندوب المشركين الذي صالح النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكن أبو جندل كان مسلمًا، فجاء يرسف في قيوده وزحف حتى وصل ورمى المسلمون فرمَى بنفسه، ونادى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونادى الصَّحابة: كيف تتركوني عند هؤلاء المشركين يعذبونني ويُفتنوني عن ديني!
والصَّحابة تأثَّروا لَمَّا سمعوا هذا، والصَّحابة لا يُبالون بالقتل في سبيل الله والجهاد، ولهذا قال عمر: "فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟"، أخذ يُحاور النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ ذهب إلى أبي بكر يُحاوره، فكانَ جوابُ أبي بكرٍ مُوافقًا لجوابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أنَّه لم يسمع ما دارَ بين عمر بن الخطاب وبين النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا يدلُّ على كمالِ أبي بكر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
والهدفُ مِن إيراد هذه القصَّة العظيمة التي تُعتبر مَليئة بالحِكَم والأحكام: أنَّ الوليَّ قد يغلط، وأنَّ ما يُلقَى في قلبه ليس بعمدةٍ إلَّا إذا وافقَ الكتاب والسُّنَّة مُوافقةً واضحةً، ولا يُجعَل ما يُلقَى في قلبِ الإنسان -ولو قيل إنَّه ولي- عُمدة، فلا يجوز هذا؛ لأنَّ هذا إبطالٌ للدِّينِ، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ردَّ على عمر أمام المسلمين وبيَّن له أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الحقِّ وأنَّ الله ناصره، ولم يأخذ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما قالَه عمر، حتى قال عمر: "فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا".
وهذا يؤسِّسُ لنا قاعدة مهمَّة، وهي أنَّ أولياء الله قد يقعون في الغَلَطِ، ويُلقَى في قلوبهم ما يظنُّون أنَّه صواب وغيرةٌ في الدِّينِ أو زيادة في الطَّاعة أو زيادة في العلم الصَّالح، وهو ليس كذلك!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْكَرَ عُمَرُ مَوْتَهُ أَوَّلًا، فَلَمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنَّهُ مَاتَ رَجَعَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ)}.
هذه هي المسألة الثَّانية؛ فعمر هنا فاتَ عليهِ وظنَّ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يَمُت، بل قال: "مَن زعمَ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد ماتَ ضربتُ عنقَه"، فلمَّا رأى النَّاس أبا بكرٍ أقبلوا عليه وتركوا عمرًا، فخطبَ أبو بكر في النَّاسَ وقال: "أمَّا بعدُ؛ فمَن كان يعبدُ محمدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَï´¾ [آل عمران:144]"، فرجعَ عمر عمَّا قالَه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَذَلِكَ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ : "كَيْفَ نُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا»". فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَلَمْ يَقُلْ: «إلَّا بِحَقِّهَا»، فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا".
قَالَ عُمَرُ: "فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ")}.
وهذه هي المسألة الثَّالثة، فقد كان عمر يرى أنَّ مانعي الزَّكاة لا يُقاتلون؛ لأنَّهم يقولون: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، لكن بيَّنَ له أبو بكر وبيَّن له الصَّحابَة أنَّ هذا القول لا يكفي؛ لأنَّه لابدَّ أن يُؤدُّوا حقَّه، وَمِنْ حَقه إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة، والإتيان بشرائعِ الإسلام، فالزَّكاة من حقِّ "لا إله إلا الله"، فإذا مَنعوها استوجبَ هذا قتالهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا نَظَائِرُ تُبَيِّنُ تَقَدُّمَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ، مَعَ أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مُحَدَّثٌ؛ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الصِّدِّيقِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمُحَدَّثِ؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ يَتَلَقَّى عَنْ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ، وَالْمُحَدَّثُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ أَشْيَاءَ وَقَلْبُهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا هو الفَرق بينَ الصِّديق والمحدَّث، ولا شكَّ أنَّ الصَّحابَة والخلفاء الأربعة كلُّهم موصوفٌ بهذا المعنى، أي: موصوفون أنَّهم بلغوا من التَّصديق غايته، فهم أكمل النَّاس إيمانًا، وأكمل النَّاس قيامًا بشرع الله، وأكمل النَّاس فيما يفتح الله -عزَّ وَجَلَّ- عليهم، ولا أحد يفوقهم، ولكن بعضهم يُميِّزه الله عن البعض، وإلَّا فهم مُشتركون في هذه المعاني اشتراكًا واضحًا، ولكن يتميَّز بعضهم في مثل هذه المواقف العظيمة، فيظهرُ كمالُ بعضهم على بعض، وأكملهم أبو بكر ثُمَّ عُمر ثُمَّ عُثمان ثُمَّ علي؛ وإلَّا فكلٌّ مِنهم فيه من الصِّدِّيقيَّة أبلغها، لكنَّ أبا بكرٍ أعلى، وهكذا فيما يتعلَّق بالمعاني الأخرى، مثل: الإيمان والشَّهادة والصَّلاح والتَّقوَى، ونحو ذلك من أعمال الخير التي يُحبُّها الله ورسوله، فلهم من ذلك النَّصيب الأوفر والحظ الأعظم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشَاوِرُ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَيُنَاظِرُهُمْ وَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَيُنَازِعُونَهُ فِي أَشْيَاءَ فَيَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُقَرِّرُهُمْ عَلَى مُنَازَعَتِهِ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ: أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي!)}.
هذا هو الأمر الرَّابع، فبعدما ذكرَ قصَّة صُلح الحديبية، ثم ذكر قصَّة موت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنكار عمر لذلك ثم رجوعه، ثم ذكرَ قصَّة قتالِ مانعي الزَّكاة، ثم ذكر هنا هذا الأمر الرابع وهو كثرة مُشاورة عمر للصَّحابة، وكان له مجلسًا يجعل فيه خِيار المهاجرين والأنصار -رَضِيَ اللهُ عَنْهم وأرضاهم- وكان يدور في هذا المجلس محاورات ومناقشات ويتنازعون في بعض الأمور، ولم يقل عمر: "أَنَا مُحَدَّثٌ مُلْهَمٌ مُخَاطَبٌ، فَيَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنِّي وَلَا تُعَارِضُونِي"، أبدًا! وهذا أبينُ دليلٍ على أنَّه إجماع من الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- على أنَّه لا يُمكن أن يُقال في حق عمر أو غيره مثل هذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأَيُّ أَحَدٍ ادَّعَى أَوْ ادَّعَى لَهُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ يَجِبُ عَلَى أَتْبَاعِهِ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَلَا يُعَارِضُوهُ وَيُسَلِّمُوا لَهُ حَالَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ)}.
يعني: بعض النَّاس الآن ينظر في شخصٍ فيراه تدمع عيونه، وبعضهم إذا صلَّى على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دمعت عيناه، والصَّلاة على النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حقٌّ ودينٌ، وبعض النَّاس إذا مرَّت به آية رقَّ قلبُه ودمعت عينُه؛ فيقال: هذا وليٌّ الله، انظر كيف دمعت عينه لَمَّا ذُكِرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
ثم يعتبر أنَّ كلَّ ما يقوله حقٌّ، وتجد هذا الشَّخص الذي حصلَ منه هذا ربَّما يقع في فظائع الأمور عقديًّا وعمليًّا، فإذا اعتقد أنَّه وليٌّ قبل منه كل شيء.
نقول في مثل هذه الحال: (فَهُوَ وَهُمْ مُخْطِئُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ)؛ لأنَّ هذا ليس معيارًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَفْضَلُ مِنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُنَازِعُونَهُ فِيمَا يَقُولُهُ وَهُوَ وَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ)}.
الأنبياء غير الأولياء، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُؤخَذ عنه كل ما قاله أو فعله سنَّة متَّبعة، ولا يجوز معارضَة كلام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا برأي ولا بذوقٍ ولا بوجدٍ ولا بقول فقيهٍ، فقَوْل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوق كل هذا، لقول الله تعالى: ï´؟إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىظ°ï´¾ [النجم:4]، وقال تعالى: ï´؟وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًاï´¾ [الأحزاب:36]، فلا يجوز مُعارضة سُنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بآراء النَّاس وأقوالهم كائنًا مَن كان؛ لأنَّ هذا دين، وهذا معنى: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". أمَّا الأولياء فيقع منهم الصَّواب ويقع منهم الخطأ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ- يَجِبُ لَهُمْ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ، وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ؛ بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِب طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ؛ بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَاب وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَكَانَ مُجْتَهِدًا مَعْذُورًا فِيمَا قَالَهُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، لَكِنَّهُ إذَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مُخْطِئًا وَكَانَ مِنْ الْخَطَإِ الْمَغْفُورِ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ï´؟فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْï´¾)}.
إذن هنا يُخرج من هذا النَّص من ليسوا مِن أهلِ الاجتهادِ، فيُوجد بعض النَّاس يُدَّعى فيهم ولاية الله وأنَّهم أولياء، والحقيقة أنَّهم فُسَّاقٌ وأهلُ مجونٍ، وبعضهم يُدَّعى فيه أنَّه وليٌّ لله وهو يُشرك بالله، ويعبد غير الله ويستغيث بالأموات، ومن النَّاس مَن يُدَّعى فيه أنَّه ولي لله -عزَّ وَجَلَّ- وهو يُزاول السِّحر والكهانة ويتَّصل بالشَّياطين؛ فهؤلاء أولياء الشَّيطان وليسوا معنا في هذا النِّقاش، وإنَّما الكلام فيمَن هم من أهل الصَّلاح والعلم والتَّقوى والسُّنَّة والاتباع، ومع هذا نقول هم يُخطئون وليسوا معصومين، فإذا اتَّقوا الله ما استطاعوا فإنَّ خطأهم مغفورٌ، وإذا قصَّروا أو فرَّطوا فإنَّه يحصل لهم الإثم والذَّنب، فهذا الكلام في أولياء الله الصَّالحين المتَّقين، فما بالك بمَن ادَّعيَت فيه الولاية وهم ليسوا كذلك!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِï´¾، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: "حَقَّ تُقَاتِهِ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ"، أَيْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَاï´¾.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾، وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَï´¾)}.
هذه الآيات الثَّلاث في هذه المواضع الثلاثة ذكرَ الله -عزَّ وَجَلَّ- فيها الإيمان بما جاء به الأنبياء من غير تردُّدٍ، يعني: ما جاء به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نقبله مِن غيرِ تردُّدٍ ومِن غيرِ توقُّفٍ ومن غير بحثٍ، ولا نشكِّك فيه أبدًا؛ بل نقبله بلا ريبٍ وبلا شكٍّ، قال تعالى: ï´؟إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواï´¾ [الحجرات:15]، فهذا هو وصف الإيمان؛ لأنَّ ما يقوله النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو وحيٌ من عند الله وغير قابلٍ للتَّشكيك، فيجب قبول قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دونَ توقٌّفٍ ولا مناقشة.
أمَّا الأولياء فلا؛ لأنَّهم يقع منهم الغلط، وأورد الشَّيخ هذا البحث لأنَّك عندما تسمع قوله تعالى: ï´؟آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَï´¾ [البقرة:285]، فيجب عليك أن تتعامل مع القُرآن والسُّنَّة بهذا الواجب الذي فرضَه الله عليك وهو الإيمان والتَّسليم والقبول والانقياد لِمَا أنزله الله -عزَّ وَجَلَّ- من الوحي، فهذه مسألةٌ عظيمةٌ، فإنَّ بعض النَّاس يعرفها إجمالًا لكن عندَ التَّفصيل يقع في الغلط، وبعض الناس يقع منه أشد من الغلط، مثلما يقع من غُلاة الصُّوفيَّة، الذين يُحاول بعضُ النَّاس أن يروِّج لمذهبهم؛ بل وُجدَ من يُدافع عن مَن عُرِفَ عنه القول الكفري كمن يقول عن نفسه المخلوقة أنَّه الله، تعالَى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا!
فترى الآن مَن يُدافع عن هؤلاء الكفَرَة الملاحدة، وتجده يقول: أنتم تُبالغون...!
فهناك مَن يُروِّج لهذه المبادئ، فإذا عرف المؤمن هذه المسألة عرف كيف يُفرق بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان، وعرفَ أهلَ السُّنَّةِ من أهلِ البدعةِ، وعرفَ أهلَ الإيمان مِن أهلِ الكفرِ، وعرفَ أهل الطَّاعةِ مِن أهلِ المعصيةِ، وهذه المعرفةُ نابعة من الإيمان بما أنزل الله على محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال تعالى: ï´؟قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَاï´¾، وقوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَï´¾، وقال: ï´؟وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَï´¾، فنحن نؤمن بهم، أمَّا الأولياء فليسوا داخلين في هذا المعنى، فنحن نُحبُّ أولياء الله الصَّالحونَ أهل الإيمان والتَّقوى، ولكن ليسوا بمنزلة أنَّ كلَّ ما يقولونه نؤمنُ به، وإنما إذا قال أولياء الله ما يوافق الكتاب والسُّنَّة فأهلًا ومرحبًا، وإذا قالوا ما يُخالف الكتاب والسُّنَّة فلا يُقبل منهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ)}.
ربَّما تستغرب من هذا الكلام وتقول: إنَّه أمرٌ واضح!
نقول: هذا واضحٌ عندَ مَن آمنَ وعرفَ ودرسَ السُّنَّة وخالطَ أهلَ السُّنَّة، ولكن يوجَد من يُبايع شيخًا على طريقةٍ كالصوفيَّة أو طريقةٍ حزبيَّة، ثم يقولون له: كُنْ بينَ يدي شيخكِ كالميِّتِ بينَ يدي الغَاسلِ، واستَسْلِم لكلِّ ما يقوله شيخُك؛ لأنَّ شيخَك يُلقَى في قلبهِ كذا وكذا؛ ولأنَّه وليٌّ!
فهذا منكرٌ عظيمٌ وباطل، وقد حدَّثني مرَّة أحد الإخوة يقول: كنَّا ونحنُ صغارٌ قبل أن نهتدي إلى السُّنَّة والتَّوحيد، يأتي مدرسٌ لنا وهو صاحب الطريقة ويسموننا مُريدين، ويقول: "قولو: مدَدْ يا سيدي فلان"، فيُعلِّمهم الشِّرك -نسأل الله العافية والسَّلامة- فهذا شيءٌ موجودٌ، ولا نتكلَّم عن شيءٍ انتهى!
يقول الأخ: وكنا صغارٌ ونستجيب له، فمرَّة من المرَّات قلت له: يا شيخ، لِمَ لا نقول مدَدْ يا الله؟ فألقى في قلبي شُبهةً خبيثةً، فقال: أضرب لك مثلًا -وهكذا طريقة المشركين أن يضربوا لله الأمثال- فقال: لو أنَّ عندك راديو على خط كهرباء (110 فولت)، وشبكته على ضغط عالٍ (440 فولت) أو أعلى؛ ماذا يحدث للراديو؟ فقلت: ينفجر أو يحترق.
فقال: هكذا إذا جاءك المدد من الله ينفجر قلبك، فلابدَّ للمدَدِ أن يعطيه الله للأوتادِ، ثمَّ الأوتَادُ يُعطونَه للأقطابِ، ثمَّ الأقطابُ يُعطونَه للأولياءِ، ثمَّ أنت تتوسَّل بالوليِّ وتطلب منه؛ فيعطيكَ ما يُناسبك!
هذا المثل الخبيث وإن كان مُضحكًا ويدل على تفاهة عُقولهم، وسفاهة رأيهم، وأنَّهم مُنغمسون في الشِّرك الأكبر الذي شابهوا فيه كفَّار قريش؛ إلَّا أنَّ فيه ضلالتان كبيرتان:
الأولى: أنَّه قاسَ الخالقَ -سبحانه وتعالى- على الكهرباء المخلوقة، وهذا عينُ التَّمثيل، والله تعالى قال: ï´؟لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌï´¾ [الشورى:11]، وقال: ï´؟فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَï´¾ [النحل:74]، وقال: ï´؟وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌï´¾ [الإخلاص:4]، وهذه الضلالة موجودة وتتكرَّر عند كلِّ مشرك.
الثانية: أنَّه جعلَ الخالق -تباركَ وتعالى- عاجزًا أن يوصل للعبد ما يُناسب حاله وقلبَه، وجعل المخلوق -الذي هو الولي أو الوتد أو القطب- قادرًا على أن يوصل للمخلوقِ ما يُناسبه، فوصفَ الله بالعجزِ، ووصفَ المخلوقَ بالقدرةِ والكَمَالِ، وهذا يدلُّك على قبحِ الشِّرك، ولهذا فإنَّ الشِّركَ مِن أظلم الظُّلم وأقبحِ القبيح.
ولولا أنَّ الأمر مُشتهرٌ وموجودٌ ما احتجنا إلى هذا البيان، والقرآن أعاد في هذه القضايا لأهمِّيتها وحتى يتعلَّق القلبُ بالله -سبحانه وتعالى- ولا يتعلق بالمخلوقين.
{أحسن الله إليكم..
هذه الشُّبهة أليست هي عين شُبهة المشركين لَمَّا قالوا: ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زُلفَى؟}.
نعم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فشبهة المشركين تتكرَّر إلى هذه اللحظة، وهي شبهتان عظيمتان:
- قولهم: ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زُلفَى.
- وقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يَسُوغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ومَنْ خَالَفَ فِي هَذَا فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِمْ ; بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرِطًا فِي الْجَهْلِ.
وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ، كَقَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني: "إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الجنيد -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: "عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا". أَوْ قَالَ: "لَا يُقْتَدَى بِهِ".
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ: "مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا؛ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ: ï´؟وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواï´¾".
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نجيد: "كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ")}.
هذه النُّقول اتَّفقَ عليها أهل العلم، ومنهم الصَّالحون مِن أهلِ العبادةِ الذين يُعتبرونَ من المتصوِّفة القُدمَاء، ولكنَّهم لم يقعوا في البدعِ التي وقعَ فيها المتأخِّرون؛ بل عُرِفَ عنهم كثرة العبادة، وربَّما جاء عنهم بعضُ الزِّيادة في ذلك والتَّشدُّد، ولكنَّهم في الجملة مِن أهلِ السُّنَّة ومِن أهلِ العلمِ، مثل هؤلاء الذين ذكرَهم الشَّيخ هنا، وإنَّما استشهَدَ بأقوالهم؛ لأنَّ مُتأخري الصُّوفيَّة لازالوا يُعظِّمونهم، ويتَّخذونَهم شيوخًا لهم، فأتَى بكلامٍ مِن كلامِ هؤلاءِ الصَّالحينَ فيه ردٌّ على تصرُّفات المتصوِّفة المتأخِّرين، فهذا هو السَّبب لإيراد أقوال هؤلاء.
قال الشَّيخ: مَن خالفَ الكتاب والسُّنَّة إمَّا أن يكونَ كافرًا مُتعمِّدًا، وهو مَن يقول القول الكفري، وإمَّا أن يكونَ مُفرطًا في الجهلِ.
ثم ذكر الشَّيخ قول الدَّاراني، وهو عبد الرحمن بن أحمد الدَّارني أبو سليمان، تُوفي سنة مائتين وخمسة عشر، يقول: "إنَّهُ لَيَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".
النُّكتة: يعني الخاطرة، أو المعنى الطَّريف المفيد النَّافع الذي شذَّ عن المعاني الثَّانية، وهي الشيء البديع والجميل، ومع ذلك لا يُعتمد على هذا الشيء.
وقوله: "مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ"، يعني مِن أهلِ العبادةِ.
وهذه العبارات كانوا يُطلقونها في بدايات التَّصوُّف ولم يكن هناكَ التَّشكُّل الكامِل كما حدَثَ بعدَ ذلك.
قال: "فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ"، يعني: لا يُمرِّر تلك الخواطر أو المعاني التي تقع في قلبه إلا بموافقة الكتاب والسُّنَّة؛ وقد أحسنَ في هذا -رَحِمَهُ اللهُ.
كذلك يقول الجُنيْد، وانظر إلى عبارته؛ لأنَّ هذه العبارات بداية التَّصوُّف، ولكن لم يكونوا على البدع المشهورة، بل إنَّ هؤلاء عُرفوا بالعبادة والسُّلوك وزيادة الزُّهد والتَّعبُّد، فيقول: "عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا". أَوْ قَالَ: "لَا يُقْتَدَى بِهِ"؛ وصدقَ.
وهكذا أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ يقول كلامًا عظيمًا وجيدًا، فيقول: "مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا"، وهذا يحتاج مجاهدة في أن تقرأ السُّنَّة وتتعلَّمها، سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصَّلاة، في الأذانِ، في الوضوءِ، في الغَسلِ، في النَّومِ، وفي كلِّ شيءٍ، فتجعل السُّنَّة هي الآمر عليك.
قال: "نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ"، يعني: سُدِّدَ وصارَ كلامُه موافقًا للسَّنَّة.
قال: "وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا"، يعني: أعرَض عن السُّنَّ وصارَ يتَّبع هواه. قال: "نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ"؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ: ï´؟وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواï´¾".
في بعض النُّسخ قال أبو عثمان: "لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كَلَامِهِ الْقَديم"، وفي النُّسخة التي حققها الدكتور عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى -جزاه الله خيرًا- وهي رسالة مُعتمدة، قال: "هذه لم تَرِدْ في المراجعِ، ولهذا لمْ أُثْبتها في النَّصِّ"، يعني قوله: "الْقَديم" وهكذا قال أهل العلم: إنَّ هذه العبارة غير صحيحة.
ووصفه لكلام الله تعالى بالقديم غلط؛ لأنَّ القرآنَ لا يوصَف بهذا، فالله -عزَّ وَجَلَّ- تكلَّم بالقرآن، والله تعالى مَوصوفٌ بالكلام، فهو يتكلَّم متى شاءَ، كيفَ شاء، فجنسُ الكلام قديمٌ ولكن آحادَه تحدث بمشيئة الله واختياره، فهذه العبارة مُخالفة للعقيدة، وفيها خطأ، وموافقة لعقيدة الأشعريَّة.
ثم ذكر قول أَبي عَمْرِو بْنِ نجيد: "كُلُّ وَجْدٍ"، الوجد هو المعنى الذي يجده في قلبه ويرتاح له.
قال: "لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ"، أي: لا تعتمد على ما ارتاح له قلبك، وإنَّما لابدَّ أن يشهد الكتاب والسُّنَّة لهذا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يَقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّ،ةَ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ، وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، فَمَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ، وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)}.
يقول الشَّيخ: إنَّ الذين يغلطونَ في هذا المقامِ حقيقةً يبدؤون أولًا بالبدعَةِ، ثم إذا استمرُّوا واستمرُّوا ربَّما وقعوا في الكفرِ، وهذا موجودٌ بكثرة في هؤلاء المنحرفين، فأوَّل الأمر يُظن أنَّ هذا ولي، كأن يراه يبكي أو يرى له بعض الأعمال الطَّيِّبَة، ثم يوافقه حتى لو خالفَ الكتاب والسُّنَّة، فإذا خالفَ الكتاب والسُّنَّة استمرَّ معه في المخالَفة.
ويقول الشَّيخ: إنَّ الله -عزَّ وَجَلَّ- قد فرضَ عليك اتِّباع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس اتِّباع هذا، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي فرض عليك الله -عزَّ وَجَلَّ- تصديقَه وليس هذا، وهو -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الفارق بينَ أهل الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، فمَن اتَّبعَه دخلَ الجنَّة، ومَن عصاه دخلَ النَّار.
قال الشيخ: (فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ، وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ)، وسيذكر الشيخ الأدلَّة على هذا، ونجعلها في الدرس القادم -إن شاء الله تعالى.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يثبِّتنا على الإيمانِ وعلى الإسلامِ وعلى سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّه سميعٌ مجيبُ الدُّعاء، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:43   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
الدَّرسُ العَاشِرُ (10)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يُحييكم ويُحيي الإخوة الكرام جميعًا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حتى نربط هذا الدَّرسَ بالدَّرسِ السَّابقِ في الأسبوع الماضي؛ فقد ذكر -رَحِمَهُ اللهُ- في فصلٍ عقدَه يُبيِّن فيه أنَّ العِصمَة ليست شرطًا في الولاية، فأولياء الله -عزَّ وَجلَّ- لا يُشتَرط فيهم أنهم معصومون، بل قد يقع منهم الخطأ، وذكر ما يدل على هذا، وذكر أنَّ بعضَ الناس يغلط في هذا المقام غلطًا شنيعًا.
ثمَّ بيَّنَ أنَّ عُمر أفضل من جميع مَن يُدَّعَى فيه الولاية ممَّن جاء بعدَ الصَّحابة، ومع ذلك فإنَّ عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقعَ منه الغلط في بعض المسائل، وقد نبَّهه عليها الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر أيضًا، وكان عمر يتَّخذ مجلسًا من الصَّحابة للمشاورة، وما يقول لهم أنا مُحدَّث أو مُلهَم واسمعوا ما أقول! فهذا غير صحيح، فإذا كان هذا في شأن خلفيةٍ راشدٍ من الخلفاء الراشدين وأمير مؤمنين وفاروق؛ فما بالك بمَن جاء بعدَه من الصَّالحين، فالشيخ ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- يُبيِّن أنَّ هذا من مسائل الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فأيُّ واحدٍ يدَّعي لنفسه أو يدَّعي له أصحابه أنَّه وليٌّ لله وأنَّه مُخاطَب ومُحدَّث ومُلهَم، ولا يُعتَرض عليه ويجب قبول ما عنده؛ فهؤلاء ضالُّونَ مخالفون للكتاب والسُّنَّة.
وذكر -رَحِمَهُ اللهُ- وجوب الإيمان بما أنزل الله -عزَّ وَجلَّ- ومن ذلك ما جاء به الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكر كلام بعض المتقدَّمين من العبَّاد والصَّالحين، وإلى هنا وصلنا في القراءة في الدرس الماضي، واليوم -إن شاء الله تعالى- نكمل القراءة في هذا الفصل النافع.
{قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَيَظُنُّ فِي شَخْصٍ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَيَظُنُّ أَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ يُقْبَلُ مِنْهُ كُلَّ مَا يَقُولُهُ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَقُولُهُ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ كُلَّ مَا يَفْعَلُهُ، وَإِنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَيُوَافِقُ ذَلِكَ الشَّخْصُ لَهُ، وَيُخَالِفُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ تَصْدِيقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَطَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَجَعَلَهُ الْفَارِقَ بَيْن أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ)}.
يعني: كيف تُوافق شخصًا وتترك النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وتوافقه في كل ما يقوله وفي كل ما يفعله وتُخالف مَن ألزمك الله وفرض عليك طاعته واتِّباعه والإيمان بما جاء به، وجعله الله -عزَّ وَجلَّ- الفارق بين أوليائه وأعدائه، فمَن اتَّبعه فهو من أولياء الله، ومَن أعرَض عنه فهو من أعداء الله، كيف هذا؟!! هذا لا يمكن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَمَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَجُنْدِهِ الْمُفْلِحِينَ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ كَانَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ الْخَاسِرِينَ الْمُجْرِمِينَ، فَتَجُرُّهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ وَمُوَافَقَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوَّلًا إلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالِ، وَآخِرًا إلَى الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَيَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: ï´؟وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًاï´¾)}.
وجه الشَّاهد قوله: ï´؟يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِï´¾ الذكر هُنا هو القُرآن والوحي ويدخل فيه السُّنَّة.
وقوله: ï´؟لَقَدْ أَضَلَّنِيï´¾ لقد أضلَّني هذا الخليل، فكلُّ مَن اتَّخذَ شخصًا يُصدِّقه ويتَّبعه غير الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فله نصيبٌ من هذا.
وتقدَّم معنا في درسٍ ماضٍ أنَّ الشيخ عَلَّق على قوله تعالى: ï´؟وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَظ°نِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌï´¾ [الزخرف:36]، وبيَّن أنَّ المراد بذكر الرحمن: القُرآن، وليس مجرد الأذكار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقَوْله تَعَالَى: ï´؟يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًاï´¾)}.
انظر! هؤلاء يحكي الله مقالتهم وهم في النَّار، تُقلَّب وجوههم في النَّار -نعوذ بالله من النار- وسبب ذلك أوضحه الله -عزَّ وَجلَّ- عنهم، فقال: ï´؟يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَاï´¾ وهم السَّادة. ï´؟وَكُبَرَاءَنَاï´¾ وهم القادة والكِبار. ï´؟فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَاï´¾، ثم يدعون عليهم: ï´؟رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًاï´¾، وهذا من الحسرات التي يجدونها، قال تعالى: ï´؟كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْï´¾ [البقرة:167].
إذن طاعة السَّادة وطاعة الكُبراء -حتى وإن قيل: إنَّهم أولياء- إذا خالفوا الكتاب والسُّنَّة؛ فأنتَ محاسبٌ على اتِّباعهم ولا تُعذَر بطاعتك لهؤلاء ومخالفتك لكلام الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وقَوْله تَعَالَى: ï´؟وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِï´¾)}.
نسأل الله العافية والسَّلامة!
انظُر إلى تبرُّؤ الأتباع من المتبوعين، قال: ï´؟إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواï´¾ فهؤلاء المتبوعين -القادة- تبرؤوا من أتباعهم الذين اتَّبعوهم، فجاء الأتباع وقالوا: ليتنا نرجع للدنيا حتى نتبرَّأ منك.
وهذه موعظة لكل عاقل، أنَّه لا يتَّبع في الضَّلالة أحدًا كائنًا مَن كان، حتى لو ادُّعيَت فيه ولاية الله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَؤُلَاءِ مُشَابِهُونَ لِلنَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ï´؟اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾. وَفِي الْمَسْنَدِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا سُئل النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهَا فَقِيلَ:مَا عَبَدُوهُمْ! فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ»)}.
ولهذا لا يجوز مُتابعة الأمراء والعُلماء في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فهذا هو ما فعله بنو إسرائيل، وهلكوا! وقال الله في شأنهم: ï´؟اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَï´¾، لَمَّا تلاها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا قبل أن يُسلم، فقال عدي: لم يعبدوهم! فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ».
إذن؛ لا يجوز أن نجعل العَالِم أو الأمير أو العابد أو الولي الصَّالح؛ معيَارًا في تحليل الأحكام أو تحريم الحلال، فالتَّحليل والتَّحريم حق الله ورسوله، فما حرَّمه الله ورسوله فهو الحرام، وما أحله الله ورسوله فهو الحلال، ولا نُغيِّر هذا لأجل قول عالمٍ غلط أو وليٍّ صالحٍ ضلَّ، أو أميرٍ خرجَ عن الشَّرع؛ فلا طاعة لمخلوق في مَعصية الخالق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلِهَذَا قِيلَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ: إنَّمَا حَرَّمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ الْأُصُولِ تَحْقِيقُ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَعَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، مُلُوكِهِمْ وَسُوقَتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَهُ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَï´¾.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ، لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْم أَحْيَاءٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ")}.
وهذا هو الواجب، وهو معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وهذا أصل الأصول، يقول الشيخ: (فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، إنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ)، فالإنس جميعًا والجن جميعًا يجب عليهم طاعة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَعَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، عُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ، مُلُوكِهِمْ وَسُوقَتِهِمْ)، كل هؤلاء يجب عليهم اتباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن جميع أهل الأرض من أوَّلهم لآخرهم يجب عليهم الدخول في دين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أبَى فهو من الكافرين، ولهذا يقول الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاï´¾ [الأعراف:158]، وقال: ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَï´¾ [الأنبياء:107]، وقال: ï´؟وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَظ°ذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَï´¾ [الأنعام:19]، وقال: ï´؟وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَï´¾ [آل عمران:85]، وقال: ï´؟الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُï´¾ [آل عمران:19]، فدين النَّصارى المحرَّف ودين اليهود والمجوس وسائر الأديان الباطلة كلها كفرٌ وضلالٌ؛ ولا يجوز المطالبة بالمقاربة معها، أو التَّوحُّد فيما بينها، وأن يكون هناك ملَّة إبراهيميَّة تجمع الملل، فنحنُ أتباع محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهؤلاء أتباع عيسى، وهؤلاء أتباع موسى؛ هذا كلام كفري وخروج عن الإسلام، مَن قال بهذا يجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يُجدِّدَ إسلامَه، فإنَّ الإسلام هو مُتابعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والدُّخول في دينه، واعتقاد أنَّ أيَّ دينٍ غيرَ دين النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفرٌ وضلالٌ، مَن شكَّ في هذا فهو من الكافرين بإجماع علماء المسلمين، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .
وذكر الشيخ هنا (العلماء والعبَّاد)، حتى لا يقول عابدٌ: إنَّه مُستثنًى من اتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه مشغولٌ بالعبادة، أو لأنَّ لديه حقيقة وأنتم عندكم الشريعة، لا؛ فالجميع مُطالب باتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والفقهاء مُطالبون باتِّباع الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يقول: إني أُقلِّد العالم الفلاني أو المذهب الفلاني ولا أبالي بالحديث، لا؛ فالحديث على العين والرأس يجب اتباعه إذا صحَّ عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان الأئمة الأربعة يقولون: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"، وكلامهم في هذا مشهورٌ.
وقوله: (إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) تقدَّم الكلام عنه، والمتابعة الظَّاهرة كالصَّلاة والأذان، والمتابعة الباطنة كأعمال القلوب ونحوها.
وممَّا يدلُّ على عموم الرِّسَالَة وأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو خاتم الأنبياء والرُّسل: أنَّه لو بُعث موسى والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيٌّ لوجبَ على موسَى اتِّباع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيسى سينزل في آخر الزَّمان ويتَّبع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويصلي خلف إمام المسلمين كما جاءت بذلك الأخبار عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ï´؟أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاï´¾)}.
هذه الآيات الكريمة في سورة النِّساء تدلُّ أمور:
الأمر الأول: تدل على وجوب التَّحاكم إلى سنَّة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإلى شرع الله ودينه، وأنَّ مَن أبَى فقد تحاكم إلى الطَّاغوت.
الأمر الثاني: تدل على أنَّ الْمُعرِض عن الله -عزَّ وَجلَّ- وعن كتابه وعن سُنَّة رسوله هو من المنافقين، قال تعالى: ï´؟رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًاï´¾.
الأمر الثالث: تدل على أنَّ الرسول ما أرسله الله إلَّا ليُطاع -بإذن الله عزَّ وَجلَّ- في شرعه؛ لأنَّه يُوحَى إليه من الله -عزَّ وَجلَّ- وهذا هو معنى الإيمان بأنَّه رسولٌ من عند الله.
الأمر الرابع: تدل على نفي الإيمان على مَن لم يتحاكم إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندَ النِّزاعات التي تنشأ بينَ الناس، سواء في العقائد أو في السُّلوك، أو في الأعمال، أو في الخصومات بينَ الناس، قال تعالى: ï´؟فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًاï´¾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مُقَلِّدًا فِي ذَلِكَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ بَنَى أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، وَأَنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يُخَالِفُ فِي شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَكْبَرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، كَأَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِهِ وَلِيًّا لِلَّهِ أَنَّهُ قَدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، مِثْلِ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ، أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا، أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ، أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ، أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ، أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ، أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، بَلْ قَدْ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ)}.
إذن كل مَن خالف شيئًا ممَّا جاء به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبب تقليده لواحدٍ يظنُّ أنَّه ولي؛ فنقول له: لو قُدِّرَ أنَّ هذا الشَّخص الذي أحببته وظننتَ أنَّه ولي من أكابر أولياء الله وأنَّه من الصَّحابة؛ فإنَّه لا يجوز لك متابعته في هذا، فكيف وهم يُتابعون أشخاصًا ليسوا من الصَّحابة ولا من التَّابعين ولا من العلماء الراسخين من أهل السُّنَّة والجماعة؛ بل يُتابعون أشخاصًا لمجرد أن حدثت لهم بعض الأمور ذكرها الشيخ، وهي:
- قوله: (مُكَاشَفَةٌ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ)
معنى المكاشفة: أنَّه يطَّلع على شيءٍ لم يطَّلع عليه النَّاس؛ كأنَّه ينظر فيرى مكانًا بعيدًا أو شيئًا من هذا، فهذا ليس بدليل على ولايته، هذا أمرٌ خارق للعادة ولكن ليس بدليل على صحَّة الطَّريقَة التي يسير عليها هذا الشَّخص.
- قوله: (أَوْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، مِثْلِ أَنْ يُشِيرَ إلَى شَخْصٍ فَيَمُوتَ)، فهؤلا تُعاونهم الشَّياطين، فربما تنفث الشَّياطين في قلب الشَّخص فتوقف الدَّم أو تفعل شيئًا فيسبب له الموت.
- قوله: (أَوْ يَطِيرَ فِي الْهَوَاءِ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا)، وكانت تطير بهم الجن ويظنون أنَّ هذا كرامة وأنَّه أمرٌ خارقٌ للعادة، ويقولون: سلِّموا لنا، ألم نَطِرْ ونفعلْ كذا..
قوله: (أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْمَاءِ أَحْيَانًا، أَوْ يَمْلَأَ إبْرِيقًا مِنْ الْهَوَاءِ)، يأتي بإبريقٍ فارغٍ ويضع فيه الهواء ويمتلئ ماءً، فيتعجَّبونَ من هذا ويقولون: إنَّ هذا ولي، وهكذا يغترُّونَ بهم.
قوله: (أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ)، وفي النُّسخة الأخرى للكتاب جاء (أَوْ يَنْطِق بَعْضَ الْأَوْقَاتِ مِنْ الْغَيْبِ)، يعني: يتكلَّم بأشياء غيبيَّة، مثل أن يقول: سيحدث غلاء في الأسعار، أو فلان سيموت فيموت، فهذا نطق بشيء من الغيب.
وهذه النسخة هي الصواب وهي ما عليه العُلماء في شروحاتهم، وهي لفظة (يَنْطِق)، يعني يتكلم.
قال: (أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ)، وهذا ما يقع لبعضهم، كأن يكون معهم أمس ويختفي فجأة، خطفته الشَّياطين أو شيء، فيغترون بهذا.
قال: (أَوْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فَرَآهُ قَدْ جَاءَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ)، بعض الجهلة يستغيث بغير الله -عزَّ وَجلَّ- من الخلوقين ويقول إنَّ هذا ولي، فيستغيث به ويراه أمامه، فيقول: سبحان الله! كيف جاءني وهو يسكن بعيدًا!!
أو يستغيث بميِّتٍ فيراه أمَامه فيتعجَّب، وهؤلاء الشياطين تعينهم، الدجال في آخر الزمان تُعينه الشَّياطين، فيقول للأعرابي: سأحيي أباك وأمَّك، فيتمثَّلانِ له، فيظن أنَّهما أبواه، وإنَّما هم جن تمثَّلوا.
قال: (أَوْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا سُرِقَ لَهُمْ، أَوْ بِحَالِ غَائِبٍ لَهُمْ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ)، كل هذه التَّصرفات والأشياء الغريبة يقول عنها الشيخ: (وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ لِلَّهِ، بَلْ قَدْ اتَّفَقَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ لَمْ يُغْتَرَّ بِهِ حَتَّى يَنْظُرَ مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُوَافَقَتَهُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ)، فهذا هو المعيار، وليست هذه التَّصرُّفات، فلا تغرَّنَّكم هذه الأشياء، ومع الأسف لا تزال هذه الأمور سبب للفتنة، فإذا رأى بعض الناس شيئًا غريبًا خارقًا للعادة عند شخصٍ قال هذا ولي! فانتبه!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ تَكُونُ لِكَثِيرِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَكُونُ لِأَهْلِ الْبِدَعِ وَتَكُونُ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَيُعْرَفُونَ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَبِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ)}.
هذه مسألة مهمَّة، وهي أنَّه ليس من علامات أولياء الله -عزَّ وَجلَّ- حدوث خوارق للعادة حتى لو سمُّوها كرامة؛ لأنَّ هذه الخوارق تحدث لوليِّ الله -بل أعظم منها يحدث- وتحدث لعدو الله، فتحدث أيضًا للكفَّار والمنافقين والمشركين، فلا يجوز أن يُظن فيمَن حدثت له أنَّه وليٌّ لله بمجرَّد حدوثها، بل يقول الشيخ: (بَلْ يُعْتَبَرُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ)، يعني: حدُّهم ومعرفتهم وصفتهم بما وردَ في الكتاب والسُّنَّة من صفاتهم وأفعالهم وأحوالهم، وما يُعرفون به من نور الإيمان والقرآن؛ فهذا هو الذي يُعرَف به وليُّ الله من عدو الله، فلا تُجعَل هذه الأمور الخارقة للعادة علامة على الولاية، فانتبهوا لأنَّ هذه مسألة مهمَّة جدًّا، وهذا من أساس الكتاب الفرقان بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَأَمْثَالَهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَشْخَاصٍ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ لَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ، بَلْ يَكُونُ مُلَابِسًا لِلنَّجَاسَاتِ مُعَاشِرًا لِلْكِلَابِ، يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ والقمامين وَالْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ، رَائِحَتُهُ خَبِيثَةٌ لَا يَتَطَهَّرُ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا يَتَنَظَّفُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَلَا كَلْبٌ»، وَقَالَ عَنْ هَذِهِ الأخلية: «إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ»، أَيْ: يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».
وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا»، وَقَالَ: «إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ»، وَقَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ».
وَأَمَرَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَقَالَ: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ». وَقَالَ: «لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً مَعَهُمْ كَلْبٌ»، وَقَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ».
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾.
فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُبَاشِرًا لِلنَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ وَالْحُشُوشِ الَّتِي تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ، أَوْ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالزَّنَابِيرَ، وَآذَانَ الْكِلَابِ الَّتِي هِيَ خَبَائِثُ وَفَوَاسِقُ، أَوْ يَشْرَبُ الْبَوْلَ وَنَحْوَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَوَجَّهَ إلَيْهَا أَوْ يَسْجُدُ إلَى نَاحِيَةِ شَيْخِهِ، وَلَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ يُلَابِسُ الْكِلَابَ أَوْ النِّيرَانَ، أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَزَابِلِ وَالْمَوَاضِعِ النَّجِسَةِ، أَوْ يَأْوِي إلَى الْمَقَابِرِ، وَلَا سِيَّمَا إلَى مَقَابِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ يَكْرَهُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْأَغَانِي وَالْأَشْعَارِ، وَيُؤْثِرُ سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ الرَّحْمَنِ؛ فَهَذِهِ عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ)}.
هذه الجملة عظيمة جدًّا، ضربَ الشيخُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا المثال ليتَّضح المقال، وهذه الأمثلة التي ذكرها الشيخ يجب أن نتدبَّرها جميعًا، وننظر في أحوال النَّاس.
نعيد القراءة مع البيان:
قال: (مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ وَأَمْثَالَهَا)، يعني: الخوارق، كأن يطير أو يختفي أو يُخبر ببعض المغيَّبات.
قال: (قَدْ تُوجَدُ فِي أَشْخَاصٍ وَيَكُونُ أَحَدُهُمْ لَا يَتَوَضَّأُ، وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ، بَلْ يَكُونُ مُلَابِسًا لِلنَّجَاسَاتِ مُعَاشِرًا لِلْكِلَابِ، يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ والقمامين وَالْمَقَابِرِ وَالْمَزَابِلِ، رَائِحَتُهُ خَبِيثَةٌ لَا يَتَطَهَّرُ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلَا يَتَنَظَّفُ)، هذه الأشياء تضر؛ لأنَّ الذي لا يُصلِّي كافر، والذي لا يتوضَّأ لا تصح صلاتُه، فكيف تدَّعي أنَّه وليٌّ لله بمجرَّد حدوث خرق العادة، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَلَا كَلْبٌ»، والكلب لم يُرخَّص فيه إلَّا لثلاثة: الزرع، والحراسة، والماشية؛ فهذه الأشياء مأذون فيها، أمَّا ما عداها كمعاشرة الكلاب فهو منهي عنه.
قال الشيخ: (وَقَالَ عَنْ هَذِهِ الأخلية: «إنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ»، أَيْ: يَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ)، والحش في الأصل هو البستان، ولكن صارَ يُطلَق على موضع قضاء الحاجة.
قال: (وَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْخَبِيثَتَيْنِ فَلَا يَقْرَبَن مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»)، فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن قربان المسجد لمَن أكل من الثُّوم أو البصل أو الكُرَّاث؛ لخبث رائحته.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا»، فالواجب ألَّا يأكل الخبائث وألَّا يفعل ما يُوجب الرَّوائح الخبيثة.
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ»، وَقَالَ: «خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»، فأمرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتل الكلب العقور والحيَّة والعقرب في الحلِّ والحرم.
ثم قال الشيخ: (فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ مُبَاشِرًا لِلنَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ، أَوْ يَأْوِي إلَى الْحَمَّامَاتِ وَالْحُشُوشِ الَّتِي تَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ، أَوْ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَالزَّنَابِيرَ، وَآذَانَ الْكِلَابِ الَّتِي هِيَ خَبَائِثُ وَفَوَاسِقُ، أَوْ يَشْرَبُ الْبَوْلَ وَنَحْوَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الشَّيْطَانُ)، فكلُّ هذه الخبائث مُحرَّمَة في الشَّرع، ووُجدَ مَن يفعل هذا.
قال: (أَوْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثَ بِالْمَخْلُوقَاتِ وَيَتَوَجَّهَ إلَيْهَا، أَوْ يَسْجُدُ إلَى نَاحِيَةِ شَيْخِهِ، وَلَا يُخْلِصُ الدِّينَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي: يتَّجه إلى شيخه في مكانه الذي فيه ويسجد له، فهذا مشرك ولا يُخلص لدين الله ربِّ العالمين.
قال: (أَوْ يَكْرَهُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَيَنْفِرُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْأَغَانِي وَالْأَشْعَارِ، وَيُؤْثِرُ سَمَاعَ مَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ الرَّحْمَنِ؛ فَهَذِهِ عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ لَا عَلَامَاتُ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ)، أو يسكن في المقابر؛ فهذه كلها علامات أولياء الشيطان، وليست علامات أولياء الرحمن.
وهذه الأمور تقع من هؤلاء ويُدَّعى فيهم أنَّهم أولياء! سبحان الله العظيم!
بعضهم ممَّن يقوم بهذه التَّصرُّفات السَّابقة إمَّا مجنون فاقد لعقله، أو دجَّال كذَّاب كاهن مُفترٍ على الله -عزَّ وَجلَّ- يقع منه هذا الشَّيء، أو كهَّان وسحَرَة ومشعوذين، فكيف يُدَّعى فيهم أنَّهم سادة ويُعتَقَد فيهم أنَّهم أولياء؟!
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب كشف الشُّبهات كلامًا عظيمًا حول هذا المعنى، وقال: إنَّ المشركين المتأخرين أخبث وأشد وأظلم من المشركين المتقدِّمين بعدَّة أوجه، من ضمنها: أنَّ المشركين الأوائل كانوا يعبدون مع الله جمادات أو يعبدون أناسًا صالحين، يعبدون عيسى، أو يعبدون شجرة ليست طائعة ولا عاصية، وأمَّا المشركون المتأخرون في زماننا يعبدون أناسًا ويستغيثون بهم ويتبرَّكون بهم ويعتقدونَ فيهم الولاية وهم يعلمون أنَّهم يقومون بالسَّرقة والفواحش وترك الصَّلوات، فلا شك أنَّ شِرك المتأخرين صار أقبح مِن شِرك المتقدمين، وذكر الشيخ وجهًا آخر غير هذا، فهؤلاء أولياء الشيطان وليسوا أولياء الرحمن.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَا يُسْأَلُ أَحَدُكُمْ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُحِبُّ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)}.
يعني: هذا علامة على معرفة قلبك وحالك، فانظر إلى حالك مع القرآن، تقول كيف وضعي في الإسلام؟ وكيف مقامي عند الله؟ انظر لمقامك أنت مع القرآن، هل تحب القرآن وتحب سماعه؟ وتؤمن به وتعمل به وتتحاكم إليه؟ أم أنَّ القرآن ثقيل عليك، فمقدار محبَّتك للقرآن هو مقدار محبتك لله -عزَّ وَجلَّ- ومحبة الله لك، قال تعالى: ï´؟وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌï´¾ [فصلت:41]، فلا ينال شرف هذا الكتاب ولذَّته ومعرفة فضائله إلا مَن أحبَّه الله -عزَّ وَجلَّ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "الذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ")}.
هذا كلام عظيم يا إخواني! وفيه تنبيه لنا ألَّا نملأ قلوبنا بالشِّعر أو بالأناشيد، ولا نملأ قلوبنا بالأشياء الضَّارة مثل الأغاني والمعازف؛ لأنَّها تضر القلوب، وأن نملأ قلوبنا بسماع أحاديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ï´؟وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىظ° فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ غڑ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًاï´¾ [الأحزاب:34]، فالذكر -الذي هو القرآن- يُنبت الإيمان في قلبك ويُقوِّي الإيمان ويُنبته، وفضل القرآن عظيمٌ جدًّا وأثره مباركٌ جدًّا، بخلاف الأغاني والمعازف والموسيقى فإنَّها تُنبت النِّفاق في القلب، كما قال أطباء هؤلاء، وأعلم الناس بالشَّريعة وبالقلوب وبما يُصلح الناس هم أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم أقوم الناس بالدِّينِ، فهذا كلامهم.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "الذِّكْرُ يُنْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ"، فالبقوليات تُنبت بسرعةٍ في الماء، فالغناء والمعازف لها أثرها السيء على قلب الإنسان، فالذي يُعرض عن القرآن ويُقبل على المعازف والأغاني هذا ليس من أولياء الرحمن، فكيف إذا كان يتعبَّد بها؟! فهذا عاصٍ لله ومبتدع في الدِّين، كما يفعل ضلَّال الصُّوفيَّة.
قال: (وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ خَبِيرًا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ، فَارِقًا بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَيَكُونُ قَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نُورِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْï´¾)}.
كيف تكون خبيرًا بحقائق الإيمان الباطنة؟
الجواب: أنَّك تكون خبيرًا بحقائق الإيمان الباطنة إذا آمنتَ وعرفتَ كلامَ الله وكلام رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصرتَ خبيرًا حافظًا للقرآن عاملًا، حافظًا للسُّنَّةِ عاملًا بها، ومن آثار حفظك للقرآن وحفظك للسُّنَّة وعملك بها وتدبُّركَ لها أنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- يُبيِّن لك في قلبك الفُرقان، فنفرق بينَ الأحوال التي يُحبها الرحمن، والأحوال الشيطانيَّة، فلا تلتبس عليك الأمور، بخلاف ما إذا كنتَ جاهلًا بحقائق الإيمان؛ فقد تلتبس عليك.
المقصود: أنَّ هذه الآية ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِï´¾ دليل تقوى الله -عزَّ وَجلَّ- هي: فعل ما أوجب الله وترك ما حرَّم، والإيمان برسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقتضي اتِّباعه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون الجزاء والثواب ï´؟يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِï´¾، يُضاعَف لكم الأجر.
وكان ممَّن قبلنا من الأمم عملوا فأعطاهم الله -عزَّ وَجلَّ- أجرهم، عملت اليهود من الصباح حتى الظَّهر على قيراط، وعملت النَّصارى من الظهر حتى العصر على قيراط، وعمل المسلمون من العصر إلى أن غربت الشمس فأعطاهم الله قيراطين كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال تعالى: ï´؟يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِï´¾، ثم جعل لهم ثوابًا آخر وهو: ï´؟وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِï´¾، فأنت لو مشيت في طريقٍ مُظلمٍ وليس معك نور فإنَّك تُخطئ، ولكن إذا كان معك نور الإيمان ونور القُرآن ونور السُّنَّة عرفتَ الطَّريق، فاتَّقيتَ المواضع التي فيها خطر ومشيت في الطريق الصحيح.
والجزاء الثالث: قوله: ï´؟وَيَغْفِرْ لَكُمْï´¾، نسأل الله أن يغفر لنا، وأن يجعل لنا نورًا نمشي به، وأن يؤتينا كفلين من رحمته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَاï´¾، فَهَذَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ قَالَ فِيهِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنهُ، وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»)}.
أورد الشيخ بعد آية الحديد الآية التي في سورة الشُّورى، وفيها: ï´؟وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَاï´¾، وهذا تأكيد للمعنى السابق.
وهكذا الحديث الذي عند الترمذي: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ»، وهذا الحديث في سنده مقال، ولكن معناه موافق لما تقدَّم.
ثم ذكر الحديث الذي في البخاري، وفيه: «كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، فيُوفَّق في السمع، ويُوفَّق في البصر، ويُوفَّق في البطشِ، فهذا من توفيق الله للمؤمن، وهذا يُسمَّى الفراسَة، والفراسة -كما هو معروف عند العلماء- أنَّها فِراسَة خَلقيَّة رياضيَّة، وفِراسَة علميَّة شرعيَّة.
عندنا الفراسة العلميَّة الشَّرعية: أن تعرف الأمور هل هي صواب أو خطأ في الشَّرع، وهذه فراسة تنتج عن قوَّة الدَّراسَة الشَّرعيَّة والتَّعلُّم الصَّحيح على أيدي الرَّاسخين من أهل العلم، فإذا تعلَّمتَ العلم حصل لك هذا التمييز، وهذه الفراسة تهجم على قلبك، فتعرف أن هذا القول غلط وهذا القول صواب، ليس تألٍّ، وليسَ تحكمًا لعقلك، وإنَّما ناتجٌ عن مَا علَّمكَ الله -عزَّ وَجلَّ- من العلم الذي درستَه وتلقَّيتَه من كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة.
ومن آثار الفراسة: أنَّك تُفرِّق بينَ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهذا من توفيق الله -عزَّ وَجلَّ- للمؤمن.
ونقول في هذا المقام: إنَّ قوله تعالى: ï´؟إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَï´¾ [الحجر:75]، يُقصد به التَّفرُّس، ولكن لا يُعتمَد عليها، وإنَّما يُستأنس بها ويُستفاد منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، كَمَا يُفَرِّقُ الصَّيْرَفِيُّ بَيْنَ الدِّرْهَمِ الْجَيِّدِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ، وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الْخَيْلَ بَيْنَ الْفَرَسِ الْجَيِّدِ وَالْفَرَسِ الرَّدِيءِ، وَكَمَا يُفَرِّقُ مَنْ يَعْرِفُ الْفُرُوسِيَّةَ بَيْنَ الشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ الصَّادِقِ وَبَيْنَ الْمُتَنَبِّئِ الْكَذَّابِ؛ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِينِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَالْأَسْوَدِ العنسي وطليحة الأسدي وَالْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ وَبَابَاهُ الرُّومِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكَذَّابِينَ، وَكَذَلِكَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الضَّالِّينَ)}.
هذا ناتج عن هذا العلم الشرعي، وعن الاتباع للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولمنهج الصَّحابة، فإذا كان العبد من هؤلاء فرَّقَ بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
قال الشيخ: (كَمَا يُفَرِّقُ الصَّيْرَفِيُّ بَيْنَ الدِّرْهَمِ الْجَيِّدِ وَالدِّرْهَمِ الزَّيْفِ)، فبعض الناس يأتي ليصرف الدراهم، فيقول الصيرفي له: هذا درهم مُزيَّف، وإنَّما عرف هذا بالخبرة، أو تأتي إلى صاحب الذَّهب ويقول لك: هذا الذهب مغشوش، وهذا ناتج عن الممارسَة وعن الضبط؛ فأتقنَ.
وهكذا الذي يعرف الشريعة ويدرسها دراسةً صحيحة على أيدي الراسخين من أهل العلم، ويتبع منهج سلف الأمَّة يُوفَّق بإذن الله.
وضرب الشيخ مثلًا بالفارس الشجاع والجبان؛ وهكذا يُفرَّق بينَ النبي الصَّادق محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذلك موسى والمسيح -عليهم السَّلام- وبينَ المدَّعين الكذَّابين، وذكر الشيخ أمثلة لهم فقال: (وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَالْأَسْوَدِ العنسي وطليحة الأسدي وَالْحَارِثِ الدِّمَشْقِيِّ وَبَابَاهُ الرُّومِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكَذَّابِينَ)، سبحان الله! كيف صار لهؤلاء أتباع! بل بعض هؤلاء كان مسلمًا فارتدَّ وصارَ يدَّعي النُّبوَّة، وهذا يُبيِّن لك عظَم الحاجة إلى هذا الفرقان، نسأل الله أن يثبتنا على الدين الإسلامي الحق، وعلى سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونعوذ بالله من مضلَّات الفتن ما ظهر منها وما بطنَ، وهذا من الفتن إن يُفتَن بعضُ النَّاس فيُصدِّق الكذَّابين -نسأل الله العافية والسَّلامة.
والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو خاتَم الأنبياء والرُّسل ولا نبيَّ بعدَه، ولا رسول بعدَه، ورسالَته عامَّة لجميع الثَّقلين، فمن خرج عن هذا كان من الكافرين.
هذا ما تيسَّر في هذا المجلس، وإن شاء الله تعالى في الدرس القادم نقرأ الفصل الذي يلي هذا، ونسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصَّالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ لاعلمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:51   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرقْانُ بَينَ أولياءِ الرَّحمن وأولياءِ الشَّيطان
الدرس الحادي عشر (11)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكم الله، وأنا أيضًا أرحبُ بكم وبالإخوة الكرام جميعًا.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتاب "الفرقانُ بينَ أولياءِ الرحمَنِ وأولياءِ الشيْطانِ"}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أمَّا بعدُ؛ فحتى نربط هذا الدَّرسَ بما سبقَ؛ فإنَّ الفصل السَّابق ذكر فيه شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ الأولياء ليس من شرطهم أن يكونوا معصومين؛ بل مَن اعتقدَ أنَّ الأولياء معصومون فإنَّه ضالٌّ ومُخطِئ، وذكر في ذلك الفصل الدَّلائل على أنَّ أكابر الصَّحابة وهم أفضل النَّاس بعدَ الأنبياء والرُّسل وبالتَّالي فهم أفضل الأولياء، قد وقع منه الاجتهاد والخطأ.
وبيَّنَ سبب اغترار بعض النَّاس بمَن يسمُّونَهم أولياء هو وجود بعض الخوارق للعادة، ويسمونها كرامة، وذكر الشَّيخ أمثلة مُهمَّة ينبغي للمسلم أن ينتبه لها، وهي أنَّ بعضهم يكون عليه علامات تدلُّ على أنَّه من أولياء وعنده بعض الخوارق العجيبة، فلا يُغتر بذلك، وذكر أمثلةً مُتعدِّدة، مثل: ترك الوضوء وترك الصلاة، وملابسة النَّجاسات، وأكل الحيَّات والعقارب والزَّنابير، وكذلك مُعاشرة الكلاب والسَّكن في المقابر، وكذلك يكون بعضهم ملازمًا للنَّجاسات.
وأمثلة أخرى منها: الاستغاثة بغير الله؛ فكل مَن وقع في هذه الأمور فهو من أولياء الشَّيطان وليس من أولياء الرحمن.
وممَّا ذكره الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنَّ بعض الناس يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار والقصائد الملحَّنة، ويؤثر ذلك على القرآن، فيُقدِّم مزامير الشَّيطان على كلام الرَّحمن، وهذا علامة على أنَّه من أولياء الشَّيطان، ولهذا نُحذِّر إخواننا المسلمين من الإعراض عن القُرآن الكريم والإقبال على هذه الملاهي التي تُلهي القلب وتضرُّ بالدِّين، قال تعالى: ï´؟وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌï´¾ [لقمان:6]، قال عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "والله الذي لا إله إلَّا هو إنَّ لهوَ الحديث هو الغناء" .
وختم الشيخ الفصل السابق بقول: (فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِنْ هَؤُلَاءِ)، يعني: من المؤمنين (فُرِّقَ بَيْنَ حَالِ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ)، يعني: فرَّقَ بينَ النبي الصَّادق وبين المتنبِّئ الكاذب، وفرَّق بينَ المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، ولا يسوِّ بينَ المسلمين وبين اليهود والنَّصارى إلا كافر مثلهم، فإذا قال: إنَّ المسلمين واليهود والنَّصارى على حق وكلهم على دينٍ واحدٍ، وكلهم طريقهم يوصل إلى الله فهذا من أولياء الشيطان، فالإسلام هو الدِّين الحق، والمسلمون إذا اتَّبعوا الإسلام وتمسَّكوا به نجوا، وأمَّا اليهود والنَّصارى فالواجب عليهم تركُ ما هُم عليه، واتِّباع الرَّسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبهذا يسلموا وينجوا، وإلَّا فهُم هالكونَ، أمَّا مَن يَغشُّوا النَّاس فهؤلاء من أولياء الشيطان، عندما يقولون لهم: إنَّ الأديان كلها توصل إلى الله، فهذا علامة الكفر، وعلامة أنَّه من أولياء الشيطان، نسأل الله العافية والسَّلامة.
والفصل الذي سنقرأه الآن يتكلَّم الشيخ فيه عن لفظِ يستخدمه بعض الصُّوفيَّة، وهي كلمة "الحقيقة" و"الشريعة".
يستخدمون لفظ "الحقيقة" في الأمور القلبية والأمور الباطنة الخفيَّة، ويستخدمون لفظ "الشَّريعة" في الأمور الظَّاهرة، مثل: الصَّلاة ونحوها.
وليس الأمر فقط مجرَّد اصطلاح، ولكنَّهم يُريدون التَّخلُّص من التَّكاليف الشَّرعيَّة بدعوَى أنَّهم يقومون بالحقائق الباطنة، فيقولون: نحن أهل الحقيقة، وأنتم أهل الشَّريعة، أنتم عوام، ولكن نحنُ الخاصَّة عندنا الحقيقة!
وهذا كلامٌ غيرُ صحيحٍ، وفي هذا الفصل نقضٌ له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَ"الْحَقِيقَةُ" حَقِيقَةُ الدِّينِ: دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هِيَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ.
فَــ"الشِّرْعَةُ" هِيَ الشَّرِيعَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ï´؟لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًاï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَï´¾.
وَ "الْمِنْهَاجُ " هُوَ الطَّرِيقُ قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًاï´¾.
فَالشِّرْعَةُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيعَةِ لِلنَّهْرِ، وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُسْلَكُ فِيهِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الدِّينِ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ)}.
إذن؛ "الحقيقة" و"الشريعة" بمعنًى واحدٍ، فالحقيقة: هي غاية الإسلام، وهي أن يُعبَد الله وحده لا شريك له، يُعبَد باللسان وبالأعمال وبالقلب؛ فأقوال اللسان وأعمال الجوارح وما يقوم بالقلب؛ فبهذا يُعبَد الله -سبحانه وتعالى.
ولا يصح أن نقول: إنَّ هناك حقيقة في الباطن وشريعة في الظاهر، فالحقيقة هي الشَّريعة، والشريعة هي الحقيقة، على هذا المصطلح الذي وضعه هؤلاء، فبيَّنَ الشَّيخ من جهة اللفظ أنَّ "الشَّريعة" هي المنهاج الذي يُسلَكُ فيه الطريق، قال تعالى: ï´؟ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَاï´¾ وهذا يشمل الدين كله.
وكذلك يُقال في "الحقيقة": إنَّها الغاية المقصودة، وهي أن يُعبَد اللهُ وحده لا شريك له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ أَنْ يَسْتَسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا، وَاَللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِلَّهِ بَلْ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ كَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ: ï´؟إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَï´¾)}.
إذن الإسلام هو: الاستلام لله بالتَّوحيدِ والانقياد له بالطَّاعة، والبراءة من الشِّركِ وأهله.
تستسلم لله أي: تنقاد لدينه ولشرعه، وتتبرَّأ ممَّا سواه، والناس إمَّا مسلم وإمَّا مشرك، وإمَّا مستكبر، والمستكبر داخل في المشرك، ولكن هذا من باب التَّقسيم.
- فالمشرك: استسلم لله ولغيره، يعني: عبدَ اللهَ وعبدَ غيرَه، فلا تنفعه عبادة الله؛ لأنَّه شرَّكَ مع الله غيره.
- أمَّا المستكبر: فهو الذي لم يعبد الله -عزَّ وجَلَّ- واستكبرَ عن عبادة الله، وهذا أخبث، قال تعالى: ï´؟إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَï´¾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ والآخرين مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وقَوْله تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُï´¾ عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمْ دِينُهُمْ الْإِسْلَامُ، الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: ï´؟يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْï´¾ إلَى قَوْلِهِ: ï´؟وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَï´¾.
وَقَالَ السَّحَرَةُ: ï´؟رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَï´¾)}.
سحرةُ فرعونَ لَمَّا تابوا إلى الله تعالى توبةً نصوحًا قالوا هذا الكلام وآمنوا، فكانوا في أوَّلِ النَّهارِ سحرةً كفَّارًا فُجَّارًا، وفي آخر النَّهار مُؤمنين أتقياء أبرار من أهل الجنَّة، رضي الله عنهم ورحمهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ï´؟تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَï´¾.
وَقَالَتْ بلقيس: ï´؟وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُï´¾.
وَقَالَ الْحَوَارِيُّونَ ï´؟آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَï´¾)}.
كلُّ هذه الآيات تدل على أنَّ الأنبياء السابقينَ وصفهم الله -عزَّ وجَلَّ- بأنَّهم مُسلمين، فهذا الإسلام بالمعنى العام، وهو طاعة الله -عزَّ وجَلَّ- وطاعة أوامره في ذلك الوقت، ففي كل زمنٍ أرسل الله نبيًّا إلى قومه، فيُؤمن به من هداهم الله -عزَّ وجَلَّ- وهذا يكون إسلامًا منهم -يعني: انقيادًا منهم- فهذا هو الإسلام بالمعنى العام، ولهذا يصحُّ إطلاقُه على مَن كانَ قبلنا.
أمَّا الإسلام بالمعنَى الخاص فهو ما بُعِثَ به محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه الانقياد بالمعنى العام -الإسلام بالمعنى العام- والإنقياد بالمعنى الخاص وهو الالتزام بالشَّريعة التي جاء بها نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَدِينُ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ شَرَائِعُهُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ»، قَالَ تَعَالَى: ï´؟شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَï´¾.
وقال تعالى: ï´؟فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَï´¾ [الروم:30])}.
هذه الآيات الثلاث في المواضع الثلاث؛ في سورة الشورى وسورة المؤمنون وسورة الرُّوم؛ تدلُّ على أنَّ دينَ الأنبياء واحدٌ، ولكن الشَّرائع تختلف، قال تعالى: ï´؟لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًاï´¾، فالدِّين واحدٌ، يعني: أنَّ أصول العقيدة وأصول الإيمان مثل أركان الإيمان السِّتَّة، ومثل أصول العبادات، وكذلك القيام بالإحسان وهو كمال العبادات؛ فهذا كله قد اتَّفقت عليه الرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- ولكنَّ الشَّرائع تختلف، في صفة الصلاة، في صفة الزكاة، في صفة الصَّوم، وهكذا..
ففي هذا الفصل بيَّنَ فيه -رَحِمَهُ اللهُ- أن "الحقيقة" و"الشريعة واحدة، فالحقيقة هي حقيقة الإسلام، وهي أن يعبد الله وحده لا شريك له.
و"الشَّريعة" هي الشَّرائع التي جاء بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا داعي لهذا التَّفريق الذي عند المتصوفة، بأن يُقال إنَّ الحقيقة هي ما في القلب، والشَّريعة هي ما في الظَّاهر، ولكن إذا عبَّر بهذا التَّعبير نردُّ عليهم بهذه الآيات وبهذا التَّفصيل المعروف عندَ أهلِ العلمِ في معنى الشَّريعة والحقيقة لغةً.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَسَائِرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء، وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ السُّعَدَاءَ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، فَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًاï´¾.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ» وَأَفْضَلُ الْأُمَمِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ تَعَالَى: ï´؟كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِï´¾. وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَاï´¾.
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ «أَنْتُمْ تُوَفُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»، وَأَفْضَلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرْنُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ».
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ، قَالَ تَعَالَى: ï´؟لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُï´¾.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا.
وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ï´؟إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَï´¾ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَفَتْحٌ هُوَ قَالَ: «نَعَمْ».
وَأَفْضَلُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ: الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ. وَأَفْضَلُهُمْ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِهَا، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي "مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ")}.
هذا الفصل عقده الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- للرَّدِّ على مَن فضَّلَ بعضَ الأولياء على الأنبياء، وهذا الفصل من أطول فصول الكتاب وأهمِّها؛ لأنَّ فيه نقضًا لأصول الصُّوفيَّة الفلاسفة الإلحاديَّة، وقدَّمه بهذه المقدِّمَة مُبيِّنًا الاتفاق والإجماع بينَ أهل الإسلام على أنَّ الأنبياء أفضل، وعبَّر بهذه العبارة (الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء)، واستخدَم الشيخ هذه العبارة لأنَّ الذين سيرد عليهم كابن عربي والطائي المشهور بالقول بوحدة الوجود -وسيأتي ذكره في هذا الفصل عدَّة مرات- وسينقل الشيخ أقواله، وهو يزعم أنَّ الولي أفضل من الرَّسول، وأنَّ الولي والرَّسول اشتركا في الولاية، فالرسول ولي وهذا ولي، ويقول ابن عربي عن نفسه: إنَّ ولايته أفضل من ولاية الرسول!
ومعلومٌ أنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- يَصطفي من البشر خُلاصتهم وأفضلهم، قال تعالى: ï´؟اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِï´¾ [الحج:75]، فالمصطفون من النَّاس هم أفضل البشر وخيارهم، ولا شكَّ أنَّهم مُطيعين لله -عزَّ وجَلَّ- واختارهم الله للنبوة والرِّسالة.
وهذا الضَّالُّ المُلحد وأمثاله يزعمون أنَّهم بما فيهم من صفات الولاية -وهم كذابون في الحقيقة ومحتلون وعندهم من الضلالات العظيمة ما يُخرجهم من الإسلام- ومع هذا فهو يزعم أنه أفضل من ولاية الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فالشيخ استخدم هذه العبارة (الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بأنبياء)؛ لأجلِ الإشارة إلى هؤلاء الضُّلال.
ثم ذكر الآية الأولى وفيها ترتيب الله -عزَّ وجَلَّ- للسعداء في الجنَّةِ، وأنَّ أوَّلهم النَّبيُّونَ، ثمَّ الصِّدِّيقونَ، ثمَّ الشُّهداء، ثمَّ الصَّالحون، وذكر الحديث في فضلِ أبي بكرٍ، فقال: «مَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ»، رضي الله عن أبي بكر، وهذا الحديث مشهورٌ عند العلماء وفيه مقال، ولكن وردَت أحاديث أصح وأوضح في فضل أبي بكرٍ، مثل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلا لتخذت أبا بكر خليلا»، والله -عزَّ وجَلَّ- يقول في القرآن: ï´؟إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَاï´¾ [التوبة:40]، وفضائل أبي بكرٍ كثيرة جدًّا.
ثم ذكرَ فضلَ الأمَّة المحمَّديَّة، وذكرَ فضلَ الصَّحابَة، وذكرَ فضلَ السَّابقين الأوَّلينَ من المهاجرينَ والأنصار من الصَّحابة، ثم ذكرَ مَن أنفقَ من قبلِ الفتح -يعني: صلح الحديبية- وبيَّنَ أنَّ الصَّواب أنَّ المراد بالفتح ليس فتح مكَّةَ؛ بل هو صُلح الحديبية؛ لأنَّه مُقدِّمَة لفتح مكَّة، فإنَّ النَّاس عرفوا الإسلام، وعرفوا دعوة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد هذا الصُّلح، وهؤلاء الذينَ أسلموا قبل صلح الحديبية أعظمُ درجةً وأفضل عند الله من الذين أسلموا من بعدُ، وكلًّا وعدَ الله الحسنَى.
ثمَّ بيَّنَ فضل أبي بكر وعمر، وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليه.
فلا يُمكن أبدًا أن يكون هؤلاء الأولياء وهم صحابة كرام أفضل من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومن بعدهم من باب أولى.
ونوَّه الشيخ هنا بقوله: (وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَائِلُ بَسَطْنَاهَا فِي "مِنْهَاجِ أَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ أَهْلِ الشِّيعَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ")، وهذا كتب عظيم جدًّا ونافع، وهو كتاب كبير ردَّ فيه الشيخ على شبهات الرَّافضَة وشبُهات القدريَّة، وهو مطبوعٌ في تسع مجلَّدات، وقد اختصرَه الذَّهبي -رَحِمَهُ اللهُ- واختصرَه الشيخ عبد الله الغنيمان -حفظه الله- وهو كتابٌ مُفيدٌ لطالبِ العلم ولكل مسلم، وذكر فيه فضائل أبي بكر وعمر، وأطالَ النَّفَس، وردَّ على ابن المطهِّر الحلِّي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَبِالْجُمْلَةِ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا وَاحِدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَلَا يَكُونُ مِنْ بَعْدِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ)}.
استخدم الشيخ هذا الأسلوب ليُبيِّنَ أنَّ حتَّى الشيعة على ما فيهم من انحرافٍ وضلالٍ مُتَّفقونَ على تفضيلِ عليّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا غلطٌ شيعٌ، فأفضل الصَّحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولكن هذا الغلط من الشِّيعَة يُبيِّن لكَ أنَّ غلط ملاحدة الصُّوفيَّة أبعد بكثيرٍ من غلط الرَّافضَة؛ لأنَّ ضُلَّال الرَّافضة يقولون: إنَّ عليًّا أفضل، وبالتَّالي لا يكن أحدٌ أفضل من علي عندهم، فلا يُمكن أن يتصوَّر أحدٌ عندَ الرَّافضة أنَّ أحدًا من الصَّحابة أفضل من علي، وبالتَّالي وصلنا إلى نقطة؛ وهي أنَّ دعوى ابن عربي وأمثاله من ملاحدة الصُّوفيَّة أنَّهم أفضل من الرُّسل هذا أمرٌ لا يُوافق عليه حتَّى مَن هم مشهود لهم بالضَّلال كالرافضة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُهُمْ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاتِّبَاعًا لَهُ كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَكْمَلُ مَعْرِفَةً بِمَا جَاءَ بِهِ وَعَمَلًا بِهِ، فَهُوَ أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، إذْ كَانَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ غالطة أَنَّ "خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ" أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ، قِيَاسًا عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِخَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ؛ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ مُصَنَّفًا غَلِطَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ، ثُمَّ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ)}.
هنا بدأ الشيخ في الرَّدِّ على ضلالات الرافضة.
محمد بن علي الحكيم الترمذي هذا ليس صاحب السُّنَن المشهور "سنن الترمذي" فهي للإمام العالم المحدِّث العلَّامة محمد بن عيسى بن سورة الترمذي أبو عيسى، فهذا إمام في السُّنَّة وإمام في التَّوحيد والعقيدة السَّلفيَّة، وهو تلميذٌ من تلامذة البخاري -رحمهم الله جميعًا.
أمَّا محمد بن علي الحكيم الترمذي فعنده أغلاط، ومن أشنع أغلاطه أشياء نُفيَ عليها، وبعض العلماء تكلم في عقيدته بسببها، ومن ضمن ذلك أنَّه ألَّفَ كتابًا في الأولياء، وزعمَ أنَّ الأولياء لهم خاتم -يعني شخص يختم الأولياء ولا يأتي أحدٌ بعدَه- وأنَّ هذا الخاتم للأولياء أفضل الأولياء، وأخذ هذا من عقله بالقياس، قال: كما أنَّ الأنبياء فيهم خاتم فكذلك الأولياء فيهم خاتَم! وهذا كلامٌ باطلٌ.
المهم؛ هذه البدعة التي ابتدعها هذا الرجل المتقدِّم -توفي سنة ثلاثمائة وعشرين- جاء مَن بعدَه وادَّعَى لنفسه أنَّه خاتَم الأولياء، فكل مَن جاء وأردَ أن يلتف النَّاسُ حوله ويعظِّمونَه زعم في نفسه أو شيخه ومتوبعه أنَّه خاتم الأولياء، وممَّن ادَّعى ذلك ابن عربي.
وزاد هؤلاء طامَّةً أعظم وأخطر (أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ)، وزعموا أنَّ خاتم الأولياء تلقَّى عن الله مُباشرةً بخلاف خاتم الأنبياء فإنَّه يتلقَّى عن جبريل عن الله، فقالوا: إنَّ خاتم الأولياء أرقى درجة، وهذا من الكفر العظيم المخرج عن ملة الإسلام، فمن زعم هذا فهو كافرٌ بالله العظيم، ومُتنقِّصٌ للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومدِّعٍ دعوى كاذبة يعلم الجميع أنَّه كذَّابٌ ومحتالٌ.
والذين ادَّعوا أنَّ خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء طوائف، من ضمنها غُلاة الصُّوفيَّة، والباطنيَّة كالدُّروز والنُّصيْريَّة والأغاخانيَّة، وكفرة الفلاسفة المتنسبين إلى الإسلام، فإنَّهم يرونَ أنَّ الفيلسوف أعلم من الرسول وأرقى من الرَّسول لِمَا عنده من العقل، ويزعمون أنَّ الرَّسول إنَّما يتخيَّل تخيُّلات، وسيأتي نقضَ كلامهم بالتَّفصيل.
وهذه الطَّوائف الخبيثة أجمع علماء المسلمين على كفرهم وخروجهم من ملَّةِ الإسلامِ.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله: "زعم غُلاة الصُّوفيَّة أنَّ جِهة تفضيل الولي على النبي أنَّ النبي يأخذ من الملك، والولي يأخذ بالإيحاء"، وسيأتي كلامه.
ثم قال: "أمَّا الرَّافضَة والإسماعيليَّة؛ فإنَّ الرافضة يزعمون أنَّ أئمَّتهم لهم من المقام ما ليس للأنبياء، ويقول بعض أئمَّتهم: من ضروريَّات مذهبنا أنَّ لأئمِّتنا مَقامًا لا يبلغه ملكٌ مُقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسلٌ"، صار مقام أئمَّة الرَّافضَة أعلى من مقام الملائكة المقربين وأعلى من الأنبياء والمرسلين، وهذا من تفضيل الولي على النبي عندهم.
وكذلك القرامطة والعبيديُّون والنُّصيريَّة والدُّروز؛ زعموا أنَّ أولياءهم أعظم من الأنبياء، حتى أنَّ الدُّوروز يعبدون شخصًا اسمه الحاكم بأمر الله، أحد حكَّام الدَّولة العبيديَّة -ما يسمونها بالدولة الفاطميَّة- ويقولون: هو إلهنا وخالقنا ومعبودنا!
فهؤلاء وأمثالهم عند جميع علماء الإسلام العارفين أكفر من اليهود والنَّصارى ومشركي العرب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "وَغَايَتُهُمْ أَنْ يَكُونُوا فَلَاسِفَةً عَلَى مَذْهَبِ أَرِسْطُو وَأَمْثَالِهِ أَوْ مَجُوسًا، وَقَوْلُهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ وَيُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ نِفَاقًا".
وقال: "كُفْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، بَلْ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِمْ فَهُوَ كَافِرٌ مِثْلُهُمْ، لَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ، بَلْ هُمْ الْكَفَرَةُ الضَّالُّونَ فَلَا يُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَتُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ. فَإِنَّهُمْ زَنَادِقَةٌ مُرْتَدُّونَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ ; بَلْ يُقْتَلُونَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ; وَيُلْعَنُونَ كَمَا وُصِفُوا، وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُمْ لِلْحِرَاسَةِ وَالْبِوَابَةِ وَالْحِفَاظِ". وذكر فيهم كلامًا يرجع فيه طالب العلم إلى مجموع الفتاوى المجلد الخامس والثلاثين صفحة 161.
فهؤلاء الفلاسفة يسلكون هذا المسلك، وسيأتي كلامهم بالتفصيل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ "كِتَابِ الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ" وَ "كِتَابِ الْفُصُوصِ")}.
هذان كتابانِ مشهوران لابن عربي، ومع الأسف لازال أولياء هؤلاء الملاحدة المعاصرون يطبعون هذه الكتب وينشرونها، وفي هذه الكتب يُقرر الكفريَّات التي ستأتي بعد قليل -نسأل الله العافية والسلامة.
فهو يزعم أنَّ الله خاطبه بكتابه "الفتوحات المكيَّة" وأنَّ هذا من عند الله! تبًّا له! قال تعالى: ï´؟وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُï´¾ [الأنعام:93]، فلا أحد أظلم من هذا -نسأل الله العافية والسلامة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَخَالَفَ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ)}.
يقولون: قرأَ قارئٌ الآية الكريمة ï´؟فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْï´¾ [النحل:26]، فقرأها القارئ جهلًا منه وغلطًا (فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ)، فالسقف فوق، فكيفَ يخر من تحت؟!
ولهذا يقولون: "لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ" يعني: لم تصب العقل ولم تصب القرآن!
فهذا الذي يقول: إنَّ الولي أفضل من الرسول؛ لا عقل له ولا دين معه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ فِي الزَّمَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ -عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ- أَفْضَلُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَكَيْفَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ؟)}.
يعني: كيف يكون هو أفضل من الأنبياء كلهم كما يزعم هو؟!
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْأَوْلِيَاءُ إنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ وَيَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ، وَلَيْسَ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلَهُمْ، كَمَا أَنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُهُمْ)}.
كأنَّ الشَّيخ يقول: كيف تزعم يا ابن عربي أنَّ الأنبياء والأولياء كلهم يستفيدون من واحدٍ يأتي بعدهم بأربعمائة سنة أو خمسمائة سنَةٍ، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُوفي في السَّنة العاشرة من الهجرة، والأنبياء كلهم ماتوا قبله إلا عيسى فإنه رُفع، والأولياء الصالحون بدايةً من الصَّحابة والتابعينَ والأولياء في الأمم السَّابقة؛ كل هَؤلاء يستفيدونَ منك أنتَ يا ابن عربي وأنت في القرن السادس أو الخامس؟!
كلامُ مَن لا عقلَ له ولا دين! سبحان الله؛ هذا كلام منافٍ للعقول السَّليمة.
{قال: (فَإِنَّ فَضْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ». وَقَوْلِهِ: «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك»، وَلَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رَفَعَ اللَّهُ دَرَجَتَهُ فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ فَكَانَ أَحَقَّهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍï´¾، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِلِ، كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْتِيه الْوَحْيُ مِنْ اللَّهِ، لَا سِيَّمَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ فِي نُبُوَّتِهِ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ تَحْتَجْ شَرِيعَتُهُ إلَى سَابِقٍ وَلَا إلَى لَاحِقٍ، بِخِلَافِ الْمَسِيحِ أَحَالَهُمْ فِي أَكْثَرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَجَاءَ الْمَسِيحُ فَكَمَّلَهَا، وَلِهَذَا كَانَ النَّصَارَى مُحْتَاجِينَ إلَى النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمَسِيحِ، كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ وَتَمَامِ الْأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ نُبُوَّةً.
وَكَانَ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مُحْتَاجِينَ إلَى مُحَدَّثِينَ، بِخِلَافِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُمْ بِهِ، فَلَمْ يَحْتَاجُوا مَعَهُ إلَى نَبِيٍّ وَلَا إلَى مُحَدَّثٍ، بَلْ جُمِعَ لَهُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ اللَّهِ بِمَا أَنْزَلَهُ إلَيْهِ وَأَرْسَلَهُ إلَيْهِ لَا بِتَوَسُّطِ بَشَرٍ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكُلُّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ هُوَ بِتَوَسُّطِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ مَنْ بَلَغَهُ رِسَالَةُ رَسُولٍ إلَيْهِ لَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ إلَّا إذَا اتَّبَعَ ذَلِكَ الرَّسُولَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ)}.
إذن؛ لا يُمكن أن يكون الإنسان وليًّا لله -عزَّ وجَلَّ- إلَّا باتِّباع الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان بالرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمَّا أن يقول: أنا لا يلزمني أو أنا أعْلَى؛ فهذا لا يُمكنُ أن يكونَ وليًّا، فهذا بعيد عن الإسلام فضلًا عن الولاية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَهُ طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُحَمَّدٍ؛ فَهَذَا كَافِرٌ مُلْحِدٌ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا مُحْتَاجٌ إلَى مُحَمَّدٍ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ، أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ; فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ إلَى الْأُمِّيِّينَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ)}.
هذا كله من الكفر العظيم المُخرج من الإسلام، فمَن قال: أنا لا أحتاج إلى الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعندي طريق يُوصلني إلى الله، أو أنا أحتاجه فقط في علم الظَّاهر، أمَّا علم الباطن فلا أحتاجه، أو يقول: أنا أحتاجه في علم الشَّريعة أمَّا علم الحقيقة فلا أحتاجه؛ فهــذا كافر، وليس كافرًا فحسب؛ بل كفره أشد من كفر اليهود والنصارى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ أُولَئِكَ آمَنُوا بِبَعْضِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي يَقُولُ: إنَّ مُحَمَّدًا بُعِثَ بِعِلْمِ الظَّاهِرِ دُونَ عِلْمِ الْبَاطِنِ آمَنَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ إيمَانِ الْقُلُوبِ وَمَعَارِفِهَا وَأَحْوَالِهَا هُوَ عِلْمٌ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَهَذَا أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ.
فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّمَا عَلِمَ هَذِهِ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ دُونَ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ; وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ هَذِهِ الْحَقَائِقَ عَنْ الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ؛ فَقَدْ ادَّعَى أَنَّ بَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَهَذَا شَرٌّ مِمَّنْ يَقُولُ: أُؤْمِنُ بِبَعْضِ وَأَكْفُرُ بِبَعْضِ، وَلَا يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ الَّذِي آمَنَ بِهِ أَدْنَى الْقِسْمَيْنِ)}.
يعني: أنَّ اليهود والنَّصارى لَمَّا آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه كفَّرهم الله -عزَّ وجَلَّ، ولكن لَمَّا كفروا ببعض ما ادَّعوا أنَّ الشَّيءَ الذي آمنوا به أعلَى، أمَّا من يقول أنا أؤمن بالشَّريعة الظَّاهرة وأما الحقائق فلا أؤمن بما جاء عن الرَّسول، وأنا لي طريق خاص أسلكه به من رقائق القلوب، ولا أحتاج إلى الرسول؛ صار هذا كفره أشد من فر اليهود والنصارى من جهة أنَّه كفر ببعض، ومن جهة أنَّه تنقَّصَ الأرشف، لأنَّ الشيخ يقول عن علم حقائق القلوب ومعارفها وأحوالها (أَشْرَفُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُجَرَّدِ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ)، فصار كفره أشنع من كفر اليهود والنصارى.
وسيواصل الشيخ ردَّه على هؤلاء الملاحدة، وهذا مكان مُناسب للوقوف؛ لأنَّ الدرس القادم يكون الدرس الأخير في هذا الفصل.
ونقول للإخوة الكرام: إنَّ هذه الأقوال التي تسمعونها الآن هي ما يُكرِّره هؤلاء الذين سبق الإشارة إليهم من الباطنيَّة أو غلاة الصُّوفيَّة أو كَفَرة الفلاسفة المنتسبين للإسلام؛ ولهذا يجب الحذر كل الحذر من هذه الأقوال الخبيثة، ومعرفة أنَّ أربابها هُم أولياء للشيطان، وليسوا أولياء للرحمن.
وهؤلاء الذين يُحيون هذه المقالات الخبيثة ويحملون راياتها هم في الحقيقة مناصرون للملاحدة، سائرون على منهج مَن سبقهم في الإلحاد ويُمثِّلونهم، وإن اختلفت الأسماء والأشكال، أو زيد في المقالات ونُقِصَ منها؛ لكن المتقدِّمون من هؤلاء أكثر وضوحًا من هؤلاء المتأخِّرين الذي ضعف شأنهم، ولهذا لا يخاف سنَّة والتَّوحيد من هؤلاء.
لا تَخْشَ كَثْرَتَهُم فَهُمْ هَمَجُ الوَرَى ** وَذُبَابُه أَتَخَافُ مِن ذُبَّانِ
توكَّلْ على اللهِ -سبحانه وتعالى- واثبت على دينِكَ، اثبتْ على الإسلامِ، اثبتْ على القرآنِ، والِ أولياءَ اللهِ، وعادِ أعداءَ اللهِ، أحب في الله، وأبغضْ في اللهِ، واصبرْ على دين الله، وقل: يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، نسأل الله -جل وعلا- أن يثبتنا على الإسلام وعلى السُّنَّة، وعلى الصِّراط المستقيم، وأن يعيذنا وإيَّاكم وسائر إخواننا المسلمين من الشَّيطان وجنده وأحزابه وأوليائه وأتباعه وذريَّته، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطنَ، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:52   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

الفُرقَان بينَ أولياءِ الرَّحمنْ وَأَولياءِ الشَّيطان
الدَّرسُ الثَّاني عَشَر (12)
فضيلة الشَّيخ/ د. فهد بن سليمان الفهيد
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله.
{في هذه الحلقة نبدأ -بإذن الله- ما انتهينا عنده في الحلقة الماضية من منتصف الفصل}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ اللهِ، وعلى آلهِ وأصحابِه ومَن اهتدَى بهداة.
سبقَ أن ذكرنا أنَّ الشَّيخ ابن تيمية عقدَ هذا الفصل في كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"؛ ليردَّ على ملاحدة المتصوِّفة وغلاتِهم، وكذلك ملاحدة البَاطنيَّة، وكذلك ملاحدة الفلاسِفَة، في زعمهم أنَّ خاتم الأولياء أفضل من الأنبياء، وردَّ عليهم في زعمهم أنَّ هناك خاتم للأولياء، فهذا ليس بصحيح.
والأولياء هم المؤمنون المتَّقون، ولا يزال المؤمنون موجودن، فإذا توفَّاهم الله -عزَّ وَجلَّ- في آخر الزَّمان فلا يبقى في الأرض مُسلم، وحينئذٍ ينتهي وجود أهل الإيمان وهم أولياء الله، أمَّا أنَّه هو خاتم الأولياء فهذا كذب.
فالشَّيخ ردَّ على هؤلاء وبيَّنَ كفرهم وخروجهم عن الإسلام، وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليه بين المسلمين، وأنَّك إذا رأيتَ مثل هذه المقالات عرفتَ أنَّ مَن يقولها هو مِن أولياء الشَّيطان وليسَ مِن أولياء الرحمن، فمَن يزعم أنَّ له طريق إلى الله غيرَ طريقِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو يزعم أنَّه يتلقَّى علمَ الحقيقة من غيرِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنَّ الشَّريعة فقط هي التي تؤخذ من النَّبي أمَّا الحقيقة فتؤخذ من غيره، أو يزعم أنَّ علم الظَّاهر من النبي وعلم البطان من غيره؛ فهؤلاء كلهم كفَّارٌ.
والشَّيخُ مستمر في هذا الفصل في فَضْحِ هذه المقالات الباطنيَّة الكفريَّة، وبيانِ مآخذها وأسباب وقوعهم في هذه المقالات الخبيثة، ليُحذِّر المسلمينَ من الوقوعِ في مثل ما وقعوا فيه.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ يَدَّعُونَ أَنَّ الْوِلَايَةَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَيُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُونَ: وِلَايَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ وَيُنْشِدُونَ:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ ** فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ
وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ وِلَايَةَ مُحَمَّدٍ لَمْ يُمَاثِلْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَا إبْرَاهِيمُ وَلَا مُوسَى فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ.
وَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٍّ وَلِيٌّ فَالرَّسُولُ نَبِيٌّ وَلِيٌّ، وَرِسَالَتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنُبُوَّتِهِ وَنُبُوَّتُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِوِلَايَتِهِ، وَإِذَا قَدَّرُوا مُجَرَّدَ إنْبَاءِ اللَّهِ إيَّاهُ بِدُونِ وِلَايَتِهِ لِلَّهِ؛ فَهَذَا تَقْدِيرٌ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ حَالَ إنْبَائِهِ إيَّاهُ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ إلَّا وَلِيًّا لِلَّهِ، وَلَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنْ وِلَايَتِهِ وَلَوْ قُدِّرَتْ مُجَرَّدَةً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُمَاثِلًا لِلرَّسُولِ فِي وِلَايَتِهِ)}.
لا أحدَ أفضل مِن الرَّسول محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يُمكن لأحد أن يقول: إنَّه أفضل من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإذا قال أحدٌ من الناس إنَّه أفضل من الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا كافر وملحد، فهؤلاء يدَّعون التَّديُّن ويدَّعون أنَّهم أولياء، وهم يزعمون هذا الزَّعم؛ فهؤلاء لا شكَّ أنَّهم ملاحدةٌ كما قال الشَّيخ.
والشُّبهة التي يوردونها على الجهلة من أمثالهم قولهم: إنَّ النَّبي نبي وهو ولي أيضًا، ونحن في ولايتنا أكمل مِن ولاية الرسول، وإن كانَ قد فاقَنَا في النبوَّة فنحن قد فُقْنَاه في الولاية!
ثم يقولون: إنَّ الأولياء خُتموا بخاتَم، وأنا خاتم الأولياء، وخاتم الأولياء أفضل مِن خاتم الأنبياء، فيلفُّون ويدورون إلى مسألةٍ مُهمَّة، وهي أنَّهم يصلون إلى الله بغير طريق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
فهذا من أعظم ضلالهم، ولهذا قال: (وَيَقُولُونَ نَحْنُ شَارَكْنَاهُ فِي وِلَايَتِهِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ رِسَالَتِهِ)، فهذا كذب.
ثم وضَّحَ الشَّيخُ أنَّ كلَّ رسولٍ نبيٍّ وليٍّ، يعني: أنَّ الرِّسالة تتضمَّن النُّبوَّة، والنُّبوَّة تتضمَّن الصَّلاح والتَّقوى والإيمان، فهذه هي الولاية.
وهؤلاء ينشدون هذا البيت:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ فِي بَرْزَخٍ ** فُوَيْقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الْوَلِيّ
البرزخ: هو المنزلة.
وقولهم: "فُوَيْقَ الرَّسُولِ"، يُفيد أنَّ الرَّسول تحت، والنُّبوة فوق الرسول.
قولهم: "وَدُونَ الْوَلِيّ"، يعني: أنَّ الولي أعلَى شيء.
فصارَ الولي عندهم أعلى، ثم النَّبي، ثم الرَّسول؛ فقد عكسوا الحقيقة، فإنَّ الرُّسل أفضل من الأنبياء؛ لأنَّ الرسالة أعلى شيء، ثم النبوة ثم الولاية.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَقُولُونَ: كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْفُصُوصِ ابْنُ عَرَبِيٍّ: "إنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ إلَى الرَّسُولِ")}.
هذا النَّص منقول من كتاب: "الفتوحات المكيَّة" أو "فصوص الحكم"، وهذا النَّصُّ يبيِّن لك أنَّهم يزعمون أنَّهم يأخذون مِن الله -عزَّ وَجلَّ- مُباشرة، وليس بالمَلَك ثم الرَّسول، فإنَّ الرَّسول يأخذ من الملك ثم من هذا المصدر -والمعدن هو المصدر- فهم يقولون: إنا نأخذ من المصدر مباشرة، فهذه من عبارات هذا الشَّخص.
{قال-رحمه الله: (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا عَقِيدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ، ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فِي قَالَبِ الْمُكَاشَفَةِ)}.
هذه الجملة اختصار لكلام طويل جدًّا سيذكره الشيخ يُبيِّن لك أنَّ هؤلاء ملاحدة الفلاسفة، تصوَّفوا وركبوا مذهب ملاحدة الفلاسفة، ثم علم المسلمون أنَّ إلحاد الفلاسفة غير مقبول؛ فاتوا به للمسلمين في صورةٍ جملية جذَّابة باسم المكاشفَة والولاية والإمامَة، فزيَّنوه بهذا الشَّكل، وإلا فهي عقيدة المتفلسفة، فهذا هو خلاصة الكلام الطَّويل الذي سيأتي.
{قال -رحمه الله: (وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَهَا عِلَّةٌ تَتَشَبَّهُ بِهَا، كَمَا يَقُولُهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ؛ أَوْ لَهَا مُوجَبٌ بِذَاتِهِ كَمَا يَقُولُهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ، وَلَا يَقُولُونَ إنَّهَا لِرَبِّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَلَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يُنْكِرُوا عِلْمَهُ مُطْلَقًا كَقَوْلِ أَرِسْطُو؛ أَوْ يَقُولُوا إنَّمَا يَعْلَمُ فِي الْأُمُورِ الْمُتَغَيِّرَةِ كُلِّيَّاتُهَا كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا، وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ إنْكَارُ عِلْمِهِ بِهَا؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ، الْأَفْلَاكُ كُلُّ مُعَيَّنٍ مِنْهَا جُزْئِيٌّ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتُهَا وَأَفْعَالُهَا، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ. وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي "رَدِّ تَعَارُضِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ" وَغَيْرِهِ.
فَإِنَّ كُفْرَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ بَلْ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ، فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ)}.
هذه مُهمٌّ جدًّا أن نعرفه؛ فهؤلاء الفلاسِفَة الملاحدة أخذوا عقيدَتهم ممَّا وُرث عن أرسطو هذا المشرك الملحد المشهور وأتباعه، وقد سبق ذكره في أوّلِ الكتاب في الدُّروس المتقدِّمة.
والأفلاك: يعني أنَّ هذه الأكوان من السَّماوات والأرض وكذلك الشَّمس والكواكب؛ يقولون: إنها قديمة ليس لها خالق، أو لها علَّة -يعني وُجدت بعلَّة- ولكن يُنكرون الخالق، ويُنكرون علم الله -عزَّ وَجلَّ- بها.
وبعضهم يقول: إنَّ الله يعلم الأمور المتغيرة فقط بكليَّاتها وليس بجزئياتها -كما يقول ابن سينا.
وابن سينا هذا من كبار الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وكانَ أبوه يهوديًّا، فجاء ينشر هذا الكفر بين المسلمين، وكانوا ينتسبون للباطنيَّة القرامطة، فحقيقة ابن عربي وأمثاله أنَّهم أخذوا مذهب هؤلاء وحاولوا يُحسِّنونه باسم التَّصوُّف، فما كان من ذلك من أمورٍ علميَّة سلكوا فيها مسلك أرسطو وأفلاطون وأشباههما، وما كان من ذلك من أمور عمليَّة ويسمُّونها الفلسفة الإشراقيَّة الرُّوحيَّة، فإنَّ الفلسفة مدارس كثيرة، وكل من هؤلاء عاندوا وعارضوا ما جاء به محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما كان عليه السَّلف الصَّالح،.
ومن المهم أن نعرف أنَّ كفر هؤلاء المسمون هنا أعظم من كفر اليهود والنَّصارى ومُشركي العرب؛ لأنَّ اليهود والنَّصارى ومُشركي العرب إذا سئلوا مَن خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا من خلق المخلوقات؟ قالوا: الله؛ أمَّا هؤلاء فيقولون: لا!
{قال -رحمه الله: (وَأَرِسْطُو وَنَحْوُهُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْيُونَانِ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَلَيْسَ فِي كُتُبِ أَرِسْطُو ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا غَالِبُ عُلُومِ الْقَوْمِ الْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الْإِلَهِيَّةُ فَكُلٌّ مِنْهُمْ فِيهَا قَلِيلُ الصَّوَابِ كَثِيرُ الْخَطَأِ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَعْلَمُ بِالْإِلَهِيَّاتِ مِنْهُمْ بِكَثِيرِ؛ وَلَكِنْ مُتَأَخِّرُوهُمْ كَابْنِ سِينَا أَرَادُوا أَنْ يُلَفِّقُوا بَيْنَ كَلَامِ أُولَئِكَ وَبَيْنَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ؛ فَأَخَذُوا أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَرَكَّبُوا مَذْهَبًا قَدْ يَعْتَزِي إلَيْهِ مُتَفَلْسِفَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ؛ وَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
الشَّيخ له كتب كثيرة، منها كتاب: "نقد المنطق"، وهو كتابٌ عظيمٌ جدًّا ونافع، ومنها كتاب "درء تعارض العقل والنقل" في عشر مجلدات كبار، وهو كتاب عظيم، نقد فيه كل الشُّبهات التي يعتمد عليها هؤلاء الفلاسفة المنتسبين للإسلام، واضطره الحديث والاستطراد في ذلك الكتاب إلى الرَّد حتى على الفلاسفة القدماء، وبيَّن تناقضاتهم.
ويقول الشَّيخ هنا: إنَّ أرسطو وأتباعه من المتفلسفة مِن اليونان مع إلحادهم كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وقد تقدَّمت الإشارة في بعض الدروس إلى أنَّ أرسطو ليس كما يظن بعض النَّاس أنَّه مُلحدٌ فقط، بل إنَّه مع إلحاده مشركٌ يعبد الأوثان، ويزعم تعدد الآلهة حتى أوصلها إلى أربعين إلهًا.
ويقول الشَّيخ: إنَّ غالبَ علم هؤلاء المتفلسفة في الأمور الطَّبيعية، والأمور الطَّبيعية تنقسم إلى قسمين:
- أمور الرِّياضيَّات والحساب، والأعداد، والهندسة، وعلم الزَّوايا والمثلثات والمربعات والقياسات.
- علوم طبيعيَّة متعلِّقة بجسم الإنسان، كعلمِ الطِّب وعلمِ الحيوان، وعلمِ الأشجار، وعلمِ النَّبات.
وكثير من كلامهم فيه أشياء حسنة، ولكن ما يتعلَّق بالغيب وما يتعلَّق بالإلهيَّات فهم من أخس الناس في هذا المقام، وقليل صوابهم جدًّا جدًّا، ومن سبق أرسطو أحسن منه حالًا، وأرسطو أشدهم في الكفر والتَّكذيب للرُّسل، حتى إنَّ كفرة اليهود والنَّصارى بعد التَّحريف والتَّبديل خير من هؤلاء، على ما عند اليهود والنَّصارى من ضلالات.
وابن سينا وهو من مُتأخري الفلاسفة أراد أن يلفِّق بينَ كلام مَن تلقَّى عنهم الفلسفة وبينَ ما جاءت به الرُّسل، وأخذَ من أصول الجهميَّة ما يناسبه، ومن أصول المعتزلة ما يُناسبه؛ فهذا توصيفٌ لعقيدتهم إجمالًا.
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ لَمَّا رَأَوْا أَمْرَ الرُّسُلِ كَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بَهَرَ الْعَالَمَ وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ النَّامُوسَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمُ نَامُوسٍ طَرَقَ الْعَالَمَ، وَوَجَدُوا الْأَنْبِيَاءَ قَدْ ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ؛ أَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَقْوَالِ سَلَفِهِمْ الْيُونَانِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأُولَئِكَ قَدْ أَثْبَتُوا عُقُولًا عَشَرَةً يُسَمُّونَهَا "الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ".
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ لِلْبَدَنِ وَسَمَّوْا تِلْكَ "الْمُفَارَقَاتِ" لِمُفَارَقَتِهَا الْمَادَّةَ وَتَجَرُّدِهَا عَنْهَا. وَأَثْبَتُوا الْأَفْلَاكَ لِكُلِّ فَلَكٍ نَفْسًا وَأَكْثَرُهُمْ جَعَلُوهَا أَعْرَاضًا وَبَعْضُهُمْ جَعَلَهَا جَوَاهِرَ)}.
فهؤلاء انبهروا بما جاء به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: (النَّامُوسَ)، يعني: الوحي الذي نزل عليه، فلمَّا طرقَ العالم، عرفوا أن هذا الشَّيء فوق حدودهم؛ فأخذوا يُحاولون تحريف كل ما جاء في الشَّريعة من معانٍ غيبيَّة مثل: الملائكة، والجن، واليوم الآخر والمعاد، ومثل: ما أخبر الله -عزَّ وَجلَّ- به من أخبار يوم القيامة، والجنَّة والنَّار؛ تحريفًا يُناسب مذهبهم الكفري.
ثم إنهم أثبتوا العقول العشرة، وهذه عقيدة كفريَّة، يقولون: فيه عقل أوَّل، وعنه صدر العقل الثَّاني، ثم العقل الثَّاني صدر عنه العقل الثَّالث، والرَّابع...، والخامس...، حتى صدرت العقول العشرة، وهي التي تُحرِّك الأفلاك وتُحرك الكون، وعنها نتجت المخلوقات، فهم يُشبهون الدَّهريَّة -الذين يقولون لا يوجد خالق- من جهة، ويُخالفونهم من جهةٍ أخرى، ولكنَّهم ملاحدة، فعقيدتهم كفريَّة، وكلامهم في العقل الأوَّل والعقل الثَّاني كله كذب وافتراء على الله -عزَّ وَجلَّ.
ويسمُّون هذه العقول التي لا توجد إلَّا في مخيلتهم: المفارقات.
ويسمون ما ينتج عنها من الأفلاك: نفس.
فكأن العقل ذكر والنفس أنثى وتزاوجا؛ فكله إفكٌ مفترًى، وأشياء ينفر منها العقل السَّليم، فضلًا عن مُصادمتها للقرآن ومُصادمتها للسُّنَّة، ومُصادمتها لجميع ما جاءت به الرسل، ولهذا فإن عقيدة العقول العشرة موجودة عند بعض الإسماعيليَّة وبعض الدروز والباطنيَّة، يسمُّون العقل الأول، والعقل الفعَّال، ويستعيذون به، ويلجأون إليه، والعقل الثاني، والعقل الثالث؛ فكل هذه عقائد مخالفة للإسلام، وتكذيب صريح للقرآن، فحقيقة عقيدة أرسطو يُعيدونها من جديد، فهي عقيدة أرسطو تمامًا قررَّها ابن سينا والفارابي وأمثالهم من كفرة الفلاسفة المنتسبين للإسلام، ثم روَّجوها بين هؤلاء، فلهذا يجب الكفر بما قالوه.
ونقول جميعًا: آمنَّا باللهِ وكفرنا بالجبت والطَّاغوت، قال تعالى: ï´؟فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَاï´¾ [البقرة:256].
ونقول: نشهد أنَّ لا إله إلَّا الله ونشهد أنَّ محمدًا رسول الله، ونتمسَّك بشريعة الإسلام وما جاء عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونؤمن بالقرآن والسُّنَّة، ونكفر بما عارض القرآن والسُّنَّة.
{قال -رحمه الله: (وَهَذِهِ "الْمُجَرَّدَاتُ" الَّتِي أَثْبَتُوهَا تَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَا أَثْبَتَ أَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ "الْأَمْثَالَ الأفلاطونية الْمُجَرَّدَةَ" أَثْبَتُوا هَيُولَى مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّورَةِ، وَمُدَّةً وَخَلَاءً مُجَرَّدَيْنِ، وَقَدْ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ؛ فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا أَنْ يُثْبِتَ أَمْرَ النُّبُوَّاتِ عَلَى أُصُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَزَعَمُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ لَهَا خَصَائِصُ ثَلَاثَةً مَنْ اتَّصَفَ بِهَا فَهُوَ نَبِيٌّ.
الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ عِلْمِيَّةٌ يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ الْقُدْسِيَّةَ يَنَالُ بِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِلَا تَعَلُّمٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ تُخَيِّلُ لَهُ مَا يَعْقِلُ فِي نَفْسِهِ، بِحَيْثُ يَرَى فِي نَفْسِهِ صُوَرًا أَوْ يَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ أَصْوَاتًا كَمَا يَرَاهُ النَّائِمُ وَيَسْمَعُهُ وَلَا يَكُونُ لَهَا وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَزَعَمُوا أَنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ هِيَ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةٌ فَعَّالَةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي هَيُولَى الْعَالَمِ، وَجَعَلُوا مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَارِقِ السَّحَرَةِ هِيَ قُوَى النَّفْسِ، فَأَقَرُّوا مِنْ ذَلِكَ بِمَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ دونَ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً، ودُونَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ وُجُودَ هَذَا)}.
تقدَّم أن ذكرنا أنَّهم يعتقدون أنَّ الأولياء أفضل من الأنبياء، وذكرنا من الأمثلة كفرة الفلاسفة، ولهذا فإنَّهم يعتقدون في النَّبي أنَّه مجرد شخص عظيم وذكي، وعنده قدرة على ثلاث أشياء، وهذا من كفر الفلاسفة!
ولهذا بعض النَّاس يتعجَّب؛ لماذا يُكفِّر العلماء الفلاسفة؟
نقول: هؤلاء الفلاسفة الذين يقولون هذا المقالات لابدَّ أن تتصوَّروا درجة مقالاتهم في خُبثها ومُناقضتها لدين الإسلام، ومن ذلك أنَّهم يجعلون الرسول بمنزلة الرَّجل الذَّكي العظيم، المؤثِّر في الناس، فيقولون: هو عنده قوَّة علميَّة، وقوَّة تخيُّليَّة، وقوَّة فعَّالة يُؤثِّر في هُيُولَى العالم.
ما معنى هَيُولَى؟
هَيُولَى: من ألفاظ الفلاسفة، مثلًا تجد أن الكأس مصنوع من مادة الزُّجاج، وهذه المادة أخذت من التراب وذُوِّبَت، أو الطوالة المصنوعة من الخشب، أو الحديث؛ هذه المواد تُسمَّى هَيُولَى، وتحوُّل المادة إلى شكل يُسمَّى صورة عندهم.
وعلى كلٍّ؛ فيقولون: إنَّ الرَّسول عنده قوَّة علميَّة حَدَسيَّة، وعنده قوَّة تخيُّليَّة، وعنده قوَّة مؤثرة في النَّاس؛ وبهذا صار نبيًّا، ولهذا تجد أنَّ كثيرًا منهم طلب النُّبوَّة وادَّعى النُّبوَّة، وادَّعى أنَّ عنده هذه الأشياء، ثم يقولون: إنَّ النبوة مُكتسبة، مثل: الصناعة ومثل: الزراعة!
وكل هذه المقولات كفر عظيم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين؛ فكيف تقولون: إنها مكتسبة! الله -عزَّ وَجلَّ- اصطفى عبده ونبيه محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتزعمون أنتم أن هذا النبوَّة ليس لها حقيقة!
ومع الأسف فإنَّ الفلاسفة المنتسبين للإسلام نقلوا هذه المقولات الكفريَّة وروَّجوها، كابن سينا والفرابي وأشباههم.
ومن ضمن الإلحاد الذي عندهم؛ أنَّهم قالوا عن القوَّة التَّخيَّليَّة: إنَّه يتخيَّل ملائكة، ولم يثبتوا وجود الملائكة، فهذا من إنكار الملائكة، فالملائكة عندهم هي مجرد تخيُّلات عند النبي.
ومن ضمن الكفر الذي عندهم: القوَّة الفعَّالة.
فيقولون: إنَّ المعجزات هي قوَّة كامِنة في النَّفس، يُمكن لأي واحد أن يصنعها، مثل السَّحرة ومثل الكهنة، فسووا بينَ ما يقع من السَّحرة والكهنة وما يقع من الرُّسل -عليهم الصَّلاة والسَّلام.
ولهذا أنكروا قلب العصا حيَّة، وقالوا: إنَّ هذا لا يُمكن، وأنكروا إنشقاق القمر، وقالوا: إنَّ هذا لا يُمكن؛ لأنَّه لا يُناسب مَذهبهم الكفري، فإذا عرفتَ حجم الضَّلالة وخطرها وعمقها، وأنها مضادَّة لجميع دين الإسلام؛ بل لجميع ما أرسل الله به الرُّسل؛ عرفت خطر هذا الفكر الخبيث، وتجد الآن بعضَ النَّاس يحاول أن يروِّج للفلسفة الإلحاديَّة التي تتعلَّق بالغيبيات والإلهيات، فيروجون لها ويعقدون لها مجالسًا، ويُشجِّعون الشَّباب والشَّابَّات على الاستماع لكفَرة الملاحدة من هنا وهناك، فيجب على الجميع معرفة أنَّ هذا مُضادٌّ للإسلام، ومُضادٌّ حتى لمصلحة البلاد واجتماع الكلمة، فهؤلاء سوسٌ ينخرون في العقائد وفي الولاء وينخرون في الخير الذي في هذه البلاد وفي غيرها من بلاد المسلمين؛ فيجب مَعرفة خطرهم، وأنَّهم مُناقضون للقرآن، ومُضادُّونَ للسُّنَّة، ومحاربون لكل ما فيه خير، وإن ادَّعوا أنَّهم يُصلحون؛ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
{قال -رحمه الله: (وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ هَذَا من أَفْسَدِ الْكَلَامِ وَأَنَّ هَذَا الَّذِي جَعَلُوهُ مِنْ الْخَصَائِصِ يَحْصُلُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لِآحَادِ الْعَامَّةِ وَلِأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ أَحْيَاءٌ نَاطِقُونَ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ، وَهُمْ كَثِيرُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ï´؟وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَï´¾، وَلَيْسُوا عَشْرَةً، وَلَيْسُوا أَعْرَاضًا، لَا سِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الصَّادِرَ الْأَوَّلَ هُوَ "الْعَقْلُ الْأَوَّلُ"، وَعَنْهُ صَدَرَ كُلُّ مَا دُونَهُ، وَ"الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الْعَاشِرُ" رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ.
وَهَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُبْدِعٌ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ)}.
الملائكة خلقٌ مسخَّر، والخالق الموجد هو الله وحده لا شريك له، وهذه العقول، والملائكة ليست أعراضًا أو عشرة أو تخيلات؛ فكل هذا من الكفر العظيم والإنكار والتَّكذيب للقرآن.
{قال -رحمه الهل: (وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الْعَقْلُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ يُرْوَى «أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ. فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك، فَبِك آخِذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ». وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا "الْقَلَمَ" لِمَا رُوِيَ «إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ»، الْحَدِيثَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْعَقْلِ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَاتِمٍ البستي والدارقطني وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ.
وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَمَعَ هَذَا فَلَفْظُهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَهُ «أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلَ قَالَ لَهُ - وَيُرْوَى - لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ»، فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ خَاطَبَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ وَ "أَوَّلَ" مَنْصُوبٍ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ «لَمَّا»، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ: «مَا خَلَقْت خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيَّ مِنْك»، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خَلَقَ قَبْلَهُ غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ: «فَبِك آخُذُ وَبِك أُعْطِي وَلَك الثَّوَابُ وَعَلَيْك الْعِقَابُ»، فَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ جَوَاهِرِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ صَدَرَ عَنْ ذَلِكَ الْعَقْلِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا!)}.
هذا من تلاعب الفلاسفة المنتسبين للإسلام لَمَّا وجدوا حديثًا مكذوبًا مفترًى على الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا صحَّة له، ولا نجد في كتب الحديث أصلاً له؛ فظنُّوا أنَّ هذا العقل هو العقل المذكور في كتب الفلاسفة، فأخذوا يذكرونه، وبيَّن الشيخ حال هذا الحديث، وأنَّه لا يُمكن لأحدٍ أن يقبل مثل هذا الكذب عن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثمَّ ناقشهم الشَّيخ حتى في لفظ الحديث الذي احتجُّوا به، وهو ليس بحديثٍ؛ فردَّ عليهم فيه.
{قال -رحمه الله: (وَسَبَبُ غَلَطِهِمْ أَنَّ لَفْظَ "الْعَقْلِ" فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ هُوَ لَفْظُ الْعَقْلِ فِي لُغَةِ هَؤُلَاءِ الْيُونَانِ، فَإِنَّ "الْعَقْلَ" فِي لُغَةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا، كَمَا فِي الْقُرْآنِ ï´؟وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِï´¾، وقال: ï´؟إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَï´¾، وقال: ï´؟أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَاï´¾، وَيُرَادُ "بِالْعَقْلِ" الْغَرِيزَةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ يَعْقِلُ بِهَا.
وَأَمَّا أُولَئِكَ فَــ "الْعَقْلُ" عِنْدَهُمْ: جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَالْعَاقِلِ، وَلَيْسَ هَذَا مُطَابِقًا لِلُغَةِ الرُّسُلِ وَالْقُرْآنِ)}.
حتى العقل يرفض أن يكون العقل جوهرًا قائمًا بنفسه، هل يوجد الآن في الكون أو في الهواء أو في السماء شيء اسمه عقل مُستقل؟
هذه هي التَّخيُّلات التي أضرَّت بهم، وأفسدت أمرهم.
{قال -رحمه الله: (وَعَالَمُ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ كَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو حَامِدٍ)}.
أبو حامد الغزالي من ضمن الذين تأثَّروا بالفلسفة ثم تابوا منها، وردَّ عليهم.
{قال: (عَالَمُ الْأَجْسَامِ الْعَقْلُ وَالنُّفُوسُ فَيُسَمِّيهَا عَالَمَ الْأَمْرِ وَقَدْ يُسَمَّى "الْعَقْلُ" عَالَمَ الْجَبَرُوتِ "وَالنُّفُوسُ" عَالَمَ الْمَلَكُوتِ؛ وَ "الْأَجْسَامُ" عَالَمَ الْمَلِكِ، وَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الرَّسول، وَلَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ مُوَافِقٌ لِهَذَا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ يُلَبِّسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسًا كَثِيرًا، كَإِطْلَاقِهِمْ أَنَّ "الْفَلَكَ" مُحْدَثٌ - أَيُّ مَعْلُولٍ)}.
يقولون: إنَّ الفَلَكَ مُحدَث، فيظنُّ بعضُ المسلمين أنَّهم يوافقوننا في أنَّ الفَلَك مخلوق، وهم لا يقصدون أنَّه مخلوق، فهم يريدون معنًى ثانٍ، فالمُحدَث عندهم ليس كالمحدَث عندك، فهذه من الأغلاط التي نبَّه عليها الشيخ أكثر من مرة هنا، وهي أنَّ الألفاظ المستخدمة عند المتقدِّمين من فلاسفة اليونان حتى لو تُرجمت فليس المقصود بها مثلما يقصد العرب والمسلمون بالألفاظ، فيجب أن تعرف مدلولات المصطلحات عند كلِّ قومٍ حتى تعرف مُرادهم.
{قال: (كَإِطْلَاقِهِمْ أَنَّ "الْفَلَكَ" مُحْدَثٌ - أَيُّ مَعْلُولٍ- مَعَ إنَّهُ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ إلَّا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي لُغَةِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُسَمَّى الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ مُحْدَثًا، وَاَللَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَكُلُّ مُحْدَثٍ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ لَكِنْ نَاظَرَهُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ مُنَاظَرَةً قَاصِرَةً، لَمْ يَعْرِفُوا بِهَا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا أَحْكَمُوا فِيهَا قَضَايَا الْعُقُولِ، فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْأَعْدَاءِ كَسَرُوا، وَشَارَكُوا أُولَئِكَ فِي بَعْضِ قَضَايَاهُمْ الْفَاسِدَةِ وَنَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ الْمَعْقُولَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَصَارَ قُصُورُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ ضَلَالِ أُولَئِكَ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)}.
الرَّد على الملاحدة والفلاسفة الكَفَرة الذين يكذبون الرسل؛ إذا كان الرَّد بالحجَّة الصَّحيحة الموافقة لِما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة والعقل الصَّحيح كان هذا نافعًا، أما إذا استُخدمت طرائق أهل البدع كالجهميَّة والمعتزلة ومَن شابههم؛ فهؤلاء لَمَّا ردُّوا على أولئك الفلاسفة لم يكن ردهم مُتقنًا ولا مُحكمًا، فصار ملاحدة الفلاسفة يستطيلون ويرونَ أنهم أدق وأحسن من هؤلاء، ولهذا قال الشيخ: (فَصَارَ قُصُورُ هَؤُلَاءِ فِي الْعُلُومِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ ضَلَالِ أُولَئِكَ).
{قال -رحمه الله: (وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ قَدْ يَجْعَلُونَ "جِبْرِيلَ" هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخَيَالُ تَابِعٌ لِلْعَقْلِ، فَجَاءَ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ شَارَكُوا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةَ الْمُتَفَلْسِفَةَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ "الْفُتُوحَاتِ" وَ "الْفُصُوصِ"، فَقَالَ: إنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ، وَ"الْمَعْدِنُ" عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ، وَ"الْمَلَكُ" هُوَ الْخَيَالُ، وَ"الْخَيَالُ" تَابِعٌ لِلْعَقْلِ، وَهُوَ بِزَعْمِهِ يَأْخُذُ عَنْ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْخَيَالِ، وَالرَّسُولُ يَأْخُذُ عَنْ الْخَيَالِ؛ فَلِهَذَا صَارَ عِنْدَ نَفْسِهِ فَوْقَ النَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ خَاصَّةُ النَّبِيِّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ، فَكَيْفَ وَمَا ذَكَرُوهُ يَحْصُلُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالنُّبُوَّةُ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ)}.
يعني: النُّبوة ليست خيالًا، وجبريل ليس خيالًا، ولكن لَمَّا كان ابن عربي وأمثاله صدَّقوا الفلاسفة وأعرضوا عن القُرآن ظنُّوا أنَّ الملائكة خيال، وأنَّ جبريل خيال، وتخيلوا أشياء في أنفسهم فظنوا أنَّهم جبريل، وأنهم يأخذون من المعدن نفسه الذي هو فوق جبريل -بزعمهم- وخلاصة الكلام أنَّه لَمَّا صدَّقَ كلام الفلاسفة صار يظن في نفسه أنَّه يأخذ من الله مباشرة! وإنَّما هم تتنزَّل عليهم الشَّياطين كما قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍï´¾، [الشعراء 221، 222].
{قال -رحمه الله: (فَإِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالَهُ وَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَنَّ الصُّوفِيَّةِ، فَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ، لَيْسُوا مِنْ صُوفِيَّةِ أَهْلِ الْكَلامِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَشَايِخِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: كالفضيل بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني، وَمَعْرُوفٍ الكرخي، والجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَأَمْثَالِهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)}.
يعطيك الشيخ ابن تيمية وصفًا صحيحًا لابن عربي، وأنَّه من صوفيَّة الملاحدة الفلاسفة، وليس من صوفيَّة أهل الكلام، فإنَّ أهل الكلام أخف درجة من أهل الإلحاد.
{قال -رحمه الله: (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ فِي كِتَابِهِ بِصِفَاتِ تُبَايِنُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَï´¾.
وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُï´¾ وَقَالَ تَعَالَى: ï´؟وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَï´¾.
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ جَاءَتْ لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صُورَةِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لِمَرْيَمَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ وَفِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَيَرَاهُمْ النَّاسُ كَذَلِكَ.
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَنَّهُ ذُو قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ؛ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَأَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ï´؟ï´؟شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىï´¾
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إنَّهُ لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَرَّتَيْنِ"، يَعْنِي الْمَرَّةَ الْأُولَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَالنَّزْلَةَ الْأُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَوَصَفَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُ الرُّوحُ الْأَمِينُ، وَأَنَّهُ رُوحُ الْقُدُسِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَحْيَاءِ الْعُقَلَاءِ، وَأَنَّهُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ خَيَالًا فِي نَفْسِ النَّبِيِّ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُدَّعُونَ وِلَايَةَ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ.
وَغَايَةُ حَقِيقَةِ هَؤُلَاءِ إنْكَارُ أُصُولِ الْإِيمَانِ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ جَحْدُ الْخَالِقِ، فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ، وَقَالُوا: الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ، كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَنَاسِيُّ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانَاتُ فِي مُسَمَّى الْحَيَوَانِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ، وَإِلَّا فالحيوانية الْقَائِمَةُ بِهَذَا الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ هِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَرَسِ، وَوُجُودُ السَّمَوَاتِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ وُجُودُ الْإِنْسَانِ، فَوُجُودُ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ لَيْسَ هُوَ كَوُجُودِ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ قَوْلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي عَطَّلَ الصَّانِعَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ؛ لَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ لَا صَانِعَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لَكِنْ زَعَمُوا بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا هُوَ أَظْهَرُ فَسَادًا مِنْهُمْ، وَلِهَذَا جَعَلُوا عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَقَالُوا: "لَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبَ السَّيْفِ وَإِنْ جَارَ فِي الْعُرْفِ النَّامُوسِي كَذَلِكَ قَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى - أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْكُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ")}.
هذه مقولة ابن عربي، حتى جعلوا عبَّاد الأصنام ما عبدوا إلَّا الله، ويُدافعون عن فرعون.
{قال -رحمه الله: (قَالُوا: "وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ أَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ وَقَالُوا: ï´؟فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَاï´¾)}.
هنا ابن عربي يصف فرعون بأنه صادق.
{قال: (قَالُوا: فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ ï´؟أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىï´¾ وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ")}.
أهذا كلام يقوله مسلم؟!! هل فرعون على الحق؟!!
فهذا كلام لا يقوله إلَّا كافر زنديق، يُحاد الله ورسوله، ويخدع المسلمين.
{قال: (ثُمَّ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَجَعَلُوا أَهْلَ النَّارِ يَتَنَعَّمُونَ كَمَا يَتَنَعَّمُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَصَارُوا كَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ خُلَاصَةُ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ مِنْ مِشْكَاتِهِمْ.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ إلْحَادِ هَؤُلَاءِ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ؛ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ ادِّعَاءً لِوِلَايَةِ اللَّهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وِلَايَةً لِلشَّيْطَانِ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ)}.
رحم الله الشيخ وجزاه الله خيرًا على التَّنبيه؛ لأنَّ هذا الأمر عظيم، وكذلك لخَّص ذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصائد الشَّيطان في المجلَّد الثَّاني في ذكر إضلال الشَّيطان لبني آدم، وذكر بداية الضَّلالات والانحرافات، وذكر ما يتعلَّق بالفلاسفة.
والحقيقة أنَّ الكلامَ متواصلٌ في فضحِ هؤلاء الملاحدة، ونسألُ الله أن يجزي ابن تيمية خير الجزاء على ما قام به، وكذلك غيره من علماء الإسلام، وهذا هو الواجب على طلبة العلم، وهو أن يردُّوا على هؤلاء، وأن يُبيِّنوا أمرهم، والواجب على ولاةِ الأمر أن يمنعوا هذه المقالات الفاسدة وأربابها، وأن يُعاقبوا أصحابها حتى لا يُعبَد إلَّا الله وحده لا شريكَ له، ولا يُتَّبَع إلَّا رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا ينقاد إلَّا إلى شرع الإسلام، ولا يُلبَّس على الناس في أمر دينهم.
قبل أن نختم هذه المجالس وهذه الدروس؛ نحبُّ أن نُلخِّص ما مضي في هذه الدروس، وفيما قرأنا من هذا الكتاب، ثمَّ إن يسَّر الله -عزَّ وَجلَّ- نكمل بقيَّة الكتاب في مجالس أخرى.
كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ ألَّفه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا وهي التفريق؛ لأنَّ الله -عزَّ وَجلَّ- فرَّقَ بينَ هؤلاء وهؤلاء، ففرق بين المؤمنين والكفار، وأهل الجنَّة وأهل النَّار، واشتمل الكتاب على عدَّة فصول.
- ذكر الشَّيخ في المقدِّمةِ أصحَّ حديثٍ وردَ في الولاية، وكذلك ذكر الولايات في هذا الأمر، وما يتعلق بالأبدال والأقطاب والأوتاد، وأنَّ هذه الأسماء لا يثبت منها شيء إطلاقًا، وأمَّا الأبدال ففيه حديث ضعيفٌ، ولكن لا يُعتمَد عليه.
- ثم ذكر في الفصل الثَّاني: أنَّ الولي قد يكون فيه ذنب أو نفاق أو معصية لا تُخرجه من الملَّة، فتجتمع الولاية والإيمان، والنفاق والعداوة، ويكون للأرجح منهما، وأنَّ أولياء الله يتفاضلون.
- ثم ذكر في الفصل الثَّالث والرَّابع: طبقات أولياء الله، وهم: السَّابق بالخيرات، والمقتصد، والظَّالم لنفسه إذا تاب؛ فإنَّه يلحق بالقسمين.
- ثم ذكر في الفصل الخامس: تفاضل النَّاس في الولاية والعداوة، وأنَّ العذاب لا يكون إلَّا بعدَ قيام الحجَّة.
- ثم ذكر في الفصل السَّادس: أنَّ الإيمان يكون مُجملًا ويكون مُفصَّلًا، وأنَّ مَن آمنَ بما بلغه فقد أحسنَ، ولكن ليس مثل مَن علم وتعلَّم وزاد في العمل والإيمان.
- ثم ذكر في الفصل السَّابع: مسألة الإيمان والتَّقوى، وأنَّها شرط في الولاية، ويخرج بذلك المجنون والصَّبي غير المميز، وكذلك مَن لم تبلغه الدَّعوة؛ فإنَّهم لا يُمكن أن يوصفوا بأنَّهم أولياء لله -عزَّ وَجلَّ- وردَّ على المتصوفة الذين يجعلون المجانين والمجاذيب والمولَّهين أولياء.
- ثم ذكر في الفصل الثَّامن: أنَّ أولياء الله ليس لهم لباسٌ خاصٌّ أو وظيفة خاصَّة، وأنَّهم يُوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، وأهل الجهاد في سبيل الله، ويوجدون أيضًا في أهل التَّجارة، وأهل الصناعة، وأهل الصناعة، وسائر الصِّناعات المباحة؛ إذا اتَّقوا الله -عزَّ وَجلَّ- وآمنوا وعملوا بشرعه واتَّقوا المحرَّمات، ثم تطرَّق الشيخ إلى موضوع اسم الصوفيَّة، وأنَّه اسمٌ غير وارد في الكتاب والسُّنَّة.
- ثم ذكر في الفصل التَّاسع: مسألة العِصمة، وأنَّها ليست شرطًا في الولاية، خلافًا لِما يظنُّه بعض غلاة الصُّوفيَّة وغُلاة الرَّافضة باعتقاد العصمة في الأئمة والأولياء.
- ثم ذكر في الفصل العاشر: التَّفريق بين الحقيقة والشَّريعة، وأنه لا وجه له، وأنَّ هذا ممَّا درجَ عليه بعض الصُّوفيَّة، وردَّ عليهم.
- وفي الفصل الحادي عشر وهو الفصل الأخير الذي قرأناه في هذا الدرس: ذكر أنَّ أفضل البشر هم الرُّسل والأنبياء، وليس الأولياء أفضل من الأنبياء، وردَّ على ملاحدة الصُّوفيَّة وملاحدة الباطنيَّة وملاحدة الفلاسفة.
ولا يزال الكلام متوصلًا، ولكن نرجوا الله -سبحانه وتعالى- أن ييسر إكمال القراءة في مجالس قادمة -إن شاء الله تعالى.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يغفر لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يرحمه وأن يجزيه عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجزيكم خيرًا على هذه الدروس المباركة، وأن يوفِّق جميع المسلمين إلى العلم النَّافع والعمل الصَّالح، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 13:19

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc