بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال الإمامُ المُجدد شيخُ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في كتابه المُفيد؛ كتاب "التوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد":
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وسلم.
باب حقِّ الله على العباد وحقِّ العباد على الله
وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ الآية [النحل:36].
وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآية [الإسراء:23].
وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الآية [النساء:36].
وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الآيات [الأنعام:151].
قال ابنُ مسعودٍ : مَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا الآية [الأنعام:151- 153].
وعن مُعاذ بن جبلٍ قال: كنتُ رديف النبيِّ ﷺ على حمارٍ فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حقّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ قال: لا تُبَشِّرهم فيتَّكلوا أخرجاه في "الصحيحين".
الشيخ: الحمد لله، وصلَّى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
أما بعد: فهذا كتاب عظيم، وهو كتاب التوحيد، ألَّفه الإمامُ الكبير والشيخ العلامة أبو عبدالله محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التَّميمي الحنبلي رحمه الله، الإمام المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر في هذه الجزيرة، المولود سنة 1115ه، والمتوفى سنة 1206 هجرية رحمه الله، ألَّف هذا الكتاب وكان يُعلِّمه الناس بحريملاء، ثم في عيينة، ثم انتقل إلى الدرعية، وساعده على الدَّعوة أميرُها محمد بن سعود رحمه الله في عام 1157 من الهجرة، واستمر في الدرعية حتى توفاه الله بها؛ يدعو إلى الله، ويُعلم الناس دينهم، ويُرشدهم إلى الحقِّ في مدة إقامته في الدرعية نحو خمسين عامًا.
وهذا الكتاب من أهم مؤلفاته رحمه الله، وقد هدى الله به الجمَّ الغفير، وأنقذ الله به الجزيرة مما هي فيه من الشرك، ثم انتشرت دعوته رحمه الله إلى مكة والمدينة، ثم إلى الهند والباكستان والشام والعراق وغيرها، ونقل ذلك العلماء رحمة الله عليهم، وانتشرت الدعوة، وصارت دعوته رحمه الله مُشجعةً لغيره من أهل العلم وأهل البصيرة والعقيدة الصالحة في العراق وفي الشام وفي الهند وفي مصر وفي غيرها.
وهذا الكتاب من أهم الكتب؛ لأنه ضمَّنه الآيات والأحاديث الدالة على حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك وجميع ما يتعلق بذلك، بوَّب لذلك أبوابًا كلها في تحقيق الدَّعوة والتَّحذير من ضدِّها، وفي أشياء تتعلق بذلك يأتي بيانها إن شاء الله، رحمه الله.
يقول رحمه الله: "كتاب التوحيد" يعني: هذا كتاب يذكر فيه توحيد الله الذي بعث به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو توحيد العبادة؛ لأنَّ توحيد الربوبية قد أقرَّ به المشركون؛ توحيد الربوبية والأسماء والصِّفات قد أقرَّ بذلك المشركون، يعرفون أنه سبحانه وتعالى العزيز والحكيم والخلَّاق والرزاق، ولكنَّهم أشركوا بتوحيد العبادة؛ ولهذا يقول جلَّ وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال تعالى: مَنْ يَرْزُقُكُمْ يعني: قل يا محمد للناس: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس:31]، هم يعرفون أنَّ الله هو الخلَّاق الرزاق المحيي الميت، مدبر الأمور، ولكنَّهم أشركوا مع الله آلهةً أخرى يزعمون أنها تُقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم: من أموات، وأصنام، وأشجار، وأحجار، ذكر الله عنهم أنهم قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وذكر عنهم أنهم قالوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18].
فهم عبدوهم ودعوهم يزعمون أنهم شُفعاء الله؛ أنهم يُقربون إلى الله زلفى، جهلًا منهم وضلالًا، فأنكر الله عليهم ذلك؛ قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، ليس له شريك سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:2- 3] يعني يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، كذَّبهم بقولهم: يقربونا إلى الله زلفى، وأنهم كذبة في هذا، وأنهم كفرة بهذا العمل.
فدلَّ ذلك على أنَّ دعوة الأموات والاستغاثة بالأموات والنذر لهم والذبح لهم أو للغائبين أو للكواكب أو للأصنام أو للجن هذا هو الشرك الأكبر، هذا دين المشركين، قال تعالى: قُل قل يا محمد إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162- 163]، وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1- 2]، وقال النبي ﷺ: لعن الله مَن ذبح لغير الله، وقال جلَّ وعلا: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال النبيُّ ﷺ: مَن مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار.
فالواجب على جميع الثَّقلين -الجن والإنس- أن يعبدوا الله وحده، وأن يخصُّوه بالعبادة: بالدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر والصلاة والصوم وغير ذلك، كله لله وحده، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خلقهم ليعبدوه، وهذه هي العبادة: دعاؤه ورجاؤه وخوفه ومحبته والصلاة له والصوم وغير هذا من طاعته، هذه هي العبادة التي خُلقوا لها، وهي الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، وهي الإيمان والهدى: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23]، وهي البر والتقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189].
فالواجب على الجميع أن يعبدوه وحده، وهذه العبادة هي تخصيصه بأفعالهم: من صلاةٍ وصومٍ ودعاءٍ ونذرٍ وخوفٍ وغير ذلك، كله لله وحده، وهذه العبادة تُسمَّى: إسلامًا، وتُسمَّى: دينًا، وتُسمَّى: هدى، وتُسمَّى: إيمانًا، وتُسمَّى: تقوى، وتُسمَّى: برًّا، هذه العبادة التي خلقنا لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني: إلا ليخصُّوني بالعبادة دون غيري، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] يعني: أمر ووصَّى ألا تعبدوا إلا إيَّاه، يعني: أن تخصوه بالعبادة، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وخلق الخلق ليعبدوه، وأرسل الرسل بذلك؛ أرسل الرسل لتأمرهم بهذا، وأنزل الكتب تأمرهم بهذا؛ القرآن نزل بهذا: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2- 3]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا يعني: وحِّدوا الله، خصُّوه بالعبادة ولا تُشركوا به شيئًا، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] يعني: قل يا محمد للناس: تعالوا، يعني: هلمُّوا وأقبلوا: تَعَالَوْا أَتْلُ يعني: أقصّ عليكم ما حرَّمه الله عليكم، وهو الشرك بالله، حرَّم عليكم أن تُشركوا به سبحانه، وأوجب عليكم أن تخصُّوه بالعبادة: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:151- 152]، ثم قال بعده: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] يعني: هذه الأوامر والنَّواهي هي صراط الله؛ توحيد الله وترك الإشراك به، وبرّ الوالدين، وعدم قتل الأولاد بغير حقٍّ كما تفعله الجاهلية، كل هذا من دينه الذي شرعه الله لعباده.
والحذر من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإحسان إلى الأيتام، والوفاء بالكيل والميزان، والوفاء بالعهد، والعدل في القول والعمل، كله من دين الله، كله من الإسلام، كله داخل في العبادة التي خُلقوا لها، وهي عشر مسائل.
قال ابن مسعودٍ : "مَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات" يعني: هذه الآيات من سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]؛ لأنَّ الله أوضح فيها الأوامر والنَّواهي، هذا هو دين الله، وصَّاهم الله بذلك؛ وصَّاهم أن يخصُّوه بالعبادة، وألا يُشركوا به شيئًا، وألا يقتلوا أولادهم من إملاقٍ، يعني: من فقرٍ، الله يرزق الجميع ، وحذَّرهم من الفواحش، وهي المعاصي، ما ظهر منها وما بطن، ونهاهم عن قتل النفوس بغير حقٍّ، وأمرهم بالإحسان إلى الأيتام وعدم قربان أموالهم إلا بالتي هي أحسن: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152] يعني: حتى يبلغ الحلم، وحتى يزول عنه السَّفه.
فالواجب على أولياء الأيتام الإحسان إليهم، وعلى غيرهم أيضًا أن يكفُّوا شرَّهم عن الأيتام ومالهم، وأن يُحسنوا إليهم حتى يبلغوا ويرشدوا ثم يُعطوا أموالهم.
قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ العدل بالكيل والميزان، وعدم الجور، وعدم الحيف .....: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا يعني: إذا قلتم أمرًا أو نهيًا أو حكمًا فاعدلوا، لا تجوروا في الأحكام، ولا في الأقوال، ولا في الأعمال.
ثم قال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا يعني: عهد الله الذي عهد إليكم؛ عهد إلى الناس أن نتقيه، وأن نعبده وحده لا شريك له، وأن نُطيع أوامره، وأن ننتهي عن نواهيه، هذا عهد الله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال: تعقلون، ثم تذكرون، إذا عقل الناسُ وتدبروا تذكَّروا.
ثم قال بعد: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] يعني: هذه الأوامر والنَّواهي هي صراط الله، أصلها وأساسها التوحيد والإخلاص لله، ثم فعل الأوامر وترك النواهي، هذا صراط الله المستقيم كما قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] يعني: طريق الجنة وطريق الهدى، وهو الإسلام، وهو الطريق إلى الجنة، وهو سبيل السعادة، وهو العلم والعمل؛ العلم بشرع الله، والعمل بذلك، وأساسه ورأسه توحيد الله والإخلاص له، ثم فعل الأوامر من صلاةٍ وغيرها، وترك النواهي من سائر المعاصي، هذا هو صراط الله المستقيم، وهو صراط المنعم عليهم: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، هو صراط المنعم عليهم من الرسل وأتباعهم، صراطهم هو سبيلهم، هو الصراط المستقيم، هو دين الله، وتوحيد الله وطاعته، وترك الإشراك به، والاستقامة على دينه.
فمَن أراد أن ينظر إلى وصية محمدٍ التي أوصى بها فليقرأ هذه الآية، يعني: لو وصَّى لن يُوصي إلا بما وصَّى الله به؛ لأنَّ الله قال: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:151]، والرسول ﷺ يُوصي بما وصَّى الله به، فهذه الآيات وصية الله ووصية الرسول، كما قال ابنُ مسعودٍ .
فالواجب على جميع الثَّقلين -الجن والإنس- العناية بهذه الوصايا، والاستقامة عليها، وأصلها وأساسها توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، ثم فعل الأوامر من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ وجهادٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكرٍ، وغير ذلك، وترك ما نهى الله عنه من سائر المعاصي بعد الشرك، بعد ترك الشرك.
ثم ذكر رحمه الله حديثَ معاذٍ: أنه كان مع النبي ﷺ على حمارٍ فقال: يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، هذا فيه الأدب؛ مَن سُئل عمَّا لا يعلم يقول: الله أعلم، في حياة النبي يُقال: الله ورسوله أعلم؛ لأنه يأتيه الوحي عليه الصلاة والسلام، أما بعد وفاته فيُقال: الله أعلم، أو يقول: لا أدري، فلما سأله ﷺ: أتدري ما حقّ الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، كرر عليه، فقال: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به، وحقّ العباد على الله ألا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا.
هذا أمر عظيم؛ حقَّان عظيمان: حق الله على العباد توحيد الله والإخلاص له، وأن يعبدوه وحده، وأن يُطيعوا أوامره، وينتهوا عن نواهيه، وحقّ العباد على الله إذا أدّوا حقَّه: أن يُدخلهم الجنة، وأن يُنجيهم من النار، إذا عبدوه ووحَّده وأخلصوا له العبادة وأدّوا حقَّه فلهم الجنة والكرامة، كما قال جلَّ وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ الآية [البينة:7- 8]، هذا جزاء عباد الله؛ الجنَّات والكرامات والسَّعادة الأبدية التي ليس فيها موت ولا مرض ولا فقر ولا حاجة ولا مشقة، بل في نعيم دائم وخير دائم، هذا جزاء من عبد الله، واستقام على أمره، وحافظ على حدوده، وابتعد عن مناهيه.
قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ بهذا العلم، قال: لا تُبشرهم فيتَّكلوا يعني: لا يتَّكلوا على مجرد التوحيد ويقعوا في المعاصي، ثم إن معاذًا بيَّن ذلك في آخر حياته تأثمًا؛ تحرجًا من الإثم، والنبي بيَّن هذا في أحاديث أخرى؛ بيَّن ذلك لأمته، وحذَّرهم من الاتكال، حذَّرهم وبيَّن لهم أنه لا بدَّ مع التوحيد من حقِّ الإسلام، قال في الحديث الصحيح: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، فالطاعات كلها من حقِّ الإسلام، وترك المعاصي من حقِّ الإسلام.
ولهذا لما ارتدَّ مَن ارتدَّ من العرب وامتنعوا من أداء الزكاة في عهد الصديق بعد وفاة النبي ﷺ قاتلهم الصديقُ وقال: "إنَّ الزكاة من حقِّ الله"، الزكاة من حقِّ لا إله إلا الله، "والله لو منعوني عناقًا -وفي لفظٍ: عقالًا- كانوا يُؤدُّونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتُهم على منعه"، فقاتلهم هو والصحابةُ حتى خضعوا للحقِّ، ودخلوا في دين الله، وأدّوا الزكاة، والتزموا بأمر الله.
والنبي ﷺ بيَّن هذا في أحاديث كثيرة أنه لا بدَّ من توحيد الله والإخلاص له، ولا بدَّ من أداء حقِّه: ألا وإنَّ حمى الله محارمه، لا بدَّ من أداء ما أوجب الله، والله بيَّن هذا في قوله سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:13- 14]، لكن أصل الدين وأساسه: توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، والمعاصي فروع بعد ذلك، والطاعات فروع.
فمَن مات على التوحيد والإيمان والإخلاص وعنده بعض المعاصي هذا تحت المشيئة؛ قد يُغفر له، وقد يُعذَّب، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإذا مات وعنده معاصٍ: زنا أو سرقة أو شرب مسكر أو عقوق للوالدين أو غير هذا فهو تحت مشيئة الله إذا مات ولم يتب؛ إن شاء الله عفا عنه بشفاعة الشُّفعاء، أو بمجرد رحمته سبحانه وتعالى، وإن شاء عذَّبه.
وكثير من العُصاة يُعذَّبون، كثير منهم لا تعمّهم الشفاعة، ولا يُمنعون من دخول النار، كثير من العُصاة يدخلون النار بمعاصيهم، ويمكثون فيها ما شاء الله، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا من المعاصي وطهروا أخرجهم الله من النار إلى الجنة، ولا يُخلد في النار إلا الكفرة، لا يُخلد في النار إلا مَن مات كافرًا بالله، نسأل الله العافية، هؤلاء لهم الخلود دائمًا أبدًا؛ قال الله تعالى في حقِّ الكفرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، وقال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، أما العُصاة إذا دخلوها فيُعذَّبون ما شاء الله ثم يُخرجون من النار بعد ذلك، ويُلقون في نهر الحياة، وينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، فإذا تم خلقهم وحسن خلقهم أدخلهم الله الجنة.
فالواجب على جميع المؤمنين، الواجب على جميع الثقلين -الجن والإنس- تقوى الله وتوحيده والإخلاص له، والاستقامة على دينه، والحذر من الشرك به، والحذر من سائر المعاصي، هذا هو دين الله، وهذه هي العبادة التي خُلق الناس لها، وهذا هو الإسلام والإيمان والهدى.
أسأل الله أن يُوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يتغمَّدنا وإياكم بالرحمة، وأن يُعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأن يغفر للشيخ محمد ويتغمَّده بالرحمة، وأن يجزيه عن دعوته وجهاده خيرًا، وهكذا أتباعه، نسأل الله لهم المغفرة والعفو وجزيل المثوبة، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه.