«الأحجية» في الأدب الشًّعبي

[Chicobustan]

اللغز أو«الأحجية» شكل أدبي شعبي قديم قدم الأسطورة، وهو ليس مجرد كلمات مبهمة تُطرح للإجابة عن معانيها، بل هو فنّ أدبي شعبي متميز.

تقول الدكتورة « نبيلة إبراهيم»: «اللغز في جوهره استعارة، والاستعارة تنشأ نتيجة التقدم العلمي في إدراك الترابط والمقارنة وإدراك أوجه الشبه والاختلاف. على أن اللغز فضلاً عن ذلك يحتوي على عنصر الفاكهة، ذلك أن سبب كل شيء يثير الضحك احتواؤه على عنصر عدم التوقع»1.

ويتخذ الباحث «إبراهيم فاضل» رأياً مغايراً، حيث يقول:« عَمِلَ الشِّعر العربي في حقل الأحاجي، وخاصة في عصور الانحدار»3.



أسباب نشأة اللغز؟

يقول الباحث «موريس فليد» في بحث له عن الألغاز: «إنَّّ اللغز نشأ منذ قديم الزمان حيثما كان العقل البدائي يُمرِّن نفسه على التلاؤم مع الكون الذي يحيط به. ذلك أنه كلما كانت الرؤية أكثر نضارة، ازدادت الرغبة في إدراك ظواهر الطبيعة وظواهر الحياة، وإدراك القوانين التي تحيط بالإنسان».



اللغز في الموروثات الشِّفاهية:

يحفل التراث الشَّعبي الإنساني بآلاف الألغاز المختلفة، ولم يدوّن من هذه الألغاز سوى القليل، ومن هذه الألغاز الكلامية الشِّفاهية المشهورة، تلك الألغاز التي طرحتها بلقيس ملكة سبأ على النَّبي سليمان (عليه السلام), ومن ألغازها هذه: «ما معنى سبعة وجدوا مخرجاً وتسعة وجدوا مدخلاً، واثنين انساب منهما مجرى وواحداً شرب من هذه المجرى؟ فأجاب النَّبي سليمان: أما السَّبعة فهم سبعة أيام الحيض. وأمَّا التسعة فهم تسعة شهور الحمل، وأمَّا الاثنان فهما الثديان، وأمَّا الواحد فهو الطفل».



اللغز في الشعر العربي القديم:

ظهر اللغز في الشِّعر العربي القديم، ولاسيما في العصور الوسطى، يقول الفارض:

«ما اسم قوتٍ يُعزى لأول حرفٍ

منه، بئرٌ بطيبةٍ مشهورةْ

ثمَّ تصـحيفها لثانيـه مـأوى

ولنا مركبٌ وتاليه سورةْ

ويرمز الفارض بأحجيته إلى كلمة ـ حنطة ـ فهي قوت يتقوّتُ بهِ الإنسان. وأول حرف منها الحاء والحاء اسم بئر المدينة المنورة وهي طيبة ويثرب وثاني حرف هو النون. والنون يعني الحوت، والحوت مأواه اليمّ وكلمة ـ يمّ ـ تصحيف لكلمة ثمّ و التمّ هو البحر، مركب الإنسان. و تاليه طه وهي سورة في القرآن الكريم»5.



اللغز في الحكاية الشَّعبية:

انطوت بعض الحكايات الشَّعبية العربية على ألغاز محيِّرة، ومن هذه الحكايات الحكاية التالية:

«هينا مقص، وهينا مقص

وهينا عرايس بتترص

هينـا بنت حجـازيـه

شعرها ضاني ضاني

لفيتـو علـى حصاني

وحصاني في الخزانه

والخـزانه عايزه سلم

والسّـلَّم عند النجـار

والنجـار عايز مسـمار

والمسمار عند الحداد

والحـداد عايـز بيضه

والبيضه عند الفـرخه»6.

وتعتبر هذه الحكاية لغزاً محيِّراً، وقد فسَّرها الأستاذ «أحمد أمين» كما يلي:« هي حدوتة لطيفة تدل على مبلغ اتصال الأعمال بعضها ببعض، وقد سمعها رجل صوفي فشرحها شرحاً صوفياً، فقال: أحدثك حدوتة بالزيت ملتوته، يعني السِّر الإلهي، حلفت ما كلها، أي أتناولها فإنَّ القصيد لا يتم إلاَّ بالوسيلة. حتى ييجي تاجرها، المراد به المرشد الكامل، والمربي الواصل. والتاجر فوق السطوح، لايذهب ولايروح، بل إليه يُراح، وبه تنتعش الأرواح. والسطوح عاوزه سلَّم، يتوصل به إليها، حيث أن المدار عليه. والسّلّم عند النجار، وهو الأستاذ الكامل والمسلك الواصل. والنَّجار عاوز سلّم، يُثبت به سلَّم القرب والوصول. والمسمار عند الحداد، صانعه المخصوص به. والحداد عاوز بيضه، إذ لا يكون شيء بلا شيء»7.

اللغز في الشِّعر الشَّعبي العربي:

يزخر الشِّعر الشَّعبي العربي بأشكال مختلفة من الألغاز عكست في مجملها أنماطاً مختلفة من التفكير في سبيل الوصول إلى المعرفة، وتزجية الوقت بما هو مسلٍّ ومفيد، ومن أجل التعبير عن قضايا اجتماعية وفكرية وبيئية مختلفة.

اللغز في الشِّعر النَّبطي:

يعتبر الشِّعر النّبطي من أقدم الأشعار الشَّعبية في الوطن العربي وربما في العالم الذي انطوت أشعاره على ألغاز كثيرة على غاية كبيرة من الأهمية.

واللغز في الشِّعر النَّبطي يتضمن سؤالاً أو عدة أسئلة يطرحها الشَّاعر، حيث يبادر أحد الشُّعراء إلى الردّ على شاعر اللغز بعدة أبيات تتضمن الحل، ومن هذه الألغاز المعاصرة هذا اللغز الذي طرحه الشَّاعر «عبد الهادي العرجاني»:

«أنشد على بنـت عظيمة لها شان

بنت ذكرها الله وبيَّن عمـلها

بنت لهـا في محكم القول عنوان

يا كبر ظلم الجاهل الّي حملها»8.

وقد انبرى للردّ على هذا اللغز مجموعة من الشُّعراء، ومنهم الشَّاعر «عبد الرحمن علي الحمين»:

«يا مرحبا ما سال وادي وغدران

وعـداد حجـاج لبيتـه وصلها

هدي الأمانه جبتها دون نقصـان

والجاهل الإنسان هو من حملها»9.



اللغز في شعر العتابا:

اعتاد أبناء الجزيرة الفراتية في القرون الماضية تداول الألغاز في أمسياتهم ضمن شعر العتابا، ولغز العتابا لا يُرد عليه بجواب عبر بيت شعري مماثل كما في الشِّعر النبطي، بل يُجاب عليه ً بشكل شفاهي.

وقد ضمَّن شعراء العتابا ألغازهم قضايا دينية واجتماعية ومعرفية عكست أفكارهم ورؤاهم. وكان حلّ اللغز يتطلب إعْمَال التفكير للحظات أو أيام أو أسابيع تبعاً لصعوبة وعمق وتشعّب الحلّ:

«سبع سبعات بالدنيا بلا ماي

بحر ومحيط عالدنيا بلا ماي

يهل بويظات وتلجّن بلا ماي

فهيم وردّ لي معنى الجواب»10.

وجواب هذا اللغز: السبع سبعات البلا أمهات هي: سيدنا آدم (عليه السلام) وأمنا حواء، وناقة صالح (عليه السلام)، وكبش اسماعيل (عليه السلام)، ونملة سليمان (عليه السلام)، وحيّة موسى (عليه السلام) وعصاه.

أمَّا البحر والمحيط في الدنيا البلا ماء فهما العلم والبياض اللامع بلا ماء هو الشَّيب.

ويدل تضمين الألغاز في الشِّعر النَّبطي وفي شعر العتابا على قوة القدرة التخييلية والمعرفية والفكرية للشعراء، حيث كانت لغة الألغاز على الدوام هي لغة الحكماء الذين تتسم لغتهم بالتعبيرية والتصويرية والتجريدية.

وقد خضع اللغز إلى مراحل عديدة من التطور والانتقال، وبقي خلالها محافظاً على شكله الأدبي الشَّعبي المميَّز وسماته ووظائفه..مليئاً بالأفكار العميقة التي يُلبسها دائماً أشكالا فنية رائعة تعكس جانباً مهماً من جوانب الحياة العديدة.