تعيش الجزائر هذه الأيّام وإلى غاية 04 ماي المقبل حمى الانتخابات التشريعية التي أعتقد أنها لا تحمل جديدا في المضمون بقدر ما تحمل الجديد في الشكل، فالمتابع للشأن الانتخابي، والمتأمل في قوائم المترشحين في كثير من الأحزاب يستشف أنها تتهافت وراء إقحام رجال المال والأعمال في الوقت الذي كانت وإلى وقت قريب ترفض هذه الفكرة رفضا مطلقا وأعني بها الأفلان والأرندي بشكل خاص اللذين يراهنان على كسب أصوات المواطنين بالاعتماد على هذه الفئة، والأدهى من ذلك أن بعض الأحزاب التي كثيرا ما تُنعت بالصغيرة أو المغمورة تتبجّح بأنها ضد ما يسمى أيضا بـ"الشكارة" و"المال الفاسد"، والحقيقة أن المقدرة أعوزتها على إيجاد رجال من هذا القبيل، وإلا لكانت مثل بقية الأحزاب المحسوبة على النظام.
في السابق كان تردُّد رجال المال والأعمال محتشما على البرلمان، والآن وبعد ما بدت بوادر الأزمة، بل ولاحت في الأفق مع القوانين المنظمة للمال العام والاستيراد والتصدير وما يصاحبها من ضرائب جديدة وغيرها نراهم يسابقون إلى الظفر بمقعد في البرلمان لتحقيق عدة أغراض ناهيك عن الحصانة والامتيازات الأخرى، فالذي يهمّ بالدرجة الأولى هذا البرلماني صاحب المال والأعمال هو كيف يحافظ على ثروته، بل كيف يجد لها المسالك لتتقوّى وتكثر بنسج شبكة من العلاقات تؤهِّله لتصريف منتجاته أو استيرادها بأقل تكلفة وأكثر فائدة، مستغلا في ذلك وجوده في البرلمان لتكييف القوانين ذات الطابع التجاري والاقتصادي وفق ما يتماشى ومصلحته.
حسب اعتقادي، فإن أيّ رجل أعمال مهما كان وضعُه أو توجُّهه أو ثقافته، فإنّه لن يتخلّى عن العمل من أجل الحفاظ على ما اكتسبه من مال في سبيل الزيادة، ولئن كان هذا مشروعا، فإنّ غير المشروع في نظري هو استغلال البرلمان هذا الفضاء الذي يمنحه كثيرا من الامتيازات والسلطة الشرعية في سنّ القوانين المختلفة، لاسيما ما تعلّق بالنقد والقرض والاستيراد والتصدير والضرائب...
هل البرلماني "رجل المال" يمكن أن يراقب أداء الحكومة وهو الذي ينتظر منها أن تحقق له بعضا من مآربه؟ هل ننتظر من النائب الذي دخل البرلمان بـ"الشكارة" أن يكون لديه الوقتُ الكافي للانخراط في صفوف المواطنين والاطلاع على ظروفهم ومعرفة أحوالهم والاستماع إلى انشغالاتهم وهمومهم المختلفة؟
الشعب الجزائري وجد نفسه منذ الانتخابات الماضية 2012 والانتخابات القادمة 2017 بين خيارين أحلاهما مرّ ـ إن ذهب للانتخاب ـ الخيار السّابق هو دخول البرلمان أشخاص عديمو الكفاءة والفعالية، ولاسيما فئة النساء اللائي كثيرا ما وصمن البرلمان بـ"برلمان الحفّافات" أو غيرها من الأوصاف التي ألحقت بالمؤسسة التشريعية تشويها، بل البعض نعته بالعار في زمن الألفية الثالثة ونحن دخلنا القرن الواحد والعشرين، وإن كانت هذه الفئة تشكل قلّة، إلا أنّه مع ذلك لا ينبغي أن يحصل مثل هذا الأمر، ففي النهاية البرلمان يجب أن يلجه رجال ونساء أكفاء قادرون على مراقبة الحكومة في أداء عملها وسنّ القوانين بما يحافظ على المواطنين، وتقسيم الأعباء على الجميع، لا على أساس السّواد الأعظم من المغلوبين على أمرهم في حين لا يجرؤ على مواجهة رجال المال والأعمال بدفع التهرب الجبائي أو غيرها، كما يمكن له أيضا نقلُ انشغالات المواطنين من القاعدة إلى القمة.
أما الخيار الثاني وهو فرض رجال المال والأعمال على رؤوس بعض القوائم الانتخابية وإن كانوا أيضا قلّة، إلا أنّه مؤشرٌ على أن الجزائر ستعرف مستقبلا، بل عهدة بعد أخرى، تنافسا محموما بين هؤلاء من أجل الدخول إلى مبنى "زيغود يوسف"، وعليه إذا تمعّنا في المهام الأساسية للنائب يمكن أن نطرح التساؤل التالي: هل البرلماني "رجل المال" يمكن أن يراقب أداء الحكومة وهو الذي ينتظر منها أن تحقق له بعضا من مآربه إن لم تكن كلها؟ هل ننتظر منه العمل على سنّ قوانين لصالح المواطنين بما يتماشى وحالهم من تدني القدرة الشرائية أو تفشي ظاهرة البطالة أو رفع الأجور أو الوقوف معه في السّراء والضّراء؟ هل ننتظر من النائب الذي دخل البرلمان بـ"الشكارة" أن يكون لديه الوقتُ الكافي للانخراط في صفوف المواطنين والاطلاع على ظروفهم ومعرفة أحوالهم والاستماع إلى انشغالاتهم وهمومهم المختلفة؟ باختصار ما نعرفه عن هؤلاء هو تهافتهم وراء تحصيل أكبر قدر من المال، ففي الأوقات العادية ليله كنهاره لا وقت له للراحة، فكيف تجده وهو في البرلمان حيث وسّعَ من شبكته وعلاقاته مع من يماثلونه أو مع من لهم القدرة على تسهيل أعماله؟ إنها أكذوبة أن يُعتقد أن هؤلاء سيبكون على الشعب أو يدافعون عن مصالحه.
و ممّا زاد الطين بلّة، أن القائمة المغلقة زادتهم حظوظهم أكثر من القائمة المفتوحة، إذ لا يتسنى للمواطن اختيار الرجل الذي يرى فيه التمثيل المناسب ـ هذا إذا سلمنا أن هناك مواطنين يذهبون لصناديق الاقتراع ـ عليه ففرض هؤلاء على رأس القوائم من قبل رؤساء الأحزاب هو الذي يمكِّنهم من ربح المقعد ولو خارج دائرة اهتمامات المواطن.
احذر أيّها المواطن تلك الصدقات التي يمنّ بها هؤلاء عليك، من كيس دقيق أو ورقة الألف دينار أو قفة من المواد الغذائية التي في معظمها منتهية الصلاحية، كتلك التي تُعطى للفقراء والمساكين في رمضان، هذا كله من أجل ربح صوتك لتدفع ثمن ذلك بارتفاع فاحش في أسعار المواد الغذائية والضرائب التي تضاف عند كل قانون مالية مع بداية كل سنة جديدة، نقول: إذا أردت أن تتصدّق فالصدقات ليست مرتبطة بالموعد الانتخابي، كما أنها من باب أولى أن تُعطى خفية.
على أي حال، إذا دأبت الجزائر على هذا النهج مستقبلا بدءا بالعهدة القادمة، فالمستقبل ينذر ببرلمان من رجال المال والأعمال كالذي حصل مع "برلسكوني" في إيطاليا أو "سعد الحريري" في لبنان وفي بلدان عديدة طغى فيها المال على السياسة وأفسدها...
نعم الكل يجزم بأن البرلمان الحالي هو من أسوأ البرلمانات في تاريخ الجزائر، وإذا سيطر رجال المال أو أصحاب "الشكارة" عليه مستقبلا فيزداد سوءا على سوء، وهذا ما لا نتمناه.