المجاهد الأمير عبدالقادر الجزائري بين تقويم المنصف وإختلاقات المفتري
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فهذا جامع في سيرة المجاهد العالم الأمير عبدالقادر الجزائري ـ رحمه الله ـ الذي عاش ومات عليها ، جمعته من مقالات وكتابات أحفاده وأقاربه الذين تكلموا عن حياته العلمية والعملية عن علم وكثب ، وإلا فالأمير قد كتب فيه الكثير وتكلم عنه الصغير والكبير ، ما بين غالي وجافي حقود ، وما بين محب وعدو لدود ، وما بين جاهل ومقلد بليد ، وكل واحد من هؤلاء قد تكلم وغطى صفحات هذا المجاهد الكبير على حسب أوامر اتجاهه الذي يتبناه وينقاد إليه ، وقد حملتهم الجرأة على القول فيه بدون تحقيق ورميه بما لا يليق ، فقد رموه بالتهم الشنيعة والأقوال الفظيعة ، بدون ترو ولا تثبت ولا تدقيق ، ومما نأسف منه أن هذا الخلق الذميم قد أصاب حتى بعض المتعلمين وممن ينتسب إلى المنهج السلفي ، فأصبحوا يقلدون العامة في كل شائعة ، بل والمصيبة حتى الكفرة وأعداء الأمة ، ويطلقون ألسنتهم بما لا يليق من القول على غير علم ولا بصيرة ، وبلا تفكير في عاقبة ذلك ونتيجته في الدنيا والآخرة ، ولا واقفين عند قول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[ الحجرات :6] ، وقوله تعالى :{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والترمذي والنسائي :
" أمسك عليك لسانك فقال : وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" ([1])
فألبسوا هذا المجاهد العارف لباسا متلطخا بالنجاسات بعضها أغلظا من البعض : من أنه ماسوني ، وأنه صاحب وحدة الوجود ، وصوفي غالي، وأنه خادم فرنسا ، وأنه عدو للمنهج السلفي ، وحقود على شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم ووو !!!
فما من فضيلة إلا وسلبوها من حياة هذا المجاهد ، وكأن لا حسنة له تعد من المحامد ، مما كان سببا في تنفير الناشئة والأمة عنه ، وتسويد صفحاته البيضاء ، ولكن لما ترجع إلى نشأته وبيئته وحياته العلمية والعملية والجهادية ، وتنظر في ثمرات أعماله ، تتهاوى تلك الأكاذيب ، وتفتضح تلك الأغاليط والألاعيب التي نسجت حوله ، وتشرق الشمس على ظلمات تلك الافتراءات والمجازفات الباطلة فتضمحل .
الأمير عبدالقادر اسم كان له دوي العاصفة القوية في عصره ، وأشاد به أهل مصره ، فقد حلق هذا الاسم العالم الإسلامي والعالم الغربي بأسره ، فقد رفرف جناح مجده سماء ذلك العصر ، حتى ما بقي قلب مسلم وقتئذ على الأرض إلا وصفق له ، ولا بقي قلب فرنسي إلا وارتجف رعبا منه ، حتى وصل بهم الأمر أنه وجد منهم من كان يتمنى وينتظر موته ليحاول تشويه شيء من أطراف سمعته ، أو ينزع ريشة من جناح مجده ، وقد تحقق لهم ذلك الأمل بعد وفاته ، إذ كثير ممن كتب عن الأمير خريجي مدرسة الماسونية وفرنسا والغرب ، لتشويه سمعته الدينية ، وإخفاء تاريخ جهاده ، وطمس بطولاته الإسلامية ، ليحال بينه وبين أبناء الإسلام المستقبل ، وكان لهم الأمر كما خططوا له .
إني أصدقك الحديث يا أيها القارئ الكريم ، أنه لم يكن يخطر ببالي يوما من الأيام أن أكتب عن الأمير عبدالقادر ـ رحمه الله ـ ، فقد ولدت ونشأت بمعسكر وبذات قرب القيطنة التي هي مسقط رأس عائلة والدتي التي مسكنها بجانب المدرسة القرآنية معهد الأمير عبدالقادر سابقا ، وكنت من صغري اسمع عن الأمير وبطولاته وشجاعته ، وقرأت في الابتدائية عن حياته ولكن لا تتجاوز بعض الأسطر مع ما فيها من التهميش وقلب الحقائق مما لا يستفاد منها الناشئة ، من أنه رجل جزائري شجاع جاهد فرنسا ثم تخلى عن الجهاد واستقر بالشام حتى مات ، فمات معه تاريخه وجهاده ، فلازلت على هذا التصوير والنظر للأمير حتى بلغت العشرينات من عمري ، إذ بي أسمع عن الأمير عبدالقادر أنه كان صوفيا ماسونيا وأنه ...
وإلى غير ذلك من الطعونات الجائرة ، فصدقت تلك الأكاذيب من باب حسن الظن الزائد في قائلها إذ كنت أراه أنه من أهل العلم ، ومن المنافحين عن مجد بلاد الجزائر، ومما قوى تمكن هذه الأغلوطة فيّ ، هو ما لقنونا في الصغر ، أن الأمير تخلى عن الجهاد واستقر في الشام حتى مات ، ولكن شاء الله تعالى أن يظهر لنا الحق في شخصية الأمير قبل أن نقف أمام الله تعالى ونحن خصوم للأمير يوم القيامة ، فوقفت على كتابات خلدون بن مكي الحسني التي بيان فيها الافتراءات التي نسجت حول الأمير ، ودك حصون شبهها مما لا يترك مجالا للشك في نزاهة وبراءة الأمير مما رمي به .
فعرفت حينها أن شأن الأمير شأن غيره من علماء الإسلام ممن قد سبقه ، وأتى بعده كالنووي وابن حجر وابن باديس وغيرهم ، فمنهم من غالى في حقهم ، ونفى عنهم كل خطئ ، ومنهم من جفا في حقهم فرماهم بكل عظيمة .
وأيقنت حينها أن الكلام في الرجال يفتقر قبل الهجوم عليه إلى مقدمات تالية
المقدمة الأولى : التثبت إلى ما ينسب إليهم من مدح أو قدح
ويترتب على هذه المقدمة ، مطالب تالية :
المطلب الأول : قد يتهم الرجل بالبدعة ولا يصح ذلك عنه .
المطلب الثاني : قد يتهم الرجل بغلو في البدعة ولا يثبت ذلك عنه .
قال محمد الثاني بن عمر بن موسى في رسالته ماجستير "ضوابط الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي "
(ص 326) : من الأمور التي يجب على الناظر في تراجم الرجال مراعاتها ، أنه قد يتهم الرجل بنوع بدعة ، ثم لا يثبت ذلك عنه ، إما لضعف في طريق نقلها عنه ، أو ضعف مستند من نسبها إليه ، واتهمه بها .
وقد راعى الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ هذا الضابط في تحريره لكثير من التراجم ، ومراعاة ذلك يكون على وجهين :
الوجه الأول : أن يتهم الراوي ببدعة ، ولا يصح ذلك عنه أصلا ، ومن أمثلة ذلك :
1 ـ ميمون بن مهران الجزري الرقي الكوفي (ت 117) ، وثقه ابن سعد([2]) ، وأحمد([3])، و أبوزرعة ([4])، والنسائي ([5])، وابن حبان ([6])، وغيرهم .
وأما أحمد بن عبدالله العجلي فقال:جزري تابعي ثقة وكان يحمل على علي رضي الله عنه([7])
فتعقبه الحافظ الذهبي بقوله:لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ حَمْلٌ، إِنَّمَا كَانَ يُفَضِّلُ عُثْمَانَ عَلَيْهِ، وَهَذَا حَقٌّ. ([8])
2 ـ الحكم بن عتيبة الكندي الكوفي (ت 115 هـ ) وثقه جماعة من الأئمة منهم عبدالرحمن بن مهدي ([9]) ، ويحيى بن سعيد القطان ([10])، وابن سعد ([11])، ويحيى
بن معين ([12])، وأحمد بن حنبل ([13])، و أبوحاتم ([14]) وغيرهم
أما سليمان الشاذكوني قال : حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ، سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُوْلُ: كَانَ الحَكَمُ يُفَضِّلُ عَلِيّاً عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فتعقبه الحافظ الذهبي قائلا : الشَّاذَكُوْنِيُّ لَيْسَ بِمُعْتَمَدٍ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ الحَكَمَ يَقعُ مِنْهُ هَذَا.([15])
3 ـ الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ ) ، أورد الحافظ الذهبي في ترجمته خبرا عن علي بن أحمد بن النضر الأزدي أنه قال : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ - وَسُئِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - فَقَالَ: لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا بِهِ، لَقَدْ كُنَّا تَعَلَّمْنَا كَلاَمَ القَوْمِ، وَكَتَبْنَا كُتُبَهُمْ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا، فَلَمَّا سَمِعْنَا كَلاَمَهُ، عَلِمْنَا أنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَالَسْنَاهُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ، فَمَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلاَّ كُلَّ خَيْرٍ.
فَقِيْلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، كَانَ يَحْيَى وَأَبُو عُبَيْدٍ لاَ يَرْضَيَانِهِ - يُشِيْرُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَأنَّهُمَا نَسَبَاهُ إِلَى ذَلِكَ -.
فَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَا نَدْرِي مَا يَقُوْلاَنِ، وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إِلاَّ خَيْراً .
قال الحافظ الذهبي معلقا على هذا الخبر: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَتَشَيَّعُ، فَهُوَ مُفْتَرٍ، لاَ يَدْرِي مَا يَقُوْلُ ، قَدْ قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ الإِسْتِرَابَاذِيُّ: أَخْبَرَنَا حَمْزَةُ بنُ عَلِيٍّ الجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيْعُ بنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ الشَّافِعِيِّ، فَمَا ارْتَقَى شَرَفاً، وَلاَ هَبَطَ وَادِياً إِلاَّ وَهُوَ يَبْكِي، وَيُنْشِدُ:
يَا رَاكِباً قِفْ بِالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... وَاهْتِفْ بِقَاعِدِ خَيْفِنَا وَالنَّاهِضِ
سَحَراً إِذَا فَاضَ الحَجِيْجُ إِلَى مِنَىً ... فَيْضاً كَمُلْتَطِمِ الفُرَاتِ الفَائِضِ
إِنْ كَانَ رَفْضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أَنِّي رَافِضِي ([16])
وقال في موضع أخر مدافعا عن الإمام ، ومبينا المنهج الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم إذا وقف على ما فيه التحامل على أهل العلم والصلاح : كَلاَمُ الأَقْرَانِ إِذَا تَبَرْهَنَ لَنَا أَنَّهُ بِهَوَىً وَعَصَبِيَّةٍ، لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، بَلْ يُطْوَى، وَلاَ يُرْوَى، كَمَا تَقَرَّرَ عَنِ الكَفِّ عَنْ كَثِيْرٍ مِمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَقِتَالِهِم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِيْنَ - وَمَا زَالَ يَمُرُّ بِنَا ذَلِكَ فِي الدَّوَاوينِ، وَالكُتُبِ، وَالأَجْزَاءِ، وَلَكِنْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ، وضَعِيْفٌ، وَبَعْضُهُ كَذِبٌ، وَهَذَا فِيْمَا بِأَيْدِيْنَا وَبَيْنَ عُلُمَائِنَا، فَيَنْبَغِي طَيُّهُ وَإِخْفَاؤُهُ، بَلْ إِعْدَامُهُ، لِتَصْفُوَ القُلُوْبُ، وَتَتَوَفَّرَ عَلَى حُبِّ الصَّحَابَةِ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمُ، وَكُتْمَانُ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَنِ العَامَّةِ، وَآحَادِ العُلَمَاءِ، وَقَدْ يُرَخَّصُ فِي مُطَالعَةِ ذَلِكَ خَلْوَةً لِلْعَالِمِ المُنْصِفِ، العَرِيِّ مِنَ الهَوَى، بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَغفرَ لَهُم، كَمَا عَلَّمَنَا اللهُ -تَعَالَى- حَيْثُ يَقُوْلُ: {وَالَّذِيْنَ جَاؤُوَا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُوْلُوْنَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوْبِنَا غِلاَّ لِلذِيْنَ آمَنُوا} [الحشرُ: 10] ، فَالقَوْمُ لَهُم سَوَابِقُ وَأَعْمَالٌ مُكَفِّرَةٌ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمُ، وَجِهَادٌ مَحَّاءٌ، وَعُبَادَةٌ مُمَحِّصَةٌ، وَلَسْنَا مِمَّنْ يَغْلُو فِي أَحَدٍ مِنْهُم، وَلاَ نَدَّعِي فِيْهِم العِصْمَةَ، نَقْطَعُ بِأَنَّ بَعْضَهُم أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَفْضَلُ الأُمَّةِ.
ثُمَّ تَتِمَّةُ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَمُعَاذٌ، وَزَيْدٌ، وَأُمَّهَاتُ المُؤْمِنِيْنَ، وَبنَاتُ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلُ بَدْرٍ، مَعَ كَوْنِهِم عَلَى مَرَاتِبَ.
ثُمَّ الأَفْضَلُ بَعْدَهُم مِثْلَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَسَائِرِ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، الَّذِيْنَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بِنَصِّ آيَةِ سُوْرَةِ الفَتْحِ .
ثُمَّ عُمُوْمُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، كخَالِدِ بنِ الوَلِيْدِ، وَالعَبَّاسِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، وَهَذِهِ الحَلْبَةُ.
ثُمَّ سَائِرُ مَنْ صَحِبَ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَاهَدَ مَعَهُ، أَوْ حَجَّ مَعَهُ، أَوْ سَمِعَ مِنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ أَجْمَعِيْنَ - وَعَنْ جَمِيْعِ صَوَاحِبِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُهَاجِرَاتِ، وَالمَدَنِيَّاتِ، وَأَمِّ الفَضْلِ، وَأَمِّ هَانِئٍ الهَاشِمِيَّةِ، وَسَائِرِ الصَّحَابِيَّاتِ.
فَأَمَّا مَا تَنْقُلُهُ الرَّافِضَةُ، وَأَهْلُ البِدَعِ فِي كُتُبِهِم مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ نُعَرِّجُ عَلَيْهِ، وَلاَ كرَامَةَ، فَأَكْثَرُهُ بَاطِلٌ، وَكَذِبٌ، وَافْتِرَاءٌ، فَدَأْبُ الرَّوَافِضِ رِوَايَةُ الأَبَاطِيْلِ، أَوْ رَدُّ مَا فِي الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ، وَمتَى إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سَكْرَانٌ؟!
ثُمَّ قَدْ تَكَلَّمَ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ بَعْضُهُم فِي بَعْضٍ، وَتحَارَبُوا، وَجَرَتْ أُمُورٌ لاَ يُمْكِنُ شَرْحُهَا، فَلاَ فَائِدَةَ فِي بَثِّهَا، وَوَقَعَ فِي كُتُبِ التَّوَارِيْخِ، وَكُتُبِ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أُمُورٌ عَجِيْبَةٌ، وَالعَاقِلُ خَصْمُ نَفْسِهِ، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ، وَلُحُومُ العُلَمَاءِ مَسْمُومَةٌ، وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ لِتَبْيِينِ غَلَطِ العَالِمِ، وَكَثْرَةِ وَهْمِهِ، أَوْ نَقْصِ حِفْظِهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ، بَلْ لِتَوضيحِ الحَدِيْثِ الصَّحِيْحِ مِنَ الحَسَنِ، وَالحَسَنِ مِنَ الضَّعيفِ.
وَإِمَامُنَا فَبِحَمْدِ اللهِ ثَبْتٌ فِي الحَدِيْثِ، حَافِظٌ لِمَا وَعَى، عَدِيْمُ الغَلَطِ، مَوْصُوفٌ بِالإِتْقَانِ، مَتِيْنُ الدِّيَانَةِ، فَمَنْ نَالَ مِنْهُ بِجَهْلٍ وَهوَىً، مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ مُنَافسٌ لَهُ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، وَمَقَتَتْهُ العُلَمَاءُ، وَلاَحَ لِكُلِّ حَافِظٍ تَحَامُلُهُ، وَجَرَّ النَّاسَ بِرِجْلِهِ، وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَاعْتَرفَ بِإِمَامَتِهِ وَإِتقَانِهِ، وَهُمْ أَهْلُ العَقْدِ وَالحَلِّ، قَدِيْماً وَحَدِيْثاً، فَقَدْ أَصَابُوا، وَأَجْمَلُوا، وَهُدُوا وَوُفِّقُوا.
وَأَمَّا أَئمَّتُنَا اليَوْمَ، وَحُكَّامُنَا، فَإِذَا أَعْدَمُوا مَا وُجِدَ مِنْ قَدْحٍ بِهوَىً، فَقَدْ يُقَالُ: أَحْسَنُوا، وَوُفِّقُوا، وَطَاعَتُهُم فِي ذَلِكَ مُفْتَرَضَةً، لِمَا قَدْ رَأَوهُ مِنْ حَسْمِ مَادَةِ البَاطِلِ وَالشَّرِّ.
وبِكُلِّ حَالٍ فَالجُهَّالُ وَالضُّلاَّلُ، قَدْ تَكَلَّمُوا فِي خِيَارِ الصَّحَابَةِ، وَفِي الحَدِيْثِ الثَّابتِ، لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَىً يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلداً، وَإِنَّهُ لَيَرْزُقُهُم وَيُعَافِيَهُمْ .
وَقَدْ كُنْتُ وَقَفْتُ عَلَى بَعْضِ كَلاَمِ المغَارِبَةِ فِي الإِمَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- فَكَانَتْ فَائِدتِي مِنْ ذَلِكَ تَضْعِيفُ حَالِ مَنْ تَعَرَّضَ إِلَى الإِمَامِ، وَللهِ الحَمْدُ. وَلاَ رَيْبَ أَنَّ الإِمَامَ لَمَّا سَكَنَ مِصْرَ، وَخَالَفَ أَقْرَانَهُ مِنَ المَالِكيَّةِ، وَوَهَّى بَعْضَ فُرُوْعِهِم بِدَلاَئِلِ السُّنَّةِ، وَخَالَفَ شَيْخَهُ فِي مَسَائِلَ، تَأَلَّمُوا مِنْهُ، وَنَالُوا مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُم وَحْشَةٌ، غَفَرَ اللهُ لِلْكُلِّ.
وَقَدِ اعتَرَفَ الإِمَامُ سُحْنُوْنُ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي الشَّافِعِيِّ بِدْعَةٌ.
فَصَدَقَ وَاللهِ، فَرَحِمَ اللهُ الشَّافِعِيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَاللهِ فِي صِدْقِهِ، وَشَرَفِهِ، وَنُبلِهِ، وَسَعَةِ عِلْمِهِ، وَفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَنَصْرِهِ لِلْحَقِّ، وَكَثْرَةِ مَنَاقبِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تعَالَى -. ([17])
4 ـ في ترجمة أحمد بن أبي الحواري عبدالله بن ميمون الثعلبي الدمشقي (ت 246 هـ) ، نقل الذهبي قول أبي عبدالرحمن السلمي في ( محن الصوفية) : أَحْمَدُ بنُ أَبِي الحَوَارِيِّ شَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنَّهُ يُفَضِّلُ الأَوْلِيَاءَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وَبَذَلُوا الخُطُوطَ عَلَيْهِ، فَهَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى مَكَّةَ، وَجَاوَرَ حَتَّى كَتَبَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ يَسْأَلُهُ أَنْ يَرْجِعَ، فَرَجَعَ.
قال الذهبي ـ عقيب هذه الحكاية ـ : إِنْ صَحَّتِ الحِكَايَةُ، فَهَذَا مِنْ كَذِبِهِم عَلَى أَحْمَدَ، هُوَ كَانَ أَعْلَمَ بِاللهِ مِنْ أَنْ يَقُوْلَ ذَلِكَ ([18])
وقال في "تاريخ الإسلام "(5/ 1006) : هذا من الكذِب على أحمد، فإنّه كان أعلم بالله من أن يقع في ذلك، وما يقع في هذا إلا ضالٌّ جاهل. ا.هـ
ولعل وجه تشكيك الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ في صحة هذه الحكاية ، إنما كان ذلك لمكان أبي عبدالرحمن السلمي ، فإنه معروف بإيراد الحكايات المكذوبة والأحاديث الموضوعة في تصانيفه من غير بيان ، مما جعل بعضهم يرميه بوضع الحديث .
قال الخطيب البغدادي : قَالَ لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ... وكان يضع للصوفية الأحاديث. ([19])
وقال الذهبي: وَللسُّلَمِيِّ سُؤَالاَتٌ للدَارَقُطْنِيِّ عَنْ أَحْوَالِ المَشَايخ الرُّوَاةِ سُؤَالَ عَارِفٍ، وَفِي الجُمْلَةِ فَفِي تَصَانِيْفِهِ أَحادَيثٌ وَحكَايَاتٌ مَوْضُوعَة، وَفِي (حَقَائِقِ تَفْسِيْره) أَشْيَاءُ لاَ تسوَغُ أَصْلاً، عَدَّهَا بَعْضُ الأَئِمَّة مِنْ زَنْدَقَةِ البَاطِنيَّة، وَعَدَّهَا بَعْضُهُم عِرْفَاناً وَحَقِيْقَةً، نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ وَمِنَ الكَلاَمِ بهوَى، فَإِنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ فِي مُتَابَعَةِ السُّنَّة وَالتَّمَسُّكِ بِهَدْي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ رَضِي الله عَنْهُم. ([20])
فمثله لا يوثق بما يحكيه في حق عالم معروف العدالة من الطعن في عدالته وأمانته ولذلك شكك الذهبي في صحة الحكاية ونقد متنها لبعده عن واقع حال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله والله أعلم .
الوجه الثاني : أن يتهم الرجل بغلو في بدعة ، ولا يثبت ذلك عنه وإن كان يعتقد أصل تلك البدعة .
ومن أمثلة هذا الوجه :
1 ـ أبوعروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر الحراني (ت 318 هـ) ، قال فيه الحافظ ابن عساكر : كَانَ
أَبُو عَرُوْبَةَ غَالِياً فِي التَّشَيُّعِ، شَدِيْدَ المَيْلِ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ.
فرد عليه الحافظ الذهبي قائلا : كُلُّ مَنْ أَحَبَّ الشَّيْخَيْنِ فَلَيْسَ بِغَالٍ، بَلْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ تَنَقُّصٍ فَإِنَّهُ رَافِضِيٌّ غَالٍ، فَإِنْ سَبَّ، فَهُوَ مِنْ شِرَارِ الرَّافِضَةِ، فَإِنْ كَفَّرَ فَقَدْ بَاءَ بِالكُفْرِ، وَاسْتَحَقَّ الخِزْيَ، وَأَبُو عَرُوْبَةَ فَمِنْ أَيْنَ يَجِيْئُهُ الغُلُوُّ وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيْثٍ وَحَرَّانِيٌّ؟ بَلَى لَعَلَّهُ يَنَالُ مِنَ المَرْوَانِيَّةِ، فَيُعذَرُ. ([21])
2 ـ محمد بن عبدالله أبي عبدالله الحاكم النيسابوري (ت 405) ، قال أبو إِسْمَاعِيْل عَبْدَ اللهِ بنَ مُحَمَّدٍ الهَرَوِيَّ فيه َ: ثِقَةٌ فِي الحَدِيْثِ رَافضيٌّ خَبِيْث .
رده الذهبي بقوله : كَلاَّ لَيْسَ هُوَ رَافِضِيّاً، بَلَى يَتَشَيَّع ([22])
وقال في "ميزان الاعتدال"(3/ 608) : الله يحب الإنصاف، ما الرجل برافضي، بل شيعي فقط. ([23])
المقدمة الثانية : يعرف معتقد الرجل ويحكم عليه من قوله أو فعله وبما كتب ، وإن كان هناك سماع منه يشترط في الناقل عنه العدالة والثقة والضبط والأمانة والورع .
قال محمد الثاني بن عمر بن موسى في رسالته ماجستير "ضوابط الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي "
(ص 139) : (( كان من دأب الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ التنبيه على حال الرجل في دينه ومعتقده من حيث السلامة أو عكسها وذلك بطريقتين :
الأولى : النقل عمن عاصروا الرجل وغيرهم ، من الذين عرفوا حاله ونصوا على عقيدته .
الثانية : الاعتماد على مصنفاته والاستناد إلى ما كتبه .
أما الطريقة الأولى فشهرتها واستفاضتها تغني عن ذكر الأمثلة عليها .
وأما الثانية فمن الأمثلة عليها :
1 ـ قال في ترجمة أبي بكر أحمد بن علي الحنفي (ت 370 هـ) وَقِيْلَ: كَانَ يمِيلُ إِلَى الاِعتزَالِ، وَفِي توَالِيفِهِ مَا يَدلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي رُؤْيَةِ اللهِ وَغيْرِهَا, نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمةَ. ([24])
2 ـ وقال في ترجمة سبط ابن الجوزي يوسف بن قزغلي بن عبدالله التركي البغدادي (ت 654) : َصَنَّفَ تَارِيْخ مرَآة الزَّمَان وَأَشيَاء، وَرَأَيْت لَهُ مُصَنّفاً يَدلّ عَلَى تَشيعه ([25])
وكذلك سار الحافظ الذهبي على هذه القاعدة في الدفاع عمن رمي بشيء من البدعة بمعارضة ذلك بما ظهر من خلال مصنفاته من السنة والاتباع ، فمن ذلك :
1 ـ ما في ترجمة عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276) عن حماد الحراني أنه سمع السلفي ينكر على الحاكم في قوله : " لا تجوز الرواية عن ابن قتيبة " ويقول :" ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الثِّقَاتِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ الحَاكِمَ قَصْدُهُ لأَجْلِ المَذْهَبِ."
ققال الحافظ الذهب : " عَهْدِي بِالحَاكِمِ يَمِيْلُ إِلَى الكَرَّامِيَّةِ، ثُمَّ مَا رَأَيْتُ لأَبِي مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ (مُشْكِلِ الحَدِيْثِ) مَا يُخَالِفُ طَرِيقَةَ المُثْبِتَةِ وَالحَنَابِلَةِ، وَمِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الصِّفَاتِ تُمَرُّ وَلاَ تُتَأَوَّلُ، فَاللهُ أَعْلَمُ." ([26])
2 ـ وساق في ترجمة يعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277) حكاية تفيد اتهامه بالتشيع فردها قائلا : هَذِهِ حِكَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، فَاللهُ أَعْلَمُ، وَمَا عَلِمْتُ يَعْقُوْبَ الفَسَوِيَّ إِلاَّ سَلَفِيّاً، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَاباً صَغِيْراً فِي السُّنَّةِ.([27])
المقدمة الثالثة : إحاطة بالحالة الاجتماعية والبيئة التي نشأ فيها هذا الرجل المتكلم عنه
قال محمد الثاني بن عمر بن موسى في رسالته ماجستير "ضوابط الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي "
(ص 272) : المطلب الأول : مراعاة أثر البيئة في تكوين العقيدة :
قال في ترجمة معاوية بن أبي سفيان بن أمية الأموي رضي الله عنه (ت 60 هـ) : وَخَلَفَ مُعَاوِيَةَ خَلْقٌ كَثِيْرٌ يُحِبُّوْنَهُ وَيَتَغَالُوْنَ فِيْهِ، وَيُفَضِّلُوْنَهُ، إِمَّا قَدْ مَلَكَهُم بِالكَرَمِ وَالحِلْمِ وَالعَطَاءِ، وَإِمَّا قَدْ وُلِدُوا فِي الشَّامِ عَلَى حُبِّهِ، وَتَرَبَّى أَوْلاَدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيْهِمْ جَمَاعَةٌ يَسِيْرَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَدَدٌ كَثِيْرٌ مِنَ التَّابِعِيْنَ وَالفُضَلاَءِ، وَحَارَبُوا مَعَهُ أَهْلَ العِرَاقِ، وَنَشَؤُوا عَلَى النَّصْبِ - نَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الهَوَى -.
كمَا قَدْ نَشَأَ جَيْشُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَعِيَّتُهُ - إِلاَّ الخَوَارِجَ مِنْهُم - عَلَى حُبِّهِ، وَالقِيَامِ مَعَهُ، وَبُغْضِ مَنْ بَغَى عَلَيْهِ، وَالتَّبَرِّي مِنْهُم، وَغَلاَ خَلْقٌ مِنْهُم فِي التَّشَيُّعِ.
فَبِاللهِ كَيْفَ يَكُوْنُ حَالُ مَنْ نَشَأَ فِي إِقْلِيْمٍ، لاَ يَكَادُ يُشَاهِدُ فِيْهِ إِلاَّ غَالِياً فِي الحُبِّ، مُفْرِطاً فِي البُغْضِ، وَمِنْ أَيْنَ يَقَعُ لَهُ الإِنْصَافُ وَالاعْتِدَالُ؟
فَنَحْمَدُ اللهَ عَلَى العَافِيَةِ الَّذِي أَوْجَدَنَا فِي زَمَانٍ قَدِ انْمَحَصَ فِيْهِ الحَقُّ، وَاتَّضَحَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَعَرَفْنَا مَآخِذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَتَبَصَّرْنَا، فَعَذَرْنَا، وَاسْتَغْفَرْنَا، وَأَحْبَبْنَا بِاقْتِصَادٍ، وَتَرَحَّمْنَا عَلَى البُغَاةِ بِتَأْوِيْلٍ سَائِغٍ فِي الجُمْلَةِ، أَوْ بِخَطَأٍ - إِنْ شَاءَ اللهُ - مَغْفُوْرٍ، وَقُلْنَا كَمَا عَلَّمَنَا اللهُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِيْنَ سَبَقُوْنَا بِالإِيْمَانِ، وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوْبِنَا غِلاًّ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا} [الحَشْرُ: 10] .
وَتَرَضَّيْنَا أَيْضاً عَمَّنِ اعْتَزَلَ الفَرِيْقَيْنِ، كَسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمَةَ، وَسَعِيْدِ بنِ زَيْدٍ، وَخَلْقٍ ، وَتَبَرَّأْنَا مِنَ الخَوَارِجِ المَارِقِيْنَ الَّذِيْنَ حَارَبُوا عَلِيّاً، وَكَفَّرُوا الفَرِيْقَيْنِ.
فَالخَوَارِجُ كِلاَبُ النَّارِ، قَدْ مَرَقُوا مِنَ الدِّيْنِ، وَمَعَ هَذَا فَلاَ نَقْطَعُ لَهُم بِخُلُوْدِ النَّارِ، كَمَا نَقْطَعُ بِهِ لِعَبَدَةِ الأَصْنَامِ وَالصُّلْبَانِ. ا.هـ ([28])
1 ـ قال في ترجمة شريك بن عبدالله القاضي النخعي الكوفي (ت 177) : فِيْهِ تَشَيُّعٌ خَفِيْفٌ عَلَى قَاعِدَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ. ([29])
2 ـ قال في ترجمة عبيدالله بن موسى بن باذام العبسي مولاهم الكوفي (ت 227 هـ) : كَانَ صَاحِبَ عِبَادَةٍ وَلَيْلٍ، صَحِبَ حَمْزَةَ، وَتَخَلَّقَ بِآدَابِهِ، إِلاَّ فِي التَّشَيُّعِ المَشْؤُوْمِ،فَإِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ بَلَدِهِ المُؤَسَّسِ عَلَى البِدعَةِ .([30])
3 ـ وقال في ترجمة علي بن المحسن بن علي بن محمد التنوخي (ت 447 هـ) ، قال الخطيب البغدادي : وكان قد قبلت شهادته عند الحكام فِي حداثته، ولم يزل على ذلك مقبولا إِلَى آخر عمره، وكان متحفظا فِي الشهادة محتاطا، صدوقا فِي الحديث ([31])
قَالَ أَبُو الفَضْلِ بنُ خَيْرُوْنَ: قِيْلَ: كَانَ رَأْيَهُ الرَّفْض وَالاعْتِزَال.
فقال الحافظ الذهبي ـ معتذرا له ـ : نَشَأَ فِي الدَّوْلَةِ البُوَيْهِيَّةِ، وَأَرْجَاؤُهَا طَافِحَةً بِهَاتَيْنِ البِدْعَتَيْنِ.([32])
4 ـ قال أبو الوليد الباجي في علي بن موسى بن السمسار الدمشقي (ت 433 هـ) : فِيْهِ تشيُّعٌ يُفْضَي بِهِ إِلَى الرَّفْض، وَهُوَ قَلِيْلُ المعرفَة، فِي أُصُوْله سُقْم
قال الحافظ الذهبي معلقا : وَلَعَلَّ تَشَيُّعَهُ كَانَ تقيَّة لاَ سجيَّة، فَإِنَّهُ مِنْ بَيْتِ الحَدِيْث، وَلَكِن غلت الشَّامُ فِي زَمَانِهِ بِالرَّفض، بَلْ وَمِصْرُ وَالمَغْرِبُ بِالدَّوْلَة العُبَيْدِيَّة، بَلْ وَالعِرَاقُ وَبَعْضُ الْعَجم بِالدَّوْلَة البُوَيْهِيَّة، وَاشتدَّ البلاَءُ دَهْراً، وَشَمَخَت الغلاَةُ بِأَنْفِهَا، وَتواخى الرَّفضُ وَالاعتزَالُ حِيْنَئِذٍ، وَالنَّاسُ عَلَى دين المَلِك، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ فِي الدِّيْن. ([33])
المقدمة الرابعة : العبرة بكثرة المحاسن .([34])
1 ـ قال الحافظ الذهبي في ترجمة قتادة بن دعامة السدوسي البصري (ت 117 هـ) : هُوَ حُجّةٌ بِالإِجْمَاعِ إِذَا بَيَّنَ السَّمَاعَ، فَإِنَّهُ مُدَلِّسٌ مَعْرُوْفٌ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَرَى القَدَرَ - نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ - ، وَمعَ هَذَا، فَمَا تَوقَّفَ أَحَدٌ فِي صِدقِه، وَعَدَالَتِه، وَحِفظِه، وَلَعَلَّ اللهَ يَعْذُرُ أَمْثَالَه مِمَّنْ تَلبَّسَ بِبدعَةٍ يُرِيْدُ بِهَا تَعْظِيْمَ البَارِي وَتَنزِيهَه، وَبَذَلَ وِسْعَهُ، وَاللهُ حَكَمٌ عَدلٌ لَطِيْفٌ بِعِبَادِه، وَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.
ثُمَّ إِنَّ الكَبِيْرَ مِنْ أَئِمَّةِ العِلْمِ إِذَا كَثُرَ صَوَابُه، وَعُلِمَ تَحَرِّيهِ لِلْحقِّ، وَاتَّسَعَ عِلْمُه، وَظَهَرَ ذَكَاؤُهُ، وَعُرِفَ صَلاَحُه وَوَرَعُه وَاتِّبَاعُه، يُغْفَرُ لَهُ زَلَلُهُ، وَلاَ نُضِلِّلْهُ وَنَطرْحُهُ وَنَنسَى مَحَاسِنَه ، نَعَم، وَلاَ نَقتَدِي بِهِ فِي بِدعَتِه وَخَطَئِه، وَنَرجُو لَهُ التَّوبَةَ مِنْ ذَلِكَ.([35])
2 ـ وفي ترجمة أبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشاشي (ت 365 هـ ) ، قال أبوالحسن الصفار :
سَمِعْتُ أَبا سَهْلٍ الصُّعْلُوْكِيُّ، وَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيْرِ أَبِي بَكْرٍ القَفَّالِ، فَقَالَ: قدَّسَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَدنَّسَهُ مِنْ وَجْهٍ، أَي: دنَّسَهُ مِنْ جهَةِ نَصْرِهِ للاعتزَالِ.
قال الحافظ الذهبي : قَدْ مرَّ مَوْتُهُ، وَالكمَالُ عزيزٌ، وَإِنَّمَا يمدحُ العَالِمُ بكَثْرَةِ مَالَهُ مِنَ الفضَائِلِ، فَلاَ تُدفنُ المَحَاسِنُ لورطَةٍ، وَلَعَلَّهُ رَجعَ عَنْهَا ، وَقَدْ يُغفرُ لَهُ بِاسْتفرَاغِهِ الوسْعَ فِي طلبِ الحَقِّ وَلاَ قوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. ([36])
3 ـ وفي ترجمة محمد بن أحمد العثماني (ت 527هـ) ، قال الحافظ ابن الجوزي : سمع الحديث وتفقه وكان غاليا في مذهب الأشعري وكان يعظ بجامع القصر ([37])
قال الحافظ الذهبي معلقا : غُلاَةُ المُعْتَزِلَةِ، وَغُلاَة الشِّيْعَة، وَغُلاَة الحَنَابِلَة، وَغُلاَة الأَشَاعِرَةِ، وَغلاَة المُرْجِئَة، وَغُلاَة الجَهْمِيَّة، وَغُلاَة الكَرَّامِيَّة قَدْ مَاجت بِهِم الدُّنْيَا، وَكثرُوا، وَفِيهِم أَذكيَاءُ وَعُبَّاد وَعُلَمَاء، نَسْأَلُ اللهَ العفوَ وَالمَغْفِرَة لأَهْل التَّوحيد، وَنبرَأُ إِلَى اللهِ مِنَ الهَوَى وَالبِدَع، وَنُحبُّ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا، وَنُحِبُّ العَالِمَ عَلَى مَا فِيْهِ مِنَ الاتِّبَاعِ وَالصِّفَاتِ الحمِيدَة، وَلاَ نُحبُّ مَا ابْتدعَ فِيْهِ بتَأْوِيْلٍ سَائِغٍ، وَإِنَّمَا العِبرَةُ بِكَثْرَةِ المَحَاسِنِ.
وهذا المنهج لم ينفرد به الحافظ الذهبي وحده ، بل صرح به غيره من الأئمة ، معتبرا الشروط نفسها ، منهم :
1 ـ ذكر ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 821) عن مَالِك بْن أَنَسٍ أنه روى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَيْسَ مِنْ عَالِمٍ وَلَا شَرِيفٍ وَلَا ذِي فَضْلٍ إِلَّا وَفِيهِ عَيْبٌ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ فَضْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِهِ ذَهَبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ نُقْصَانُهُ ذَهَبَ فَضْلُهُ»
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَسْلَمُ الْعَالِمُ مِنَ الْخَطَأِ، فَمَنْ أَخْطَأَ قَلِيلًا وَأَصَابَ كَثِيرًا فَهُوَ عَالِمٌ وَمَنْ أَصَابَ قَلِيلًا وَأَخْطَأَ كَثِيرًا فَهُوَ جَاهِلٌ . ا.هـ
2 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في صدد كلامه على مسألة السماع عند الصوفية (وَالَّذين شهدُوا هَذَا اللَّغْو متأولين من أهل الصدْق وَالْإِخْلَاص وَالصَّلَاح غمرت حسناتهم مَا كَانَ لَهُم فِيهِ وَفِي غَيره من السَّيِّئَات أَو الْخَطَأ فِي مواقع االأجتهاد وَهَذَا سَبِيل كل صالحي هَذِه الْأمة فِي خطئهم وزلاتهم
قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون لَهُم مَا يشاؤون عِنْد رَبهم ذَلِك جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا ويجزيهم أجرهم بِأَحْسَن الَّذِي كَانُوا يعْملُونَ} [سُورَة الزمر 33 35] وَذَلِكَ كالمتأولين فِي تنَاول الْمُسكر من صالحي أهل الْكُوفَة وَمن اتبعهم على ذَلِك وَإِن كَانَ المشروب خمرًا لَا يشك فِي ذَلِك من اطلع على اقوال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقوال الصَّحَابَة وَكَذَلِكَ المتأولون للمتعة وَالصرْف من اهل مَكَّة متبعين لما كَانَ يَقُوله ابْن عَبَّاس وَإِن كَانَ قد رَجَعَ عَن ذَلِك أَو زادوا عَلَيْهِ إِذْ لَا يشك فِي ذَلِك وَأَنه من أَنْوَاع الرِّبَا الْمحرم وَالنِّكَاح الْمحرم من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَذَلِكَ المتأولون فِي بعض الْأَطْعِمَة والحشوش من أهل الْمَدِينَة وَإِن كَانَ لَا يشك فِي تَحْرِيم ذَلِك من اطلع على نُصُوص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَكَذَلِكَ مَا دخل فِيهِ من دخل من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ من الْقِتَال فِي الْفِتْنَة وَالْبَغي بالتأويل مَعَ مَا علم فِي ذَلِك من نُصُوص الْكتاب وَالسّنة من ترك الْقِتَال وَالصُّلْح فَمَا تَأَول فِيهِ قوم من ذَوي الْعلم وَالدّين من مطعوم أَو مشروب اَوْ منكوح أَو مَمْلُوك أَو مِمَّا قد علم أَن الله قد حرمه وَرَسُوله لم يجز اتباعهم فِي ذَلِك مغفورا لَهُم وَإِن كَانُوا خِيَار الْمُسلمين وَالله قد غفر لهَذِهِ الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ سُبْحَانَهُ يمحو السَّيِّئَات بِالْحَسَنَاتِ وَيقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات )) ([38])
3 ـ قال الإمام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة "(1/529 ـ 531) : (( من قواعد الشرع وَالْحكمَة .. أن من كثرت حَسَنَاته وعظمت وَكَانَ لَهُ فِي الإسلام تَأْثِير ظَاهر فَإِنَّهُ يحْتَمل لَهُ مَالا يحْتَمل لغيره ويعفي عَنهُ مَالا يعفي عَن غَيره فَإِن الْمعْصِيَة خبث وَالْمَاء " إِذا بلغ قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث " بِخِلَاف المَاء الْقَلِيل فَإِنَّهُ لَا يحمل أدنى خبث يقع فيه ، وَمن هَذَا قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعمر :"وَمَا يدْريك لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم " .
وَهَذَا هُوَ الْمَانِع لَهُ صلى الله عليه وسلم من قتل من جس عَلَيْهِ وعَلى الْمُسلمين وارتكب مثل ذَلِك الذَّنب الْعَظِيم ، فَأخْبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد بَدْرًا ، فَدلَّ على أن مُقْتَضى عُقُوبَته قَائِم لَكِن منع من ترَتّب أثره عَلَيْهِ مَاله من المشهد الْعَظِيم ، فَوَقَعت تِلْكَ السقطة الْعَظِيمَة مغتفرة فِي جنب مَاله من الْحَسَنَات .
وَلما حض النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الصَّدَقَة فَأخْرج عُثْمَان رضي الله عَنهُ تِلْكَ الصَّدَقَة الْعَظِيمَة قَالَ :"ما ضر عُثْمَان مَا عمل بعْدهَا " .
وَقَالَ لطلْحَة لما تطأطأ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى صعد على ظَهره إلى الصَّخْرَة :" أوجب طَلْحَة "
وَهَذَا مُوسَى كليم الرَّحْمَن عز وَجل ألقى الألواح الَّتِي فِيهَا كَلَام الله الَّذِي كتبه لَهُ ، ألقاها على الأرض حَتَّى تَكَسَّرَتْ ، وَلَطم عين ملك الْمَوْت ففقأها ، وعاتب ربه لَيْلَة الإسراء فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، وَقَالَ : "شَاب بعث بعدِي يدْخل الْجنَّة من أمته أكثر مِمَّا يدخلهَا من أمتي " ، وأخذ بلحية هَارُون وجره إليه ، وَهُوَ نَبِي الله وكل هَذَا لم ينقص من قدرَة شَيْئا عِنْد ربه ، وربه تَعَالَى يُكرمهُ وَيُحِبهُ ، فَإِن الأمر الَّذِي قَامَ بِه مُوسَى ، والعدو الَّذِي برز لَهُ ، وَالصَّبْر الَّذِي صبره ، والأذى الَّذِي أوذيه فِي الله ، أمر لَا تُؤثر فِيهِ أمثال هَذِه الأمور وَلَا تغير فِي وَجهه وَلَا تخْفض مَنْزِلَته .
وَهَذَا أمر مَعْلُوم عِنْد النَّاس مُسْتَقر فِي فطرهم : أن من لَهُ ألوف من الْحَسَنَات فَإِنَّهُ يسامح بِالسَّيِّئَةِ والسيئتين وَنَحْوهَا حَتَّى أنه ليختلج دَاعِي عُقُوبَته على إساءته ، وداعي شكره على إحسانه ، فيغلب دَاعِي الشُّكْر لداعي الْعقُوبَة كَمَا قيل:
وَإِذا الجيب أتى بذنب وَاحِد ... جَاءَت محاسنه بِأَلف شَفِيع
وَقَالَ آخر:
فَإِن يكن الْفِعْل الَّذِي سَاءَ وَاحِدًا ... فأفعاله اللَّاتِي سررن كثير
وَالله سُبْحَانَهُ يوازن يَوْم الْقِيَامَة بَين حَسَنَات العَبْد وسيئاته فأيهما غلب كَانَ التَّأْثِير لَهُ فيفعل بأهل الْحَسَنَات الْكَثِيرَة وَالَّذين آثروا محابه ومراضيه وغلبتهم دواعي طبعهم أحيانا من الْعَفو والمسامحة مَالا يَفْعَله مَعَ غَيرهم ))
وقال في "إعلام الموقعين "(3/ 220) : (( مَعْرِفَةُ فَضْلِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَقَادِيرِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ، وَأَنَّ فَضْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَنُصْحَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُوجِبُ قَبُولَ كُلِّ مَا قَالُوهُ، وَمَا وَقَعَ فِي فَتَاوِيهِمْ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيهَا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ وَالْحَقُّ فِي خِلَافِهَا لَا يُوجِبُ إطْرَاحَ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَتَنَقُّصَهُمْ وَالْوَقِيعَةَ فِيهِمْ؛ فَهَذَانِ طَرَفَانِ جَائِرَانِ عَنْ الْقَصْدِ، وَقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُمَا، فَلَا نُؤَثِّمُ وَلَا نَعْصِمُ، وَلَا نَسْلُكُ بِهِمْ مَسْلَكَ الرَّافِضَةِ فِي عَلِيٍّ وَلَا مَسْلَكَهُمْ فِي الشَّيْخَيْنِ، بَلْ نَسْلُكُ مَسْلَكَهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَثِّمُونَهُمْ وَلَا يَعْصِمُونَهُمْ، وَلَا يَقْبَلُونَ كُلَّ أَقْوَالِهِمْ وَلَا يُهْدِرُونَهَا.
فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَسْلَكًا يَسْلُكُونَهُ هُمْ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ؟ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَتَنَافَيَانِ عِنْدَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: جَاهِلٍ بِمِقْدَارِ الْأَئِمَّةِ وَفَضْلِهِمْ، أَوْ جَاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ.)) ا.هـ
فبناء على هذه المقدمات سأتناول ـ إن شاء الله تعالى ـ شخصية الأمير عبدالقادر الجزائري ، وأكتب ما له وما عليه مما قيل فيه مما تناقلته الأخبار ، ودونته الأسفار ، وأظهر ما وافق فيه الحق ، وخالف فيه الحق من غير تعصب أو هوى ، مستفيدا في ذلك من كتابات خلدون بن مكي الحسني وغيره من أقارب الأمير الذين حققوا وحرروا شخصية الأمير عن علم وإنصاف وخبرة وإطلاع ، فهم في ذلك لم يحابوا أحدا ولو كان أقرب قريب لهم ممن حرف وغير حقائق شخصية الأمير عبدالقادر ، إما عن جهل أو عمد ، كما ستقف على ذلك يا أيها القارئ في طيات هذه الترجمة .
ونأمل بإعانة الله تعالى وتوفيقه أن تكون هذه الترجمة باعثة على حياة مبادئ الأمير عبدالقادر ، وإنماء أهدافه السامية ، وإحياء معهده الحديثي العلمي الذي كان قائما عليه بالقيطنة ، ومن خلال هذه الصفحات ، سنحيي تاريخ مدينة معسكر (الراشدية) ، بل إحياء تاريخ النهضة الجزائرية الإسلامية .
وذلك بالاستفادة من إصلاحه ونبذ ما خالف فيه الحق مع كل احترام وتقدير وتعظيم له ولعلمائنا من قبله وبعده رحمهم الله .([39])
وهذه النهضة الدينية الإصلاحية الجهادية قد أشاد بذكرها وتمجيدها علماء الجزائر .
قال الإمام ابن باديس ـ رحمه الله ـ منوها بنهضة الأمير عبدالقادر، ذاكرا أنها بمثابة أول بذرة زرعت في قلب الشعب الجزائري ، فلازالت تنمو حتى طاب ثمرها باندلاع الثورة ، واستقلال الجزائر : ((تعتبر محاولة الأمير عبد القادر الفكرية من أهم المحاولات الجزائرية الحديثة في ميدان النهضة ... والواقع أن الأمير عبد القادر أول من أثار الضمير الشعبي الجزائري، وبذر بذوراً بقيت تنمو في القلوب، وتمتد جذورها في الأرض الطيبة التي يجدر بالعالم الإسلامي أن يفخر بها، ويسميها بحق "أرض الشهداء" وبجانب ما للأمير من ثورة سياسية فإنه أضاف إليها ثورة فكرية، تتمثل في تلك الأبحاث الدينية والتاريخية والفلسفية والكلامية والصوفية ([40]) التي قام بها )) ([41])
وقال الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في مقدمة " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي"(1/ 6) منبها أن شخصية الأمير قد أثرت في أبه الإمام محمد البشير الإبراهيمي ([42]) وفي دعوته الإصلاحية والجهادية : (( كانت صورة الأمير عبد القادر الجزائري ماثلة أمامه دائما، لأن عبد القادر كالإبراهيمي كان لا يفصل بين العلم والعمل، ولا يفرق بين النضال والتفكير.)) ا.هـ
والحمد لله رب العالمين
كتبه : بشير بن عبدالقادر بن سلة كان الله له
([1]) استفدت هذه الحروف من مقدمة كتاب " أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها"للعلامة محمد حامد الفقي
([2]) الطبقات (8/477)
([3]) العلل ومعرفة الرجال (1/320)
([4]) الجرح والتعديل (8/234)
([5]) تهذيب الكمال (29/214)
([6]) الثقات (5/417)
([7]) نفس المصدر ( 2/307)
([8]) سير أعلام النبلاء (5/ 77)
([9]) الجرح والتعديل (3/124)
([10]) نفس المصدر
([11]) الطبقات (6/332)
([12]) الجرح والتعديل (3/125)
([13]) العلل ومعرفة الرجال (3/352)
([14]) الجرح والتعديل (3/125)
([15]) سير أعلام النبلاء (5/ 209)
([16]) سير أعلام النبلاء (10/ 58)
([17]) سير أعلام النبلاء (10/ 92 ـ 95)
([18]) سير أعلام النبلاء (12/ 93)
([19]) تاريخ بغداد (3/ 42)
([20]) سير أعلام النبلاء (17/ 252)
([21]) سير أعلام النبلاء (14/ 511)
([22]) سير أعلام النبلاء (17/ 174)
([23]) انتهى النقل من كتاب "ضوابط الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي "(ص 326 ـ 344) مع التصرف والاختصار
([24]) سير أعلام النبلاء (12/ 344)
([25]) سير أعلام النبلاء (16/ 449)
([26]) سير أعلام النبلاء (13/ 299)
([27]) سير أعلام النبلاء (13/ 183)
([28]) سير أعلام النبلاء (3/ 128)
([29]) سير أعلام النبلاء (8/ 202)
([30]) سير أعلام النبلاء (9/ 555)
([31]) تاريخ بغداد (13/ 604)
([32]) سير أعلام النبلاء (17/ 650)
([33]) سير أعلام النبلاء (17/ 507)
([34]) انظر كتاب "ضوابط الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي "(ص 307 ـ 313)
([35]) سير أعلام النبلاء (5/ 271)
([36]) سير أعلام النبلاء (16/ 285)
([37]) المنتظم (17/279)
([38]) الاستقامة (1/297 ـ 299)
([39]) هذا هو المنهج الوسط القويم السديد في معاملة علماء الإسلام من غير الإفراط ولا التفريط ، فما وافقوا فيه الحق أخذنا به ، وما خالفوا فيه الصواب رددناه وتركناه مع حفظ كرامتهم وصون منزلتهم ، ونعتذر لهم لبلوغهم مرتبة الاجتهاد ، لا أن نسعى إلى تنجيس بحرهم بقطرة وقطرتين من النجاسة سقطت فيه ، ونهدر مكانتهم ، ونهدم جهادهم الذي لا يطيقه ويتحمله إلا الرجال العمالقة من أمثالهم .
يقول الإمام المحدث ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ مبينا ومقررا هذا المنهج عمليا مع الإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ
: (( ... هل تستطيعون أن تحددوا لنا نوعية الكفر الذي كفر به أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ واستتيب منه , لا سبيل لهم إلى ذلك إلا ما رووه عن تلميذه أبي يوسف أنه قضى شهورا ربما ستة أشهر وهو على رأي المعتزلة في القرآن , فمن الممكن وأنا الآن أقول بتحفظ ، من الممكن أن تكون هذه الرواية يعني من طريق تلميذه أبي يوسف تكون صحيحة , ففي هذا الظرف الذي ألم بأبي حنيفة , هذا الوسواس وهو الشك في كون كلام الله عز وجل هو صفة من صفاته , وأنه بحرف وبصوت كما عليه أهل السنة وليس كما عليه الأشاعرة والماتردية الكلام النفسي الذي بيسموه الكلام النفسي ، ممكن في هذا الوقت لقوة شوكة أهل الحديث وأهل السنة في ذلك الزمان استطاعوا أن يأتوا به ويتوبوه ويحكموا على أن الذي يقول كلام الله مخلوق مثل الماتريدي أن هذا كفر فيستتاب منه ..., ولذلك نحن مثل هذه الرواية بلا شك نأخذ منها شيئا , يعني يأخذ على أبي حنيفة , لكن ما هو هذا الشيء ؟
لا نستطيع أن نأخذه من هذه الكلمة المجملة لأنها غير مفسرة , أظن جوابي واضح في هذا ؟
أنا بطبيعة حالي لا أدافع عن أبي حنيفة , لأني أراه أنه هو ليس من أهل الحديث يعني في الفقه , فيكفي أنه معروف أنه إمام أهل الرأي , لكن في الوقت نفسه أنا لا أريد أن أتحامل على الرجل ، وأن لا نعرف قدره وفضله في الفقه , لكن هذا أيضا ما يحملنا على أن نتعصب له ونتحمس له وأي رواية تروى فيها طعن فيه , نطعن في الرواة ولو كان البخاري ومسلم وأحمد إلى آخره كما يفعل متعصبة الحنفية في هذا الزمان , أبو غدة ومثاله , لكن نحن في الواقع نحاول أن نتأدب بقول الله عز وجل:{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } فأنا مثلا لا أتعصب لأبي حنيفة وأنا الذي إن كان لي أن أفاخر ولا فخر في الإسلام , أنا الذي أشعت بين الناس وقامة قيامة المتعصبة أنه أبو حنيفة ضعيف في الحديث , العالم الإسلامي كان في غفلة منه , طبعا أنا ما جبت شيء من عندي , مكتوب , لكن من يقرأ هذا المكتوب , خاصة فيما يتعلق بأبي حنيفة الإمام الأعظم , فأنا كنت بفضل الله أول من أشهر موقف علماء الحديث بالنسبة للإمام أبي حنيفة في رواية الحديث , فهو ضعيف في الحديث , فقامت قيامة المتعصبة, لماذا ؟ لأنهم لا ينقدون بعقل وفكر ووعي ودين , وإنما بعصبية جاهلية , فهذه الجملة لا شك فيها طعن في أبي حنيفة , لكن ما يجوز نحن أن نكفره ، ما هو سبب التكفير؟
سبب التكفير مجهول, علما أنه الخلاف المشتد بين علماء الحديث من جهة , وعلى رأسهم ابن تيمية في عصره وبين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من جهة أخرى , علماء الحديث أنفسهم لا يقولون فلان كافر , ممن يعرفون أنه حاد عن طريق السنة , ولذلك تجد الإمام البخاري يروي عن بعض المعتزلة ويروي عن بعض الخوارج ونحو ذلك من الحديث ، ويحتج بحديثهم , فلو كانوا هؤلاء بسبب انحرافهم في العقيدة عن خط السنة كفارا , ما روى لهم هذه الأحاديث ولا وافقوهم , فحينما يقال الشيء الفلاني كفر أو فلان كفر, إنما يعنون التحذير مما وقع فيه , ولا يعنون الختم عليه بأنه مرتد عن دينه , حاشاهم من ذلك .ا.هـ انظر سلسلة الهدى والنور (ش 56 / د1)
([40]) سأتكلم إن شاء الله في ثنايا صفحات هذه الترجمة عن حقيقة صوفية الأمير عبدالقادر وأبحاثه الكلامية التي أشار إليها الإمام ابن باديس .
([41]) آثار ابن باديس (1/ 15 ـ 16)
([42]) لقد أشاد الإمام محمد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ بثورة الأمير عبدالقادر وجهاده العظيم في كثير من المواطن من كتاباته ، وبيّن في ثنايا طياتها من خذل جهاد الأمير للمستعمر الفرنسي، مما يدل أن علماء الجزائر ، بل علماء العالم الإسلامي من المحدثين وغيرهم في عصر الأمير وبعده ، كان المجاهد العالم الأمير عبدالقادر يحظى من طرفهم إلا بعظيم التبجيل والاحترام ، وما طعن فيه إلا المتأخرون الذين استقوا مادة طعنهم من أخبار خريجي مدرسة الماسونية وفرنسا والغرب ، والنقول المصطنعة والمختلقة والمكذوبة والمقطوعة والمجهولة !!! ، كما سأبين ذلك في صفحات هذه الترجمة .[/font][/size]