يكره للصائم أن يجمع ريقه ويبلعه، فإن جمعه ثُمَّ بلعه قصداً، لم يفطر (و)، كما لو بلعه قصداً ولم يجمَعْه؛ بخلاف غبار الطريق، وقيل: يفطر، فيحرم ذلك، كعودِهِ وبلعه من بين شفتيه، وفي «منتهى الغاية»: ظاهر شفتيه؛ لإمكان التحرز منه عادةً، كغير الريق، وإن أخرج من فيه حصاةً أو درهماً أو خيطاً، ثم أعاده، فإن كان ما عليه كثيراً فبلعه أفطر، وإن قل لم يفطر، في الأصح (ش)؛ لأنه لا يتحقق انفصاله ودخوله حلقه، كالمضمضة، ولو كان لسانه، لم يفطر. أطلقه الأصحاب (و)؛ لأن الريق لم يفارق محله، وقال ابن عقيل: يفطر.
وإن تنجس فمه، أو خرج إليه قيء أو قلس، فبلعه، أفطر. نص عليه، وإن قل؛ لإمكان التحرز منه، وإن بصقه، وبقي فمه نجساً، فبلع ريقه، فإن تحقَّقَ أنه بلع شيئاً نجساً أفطر، وإلا فلا، وصفة غسل فمه، سبق في الفصل الثاني من إزالة النجاسة.
وهل يفطر ببلع النخامة (وش) كالتي من جوفِهِ؛ لأنها من غير الفم كالقيء، أم لا؛ لاعتبارها في الفم كالريق؟ فيه روايتان، وعليهما ينبني التحريم، وفي «المستوعب»: أن القاضي وغيره ذكروا في النخامة روايتين، ولم يفرقوا، وذكر ابن أبي موسى: يفطر بالتي من دماغه، وفي التي من صدرِهِ روايتان (210).
ويكره ذوق الطعام، ذكره جماعة وأطلقوا (و م)، وقد قال أحمد: أحب أن يَجتنبَ ذوق الطعام، فإن فعل فلا بأس، وذكر صاحب «المحرر» أن المنصوص عنه: لا بأس به؛ لحاجةٍ ومصلحةٍ، واختاره في «التنبيه»، وابن عقيلٍ (و هـ ش) وحكاه أحمد والبخاري عن ابن عباسٍ، وكالمضمضة المسنونة، فعلى هذا: عليه أن يستقصي في البصق، ثُمَّ إن وجد طعمه في حلقه لم يُفطِر، كالمضمضة، وإن لم يستقص في البصق أفطر؛ لتفريطِهِ، وعلى الأول: يفطر مطلقاً؛ لإطلاق الكراهة. ذكره صاحب «المحررِ»، وجزم جماعة بفطرِهِ مطلقاً، ويتوجه الخلاف في مجاوزة الثلاث.
ويكرَهُ مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء. نص عليه (و)؛ لأنه يحلب الفم، ويجمع الريق، ويورث العطش، ويتوجه احتمال(211) ؛ لأنه يروى عن عائشة، وعطاء(212)، وكوضع الحصاة في فيه، قال أحمد فيمن وضع في فيه درهماً أو ديناراً: لا بأس به ما لم يجد طعمه في حلقه، وما يجد طعمه فلا يعجبني. وقال في الصائم يفتل الخيط(213): يعجبني أن يبزق. فعلى الأول: هل يفطر إن وجد طعمه في حلقه أو لا؛ لأن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدمه بحنظل(214) (ع) بخلاف الكُحلِ؛ فإنه تصل أجزاؤُه إلى الحلق؟ على وجهين، فدل أنه يفطر بأجزائه، وقيل: في تحريم مالا يتحلل غالباً، وفطره بوصوله أو طعمه إلى حلقه، وجهان، وقيل: يكره بلا حاجة.
ويحرم مضغ العلك الذي تتحلل منه أجزاء (ع)، وفي «المقنع»: إلا أن لا يَبلعَ ريقه، وفَرضَ بعضهم المسألة في ذوقِهِ، وإن وجد طعمه في حلقِهِ أفطر، وسبق السواك في بابِهِ، قال في «المستوعب» وغيره: ويكره أن يدع بقايا الطعام بين أسنانِهِ، وشم ما لا يأمن أن يجذبه نفَسُه إلى حلقِةِ، كسحيق مسْكٍ، وكافورٍ ودهنٍ ونحوِهِ(215).
وتكره القبلة لمن تحرك شهوته فقط (وهـ)؛ لقول عمر بن أبي سلمة: يا رسول الله، أيقبل الصائم؟ فقال له: «سَلْ هذه» لأم سلمة، فأخبرته أنه يفعل ذلك، فقال: يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «أما والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له». رواه مسلم(216). ونهى النبي صلى الله عليه وسلم شابّا، ورخص لشيخ. حديث حسن، رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد عن أبي هريرة، وأبي الدرداء، وكذا عن ابن عباس(217). بإسناد صحيحٍ، وعنه: تُكرَه لمن تُحرِّكُ شهوته، ولغيره (و م ر)؛ لاحتمال حدوث الشهوة، وكالإحرام، وعنه: تحرم على مَنْ تحرك شهوته، وجزم به في «المستوعب» وغيره (و م ش)، كما لو ظن الإنزال معها، وذكره صاحب «المحرر» بلا خلافٍ، ثم إن خرج منه مني أو مذي، فقد سبق أول الباب، وإن لم يخرج منه شيء لم يفطر، ذكره ابن عبد البر (ع) لما سبق، وحكى ابن المنذر عن ابن مسعودٍ: يفطر، وحكاه الخطابي عنه وعن ابن المسيب، وحكاه الطحاوي عن ابن شبرمة، وقاله ابن القاسم المالكي، ويأتي في الغيبة، هل يفطر بها، وبكل محرمٍ؟ ومراد من اقتصر من الأصحاب على ذكر القبلة دواعي الجماع؛ ولهذا قاسوه على الإحرام، وقالوا: عبادة تمنع الوطء، فمنعت دواعيه كالإحرام.
وفي «الكافي»: واللمس، وتكرار النظر، كالقبلة؛ لأنهما في معناها. وفي «الرعاية» - بعد أن ذكر الخلاف في مسألة القبلة -: وكذا الخلاف في تكرار النظر، والفكر في الجماع، فإن أنزل أثم وأفطر، والتلذذ باللمس، والنظر، والمعانقة، والتقبيل سواء. هذا كلامه، وهو معنى «المستوعب»، واللَّمسُ لغير شهوة، كلمس اليد؛ ليعرف مرضها ونحوه، لا يُكرَه (و)، كالإحرام.
------------------------
(210) كلامه - رحمه الله - يدل على أن مسألة بلع النخامة فيها خلاف، وأنه ليس بحرام، ولكن الفقهاء - رحمهم الله - صرحوا أن بلع النخامة حرام على الصائم وغيره؛ لأنها مستقذرة، ولأنها قد تحمل جراثيم من الرئة أو من الدماغ، أو غير ذلك، فيؤدي إلى أضرار في المعدة، لكن الجزم بالتحريم فيه نظر، لا في الصيام، ولا في الإفطار؛ لأنها تشبه الريق، وكثيراً ما يأتي بها الريق بلا إحساس، ولا يلزم الإنسان إذا أحس في حلقه بنخامة أن يتكلف بإخراجها، كما يفعله بعض العوام، بل يتركها إن نزلت إلى الجوف فهي نازلة، وإن خرجت فهي خارجة، أما أن يتكلف جذبها حتى لا يبتلعها فهذا غلط .
(211) أي: أنه لا يكره.
(212) ما ذكره المؤلف من الكراهة أو احتمال عدم الكراهة، هذا فيمن يفعله وحده، إما في بيته، أو في مكتبته، أو ما أشبه ذلك، أما من يفعله أمام الناس فهذا أقل أحواله الكراهة، إن لم نقل بالتحريم؛ لأنه يساء به الظن من وجه، ويقتدي به الجاهل من وجه آخر، فلو فرضنا أن رجلاً طالب علم يمضغ العلك أمام الناس، وأمام الجهال من النساء والصغار، وما أشبه ذلك، فيظن الناس أنه يأكل، ويقولون: لا بأس بالأكل، ويحلفون بالله أنهم رأوا فلانا يأكل، وهذا مضرة عظيمة، فالمهم أنه ينبغي أن يقيد كلامه - رحمه الله - بما إذا كان الإنسان وحده، وأما بحضور الناس فلا، والعلك الذي يتحلل إلى حبات صغيرة وله طعم هذا لا يجوز إن بلع ريقه، وأما القوي الذي ليس له طعم، ولا يتحلل فهذا الصحيح أنه ليس بمكروه، ولكن كما سبق لا يمضغه أمام الناس.
(213) قوله:«يفتل الخيط» كان الناس في الأول يخيطون بالإبر، فإذا أراد الخياط أن يدخل الخيط في سم الإبرة، فإنه يبله، ويمر به على شفتيه، هذا مراده رحمه الله.
(214) قول المؤلف: «كمن لطخ باطن قدمه بحنظل» الحنظل: نبات مُرٌّ جداً، ويسمى في القصيم: «الشري»، وهو إذا لطخ به القدم أحس الإنسان بطعمه في حلقه، مع أن القدم بعيدة عن الحلق، ويُذكر أنه إذا شوي على النار، ثم داس عليه الإنسان حتى انفجر، فإنه يسهل البطن، يعني: ينفع من كان عنده يُبس في بطنه، ومع ذلك نقول: لو أن الإنسان وطء حنظلة، وأحس بطعمها في حلقه، فإنه لا يفطر؛ لأن القدم لم تجر العادة أن تكون مجرى للطعام، وليست منفذا معتاداً.
(215) وعلى هذا: فينبغي أن يتخلى الإنسان إذا انتهى من السحور، فيخلل أسنانه لئلا يبقى فيها شيء، فإن هذا الشيء إما أن يكون كبيراً فيجد طعمه، وإما أن يكون صغيراً فيخشى أن يخرج ويبتلعه الإنسان.
(216) وهذا يدل على جواز القبلة للصائم بدون تفصيل، وفي هذا الإيماء إلى التعليم بالفعل، وأنه قد يكون أقوى تأثيراً من التعليم بالقول؛ لقوله: «سل هذه» [أخرجه مسلم في الصيام/باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته (1108).]، يعني: هل أنا أفعله أو لا؟ وفيه دليل على أن الأصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما دل الدليل على أنه خاص به، فإن دل الدليل على أنه خاص به عمل به، وإلا فالأصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يفيده عموم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21]، وعلى هذا: فإذا رأيت من بعض أهل العلم أنه إذا عجز عن الجمع قال: هذا خاص به صلى الله عليه وسلم ، فهذا خلاف الأصل.
(217) قوله: «عن أبي هريرة وأبي الدرداء وكذا عن ابن عباس» الظاهر أنه موقوف؛ لأنه حديث متكلم فيه، وضعفه كثير من علماء الحديث