الأحداث التي سبقت الإحتلال الفرنسي لجيجل 1664م
لقد كانت مدينة جيجل و غيرها من المدن الساحلية عرضة لإنتقام الدول المسيحية الأوروبية طيلة القرون الوسطى و بداية العصر الحديث. و قبل التعرض لهذا الإنتقام لا بد من الإشارة إلى أهم الأحداث الداخلية و الخارجية التي أدت إلى هذا الإحتلال. فعلى الصعيد الداخلي جرت بمدينة الجزائر ما بين سنوات 1659 و 1662 اضطرابات خطيرة في قمة السلطة، إذ عقد في تلك الأثناء ضباط الجيش الإنكشاري اجتماعا عاما بحثوا فيه ضعف نظام البشوات المعينين كولاة لإدارة الشؤون الجزائرية من طرف السلطان العثماني باسطمبول، و قرروا إلقاء القبض على الوالي علي باشا و أتباعه، و وضعوهم في سفينة و أرسلوهم إلى تركيا. و عندما وصلوا إلى هناك أخبروا الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) بما وقع لهم في الجزائ، فغضب لذلك و في الوقت نفسه أصدر فرمانا (أمرا) إلى ضباط الجيش الإنكشاري في الجزائر يعلمهم فيه بأنه بعد اليوم لن يرسل إليهم واليا و أنّ السلطان ليس في حاجة إليهم، كما أرسل أمرا آخر إلى جميع الماملك العثمانية بمصر و الشام و الحجاز يطلب منهم منع الجزائريين من الذهاب إلى الحج و عدم بيع السلاح لهم، و عدم السماح لهم بالإقتراب من السواحل العثمانية. و نتيجة لهذا الموقف الصارم ندم ضباط الجيش الإنكشاري بالجزائر، وبعثوا وفدا لطلب العفو و لكن الصدر الأعظم رفض إستقباله، و لذلك بقي في إسطمبول عام كامل. و من حسن حظ ذلك الوفد أنّ الصدر الأعظم " كوبولو محمد" قد توفي سنة 1660م و خلفه إبنه فاضل أحمد، فاستقبل الوفد و عين لهم واليا جديدا يدعى القابجي بوشناق إسماعيل، فرجعوا به إلى مدينة الجزائر و نصبوه على رأس الإيالة و منحوه بعض السلطات، لكن السلطة الفعلية بقيت بيد الآغا الذي ينتخب من طرف ضباط الجيشلمدة شهرين فقط لكي لا ينفرد بحكم البلاد و يستبد بالأمر، و بذلك أصبحت القيادة في مدينة الجزائر بيد رجلين: وال معين من اسطمبول انحصرت صلاحياته في التشريفات و استقبال قناصل الدول الأجنبية، و آغا في يده السلطة الفعلية.
و نتيجو لذلك عرفت تلك الفترة اضطربات خطيرة، ففي ظرف سنتين ( 1660 – 1662) قتل او سجن أربع أغوات بسبب استحالة حكمهم لمدة شهرين بالإضافة إلى مؤامرات الوالي بوشناق إسماعيل. و نتيجة لذلك اضطر ضباط الجيش الإنكشاري إلى تمديد فترة حكم الآغا شعبان إلى ثلاث سنوات (1662 – 1665) ليتمكنوا من الصمود أمام اتحاد الدول المسيحية الأوروبية ضد الأسطول الجزائري. هذه هي أهم الأحداث الداخلية التي سبقت إحتلال مدينة جيجل. أما الأحداث فهي إجتماع الدول المسيحية الأوروبية الأربع و هي: فرنسا و إنكلترا و هولاندا و الدويلات الإيطالية بعدما تعرضت سفنهم للقرصنة في البحر الأبيض المتوسط، ففي خريف سنة 1661 استولى الأسطول الجزائري المؤلف من حوالي ثلاثين سفينة على إثني عشر سفينة إنكليزية و تسع سفن هولندية و اثني عشر سفينة فرنسية و إيطالية. و نتيجة لهذه الخسائر الفادحة التي تعرضت لها سفن الدول الأربع، قرروا في الإجتماع الذي أشرنا إليه سابقا القضاء كلية على الأسطول الجزائري و تدمير و احتلال المدن الساحلية، فكلف الأسطول الفرنسي بالناحية الشرقية، و في الحين شرعوا في التنفيذ، و بدؤوا بتقسيم أسطولهم إلى جزأين، إذ قام الأسطول الأول بقيادة الكمندور بول بقصف مينائي القالة و عنابة.
أما الجزأ الثاني فبقيادة الدوق بوفرت، فقصف ميناء أستورة (قرب سكيكدة)، ثم احتلها و فرض على السكان إمداده بالتموين، ثم تابع طريقه نحوى الغرب و خرب ميناء دلس، ثم اتجه نحوى مدينة الجزائر للإلتحاق بالأسطولين الهولندي و الإنكليزي لإغراق جميع السفن الراسية في مينائها. أما الأسطول الإنكليزي الذي يقوده باندوفيس فقد قام بتخريب ميناء بجاية و أسر أربع سفن جزائرية في عرض البحر، و اتجه بعدها إلى الجزائر للإلتحاق بالآخرين حسب الإتفاق المبرم بينهم و الذي أشرنا إليهه سابقا. أما قائد الأسطول الهولندي زويتر المكلف بالتمهيد لمحاصرة مدينة الجزائر، فقد خان الطرفين الفرنسي و الإنكليزي و فضل المهادنة و عقد مع رياس البحر الجزائريين، لأن الإنكليز تأكدوا من استحالة القضاء على الأسطول الجزائري، و لذلك فتحوا مع الرياس مفاوضات و توصلوا إلى عقد معاهدات صلح. و عندما علم الفرنسيون بخيانة الهولنديين و الإنكليز فضلوا العمل وحدهم. و اجتمع المجلس الملكي برئاسة الملك لويس الرابع عشر و قرر احتلال مدينة جيجل كقاعدة أولية لإحتلال بقية المدن الساحلية.
الفرنسيون يحتلون جيجل سنة 1664م.
في ربيع سنة 1664م كلف المجلس الملكي الدوق دوفورت dukde bofor بإعداد الأسطول لاحتلال مدينة جيجل لتكون قاعدة أساسية لإحتلال بقية المدن الساحلية الجزائرية، ثم القضا التام على الأسطول الجزائري، كما عين المجلس الكونت دي كادان k.de godogane قائدا للإنزال. و في الحين شرع القائدان في الإستعداد لتنفيذ مهمتهما ، فجهزوا أسطولا يتألف من تسع و عشرين ناقلة لمؤن و الأجهزة الخاصة بالإنزال و الذخائر، و تسعة عشر سفينة كبيرة لنقل الجنود و اثني عشر سفينة حربية. و كان عدد الجنود و الضباط أكثر من عشرة ألاف. و بعد إنتهاء الشحن خرج الأسطول من ميناء طولون في نهاية شهر جوان 1664، و في 21 جويلية وصل إلى بجاية فاحتلها بدون مقاومة بسبب ضعف حاميتها و ترك بها حوالي ألفي جندي. و في اليوم الموالي احتل الأسطول مدينة جيجل و بوشر فعلا بإنزال الجنود إلى البر. و بعد مقاومة عنيفة تمكن الفرنسيون من احتلال المدينة و الهضاب القريبة منها الغربية و الجنوبية و الشرقية، و بعد يومين بدأ السكان المحليون المقاومة و استمرت تلك المقاومة يوميا، مما اضطر القيادة الفرنسية إلى سحب جنودها التذين تركتهم في مدينة بجايةخشية إبادتهم من طرف المقاومة المحلية. هذا من جهة، و من جهة أخرى وضع في الإعتبار التركيز على مدينة جيجل للبقاء الأبدي فيهاحسب التعليمات التي اعطيت لقائد الأسطول الدوق دوفرت. و رغم ذلك لم يستطع هذا القائد السيطرة على أوضاع المدينة و هضابها بسبب شدة المقاومة المحلية و المقاطعة التامة للقوات الغازية، فقد منعوا التموين، لذلك كثر الخلاف بين قادة الإحتلال في كيفية التصرف، و على الأخص بين قائد الأسطول دوفورت و قائد الإنزال الكونت دوكادان, فكان معظم أوقاتهم حسب شارل فيرو تضيع في المناقشات و المنازعات التافهة،لأن القصر الملكي لم يحدد بوضوح صلاحيات و وظيفة قادة الأسطول، لذلك أصبح كل منهم يعتبر نفسه هو الآمر الناهي، فقد كان قائد الإنزال كادان يرى بأن حامية بجاية كان من الواجب بقاءها هناك لتبقى كسند خلفي لمدينة جيجل، و الدوق دوفورت يرى عكس ذلك، أما المارشال دوكانال dokanal فكان يتصرف و كأنه القائد الوحيد للحملة.
و قد تسببت هذه الخلافات في زيادة الفوضى داخل المدينة المحتلة، و انشغل الجميع عن إقامة التحصينات و الإستحكامات، وكان القصر الملكي في فرنسا لا يعرف شيئا عن تلك الأوضاع السيئة التي تسود الجيش المحتل، و لذلك أرسل زوجات القادة و بعض الجنود للتخفيف عنهم. هذا في ما يخص الجانب الفرنسي، أما في ما يخص الجانب الجزائري فقد استمرت المقاومة المحلية بدون هوادة، و لكنها فشلت في إخراج الفرنسيين من المدينة، لأنها كانت عفوية و غير منظمة. و بعد إستقرار الأوضاع الداخلية في مدينة الجزائر، التي أشرنا إليها سابقا تم الشروع في الإعداد لتدعيم المقاومة المحلية بالجيش الرسمي.
تحرير مدينة جيجل
لقد قام بتدعيم المقاومة المحلية الآغا شعبان، إذ جهز جيشا بريا بعث به إلى مدينة جيجل في 15 سبتمبر 1664 و في الطريق انظم إليه الكثير من سكان زواوة و من القبائل الصغرى مثل بني عباس و بني ورتلان و بني يعلي و قد وصلوا جيجل في 29 من نفس الشهر، فانظم إليهم جميع سكان المناطق الحيطة بجيجل و غيرهم من سكان الشريط الساحلي الشرقي الممتد من مدينة جيجل إلى القل. و في أول يوم من شهر أكتوبر 1664م شرعوا في حصار المدينة و الهضاب القريبة منها من جميع الجهات، و استمرت المناوشات أربع أيام. و في اليوم الخامس شن الجيش الرسمي و المقاومون هجوما كاسحا فتهدمت المتاريس الفرنسية و المواقع الأمامية التي كانت مقامة على الهضاب المحيطة بالمدينة، و أصبح الجيش الفرنسي داخل المدينة عرضة لنيران الجزائريين.
يقول المؤرخونالأتراك بأن القائد الفرنسي كليرفال طلب هدنة مقابل إنسحاب قواته، لكن الطرف الجزائري رفض طلبه. أما شارل فيرو فيقول عكس ذلك و ينسب البطولة للجيش الفرنسي الذي استمر في القتال رغم الصعوبات التي تعرض لها أثناء المعركةالتي دامت خمس ساعات، و تكبد الطرفان خسائر فادحة، إذ قدر الفرنسيون قتلى الطرف الجزائري بسبعمائة قتيل و أكثر من ألف جريح، و خسائرهم بأربعمئة قتيل و جريح، و اتهت المعركة بدون حسم. و عندما علمت القيادة الفرنسية في باريس بشراسة المقاومة الجزائرية بعثت بنجدات هامة بقيادة ماركي دومتران، و أعطيت له تعليمات بالقضاء على المقاومة الجزائرية و الإستمرار في البقاء بمدينة جيجل. فعلا وصلت تلك القوات يوم 22 أكتوبر من نفس السنة، و حاولت إعادة التحصينات التي هدمت، لكن الطرف الجزائري لم يسمح لهم بذلك و شن هجوما كاسحا يوم التاسع ة العشرين من الشهر نفسه، و بعد معارك طاحنة دامت يومين انهارت القوات الفرنسية، و لم تستطع الرد على المهاجمين، فبدؤوا في الفرار و هم يصرخون بأصوات واضحة و مفهومة، اتركونا و سندخل في الإسلام تاركين مدافعهم و أدواتهم التقنية و الجرحى و المرضى، و كانت خسائرهم ألفا و أربعمئة قتيل و أكثر من ألفي جريح.
يقول شارل فيرو عن تلك المعركة التي وقعت قبل وقته بقرنين: كثيرا ما لاحظت أثناء معاركنا مع القبائل ما بين 1840 – 1860 سيوفا طويلة بين أيديهم منقوش عليها حرس ملكي في جميع المناطق، و أن جزءا من مدافع قلعة بني عباس تعود إلى الفرنسيين الذين تركوها بجيجل سنة 1664م، و هذا دليل آخر على أن سكان هذه المنطقة البعيدة قد شاركوا في المعركة، كما عثر الضابط بيان في مسجد سيدي الجودي ببني يعلي على أدوات حربية تعود إلى مخلفات معركة جيجل و أن سكان تلك المنطقة شاركوا فيها. و في قاعة الغنائم التابعة لفرع قسنطينة تم إيداع الكثير من الأسلحة التي انتزعت من العدو( و يقصد بها المقاومين للإحتلال الفرنسي ما بين سنوات 1839 – 1860) أثناء حملات جيوشنا تعود إلى مخلفات معركة جيجل سنة 1664م.
و قد تركت هذه الهزيمة للأسطول الفرنسي حينذاك جرحا عميقا، لأن خسائرها كانت ثقيلة جدا و قد تحدث عنها المؤرخون الفرنسيون كثير، لأنها خلفت أكثر من ثلاثة ألاف بين قتيل و جريحو أسر، بالأضافة إلى العشرات من المدافع من أرفع طراز، و ذخائر حربية لا تحصى، و لهذا فأن أول كلمة نطق بها قائد القوات البحرية الذي احتل مدينة جيجل الضابط صالو سنة 1839م قوله: "لقد انتقمنا لك يا دوفورت". فبعد طرد القوات الفرنسية الغازية من مدينة جيجل سنة 1664 تعود المدينة و إقليمها الجغرافي إلى أهلها، و لكن المؤرخين تجاهلوا ذلك فلا نجد في السنوات الأخيرةمن القرن السابع عشر و القرن الثامن عشر سوى ما سجله كتاب التقارير الرسمية الفرنسية من الروايات الشفاهية المتوارثة التي وجدوها تدور بين أفراد أعراش المنطقة بعد احتلالهم لها سنة 1839م حول المتطوعين من أبنائها الذين أبلوا البلاء الحسن في المعارك التي جرت سنة 1775 في مدينة الجزائر أثناء محاولة الأسطول الإسباني بقيادة أوريلي احتلالها. فقد تضمنت تلك التقارير الرسمية الخاصة بكل عرش أو قبيلة التي كانوا ينشرونها في الجريدة الرسمية ابتداءا من سنة 1826 بطولة متطوعي منطقة جيجل بقيادة سيدي عبد الله مولاي الشقفة شيخ بني يدر و سيدي السعدي شيخ بني عافر، و لذلك بقي اسماهما خالدين في المنطقة.
و في مدينة الجزائر ما يزال إلى اليوم شارع في حي القصبة يسمى باسم سيدي عبد الله (حوانت سيدي عبد الله)
منقول من تاريخ منطقة جيجل للمؤرخ علي خنوف