يقول النبي صلى الله علية وسلم : ( من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك ، وإلا كان قد أدى الذي عليه ) .[ رواه ابن ابى عاصم في السنة ( باب : كيف نصيحة الرعية للولاة ) .و صححه الألباني] .
وفى صحيح البخاري قيل لأسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ : ( لو أتيت فلاناً فكلمته ) ، وفي رواية أحمد في المسند قالوا له : ( ألا تدخل على هذا الرجل فتكلمه ) ، وفى صحيح مسلم قالوا له : ( ألا تدخل على عثمان فتكلمه ) ، فجاء هنا التصريح بالاسم.
وعثمان هو: عثمان بن عفان أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ .
فقالوا له : ( ألا تدخل على عثمان فتكلمه ، قال : إنكم لترون أنى لا أكلمه إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن افتح باباً لا أكون أول من فتحه ) .
وقد فَتح هذا الباب ـ الإنكار على ولاة الأمور في العلن ـ الخوارج الذين نَصحوا لأمير المؤمنين ، شهيد الدار ( عثمان بن عفان ) في العلن فألبوا عليه الناس وانتهى الأمر بحصاره في بيته ثم قتله ـ رضوان الله عليه ـ فكان أول خليفة يُقتل في الإسلام من جراء بذل النصح للسلطان في العلن ، ومخالفة هدي السلف في طريقة النصح للحكام .
وروى ابن أبى الدنيا في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وابن أبى شيبة في مصنفه بسند صحيح عن طاوس قال : أتى رجل ابن عباس ، فقال : ( ألا أقوم إلى هذا السلطان فأمره و أنهاه ) . قال : ( لا تكن له فتنة أو لا تكن لك فتنة) . قال : أرأيت إن أمرني بمعصية لله عز وجل ، قال : ( ذاك الذي تريد فكن حينئذ رجلاً ؟ ).
قلت : هذا هو الأصل إن كنت بين يدي السلطان فأمروه و انهاه ، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ) . رواه أبو داود .
فـ ( عند ) المذكورة في الحديث ظرف مكان ، فإن كنت بين يدي الحاكم فأمروه و انهاه ؛ ولكن لا تقف في الميادين وتستدل بالحديث ، ثم إن كنت بين يديه دعوت له! ، لا ، كن حينها رجلاً كما قال ابن عباس للسائل ، لأن هذا التلون من النفاق ـ عياذا بالله ـ .
أخرج البخاري في صحيحه عن محمد بن زيد قال : قال أناس لابن عمر إن ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم ، قال : كنا نعدها نفاقاً .
وقال أبو الدرداء : ((إن أول نفاق المرء طعنه على إمامه)) . رواه ابن عبد البر في التمهيد .
ولهذا كان رد ابن عباس على الرجل عندما قال له أرأيت إن أمرني بمعصية الله عز وجل ، قال : ذاك الذي تريد فكن حينئذ رجلا .
فلا تدعوا له و أنت بين يديه و تجتهد في تحسين الكلام وتزينه ، ولكن أصدع بالحق في وجه الظالم ، و أمره بالمعروف و انهاه عن المنكر ، وإلا كنت منافقاً أو جباناً عياذا بالله .
وإن نصحت فاصبر ؛ يقول معاوية ـ رضي الله عنه ـ : اتقِ غضب السلطان ، فإن السلطان يغضب غضب الصبي ، ويأخذ أخذ الأسد .
فكن كإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ـ عليه الرحمة ـ فإنه نصح للسلطان وصدع بالحق بين يديه ، فعُذب وجلد حتى خلعت يده وكاد يموت ، ومع ذلك صبر ولم يُداهن ، ولم يستطيعوا صرفه عن الحق لأنه كان على السنة قولاً وعملاً واعتقاداً ، لم يستطيعوا صرف أحمد عن الحق لأن أحمد ممنوع من الصرف !.
سؤال : إلى أي مدى يكون السمع والطاعة و الطاعة للأمير؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِى وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِى جُثْمَانِ إِنْسٍ ». قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ :« تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ ))[ رواه مسلم و ابن حبان في صححيهما] .
و أخرج أحمد و أبو داود من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له : ((فإن كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد ظهرك وأخذ مالك ، فالزمه)) . وصححه الألباني في الصحيحة ( 1791 ) .
وفى السنة للخلال و الشريعة للآجري وغيرهما أن عمر الفاروق ـ رضي الله عنه ـ قال لسويد بن غفلة : ((يا أبا أمية أنى لا أدرى لعلى لا ألقاك بعد عامي هذا ، فان أُمر عليك عبدٌ حبشيٌ مُجدّعٌ فاسمع له وأطع ، وإن ضربك فاصبر ، وإن حرمك فاصبر ، وإن أراد أمر ينقصُ دينك . فقل : سمعاً وطاعة دمي دون ديني ، ولا تفارق الجماعة)) .
فإن ظلم ولاة الأمور للرعية ، ومنعهم الحقوق ، وضربهم واستثاروهم بالدنيا والثروة دونهم ، لا يُسوغ للرعية الخروج عليهم .
الخروج لا يكون إلا في حالة واحدة فقط .
يقول عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ وهو في مرضه الذي مات فيه : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في نشطنا ( يعني : الأمر الذي ننشط له لأننا نحبه ) ومكرهنا ( الأمر الذي يشق على النفس فتكرهه ) وعسرنا ( في الشدة والضيق ) ويسرنا، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان . [متفق على صحته]
فهذه هي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها الخروج على الحاكم . وهى أن يَصدر من الحاكم كفراً بواحاً ، لا يختلف عليه اثنان ، معلوم من الجميع أنه كفر ، وليس كما نرى من البعض ، فنسمع من أحدهم أنه يقرر ويناظر أن الحاكم كافر، فإذا سألناه لماذا ؟ قال : لأن الشيخ فلان كفره! ؛ فليس هذا معنى الحديث، ولكن الكفر الذي لا اشتباه فيه ، فضلاً عن أنه لا تقليد في التكفير .
مثال : لو خرج الحاكم وقال : بإلغاء صلاة الجمعة أو قال بأن الخمر حلال أو الزنا ليس حرام . هذا ما يسمى بالكفر البواح الذي لا يلجأ فيه الناس لاستفتاء عالم . فإن صدر منه هذا وجب الخروج عليه واستبداله بأخر .
ولكن شريطة وجود الامكانيه . فلا نخرج عليه بسكينة المطبخ مثلاً وهو عنده الدبابات والطائرات . هذا يسمى انتحار . وانظر إلى حال أهل سوريا حتى تعلم صدق ما أقول لك .
لكن إن توفرت العدة و الإمكانيات وجب الخروج عليه و استبداله .
و أما الخروج عليه لأي سبب أخر فحرام .
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة : قد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمور منكرة , ومع هذا أمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ، ونسال الله الحق الذي لنا ولم يأذن في اخذ الحق بالقتال .
وعند أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وفي غيرهما. عن فضالة بن عبيد ـ صحابي من أهل بدرـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثةٌ لا تسأل عنهم : رجلٌ فارق الجماعة وعصى إمامه ، ومات عاصياً)) . [وصححه الألباني في صحيح الجامع (3058 )].
وعند الترمذي وغيره .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله والنصح لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم )).[وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 6766 )] .
وفي صحيح البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية , جمع ابن عمر حشمه وولده , فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ينصب لكل غادر لواءً يوم القيامة ) ، وإن قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال . أهـ
قلت : وقد جرت سنة الله في كونه أنه ما خرج قوم على إمامهم ـ وإن كان ظالماً غشوماً ـ إلا وكان حالهم بعد الخروج أسوأ من حالهم قبل الخروج.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في منهاج السنة النبوية : ( ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنه , فلا يُدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما , ولعله لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزلته , والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء ) .
قلت : ولهذا قالوا قديماً : سلطان غشوم خيرٌ من فتنةٍ تدوم .
وقد تواترت كلمات السلف الصالح في الحث على لزوم الجماعة والطاعة للأمير منها :
قول الإمام سهل بن عبد الله التسترى ـ رحمه الله - : (( هذه الأمة ثلاث وسبعون فرقة اثنان وسبعون هالكة كلهم يبغض السلطان , والناجية هذه الواحدة التي مع السلطان)). (قوت القلوب لأبى طالب المكي 2 / 242 ).
وقال أيضا كما في تفسير القرطبي ( 5 /260-261) : ((لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء , فان عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم , وإن استفتحوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخرهم)) .
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال : ((إياكم ولعن الولاة , فإن لعنهم الحالقة , وبغضهم العاقرة ، قيل يا أبا الدرداء : فكيف نصنع إذا رأينا منهم مالا نحب ؟ قال: اصبروا , فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت)). ( رواه ابن أبى عاصم في السنة 2 / 488 ).
وكان حذيفة بن اليمان يقول: (( اصبروا حتى يَستريح برٌ أو يُستراح من فاجر)) .
وجاء في اعتقاد سفيان الثوري : قال يا شعيب : ((لا ينفعك ما كتبت حتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر , والجهاد ماضي الى يوم القيامة والصبر تحت لواء السلطان جار أم عدل)) .
وقال أحمد : ((والسمع والطاعة للائمه وأمير المؤمنين البر والفاجر ، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين ... ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق)).
و النصوص في هذا الباب كثيرة معروفة ، و صاحب الحق يكفيه دليل ، وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل .