قبعات حرب بلاستيكية.
وقفنا في صف مثل جنود المارينز؛ بعد أن تم حلق رؤوسنا، فبدونا مثل مجموعة مساجين معاقبين، اتخذ كل واحد منا موقعه، و سددنا مسدساتنا الصغيرة صوب الريح، كان التحدي كبيرا بيننا، ثم رحنا نفرغ خزاناتنا من البول لنعرف أينا يسدد بعيدا.
بعد حفل التدشين هذا و الذي أصبح من تقاليدنا الطائشة، و ذلك تحضيرا لافتتاح مباراة ثأرية، انسحبنا نحو حقول القمح؛ التابعة لأحد الفلاحين المرابطين قرب القرية، نصبنا بضعة حجارة لتبدو مثل قوائم المرمى، و أتينا بكرة بلاستيكية هي بالون في حقيقته، تغري الريح و تتراقص معه، أكثر منها كرة قدم تشبع شغفنا للعب، بيلي أيضا كان يداعب الكرة و كأنه يراقص حبيبته في حفل زفاف، نحن كنا أكثر من ذلك، كنت من يحمل اسم زرڤان1، و كان البقية ممن يتلقب بماجر و بلومي و عصاد، لا يهم ؛ المهم هو تسجيل الأهداف، عندما تلامس الكرة قدمي، أحسها قطة تداعبني، و كثيرا ما كنت أقاسم قطتنا و الكرة فراش النوم، و أنا أتوعد زملائي بهزيمة نكراء.
مرر بلومي الكرة نحوي أو كما أسميه سلحفاة الفريق، و الذي مجرد ضربه للكرة يستنفد حلقة كاملة من المسلسل الكرتوني ماجد، رجله وحدة كاملة من الحديد، لا يمكنه طيها نهائيا، فتصبح مثل مضرب بيسبول، يرتطم غالبا بأرجل الخصوم قبل أن يناور حتى. فنضحك عليه و يتهكم عليه عصاد:
-الشطحة في الراس بصح الرجلين ما فهموش.
عصاد هذا مشاغب جدا، و ما يساعده قصر قامته، يشبه الحرباء.. صدقوني؛ يمر بين الخصوم بسلاسة و خفة، و كثيرا ما كان سببا في إصطدامات عنيفة تنتهي دوما بشجارات كبيرة، فننسحب كل لجهة قبيلته الطفولية و نعلنها حربا بدون قتلى، لتتهاوى الحجارة من كل مكان، و يا سعدو لي عندو معقال2.
تسللت عبر لاعبين من الخصم و بطريقة اندفاعية، فأنا من الذين يلعبون بعنف و كان يساعدني هذا التطرف الرياضي جدا، أما الحارس، يا خيبتو الذي نختاره حارسا، فحراسة المرمى هي أدنى مراتب المتعة، تظل جامدا في مربع صغير و كلما ناديت على صديق أن يتناوب معك؛ لتنال حصتك من الطيش الكامل، يجيب ببرودة أعصاب: أنا لم ألمس الكرة بعد، و أحيانا يقول لك: أنا ذاهب لأسجل هدفا ،و بعدها يمكنني أن أحل مكانك في المرمى. و ما يزيد الطين بلة هو قوة تسديداتي، فيصرخ بعضهم: إلعب بالشوية3، فتغدو حراسة المرمى إذلالا و تعذيبا، و كم كنت استمتع بتعذيب الحراس. و إن كان الخصم هو مالك الكرة فهو صاحب سلطة التحكيم المطلقة، فنرضخ لقراراته و لو كانت تعسفية، و لأننا لا نملك إلا الحجارة، فهنا الأزمة الكبرى، أما الكرات الجانبية فنسيانها أسلم لاستمرار اللعب، و كثيرا ما يختار الخصم حارسا قصيرا لتلغى بعدها كل التسديدات العالية و لو مترا ، لتبدأ على إثرها المشاحنات و الملاسنات، تتخللها بعض الشتائم التي كانت موزعة بالتساوي على أفراد الوطن.
هذا اليوم أحسستني في لياقة عالية، أسابق الريح و ركلاتي كانت أقوى من ركل الحصان ذاته، و لأنني ممن يعتز بقوته فقد حصل أن وضعت مرة أربعة صخور عملاقة أمام الكرة لتتناثر بعيدا جراء قوة ساقي الرهيبة، خاصة اليسرى. و مرة كدت أكسر رجلي لألفت نظر فتاة كانت تعجبني، فأحببت أن أريها قوتي الحقيقة، ركزت كل قوتي في قدمي، و أنا يومها حاف؛ لأبرهن لها أكثر عن رجولتي التي كانت تتطور بطريقة لذيذة، و بكل ما أمتلك من كبرياء ضربت الكرة، لتصطدم رجلي بصخرة مثبتة بالأرض، تسرب الألم لكافة جسدي و كأنها أفعى أفرغت كامل غلها في أصابعي الطرية، و لكننا نحن الأطفال نعرف كيف نستدرج الألم نحو المتعة و الضحك، فكنت أوهمها بأنني فرح بالهدف، بصراخ عال جدا، طبعا بسبب الألم.
يبدو أن هدفي سيستغرق هو الآخر حلقة من مسلسل الكابتن ماجد، فليكن لأنه هدف رائع جدا، و على طريقتنا نقول له تيبو4، فهو أجمل الأهداف و روعته تكمن في استحالة رفض تسجيله، مرت الكرة بين ساقي الحارس و كأنه برق يمزق عتمة الليل.
ابتعدت الكرة بعيدا صوب بيت صاحب الحقل، نسيت أمره فهو ثعلب ماكر، فقد قطع كرات أكثر مما سلخ من خرفان، وثب بسرعة و استحوذ عليها و راح يكيلنا بالشتائم، و كأنه يومها يعدنا لنأخذ مكاننا في المجتمع، فنمارس الحضارة بفرقعة شفوية لا تستطيع حتى خدش مرآة.
مزق الكرة نصفين و رماها في الهواء حيث كانت قلوبنا معلقة، و ما بين يديه حتى الأرض كان شغفنا يراوح الحسرة و الألم، الحقد و الكره، ارتطمت أجزاؤها بالأرض بعد أن سقطت حفنة دعوات انهالت من عيون دامعة.
اقتربنا نحو الكرة، حملنا الجزأين و ضممناهما لمجموعة الأنصاف البلاستيكية القديمة التي بحوزتنا، بدت يومها كقبعات للجنود، فناورت عقولنا البريئة لعبة الحرب.
هامش:
1- زرڤان :لاعب لوفاق سطيف في الثمانينات
2- معڤال: المقلاع
3- بالشوية: بهدوء، و أحيانا تعني بقليل.
4- تيبو: هو أن تمر الكرة بين قدمي الخصم، سواء كانت هدفا أو مراوغة فهي أرقى درجات الكرة عند الأطفال.