مجتمعاتنا العربيَّة في دورةِ حياة الأصنام, ويتحكَّم فيها معاملان؛ خارجيٌّ تحت اسم «الاستبداد» وداخلي تحت اسم «قابليَّة الاستعباد»؛ وفي المرحلة التاريخيَّة التي نمرُّ بها أعتقد أنَّه من الأولويَّات على الشّعوب التي منَّ الله عليها بسقوطِ المُعامل الخارجيّ أنْ تُدرك جيّدًا أبعادَ المُعامل الداخليّ, حتى لا يتمكن من إفراز مُعامل خارجيّ جديد, يُخرجها من طريق الدورة الحضاريَّة ويُعيد إدخالها في دورة الأصنام مرّة أخرى, وكذلك الشعوب التي تنتظر عليها أن تُدرك تلك الأبعاد لتعمل على إضعاف المعامل الداخلي عن دعم استمراريَّة الخارجي ليسقط ثم لتهدم هي الأخرى ما يمكن أنْ يُفرز معامل جديد, لتسير في ركب الحضارة مُرَحَّبًا بها.
الاستبداد:
وعند حديثنا عن الاستبداد فإنَّنا نذكر عنه نقاطًا ثلاث, تجعلنا نقف على بعض حقائقه الهامّة, إذ يقولُ الكواكبي في مقدمة كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» (*):
المُستبد هو الذي يتحكّم في شئون الناس بإرادته لا إرادتهم, ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم, ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المُعتدي, فيضع كعب رجله في أفواه الملايين من الناس, يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.
المُستبد يريد أن تكون رعيّته كالغنم درُّا وطاعة, وكالكلاب تذلّلاً وتملّقًا.
المُستبد إنسانٌ مُستعد بطبعه للشر وبالإلجاء للخير؛ فالمُستبد يتجاوز الحد ما لم يرَ حاجزًا من حديد, فلو رأى الظالم علي جانب المظلوم سيفًا لما أقدم على الظلم.
وبالتالي يُمكننا أنْ نتوصَّلَ إلى:
أنَّ المُستبد يعمل ابتداءً على هدرِ قيمة الإنسان, وقهره بإهمالِ إرادته, وتحقير إنجازه, وتكميم رغباته, وتسفيه طلباته, ويُصبِح الإنسان بالنسبة للمُستبد إمَّا أداةً لابد من تطويعها واستغلالها, أو عقبة لابد من تخطِّيها وتجاوزها, أو تهديدًا لابدّ من محاربته والتشهير به بغيَّة هزيمته, أو عبئًا زائدًا فلا يهتم بإجراءات التخلص منه, التي تتم من حوله أولا بأول, بعلمه وتحت أمره.
ثم يمضي المُستبدُّ في تدعيم استبداده, وضمان استمراره بتأمين البيئة التي يعيش فيها, فيعمل على زرع نبتته الخبيثة في قلوب الملايين, لأنَّه يُدرك أنْ لا بقاء له إلا إذا أفسد المُعامل الداخليّ؛ لتُصبح رعيّته كالميت في يد مُغسّله, يقلبه كيف يشاء, فتخرُج النّفوس خَرِبَة مهدورة, قابلة للاستعباد ومورثة للاستبداد.
إنَّ الوصفة المناسبة للتخلص من داء الاستبداد, هي بتغيير المُعامل الداخليّ للناس, أو للمُستبدّ, فإمَّا أنْ تنصلح نفوس الناس وتمنع المستبد من استبداده, أو تُلجئه إلى الخير بإصلاح المُعامل الداخلي لديه.
ويختتم الكواكبي مقدمته قائلاً: «المُستبدون يحكمهم مستبد, والأحرار يحكمهم أحرار», وفي هذه الجملة يتّضح لنا الإطار العام والبيئة التي يستمدّ منها المُعامل الخارجي قوّته واستمراريته, فعند سقوط مُستبد يبقى المعامل الداخلي في نفوس الكثيرين, فيُمارسوا الاستبداد على من دونهم, فتعود الدورة مرَّةً أخرى ما لم نتحرَّر من أسرِ المُعامل الداخلي, ونُسقِط بأنفسنا قابليَّة الاستعباد وداء الاستبداد من النفوس, لنتحوّل إلى عالمِ الأحرار الذين لا يحكمهم حرٌّ مفرد, بل أحرار مجتمعون.
ولكي نُسقط المعامل الداخلي علينا أنْ نستفيض في الحديث عنه, وعن أهم المكونات الرئيسية التي تعمل على دعم المعامل الخارجي وزيادة قدرته على الاستمرار, أو التي تضمن أن يتبقّى ما يكفي لصناعة مُعامل خارجي جديد, أو إعادة إفراز القديم في شكلٍ أكثر تطوّرًا.
قابليَّة الاستعباد:
«قابليَّة الاستعباد» إنَّها الابن الشرعي للاستبداد, وهي النبتة الخبيثة لما يبذره الاستبداد في النفوس, وهي ما يضمن للاستبداد استمراريته, ويمكن تعريفها بأنَّها: «استعداد الإنسان لأنْ يتقبّل وجود المستبد, وأنْ يتقبّل إهدار قيمته الشخصيَّة, والذل المفروض عليه, بل وتتجاوزه لتصل في بعض الحالات إلى ما يُسمَّى بـ”متلازمة ستوكهولم”؛ وهي التعاطف مع المستبد, ناهيك عن الاشتياق لممارسة نفس الاستبداد الذي يُمارس عليه على كل من هو دونه, دون أن يجد غضاضة في نفسه».
وتتكوَّن «القابليَّة للاستعباد» من عدّة مكونات رئيسيَّة, نهتم بثلاث منهم لما لهم من تأثيرٍ كبير, وهم:
اليأس.
الوحدوية.
التقليد.
وهم نتاج الاستبداد, إذ أنَّ اليأس نتاج هدر قيمة الإنسان, والوحدوية نتيجة فردية المستبد, والتقليد نتيجة تكميم الأفكار ورفض الإبداع, وهم يعملون مجتمعين أو مُنفصلين في دعم استمرار الاستبداد, أو إفراز مُعامل جديد, ما لم يتم مكافحتهم, وفي المقالات التالية تفصيلاً لهم ولإفرازاتهم, ولطرق هدمهم باعتبارهم أصنامًا جديدة تأكل خلايا العقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, عبد الرحمن الكواكبي, تحقيق وتقديم د. محمد عمارة, طبعة دار الشروق الأولى 2007.