فتنة خلق القرآن و موقف الامام أحمد
نبذة عن الإمام أحمد
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني المروزي البغدادي, أبو عبد الله. و قد نسب إلى جده حنبل لأنه كان واليا على مدينة سرخس كما إنه كان من أعيان بنو شيبان. أصله من مرو ولد في بغداد وفيها تعلم. رحل إلى الكوفة و البصرة وإلى الشام والحجاز واليمن، وعني في هذه الأسفار بطلب الحديث، ثم عاد إلى بغداد . ولما قدم الشافعي إلى بغداد تفقه عليه، ثم اجتهد لنفسه. صاحب المذهب الحنبلي والإمام في الحديث والفقه. سمع الحديث من أكابر المحدثين وشيوخ بغداد وروى عنه البخاري ومسلم وطبقتهما، وكان إمام أهل الحديث في عصره، وعداده في رجال الحديث أثبت منه في عداد الفقهاء. من كتبه و تصانيفه: المسند, كتاب طاعة الرسول, كتاب الناسخ والمنسوخ. كتاب العلل، كتاب الجرح والتعديل، وغير ذلك. توفي عن 77 سنة.
فتنة خلق القرآن
ظهرت بعض الفرق الضالة زمن الإمام أحمد، وبدأوا في نشر عقائدهم الفاسدة بين الناس، ومن بين هذه الفرق المعتزلة ،الذين يعتقدون بخلق القرآن، وهو قولهم بأن القرآن مخلوق. القرآن كلام الله عز وجل ولا يجوز أن نعتقد بأنه مخلوق، ولكن المعتزلة استطاعوا أن يصلوا إلى الخليفة العباسي المأمون, الذي تأثر بفكرهم و إقتنع بأن القرآن مخلوق. فكان من أمر العلماء إنهم إنقسموا إلى ثلاثة فرق, الأولى رفضت رفضا صريحا, و من هذه الفرقة الإمام أحمد بن حنبل. الفرقة الثانية استجابت و أيدت رأي المأمون, أما الفرقة الثالثة فقد قالت بأن القرآن هو كلام الله, و لكنه مخلوق كما يرى الخليفة.
موقف الإمام أحمد
كثر القيل و القال في تلك الفترة, فقد انتشرت الفتنة. و قد أمر المأمون حينها رئيس شرطته بسؤال العلماء عن أمر خلق القرآن, حتى يرى (في نظره) مدى صلاحهم و إتباعهم لأمره. أرسل المأمون رئيس شرطته اسحاق ابن ابراهيم ليسأل الإمام أحمد عن رأيه في أمر القرآن, فقال له:
-"ما تقول في القرآن؟"
فأجاب الإمام أحمد:
-"هو كلام الله"
فسأله:
-"امخلوق هو؟"
فقال:
-"هو كلام الله"
فسأله:
-"و ما رأيك في كلام الخليفة في ان الله ليس كمثله شئ في وجه من الوجوه, و معنى من المعاني, ما قولك فيه؟"
قال:
-"أقول, ليس كمثله شئ, و هو السميع البصير"
و كما هو واضح من كلام الإمام أحمد, فإن الله خالق كل شئ, و لا يشبهه شئ, و لكن يجب تثبيت ما وصف الله به نفسه. "فله الأسماء الحسنى" (الاسراء: 110)
أصر المأمون على رأي خلق القرآن, و ان القرآن ليس كلام الله. فحاول إستخدام اللين مع العلماء, فأجزل في عطائه لهم و أغدق عليهم بما يحتاجونه و ذلك حتى يثنيهم عن رأيهم. ثم تغيرت لهجة خطابه معهم إلى تهديد, و طعنهم في دينهم و اتهمهم بالشرك. حتى الفئة الثالثة والتي أخذت رأياً متوسطا وصلها التهديد, حتى أن الخليفة المأمون هدد بإستخدام السيف إن لم يرجعوا عن أمر معارضتهم لأمر خلق القرآن. أمر المأمون أن يتم سؤال كل العلماء في كل الولايات عن أمر خلق القرآن, فمن لم يوافق الخليفة الأمر, فأن سجون العراق ستستقبله. و بدأت حملة الاستجواب و حُمل العلماء الى سجون سامراء.
في بداية الأمر, كان عدد العلماء الرافضون للإقرار بخلق القرآن في بغداد حوالى 26 عالم, إلا أن هذا العدد تناقص حتى وصل إلى عالمين إثنين فقط, أحمد بن حنبل و محمد بن نوح, و الذي تتلمذ على يد الإمام أحمد. ضاق المأمون لصلابة موقف الإمام أحمد و تلميذه الشاب, و بات يحدثهم عن طريق رسله و رئيس شرطته, و لكن موقف العالم الجليل كان واضحا, فلم يُبَطن كلامه, و لم يتعذر بأعذار واهية لإرضاء المأمون.
الرحلة إلى الشام
اشتد على المأمون ما لقيه من الإمام أحمد من إصرار, و ثبات موقف, فبالرغم من تساهل بقية العلماء, فإن الناس التفوا حول رأي أحمد بن حنبل, فأمر المأمون بجلبه هو و تلميذه محمد بن نوح إلى الشام, حيث كان الخليفة حينها. انطلق الوفد الى الشام, فكانوا يستريحون أثناء المسير, و في آخر فترة راحة, حيث لقاء المأمون بات قريبا, علم الإمام أحمد من أحد رجال المأمون أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك, و انه -أي المأمون- قد أقسم بقرابته للرسول (ص) بأنه سيقتل الإمام أحمد بذلك السيف ان لم يقل بخلق القرآن. قام الامام الجليل ليصلي, ثم أخذ يدعو. فما أن انتهى الامام من صلاته, فإذ بالأصوات تعلو معلنة موت المأمون.
تقرر ارجاع أحمد بن حنبل إلى بغداد, هذه المرة الى السجن حتى ينظر الخليفة الجديد في أمره. و للعلم, فإن المأمون كان ذو علم و فقه, إلا انه قد طغى و استكبر في أمر خلق القرآن و تأذى الناس و العلماء من عمله. و في الطريق إلى العاصمة, مرض محمد ابن نوح و أحس باقتراب أجله. فأوصى الامام أحمد على ثبات الموقف و تقية الله, ثم اشتد عليه المرض و أسلم الروح, رحمه الله. و مضت القافلة في سيرها حتى وصلت الى بغداد, و حبس الامام أحمد في إسطبل, أو كما رجح بعض المؤرخون, في بيت مهجور, و كان مقيدا بالأغلال, ثم اقتيد الى سجن بغداد العام.
المعتصم و الامام أحمد
أخذ المعتصم مكان أخيه المأمون, و كان محاط بالمعتزلة, فكانوا وزرائه و حاشيته. و المشهور عن المعتصم اهتمامه بأمور الجيش و لم يكن صاحب علم و فقه. و حبس الامام أحمد في سجن بغداد ما يقارب ثلاث سنوات, حتى تم نقله الى قصر اسحاق بن ابراهيم رئيس الشرطة ليناظره المعتزلة هناك. و لم يفلح علماء المعتزلة في التفوق على الامام أحمد طوال فترة الحوار. و من هذه المناظرات أن أحد المناظرين قد سأل:
-"كيف تقول بأن القرآن كلام الله و الله ليس كمثله شئ؟ فكيف يكون كلام الله و البشر يتكلمون كذلك؟"
فرد الامام أحمد:
-"هل البشر يعلمون؟"
فقال:
-"نعم"
قال الامام:
-"كيف اذن؟ فهل الله لا يعلم؟ ام ان علم الله مخلوق؟"
قال:
-"نعم, علم الله مخلوق"
قال له الامام أحمد:
-"يا كافر, أنت كفرت بقولك هذا, فكيف يكون علم الله مخلوقا؟ افلم يكن لله علم؟"
و سمع هذا القول رسول المعتصم و لام المناظر في قولته تلك. فقال الامام أحمد:
-"من زعم ان القرآن مخلوق فهو كافر, و من زعم ان علم الله مخلوق فهو كافر, و من زعم ان أسماء الله مخلوقة فهو كافر".
و استمرت الحوارت أربع ليال, حتى جاء أمر المعتصم بجلب الامام أحمد اليه, و قد حلف ان لا يضربه بالسيف, بل انه سيعذبه أشد العذاب. حضر الامام أحمد مجلس المعتصم, و ناظر علماء المعتزلة أمام الناس الذين تواجدوا في ذلك المجلس. و استعصى على المعتصم و جيشه من علماء المعتزلة قهر العالم الجليل. بدأ الخليفة يفكر في كلام ابن حنبل, فلما احس المعتزلة بأن المعتصم بدأ يلين أمام حجج الامام أحمد, لدرجة وصلت الى الإعجاب و طلبه للتتلمذ على يده, اوعزوا للخليفة بأنه ان اعترف بقول أحمد, فإن الناس ستقول عن الامام بأنه قد غلب خليفتين, هو و من قبله المأمون, فغضب المأمون و آثر ان لا يمس عزته أمر كهذا, فتراجع عن لينه.
تعذيب الامام أحمد
خاف المعتصم أن يزيد التفاف الناس بالامام أحمد, فأمر بجَلده لعله يغير أقواله. تقدم الجلادون لضرب الامام أحمد بالسياط, و أمر الخليفة بتغيير السياط حتى أعجبته شدتها, ثم أمر عدد من الجلادين بجلده. و في هذه الأثناء أحاط عامة الناس بقصر الخليفة ينتظرون الأخبار. لم يزحزح الضرب موقف الامام أحمد, و أصر على قوله, فغضب الخليفة و سأل أشد الجلادين:
-"في كم تقتله؟" (و عنى: كم ضربة تحتاجها لقتله؟)
قال:
-"خمسة أو عشرة, أو خمسة عشر, أو عشرين"
فأمره الخليفة بقتله ضربا بالسياط و الاسراع في هذا الأمر. بدأ الجلاد بالضرب و مازال الامام صامدا و دماؤه تسيل. و كان الشيخ هزيل الجسد, فطلب أحد الأعيان من الخليفة أن يرأف بالامام أحمد, و رجاه أن يكلم الامام عله يرجع عن قولته, فأذن له الخليفة. تقدم ذاك الشخص, و يقال بانه هو نفسه اسحاق بن ابراهيم رئيس شرطة بغداد, و أخذ يكلم الامام أحمد المنهك هامساً:
-"يا أبا عبد الله, البشرى, ان أمير المؤمنين قد تاب عن مقالته, و هو يقول لا اله إلا الله"
فرد عليه الامام أحمد:
-"كلمة الإخلاص... و أنا أقول لا اله الا الله"
فقام اسحاق بن ابراهيم صائحا:
-"يا أمير المؤمنين انه قد قال كما تقول!"
فارتفعت الاصوات داخل القصر, حتى ظن الناس في الخارج وقوع مكروه للامام أحمد, و سادت الفوضى الجموع المحتشدة, و هددت الجموع باقتحام القصر. فخاف الخليفة وقوع ثورة, فأمر بإلباس الامام أحمد, و اخراجه للناس حتى يروه سالما. فأطل الامام من الشرفة, و سأله الناس عما قاله في حضرة الخليفة, فأجاب:
-"و ما عسى ان أقول... اكتبوا يا أصحاب الأخبار, و اشهدوا يا معشر العامة, ان القرآن كلام الله, غير مخلوق, منه بدأ و اليه يعود"
فكتب الناس و ثبتوا على العقيدة, فاستشاط الخليفة غضبا و أحس بأنه قد خدع. فأمر بضرب الامام أحمد مرة اخرى, فداسته أقدام الجلادين و قلبوه على الأرض حتى فقد وعيه و مازال الضرب ينهال عليه. و عندما صحى و عاد الى وعيه, احضروا اليه ماء مخلوط بتمر, فلم يشرب, لأنه كان صائما رغم الضرب و الجلد. و سُجن الامام رحمه الله في دار اسحاق ابن ابراهيم, و تم علاج جروحه الغزيرة. و كانت جروحه بالغة, حتى ان الطبيب اضطر لقطع اللحم الفاسد من جسده, الا ان آثار الضرب بقيت مع الامام أحمد طوال حياته.
نهاية الفتنة
سَُلِّم الشيخ الجليل الى اهله بعد أن حُبس ما يقارب الثلاثون شهرا. و لكنه مُنع من الخروج من بيته, و كذلك مُنع من استقبال الناس. و مضت الأيام حتى توفى المعتصم, فاستخلف من بعده الواثق الذي لم يغير من الأمر شئ, و المحنة استمرت قائمة. أمر الواثق الامام أحمد أن يهجر مدينة هو –أي الخليفة الواثق- فيها, فاختفى العالِم ما يقارب الخمس سنوات الى أن توفى الخليفة الواثق, و قد استخلف من بعده المتوكل. و كان المتوكل رجلا صالحا, فأقر بعدم جواز القول بخلق القرآن, و أوقف الخوض في هذه المسألة. توقفت الفتنة,.و التي استمرت فترة حكم ثلاثة خلفاء, و التي من اجلها عُذب العلماء و ماتوا في السجون.