كثيرة هي السنن التي نغفل عنها، وبعضها قد ورد فيها فضائل عظيمة، ورتب عليها من الأجور والثواب ما تصبو إليه نفوس السبّاقين إلى الخيرات، والمبادرين إلى القربات.
ولذا أحببت في هذه السطور اليسيرة أن أُلقي الضوء على سنة قلّ المواظب عليها، وغفل البعض عنها، وهي ( أداء النافلة في البيت )، وذكرت بعض الفضائل المترتبة على ذلك، والحكمة من هذه السنة، ولترى عظيم فضلها:
تأمل هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (وهو في مسجده) يقول: "صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" أخرجه البخاري (1 / 147)، ومسلم (1/256).
وكان _عليه الصلاة والسلام_ يصلي النافلة في بيته كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه مسلم (1 / 504)..
وعند مسلم: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا". أخرجه مسلم (1 / 539).
وعن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم – قال: "تطوُّعُ الرجل في بيتِهِ يزيدُ على تطوُّعِه عندَ الناس، كفضْلِ صلاة الرجل في جماعةٍ على صلاتهِ وحدَه" . أخرجه عبد الرزاق (3/70/4835)، وابن أبي شيبة (2/256)، وقال الألباني: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، وظاهر إسناده الوقف، ولكنه في حكم المرفوع. سلسلة الأحاديث الصحيحة (7 / 422).
وقال عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: "صلاة المرء في بيته نور فنوروا بيوتكم" . أخرجه ابن أبي شيبة (2 / 60-61)، وينظر: شرح البخاري لابن بطال (3 / 176)، وأثر عمر فيه انقطاع فعاصم بن عمرو لم يسمع منه. وليس في أثر زيد " فنوروا بيوتكم".
ولهذا نص الإمام مالك والشافعية على تفضيل فعل النافلة في البيت على فعلها في المسجد . ينظر: المنتقى شرح الموطأ (1 / 230)، الأشباه والنظائر للسيوطي (1 / 147)، التيسير بشرح الجامع الصغير (1/186)، إلا أن الإمام مالك قال: التنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت.
بل قال ابن علاّن بأن صلاة النافلة ببيت الإنسان أفضل من فعلها في جوف الكعبة، وإن قيل باختصاص مضاعفة الأعمال بها، وذلك لأن في الاتباع من الفضل ما يربو على ذلك . دليل الفالحين (6 / 601).
وفي إشارة ابن علاّن هذه إجابة عما قد يستشكله البعض من وجود المضاعفة في الحرم وفقدانها في البيت، فيقال: متابعة السنة واتباعها أفضل من المضاعفة؛ ولهذا من يصوم يوماً ويفطر يوماً أفضل ممن يصوم الدهر، مع أن العمل من الثاني أكثر، وهذا من بركات ملازمة السنة.
ورجح تفضيل أدائها في البيت على فعلها في المسجد الحرام الرحيباني الحنبلي، ونسبه العلائي للمحققين من أهل العلم.؛ لأن الأحاديث في التفضيل مطلقة ولم تقيد.
وأورد العلائي سؤالاً ثم أجاب عليه: هل فعلها في المساجد الثلاثة أفضل أو في البيوت؟.
الذي تقتضيه الأحاديث عند المحققين أنّ فعلها في البيوت أفضل، إلا ما شرع له الجماعة كالعيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وكذا ركعتي الطواف اتباعاً لفعله صلى الله عليه وسلم لهما خلف المقام، وكذلك تحية المسجد لاختصاصها بالمسجد.
وما عدا ذلك ففعله في البيت أفضل لدخوله تحت قوله صلى الله عليه وسلم : "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، ورواه الدارمي بإسناد صحيح، ولفظه : "فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الجماعة".
ولما رواه أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" . وهذا إسناد على شرط البخاري سوى إبراهيم بن أبي النضر، فقد وثّقه محمد بن سعد، وابن حبان، ولم يضعفه أحد .
والحكمة في تفضيل ذلك كما قال النووي: كونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيْت بذلك، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وينفر الشيطان منه . شرح النووي على مسلم (6 / 68)، وينظر: المغني لابن قدامة (2 / 104).
فائـدة: فيه أن الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها؛ إذ النافلة في البيت فضيلة تتعلق بها؛ فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص فلذلك كانت صلاته في بيته أفضل منها في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم . التيسير بشرح الجامع الصغير (1 / 186).
وهذا في النافلة البعدية، أما القبلية فقد أمرنا بالتبكير للصلاة. فكم نغفــل عن مثل هذه السنة، وهي في مثل هذا الفضل والأجر، وبهذا اليسر، فإنما هي انتقال في الفعل من مكان لآخر، ولو فتشنا وتحرينا لوجدنا الكثير مما حرمنا من العلم والعمل به.