بيع العربون: دراسة وموازنة
صالح الدين رمضه
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أمّا بعد فإنّ المتأمّل لأسرار الشريعة الإسلاميّة ومقاصدها تظهر له حكمة الله في تشريعاته فيلمس العدل والقسط سواء في التي تتعلّق فيما بينه وبين ربّه أو بينه وبين غيره من بني البشر أو بينه وبين نفسه.
وهذا ظاهر في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد:25).
فالمشتغل في حقل الشريعة الإسلاميّة والمنكبّ على الدراسة والتحليل والبيان والتعليل في فقه المعاملات يتأكد له أصلان اثنان:
الأوّل: بناء هذا الجانب على الإباحة والصحّة والجواز، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف:32)، وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ ( المائدة: 4)، وقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ...﴾ الآية (الأنعام: 145)، وقوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ الآية (الجاثية: 13)، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيع﴾ (البقرة: 29).
الأصل الثاني: بناء هذه الأحكام على رعاية المصالح ودفع المفاسد، ولهذا حرّم الشارع الغشّ والخداع والربا والغرر والخيانة والجهالة في العقود، ورغّب في إيفاء الكيل والميزان والصدق في البيع.
كما شرع جملة من الخيارات التي تسمح للمتعاقدين بتحقيق مصلحتهما من العقد تكون مقصودة لهم، غير مخالفة لأحكام الشريعة ومقاصده، وذلك لأنّ المتعاقدَيْن قد يحتاجان إلى إبرام شروط تحقّق لهما مصلحة نافعة يريدانِها فتكون قبل الشرط مباحة وبعده واجبة فتكون مقصودة يجب الوفاء بِه، إلاّ أنّ الأصل الأوّل لَمّا كثرت تخصيصاته وجب البحث عن المخصّص والمستثنى قبل الاستدلال به، لاسيما عندما يكثر فيه ذلك كما هي مبسوطة في مباحث العامّ والمطلق في فنّ أصول الفقه.
وأكثر العلماء تصحيحا للشروط الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى إلاّ أنّ أحمد أكثرهما تصحيحا لها. ومن أجل ذلك تفرّد بمسائل كثيرة من هذا الباب، هذا ما قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «وعامّة ما يصحّحه أحمد من العقود والشروط فيها يثبته دليل خاصّ من أثر أو قياس لكنّه لا يجعل حجّة الأوّلين مانعا من الصحّة ولا يعارض ذلك بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به النصّ، وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة مالا تجده عند غيره من الأئمّة فقال بذلك وبما في معناه قياسا عليه وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نصّ فقد يضعّفه أو يضعّف دلالته، وكذلك قد يضعّف ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنّة » اه(1).
ومن بين هذه المسائل الكثيرة التي تدخل تحت العمومات مسألةُ «بيع العربون»، وهذه المسألة وإن اختلفت فيها آراء المتقدّمين وتباينت أقوالهم حولها إلاّ أنّه في وقتنا الحاضر انتشر هذا النوع من البيع وفشا ولهذا قال مصطفى الزرقا: «ومن المعلوم أنّ طريقة العربون هي وثيقة الارتباط العامّة في التعامل التجاريّ في العصور الحديثة وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها وهي أساس لطريقة التعهّد بتعويض ضرر الغير عن التعطّل والانتظار» اه(2).
ولا شكّ أنّه ليس كلّ ما اعتمدته قوانين التجارة وعرفها جاز فعله والتعامل به، بل لابدّ من البحث فيه ومعرفة حكمه شرعا لِنَقُولَ هو داخل تحت عموم الأدلّة المبيحة للعقود والشروط أو هو مستثنى فيخرج بنصّ من كتاب أو سنّة أو قياس صحيح فيمنع ويحرم التعامل به؛ هذا ما حاولتُ دراسته في هذه الوريقات لأبيّن ما ظهر لي منه تحت خطّة مرسومة في ثنايا هذا البحث مبتدئا بتعريف بيع العربون مع بيان أقوال الفقهاء فيها مع نسبتها إلى قائليها ثمّ بعد ذلك عرض أدلّتهم ومناقشتها وفي الأخير نصل إلى خاتمة البحث وفيها نذكر ما خلصنا إليه من خلال ما أفرزته الأدلّة ومناقشتها.
تعريف العربون لغة:
العُرْبُون والعَرَبُون والعُرْبَان هو ما عقد به البيع من الثّمن(3).
وعن صورته، قال ابن الأثير:«هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئا على أنّه إن أمضى البيع حسب من الثمن، وإن لم يمض البيع كان لصاحب السلعة ولم يرتجعه المشتري.
وقيل سمّي بذلك لأنّ فيه إعرابا لعقد البيع أي إصلاحا و إزالة فساد، لئلاّ يملكه غيره باشترائه» اه(4).
والإعراب إعطاء العربون كالتعريب الذي هو البيان لأنّه بيان للبيع.
قال الفرّاء: «أعربت وعرّبت تعريبا وعربنت إذا أعطيت العربان، والعربان كعثمان»(5).
تعريف العربون اصطلاح:
قال الإمام مالك رحمه الله: «أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى دابّة ثمّ يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه: أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقلّ على أنّي إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابّة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابّة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء»(6).
والمعنى كما هو موضّح في الشرح أي لا رجوع لي به عليك(7).
وهذا المعنى هو السائد عند الفقهاء، وذكر التوقيت ليس شرطا في ضبط التعريف وصحّته، بل صورته ما ذكرنا عن الإمام مالك رحمه الله، كما أنّ المدفوع من الثمن للبائع يبقى عنده؛ والإجارة في حكم البيع ولهذا قال صاحب التاج: «فكما أنّه يكون في البيع يكون في الإجارة وكأنّه لَمّا كان الغالب إطلاقه في البيع اقتصروا عليه» اه(8).
والظاهر أن ّ تعريف الإمام مالك هو العمدة وغيره من التعاريف مأخوذة منه(9).
أقوال العلماء في حكم بيع العربون:
اختلف العلماء في حكم بيع العربون إلى قولين:
الأوّل: ذهب إليه جمهور علماء الأمصار إلى أنّه غير جائز بل هو باطل ولا يصحّ؛ وهو قول مالك(10)، والشافعيّ(11)، والليث ابن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحنفية، وحكى ابن المنذر بطلانه عن ابن عباس والحسن البصريّ(12).
القول الثّاني: أجازه جماعة منهم الإمام أحمد ـ في رواية الميموني عنه ـ وهو قول جمهور الحنابلة(13)، ومن الصحابة(14): عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، ونافع بن الحارث، وصفوان بن أميّة رضي الله عنهم.
ومن التابعين(15): زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطّاب، ومجاهد، وابن سيرين، ونافع مولى ابن عمر، وسعيد بن المسيّب.
عرض أدلّة الفريقين ومناقشتها:
أدلّة الفريق الأوّل القائلين بعدم الجواز:
استدلّوا أوّلا: من الكتاب:
بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ...﴾ الآية (النساء: 29).
قال القرطبيّ: مفسّرا كلمة ﴿بالباطل﴾: «أي بغير حقّ ووجوه ذلك تكثر ... ومِن أكل المال بالباطل بيع العربون ... لأنّه من باب القمار والغرر والمخاطرة، وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة وذلك باطل بالإجماع» اه(16).
والجواب على هذا الاستدلال يكون من وجهين:
الأوّل: أنّه لا يسلّم أنّ بيع العربون من الباطل حتّى تبيّنه بالدليل، وحينئذ يدخل هذا في هذا العموم، فهي دليل عل أنّ الباطل في المعاملات لا يجوز وليس فيها تعيين الباطل(17).
الوجه الثاني: أنّ الاستدلال على أنّ بيع العربون من أكل المال بالباطل يدفعه الاستثناء المذكور في تَمام الآية نفسها وهي قوله: ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ﴾.
قال ابن القيّم: « فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان، فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك»(18).
ثانيا: من السنّة من وجهين:
الأوّل: الأحاديث المانعة من بيع الغرر حيث أفردها العلماء في كتبهم الفقهيّة تحت باب مستقلّ وجعلوه أصلا بنفسه يدخل فيه جملة من البيوعات التي تفيد الغرر وداخلة تحت أكل أموال الناس بالباطل المنهيّ عنه كما هو مبيّن في كتبهم(19).
والجواب: أنّ هذا غير مسلّم؛ لأنّ بيوعات الغرر في الشرع معروفة وليس كلّ بيع ترددّ فيه بين الإمضاء والفسخ هو من باب الغرر، ولهذا قال ابن القيّم (الزاد (5/822)): «من حرّم بيع شيء وادّعى أنّه غرر طولب بدخوله في مسمّى الغرر لغة وشرعا» اهـ. إذ الغرر معناه: ما تردّد بين شيئين أغلبهما أخوفهما وهذا المعنى غير متحقّق في بيع العربون؛ لأنّ عدم التوقيت أو الخيار المجهول لا يضرّ إذ هو في صورة المعلوم عرفا.
الوجه الثاني: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العربان في البيع»(20).
وأجيب عن هذا الحديث بعدّة أجوبة(21):
أ ـ أن فيه راويا لم يسمّ.
ب ـ وإن سمّي في رواية لابن ماجه فهي ضعيفة؛ لأجل عبد الله بن عامر الأسلميّ، وقيل لأجل ابن لهيعة وهما ضعيفان.
ج ـ ورواه الدارقطنيّ والخطيب في الرواة عن مالك من طريق الهيثم بن اليمان عنه عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب، وعمرو بن الحارث ثقة والهيثم ضعّفه الأزديّ، وقال أبو حاتم: صدوق، وذكر الدارقطنيّ أنّه تفرّد بقوله عن عمرو بن الحارث.
د ـ قال ابن عدي: « يقال إن ّمالكا سمع هذا الحديث من ابن لهيعة ».
هـ ـ ورواه البيهقيّ (5/342) عن عاصم بن عبد العزيز عن الحارث بن عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب وقال البيهقيّ: « عاصم بن عبد العزيز الأشجعيّ فيه نظر... والأصل في هذا الحديث مرسل مالك » اهـ.
الدليل الثالث من المعقول: وذلك من وجهين:
الأوّل: أنّ بيع العربون إنّما نهى الشرع عنه لما احتوى من شرط فاسد(22).
الوجه الثاني: بل ذهب بعضهم إلى أنّه يحتوي على شرطين فاسدين(23).
· فساد شرط كون ما دفعه إليه يكون بدون عوض إن اختار ترك السلعة كما أفاده التعريف للعربون.
· والثاني: فساد شرط الرّد على البائع إذا لم يقع منه الرضا بالبيع.
والجواب عن الاستدلال الأوّل من المعقول، هو أنّ فساد الشرط إمّا أن يكون من قبل النصّ وهذا ليس لكم به متعلق لضعفه.
وإمّا أن يكون لعدم وجود النصّ عليه وهذا لا يلزمن، إذ الأصل في المعاملات والأعيان الحلّ والصحّة وعدم الحرمة.
وإمّا أن يكون من قبل أنّه خالف نصّا أو قياسا صحيحا فعيّنوه لنا.
وأما الجواب عن الوجه الثاني من القسم الأوّل منه أنّه حصل له ذلك بالشرط فأشبه الهبة.
وأمّا الثاني فنظيره في الشرع موجود حلّه وهو بيع الخيار وهو مشروع سواء كان خيار المجلس أو الشرط إذ يشترك كلّ من بيع العربون وبيع خيار الشرط والمجلس في التخيير بين إمضاء البيع وفسخه(24).
أدلّة الفريق الثاني القائلين بجواز بيع العربون:
استدلّ أصحاب هذا القول بأنّ الأصل في المعاملات الحلّ والصحّة.
أوّلا: من الكتاب قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ الآية (الأعراف:32)، وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ الآية (المائدة:4)، وقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ...﴾ الآية ( الأنعام:145).
فهذه جملة من الآيات يخبر فيها الله عزّ وجلّ أنّه جعل الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع، فهو دليل على أنّ الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتّى يقوم الدليل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ممّا ينتفع بِها من غير ضرر(25).
ثانيا: من السنّة قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «المسلمون عند شروطهم والصلح جائز بين المسلمين»(26).
وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة بن عامر: «أحق الشروط ما استحللتم به الفروج»(27).
ثالثا الاستصحاب:
حيث استصحبوا عدم التحريم في بيع العربون لدخوله تحت باب الشروط التي الأصل فيها الحلّ حتّى يدلّ دليل على التحريم ولا تحريم(28).
أمّا استدلالهم بالسنّة على موضع الخلاف؛ فهو ما رواه زيد بن أسلم: «أنَّّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أحلّ العربان في البيع»(29) ووجهه ظاهر في إباحة العربان في البيع.
والجواب عنه قول ابن حجر: «وهذا الحديث ضعيف مع إرساله»(30).
وأمّا الاستصحاب فردّه الظاهريّة(31) بقولهم: هو أنّ الأصل في العقود والشروط المنع إلاّ ما أوجبه الشارع وأباحه بنصّ من قرآن أو سنّة ثابتة(32).
رابعا: من الأثر وهو ما رواه عبد الرحمن بن فروخ: «أنّ نافع بن الحارث اشترى دارا للسجن من صفوان بن أميّة بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر فالبيع له، وإن عمر لم يرض فأربعمائة لصفوان»(33).
قال الأثرم(34): «قلت لأحمد، تذهب إليه؟ قال: أيّ شيء أقول؛ هذا عمر رضي الله عنه، وضعّف الحديث المرويّ في بيع العربان»(35).
والحديث وإن ذكره البخاريّ معلّقا فإنّه وجد من وصله، كالبيهقيّ(36)، وابن أبي شيبة(37)، وعبد الرزّاق(38)، و لهذا صحّحه ابن حزم في المحلّى بقوله: « بأصحّ طريق وأثبته في أشهر قصّة وهي ابتياع دار للسجن بمكّة» اهـ (المحلّى لابن حزم (8/374))
كما استدلّوا بالمعقول حيث قالوا: إنّ ذلك الثمن في صفقة العربان إنّما استحقّه البائع في مقابل الزمن وتأخير بيعه وتفويت الفرصة على البائع(39).
والجواب أنّ هذا لا يصحّ من وجهين:
الأوّل: أنّه لو كان عوض عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء(40).
الوجه الثاني: أنّ الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جاز لوجب أن يكون معلوم المقدار كالإجارة(41).
خاتمة البحث:
بعد ذكر الأقوال ونسبتها إلى قائله، وعرض أدلّة الفريقين ومناقشتها تبيّن لنا الدليل الذي يصلح به الاستدلال.
وعليه فإنّ القول الذي ترجّح لدينا هو قول جمهور الحنابلة، القائل بجواز ومشروعيّة بيع العربون، وهذا لقوّة وسلامة أدلّتهم وضعف أدلّة القول المخالف، كما هو مبيّن في ثنايا البحث بحيث لا يوجد نصّ صريح يدلّ على جواز أو تحريم بيع العربون، إذ الحديثان ضعيفان فلم يبق لنا إلاّ الاستدلال بالعمومات.
فالفريق الأوّل استدلّ على ما ذهب إليه بعموم قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾.
أمّا الفريق الثّاني فاستدلّ بعموم الآيات المبيحة للمنافع؛ ولا شك أنّ بيع العربون من بين المنافع إذ لو كان من قبيل أكل الأموال بالباطل لنصّ عليه من الشارع بخصوصه فعدم النصّ عليه دلّ على أنّه من قسم المباح ولهذا قال الدكتور وهبة الزحيليّ: «وفي تقديري أنّه يصحّ ويحلّ بيع العربون وأخذه، عملا بالعرف لانتشاره كثيرا بين الناس في الوقت الحاضر»، وقال أيض: «وأصبحت طريقة البيع بالعربون في عهدنا الحاضر أساس الارتباط والتعامل التجاريّ الذي يتضمّن التعهّد بتعويض ضرر الغير عن التعطيل والانتظار ويسمّى ضمان التعويض عن التعطّل والانتظار في الفقه القانونيّ».
ولا شكّ أنّه ليس كلّ ما اعتمدته قوانين التجارة وعرفها جاز فعله والتعامل به، بل لابدّ من البحث فيه ومعرفة حكمه شرعا لِنَقُولَ هو داخل تحت عموم الأدلّة المبيحة للعقود والشروط أو هو مستثنى فيخرج بنصّ من كتاب أو سنّة أو قياس صحيح فيمنع ويحرم التعامل به كما قدَّمت.
هذا ما أمكننا جمعه في هذا البحث المتواضع وسبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ( 29/145).
(2) انظر المدخل الفقهيّ العامّ للشيخ مصطفى الزرقا (1/495)، والفقه الإسلاميّ وأدلّته للدكتور وهبة الزحيليّ (4/450).
(3) انظر لسان العرب لابن منظور(5/117)، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (4/248).
(4) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/202)، والفائق في غريب الحديث للزمخشريّ (2/131).
(5) انظر تاج العروس للزبيديّ (1/372- 376)، مادة عرب.
(6) انظر الموطأ للإمام مالك كتاب البيوع باب العربان ( 4/ 57) من كتاب المنتقى للباجي.
(7) انظر شرح الزرقاني على الموطأ (3/250).
(8) انظر تاج العروس للزبيدي (1/372).
(9) انظر المجموع شرح المهذّب للنووي (9/407)، و مغني المحتاج لمحمد الشربيني (2/39)، و المغني ابن قدامة (4/256)، والروضة النديّة لصدّيق حسن خان (2/ 98).
(10) انظر المنتقى للباج