للسّلف الصّالح رضوان الله عليهم مزية خاصة في استقبال شهر الصّيام والذّكر والقرآن، حيث كانوا يستقبلونه بالفرح والسُّرور والتّواصي بالعمل الصّالح فيه. وكان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُبَشِّر أصحابه ويقول: “أتاكم رمضان شهر مبارك، شهر مبارك، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعًا”.
يستبشر المؤمن بهذا الشهر الكريم ويجتهد في أداء الأعمال الصّالحة فيه ويفرح به كما كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُبشِّر أصحابه به عليه الصّلاة والسّلام، وقد كان الصّحابة رضي الله عنهم يُدركون أنّ من أهم أهداف المسلم في رمضان، تكفير الذُّنوب، ورد عن سيّدنا عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: “مرحبًا بمطهِّرنا من الذُّنوب”. ذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنَّهم كانوا يقولون: “إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنّفقة، فإنَّ النّفقة فيه مضاعفة كالنّفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره”. وعن الحسن بن أبي الحسن البصري أنّه مرَّ بقوم وهم يضحكون، فقال: “إنَّ الله عزّ وجلّ جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب كلَّ العجب للضَّاحك اللاعب في اليوم الّذي فاز فيه السَّابقون، وخاب فيه المبطلون”.
ولقد أولى أصحاب سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله عنهم القرآن الكريم اهتمامًا خاصًا في رمضان، فكان سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه يختم القرآن مرّة كلّ يوم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما كثير البكاء عند قراءة القرآن، فقد ورد أنّه قرأ سورة المطففين حتّى بلغ «يومَ يقومُ النّاس لربِّ العالمين6” فبكى حتّى خَرَّ من البكاء. وكان بعض الصّحابة يختم القرآن كلّ سبع ليال في التّراويح، فقد ورد عن عمران ابن حُدير قال: “كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان يختم في كلّ سبع”. بل كان سادتنا أصحاب النّبيّ الأطهار رضوان الله عليهم يُعِدّون مَن يقرأ سورة البقرة في اثنتي عشرة ركعة من المخفّفين، فعن عبد الرّحمن بن هُرْمز قال: “كان القُرّاء يقومون بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها القُرّاء في اثنتي عشرة ركعة رأى النّاس أنّه قد خفّف عنهم”.
كما كان الصّحابة رضي الله عنهم يتركون مصالحهم وأشغالهم ويتنافسون في العبادة والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ. فقد ورد عن نافع مولى ابن عمر أنّه قال: “كان ابن عمر رضي الله عنهما يقوم في بيته في شهر رمضان، فإذا انصرف النّاس من المسجد أخذ إداوةً من ماءٍ ثمّ يخرج إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ لا يخرج منه حتّى يُصلّي فيه الصّبح”.
وكان القوم أيضًا يحرصون على طول القيام مع كبر سنّهم، ولم يكن هذا مانعهم من أن يطيلوا، فقد ورد عن سعيد بن عامر عن أسماء بن عبيد قال “دخلنا على أبي رجاء العطاردي، قال سعيد: زعموا أنّه كان بلغ ثلاثين ومائة، فقال: يأتوني فيحملوني كأنّي قُفَّةٌ حتّى يضعوني في مقام الإمام فأقرأ بهم الثلاثين آية، وأحسبه قد قال: أربعين آية في كلّ ركعة يعني في رمضان”، بل ورد أنّ أبا رجاء كان يختم بالنّاس القرآن في قيام رمضان كلّ عشرة أيّام.
ولم يكن النساء أقَلّ نصيبًا في صلاة التّراويح من الرّجال، فيروي أبو أمية الثقفي عن عرفجة أنّ عليًا رضي الله عنه كان يأمر النّاس بالقيام في رمضان، فيجعل للرّجال إمامًا، وللنّساء إمامًا، قال: فأمرني فأمّمتُ النّساء. أمّا مع الفقراء فكان للصّحابة مواقف عظيمة فقد كانوا رضوان الله عليهم لا يكثرون من الطعام في الإفطار، وكان بعضهم يُحبّ أن يفطر مع المساكين، مواساة لهم، فكان ابن عمر رضي لله عنهما لا يفطر إلاَّ معهم، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه إيّاه، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفْنَةِ، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا. وفي العشر الأواخر من رمضان، كانوا يجتهدون اجتهادًا منقطع النّظير، اقتداء بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رغبة في بلوغ ليلة القدر المباركة، الّتي كانوا يستعدون لها استعدادًا خاصًا، فكان بعضهم يغتسل ويتطيَّب في ليلة السابع والعشرين، الّتي رجّح بعض العلماء أنّها ليلة القدر، فيقضونها بين صلاة وقيام، وذِكر وقراءة قرآن، ودعاء وتضرُّع لله تعالى، سائلين المولى الكريم المنّان أن يعتق رقابهم من النّار.