.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،
،
لسحر ثابت في مواضع من كتاب الله عز وجل وثابت في سنة النبي - صلوات الله وسلامه عليه – بطريق القطع، وقد نصَّ الله جل وعلا على وجود السحر ونصَّ على تأثيره، فقال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}.
فبيَّن جل وعلا أن السحر حق ثابت وأن تعلمه والعمل به من الكفر، ثم بيَّن جل وعلا أن له تأثيرًا بيِّنًا فقال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} فأثبت له التأثير وأنه قد يؤدي إلى الفراق بين الزوجين، وإنما نصَّ على هذه الحالة خاصة مع كونه يؤثر في أمور أخرى؛ لأن السحر كثير ما يقرن بإرادة التفريق بين الأحبة لاسيما الزوجان، فهذا هو الغالب، ومن جهة أخرى لأن هذا يشق على النفس مشقة شديدة - كما هو معلوم -. ثم بيَّن جل وعلا مع كل هذا التأثير لا يتم إلا بإذنه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولذلك قال: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}.
وهذا له نظائر في كتاب الله عز وجل كقوله جل وعلا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. فأثبت جل وعلا أنهم سحروا أعين الناس وأثبت لهم أنهم جاءوا بالسحر العظيم، وهذا السحر قد بيَّنه جل وعلا في موضع آخر وهو بأنهم قد ألقوا عصيهم وتحولت إلى أفاعي، كما قال جل وعلا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.
ولذلك اتفق أهل السنة الذين هم أهل الحق على إثبات السحر وعلى أن له تأثيرًا وأن تأثيره يتعدى إلى النفوس وإلى الأبدان ولكن كل ذلك لا يقع إلا بإذنِ الله، وأيضًا فإن الشفاء منه ولله الحمد ميسور بإذنِ الله وذلك عن طريق الرقي المشروعة أو عن طريق إيجاد السحر وإتلافه كما هو مبسوط في كتب الأئمة عليهم جميعًا رضوان الله تعالى - . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه سُحرَ وأن الذي سَحَرَه هو لبيد بن الأعصم، فكان - صلى الله عليه وسلم – يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه، أي أنه - صلى الله عليه وسلم – يخيل إليه أنه يأتي زوجته ولا يأتيها، ثم أبطل الله ذلك بمنِّه وكرمه ونزلت بذلك سورتا الفلق والناس وحلت عنه عقد السحر، والحديث ثابت في الصحيحين مقطوع بصحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما عن إثبات المس فقد أشار الله جل وعلا إلى إثباته في كتابه العزيز كما قال جل وعلا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}. فبيَّن جل وعلا أن المرابي - آكل الربا – كحال الممسوس الذي يتخبطه الشيطان من المس، فدل ذلك على أن مس الشيطان أمر قائم، ولو لم يكن قائمًا ومعروفًا لما صحَّ أن يمثل الله تعالى به، لأن التمثيل بغير الموجود لا يقرب المعنى إلى الفهم والذهن، وإنما أراد الله جل وعلا أن يقرب لنا حال آكل الربا عندما يقوم، فذكر لنا أمرًا معلومًا وهو تخبط الشيطان للإنسي في هذه الحالة، فدل ذلك على إثباته شرعًا.
ولا ريب أن هذا التمثيل يوضح أن المس ممكن بل واقع؛ لأن الله جل وعلا أراد بهذه الآية إيضاح حالة آكل الربا كيف يقوم، فبيَّن للناس حالة يعرفونها من واقعهم؛ لأن المثال إنما يورد للإيضاح كما هو معلوم – فثبت بذلك أن المس من الأمور المعروفة بل والواقعة، وذلك بالإشارة إلى كتاب الله عز وجل.
وأما إثبات ذلك من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم – فقد ثبتت في ذلك آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم – بل ثبت أنه عالج من أصيب بالمس؛ كما أخرجه ابن ماجة في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه جاءه عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه – وهو غير عثمان بن عفان الخليفة الراشد، فعثمان بن أبي العاص هو أحد الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – فقال: "لما استعملني رسول الله - صلى عليه وسلم - على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي - أي يعرض له الشيطان حتى أصبح يلبس عليه صلاته - فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: (ابن أبي العاص؟!) فقلت: نعم يا رسول الله. فقال: (ما جاء بك؟) قلت: يا رسول الله؛ عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. فقال صلى الله عليه وسلم: ( ذاك الشيطان، ادنه ) - أي اقترب - فدنوت منه فجلست على صدور قدميه. قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي وقال: (اخرج عدو الله) ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: (الحق بعملك). فقال عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه -: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد". وهذا إسناد صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه أتته امرأة بابن لها قد أصابه لمم – أي مس الجنِّ - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اخرج عدو الله أنا رسول الله). قال : فبرأ، فأهدت إليه كبشين وشيئًا من أقط وشيئًا من سمن. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (خذي الأقط والسمن) وأخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر) والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند من طريقين، وخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الحافظ الذهبي والعراقي وغيرهما – عليهم جميعًا رحمة الله تعالى -.
إذن فهذا أمر ثابت في هذه الشريعة الكاملة ومجرد الإخبار من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – عنه يثبته فضلاً عن أن يكون واقعًا مرئيًا مشاهدًا، وهذه بعض الأدلة وليس المقصود هو الاستيفاء في ذلك، وهذا أمر ثابت وقد نصَّ عليه أئمة أهل الحق عليهم جميعًا رحمة الله تعالى، ومع هذا فإن علاجه أيضًا يكون بالتوكل على الله جل وعلا وبالرقية المشروعة التي هي شفاء من كل داء، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً}.
ولابد أيضًا من الانتباه إلى أن السحر والمس والحسد - ونحو هذه الأمور التي أثبتها الشرع - لابد أن يقر بها تسليمًا لأمر الله عز وجل، ومع هذا فإنه ليس كل ما يعرض للإنسان من الخلافات الزوجية أو المصائب ونحوها أنه بسبب هذه الأمور، بل قد يكون منها وقد لا يكون منها، وإنما يثبت ذلك بالأدلة والقرائن الدالة على وجود السحر أو المس أو الحسد أو غير ذلك من الأمور فلا ينبغي أن يكون هنالك إفراط ولا تفريط ولكن اعتدال وردٌ للأمر إلى نصابه.
ونسأل اللهَ عز وجل أن يشرح صدورنا وصدوركم وأمورنا وأموركم وأن يجعلنا من عباد الله الصالحين.
من فتاوي اسلام ويب مع بعض الحذف