الحرابة الفرنسية والجماعات المسلحة في مالي
يسميها الحنابلة بـ"التعرض للناس بالسّلاح في الصحراء" ويسميها الشّيعة بـ "القتل بالقوة" في حين يطلق عليها الحنفيون عبارة "المغالبة بالخروج على المارة" أمّا المالكيون فيصفون من يمارسها بـ "أصحاب المال الحرام" ... تلك هي الحرابة التي صارت خيارًا استراتيجيًا للدول العظمى والجماعات المسلّحة بعد أن كانت منبوذة في الأديان السماوية.
فرنسا تسترجع سيادتها على مالي
أعتبر الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان حرب فرنسا على مالي "إستعمارًا جديدًا" إنطلاقًا من خلاصة مشروعه المنشور في كتابه (الديمقراطية الفرنسية) الصادر عام 1976م، فهو يرى أن "في كل ديمقراطية جملة من صور السّلوك التي تحمل درجة من درجات العنف" ويعتقد أنها منتجات ثانوية للحرية، وهو يشبِّه العنف بـ"ريح الرِّمال على التمثال: إنها تستهلكه وتشوهه حتى اليوم الذي تقبره فيه، ومن ظن أنه يبذر الريح فسيحصد العاصفة، فالسلام والتسامح ضروريان للديمقراطية المبنية على مبدإ التعدد" (كتاب الديمقراطية الفرنسية، ص153).
إن هاجس الخوف من الحرب على مالي لدى عائلات الفرنسيين المختطفين من طرف الجماعات المسلحة أكثر من خوف هذه الجماعات من الجيوش الفرنسية، وهذه العائلات تتمسك بمطالبة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بالتفاوض لإطلاق سراح ذويهم، لكن تقارير المخابرات الفرنسية تؤكد أنه من الصَّعب على هذه الجماعات وخاصة حركة "التوحيد والجهاد" أن تمسهم بسوء لأن لفرنسا دينًا عليها، فهي التي دفعت 17 مليون أورو من بين 89 أورو دفعتها دول أوروبا للجماعات المسلحة فدية لللإفراج عن المختطفين من رعاياهم وهو الذي أعلنت عنه فيكي هدلستون السفيرة السابقة لأمريكا في مالي في حديث لها إلى إذاعة (آي- تيلي) الفرنسية، يوم الجمعة 8 فيفري 2013م.
والمفارقة أن الوسيط الرسمي بين "القاعدة في المغرب الإسلامي" و"الجماعات المسلحة" وبين دول أوروبا هي الحكومة المالية، فهل تستطيع مالي أن تفرض سلطتها على مجموعة كانت متورطة معها؟ وهل تعرف أوروبا أن دفعها للفدية كان تمويلاً غير مباشر لهذه الجماعات المسلحة؟ وماذا يعني أن تجدد السلطات الجزائرية تمسّكها برفض دفع الفدية بإعتبارها مشاركة في الجريمة المنظمة؟
يبدو لي أن رئيس الدبلوماسية المالية يعمل على توتير الأجواء بين الجزائر وأمريكا حين يدعي بأن عناصر من الشعب الصحراوي (البوليزاريو) مندسة ضمن هذه المجموعات، فقد أدلى بحديث مثير للتعجب والإستفهام لموقع (أطلس أنفو) قدم فيه معلومات مضللة عن عدد الجماعات المسلحة تتناقض مع التصريحات الرسمية للسلطات الفرنسية التي تقرّ بوجود ما بين 1200 و1300 مسلح في مالي، في حين يزعم هذا الوزير بأن هناك ما بين 5500 و7000 مسلح، فهل يعقل أن تجند هذه الجماعات أكثر من 5000 خلال شهر واحد من بدء الحرب وبعد غلق حدود الدول المجاورة لها ومراقبة رادارات فرنسا كل تحرك للجماعات على الحدود، ألا يراد من هذا التصريح توريط دول معينة في هذه الحرب؟.
أعتقد أنه باستثناء أمريكا التي جندت الشباب العربي والإسلامي في تنظيم القاعدة بأفغانستان ومنهم 12000 جزائري فإنه لا توجد حركة أو تنظيم بإمكانه تجنيد الشباب من أجل قضية خاسرة دون دعم منها.
وإذا كانت الحكومة المالية قد إستنجدت بفرنسا لتخليصها من الجماعات المسلحة التي لها علاقة بها، فلأن التاريخ يعيد نفسه فعندما صوت الشعب الغيني في 18 سبتمبر 1958 م على رفضه الإحتلال الفرنسي بنسبة 97.12 % تلقى الجنرال شارل ديغول ترحيبًا من السنغال والسودان الفرنسي (مالي) بإنشاء "اتحاد مالي" الذي بقي متحالفًا مع فرنسا حتى بعد استقلال مالي عنها.
.
تدويل الحرب في مالي
وضعت فرنسا خطة للقضاء على الجماعات المسلحة في مدة أقصاها شهر أفريل القادم وفي حال فشلها وضعت بديلاً آخر لحماية قواتها من العمليات الإنتحارية وهو الدعوة إلى إنشاء "قوة دولية إفريقية" من أصحاب القبعات الزرق لحفظ الأم، بمعنى إقحام الأمم المتحدة في تمويل هذه القوة المنحدرة في الغالب من المستعمرات الفرنسية السابقة، فهل تريد إعادة الأمن والاستقرار لدولة مالي أم تريد تدويلها؟.
إن المتتبع لحكومة باماكو يجد أنها تتجه نحو تأزيم الوضع في الشمال بعد أصدارها مذكرات توقيف في حق 26 قائدًا من الجماعات المسلحة (أنصار الدين والتوحيد والجهاد) وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي والحركة الوطنية لتحرير الأزواد وحركة الأزواد الإسلامية وهذه القائمة تضم رموزًا قبلية مهمة بعضها من دعاة الحوار مع الحكومة ممّا يجعلنا نتساءل: هل الحكومة المالية مع حل سلمي للشمال أم حل عسكري؟.
الإعتقاد السائد لدى المتتبعين للشأن المالي يبيِّن أن مذكرات التوقيف ساهمت في توحيد الجماعات المسلحة وعززت مواقعها بين القبائل، بسبب عد التمييز بين من يطالبون بحقوهم عبر الحوار مع السلطة وبين الذين يريدون الهيمنة على المنطقة بالسلاح الى جانب سلوك الجيوش الإفريقية والفرنسية المنتهك لحقوق الإنسان إزاء سكانها من التوارق والعرب.
ويبدو من العمليات الإنتحارية والمواجهات التي بدأت في بعض المناطق بين المسلحين والجيوش أن الحرب ستكون طويلة المدى خاصة وأن استراتيجية الجماعات المسلحة لا تختلف كثيرا عن استراتيجية رجال المقاومة في أفغانستان والعراق.
الاستاد عبد العالي رزاقي