حُرِمَ الشعر في عصر الانحدار كثيراً من الأسباب التي ترتقي به عادةً و تحمل أصحابه على الإجادة , فالملوك و السلاطين أعاجمٌ لا يعنون إلا في النادر بتشجيع الشعراء و تقريبهم و إغداق الخير عليهم , لذلك كسدتْ سوقُ الشعر و ساءتْ أحوالُ أصحابه و يدُلُّنا على هذا قولُ ابن نباتة يشكو إهمال الحُكَّام له :
لا عارَ في أدبي إن لم ينَلْ رُتَباً ... و إنما العارُ في دهري و في بلدي
هذا كلامي و ذا حظّي فيا عجباً ... مني لِثَروةِ لفظٍ و افتقارِ يدِ
و قد عمل الشعراء في ذاك العصر على كسبِ معيشتهم من سبل الحِرف و الصناعات , فكان من بينهم الجزَّارُ و الخبّاز
و في هذا قال أبو الحسين الجزار يمدحُ الجِزارةَ التي أعطتهُ اللقمة الكريمة بلا مَنٍّ و لا مَذَلّة :
كيفَ لا أشكرُ الجِزارةَ ما عِشْـــــــتُ حفاظاً و أَهجُرُ الآدابا
و بها صارتِ الكلابُ تُرَجِّيني ... و بالشَّعرِ كنتُ أرجو الكلابا
ـــ الأغراض الشعرية :
فَتَرَتْ الحميةُ و العصبيةُ اللتان نهضتا بالشعر الفخري قديماً , إلا أن ينبوع الشعر لم ينضب , و قرائح الشعراء لم تجف فقد استمرت في الشعر الأغراضُ التقليدية من مدحٍ و رثاءٍ و غَزَل و وصف و قد حاول الشعراء أن يطرقوا موضوعات جديدة فكان أن شاعتِ البديعيات ( و هي قصائدٌ غنيةٌ بالبديع ) فكان كل بيت في هذه القصائديحتوي على نوعٍ من البديع كقول ابنِ حجة الحموي و هو يشيرُ إلى هذا النوع :
لي في ابتدا مَدْحِكُمْ يا عُرْبَ ذي سلّمِ .... براعةٌ تَسْتَهَلُّ الدمعَ في القلمِ
وهو يشيرُ هنا إلى براعةِ الاستهلال
و من البديعيات في مدحِ الرسول الكريم ( بردةُ البوصيري ) التي مطلعها :
أمِنْ تَذَكُّرِ جيرانٍ بذي سَلَمٍ .... مَزَجتَ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ
و نظم الشعراءُ الألغازَ و الأحاجي كقول بهاء الدين زهير مُلغِزاً في القفل :
و أسودَ عارٍ أنحلَ البردُ جسمَهُ .... و ما زالَ من أوصافهِ الحرصُ و الطمعُ
و أعجبُ شيءٍ كونُهُ الدهرَ حارساً .... و ليسَ لهُ عينٌ , و ليسَ لهُ سَمَعُ
و بالغَ بعض شعراء هذا العصر في التأريخِ الشعري كقولِ أحد الشعراء يؤرخُ بناء مدرسة :
مفتي البرايا بنى لله مدرسةً .... لها من الأُنسِ أنوارٌ تُغَشِّيها
على الهُدى أُسِسَتْ و اليُمْنُ أرَّخَّها .... ( دارُ العلومِ فيحيا العدلُ منشيها )
و كثُر عندهم الميلُ إلى المقطوعات الشعرية التي تحوي نكتةً أو فكاهة , كوصفِ الحمامي لدارٍ بطريقة تتجلى فيها الفكاهة و الدعابة :
و دارٍ خرابٍ بها قد نزِلْتُ .... و لكنْ نَزَلتُ إلى السابعه
و أخشى بها أن أُقيمَ الصلاةَ .... فتسجُدَ حيطانها الراكعه
إذا ما فرأتُ ( إذا زُلْزِلَتْ ) ... أخافُ بأن تقرأَ ( الواقعه )
و لم يُحجَم الشعراء عن وصفِ الأشياءِ المألوفة كالسجادة
والبساط كقولِ ابن الوردي في وصف سجادة :
سجادةٌ أذكرَتني ..... منكَ الذي كنتُ أعلمْ
أهديتُها لمُحبٍّ ..... صلى عليها و سلّم
و كأنّ الشعراء ــ و قد حِيلَ بينهم وبينَ جلائلِ الأمور ــ قد وجدوا في مثلِ هذه الموضوعات ما يسلي النفسَ و يَسُدُّ الفراغ .
ــ خصائصُ الشعر في عصر الانحدار :
ألَمَّ بالشعر داءُ التنميق اللفظي الذي ذهبَ برَونقِهِ و ترَكَهُ أشبَهَ بالمريضِ السقيم , فإذا رفعنا حجاب الألفاظ لم نجد سوى معانٍ مكررة , و قد لجأ بعضُ الشعراء ِ إلى التضمين و هو أن يحشو أحدهم شعرَهُ ببيتٍ أعجبَه , و قد عرفَ الشعراء قديماً هذا و لكن في إطارٍ ضيقٍ محدود , غير أنه في هذا العصرِ اتسع كما هو حالُ قولِ صفي الدين الحلّي :
و هيفاءَ لو أهْدَتْ إلى المَيْتِ نشرَها ... لأُنْشِرَ من ضَمَّتْ عليهِ الصفائِحُ
و لو أنها نادتْ عظامي أجابها ... فمي لا ( صدىً من جانبِ القبرِ صائحُ )
فقد أخذ الحلي قوله ( صدى من جانبِ القبر صائح ) من قولِ توبةَ الحِمْيَرِيّ :
و لو أنَّ ليلى الأخيَليَّةَ سلَّمتْ .... عليَّ , و دوني جندَلٌ أو صفائحُ
لَسَلَّمتُ تسليمَ البشاشةِ أو زَقا ... إليها صدىً من جانبِ القبرِ صائحُ
كذلكَ لجؤوا للاقتباس من القرآن الكريم و الحديثِ الشريف كقولِ ابن زيلاق في وصف الربيع :
و البردُ قد ولّى فما لكَ راقداً ... مُتَدَثِّراً ( يا أيها المُزَّمِّلُ )
و لجأ بعض الشعراء إلى ( التشطير ) و معناه أن يأخذ الشاعر قصيدةً لغيره من الشعراء فيجعل منها شطراً و يأتي بالشطر الآخر من نظمه
يقولُ ابن نباتة مشَطِّراً مجموعةَ أبياتٍ من معلقةِ امرئ القيس المشهورة :
فطمتَ ولائي ثم أقبلْتَ عاتباً ... ( أفاطِمُ مهلاً بعض هذا التدلُّلِ )
بروحيَ ألفاظٌ تعرَّضَ عَتْبُها ... ( تَعَرُّضَ أثناءِ الوشاحِ المُفَصَّلِ )
كم أولِعَ شعراءُ هذا العصر بالتورية , و تباهوا بأنها من خصائص عصرهم كقولِ سراج الدين الورَّاق :
أصونُ أديمَ وجهي عن أُناسٍ ... لقاءُ الموتِ عندهُمُ الأريبُ
و ربُّ الشِعرِ عندهمُ بَغيضٌ ... و لو وافى بهِ لهُمُ حبيبُ
و استكثروا من إظهار براعتهم و حذقهم في استعمال الألفاظ المصغرة و المهملة و المعجمة , و التزموا بما لا يلزم
كقول ابن قسيم الحموي في مدح أحدهم , وقصدَ أن يتناوبَ ورود السين و الصاد في كل كلماتِ البيت :
تُصغي لتستَمعَ اصطخا ... بَ لسانِهِ الصُّمُّ السَوادِرُ
و أسرفوا في استعمال الكلام العادي الصريح في الهجر , و شاعت في عصرهم الأخطاءُ النحوية و اللغوية .
ــ العاطفة و الخيال عند شعراء عصر الانحدار:
كان من الطبيعي ألا يقتصرِ أثرُ المحسنات البديعية التي اصطبغ بها شعر عصر الانحدار على الفكار التي يتناولها هذا الشعر بل كان طبيعياص أن يمتد أثره إلى العواطف فيُضعِفَ من فورةِ الشعورِ
واندفاع العاطفة
لنأخذ مثلاً هذه البيات لشرف الحصني و هو يرثي ابن مالك النحوي مُوَرِّياً مصطلحات النحو :
يا شَتاتَ الأسماءِ و الأفعالِ ... بعدَ موتِ ابنِ مالكِ المفضالِ
رفعوهُ في نعشهِ فانتصبنا ... نصبَ تمييزٍ كيفَ سيرُ الجبالِ
صَرَفوهُ يا عُظْمَ ما فعلوهُ ... و هوَ عدْلٌ مُعَرَّفٌ بالجمالِ
فقد سُحِقَتْ عاطفة الحزنِ في الأبيات تحتَ هذا الركام من مصطلحات النحو .
و لوقرأنا هذين البيتين لابنِ نباتة يرثي ابنه :
اللهُ جارُكَ إنَّ دمعيَ جارِ ... يا مُوحِشَ الأوطانِ و الأوطارِ
لما سكنْتَ من التُّرابِ حديقةً ... فاضت عليكَ العينُ بالأنهارِ
لَوَجَدْنا أنَّ عناية الشاعر بالجناس في البيتِ الأول , و التورية في البيتِ الثاني قد أطفأتْ من حرارة العاطفةِ الأبوية فلمْ تبدُ فياضةً دَفّاقةً بالأسى .
هذا عن العاطفة , أما الخيال فلم يخرج به الشعراء عن الصور المألوفة عند الأقدمين كما في تشبيه الحبيبة بالظبية , و وجهها بالبدر , و شعرها بالليل , و قدِّها بالرمح
من ذلك قول ابن الوردي :
فما لِصباحِ وجهكِ مِنْ مساءٍ ... و ما لِمساءِ شَعركِ مِنْ صباحِ
و وجهُكِ فوقَ قدِّكِ عَرَّفاني ... بإثمارِ البدورِ منَ الرماحِ