قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائدَ أبي حين كُفَّ بصرُه، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة، فسمع الأذانَ بها، استغفر لأبي أمامة أسعد بنِ زُرارة، فمكث حيناً على ذلك فقلت: إن هذا لعجز ألا أسأله عَنْ هذا، فخرجتُ به كما كنتُ أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة، استغفرَ له، فقلت: يا أبتاه ! أرأيتَ استغفارَك لأسعد بنِ زُرارة كلما سمعتَ الأذان يومَ الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ ! كان أسعدُ أولَ من جمَّع بنا بالمدينة قبل مَقْدَمِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في هَزْم النَّبيتِ مِن حَرَّة بني بَياضة في نقيع يُقال له: نقيع الخَضَماتِ. قلتُ: فكم كُنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلاً.
قال البيهقي، ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه من الراوي، وكان الراوي ثقة، استقام الإِسنادُ، وهذا حديث حسن صحيح الإِسناد انتهى.
قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قَدم رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة، فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف، كما قاله ابنُ إسحاَق يوم الاثنين، ويومَ الثلاثاء، ويومَ الأربعاء، ويومَ الخميس، وأسسَّ مسجدَهم، ثم خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعةُ في بني سالم بن عوف، فصلاَّها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أوَّل جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيسِ مسجده.
قال ابن إسحاق: وكانت أوَّل خطبة خطبها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن -ونعوذ باللّه أن نقول على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما لم يقُلْ - أنه قام فِيهم خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أمَّا بَعْدُ أيُها النَّاسُ، فَقَدِّموا لأَنْفُسكمَ تَعْلَمُنَّ وَاللَّه لَيُصْعَقَنَّ أحَدُكم، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَه لَيس لها رَاع، ثُمَّ ليقولَنَّ لَهُ ربُّه ولَيْس لَة تُرْجُمان، ولا حاجبٌ يَحْجبُه دُونه اْلَمْ يَاْتكَ رَسولي، فَبَلَّغَك، وآتَيْتك مَالاً، وأفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفسِك، فَلَيَنْظرنَّ يَميناً وشِمالاً، فلا يَرى شَيئاً، ثُمَّ لَيَنْظرَنَّ قدَّامَه فَلاَ يَرَى غَيْرَ جَهنَّم، فَمَنِ اسْتَطاعَ أنْ يَقِيَ وَجْهَهُ منَ النَّارِ ولو بشقٍّ منْ تَمْرة، فَلْيَفْعَل، ومن لَمْ يَجد، فَبكَلمَةٍ طيِّبةٍ، فَإنَّ بِهَا تُجْزى اَلحَسنةُ بعَشْرَ أَمْثَالهَا إلى سًبعمائة ضعف، والسلام علَيكَم ورحمة اللّه وبركاته).
قال ابن إسحاق: ثم خطب رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: (إن الحمد للّه أَحمَدُهُ وأَسْتَعِينُه، نَعوذُ باللّه مِنْ شرور أنْفُسِنا، وسَيِّئاتِ أعْمالِنا مَنْ يَهْدِه اللّه، فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل، فلا هادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، إنَّ أحسَن الحَديث كِتابُ اللّه، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَيَّنَه اللّه في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، فاختارَه على ما سواه مِنْ أحاديث النَّاس، إنَّه أَحْسَنُ الحديثِ وأبْلغُه، أَحِبُّوا ما أَحَبَّ اللَّهُ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلوبِكُم، ولا تَمَلوا كَلامَ اللَّهِ وذِكْرَه، ولا تَقسُ قُلوبُكم، فإنَّه مِنْ كُلِّ مَا يَخْلُقُ اللّه يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي، قد سمَّاه اللّه خِيرَته مِنَ الأعمال، ومُصطفَاهُ من العِبَادِ والصَّالح مِنَ الحديث، ومِنْ كُلِّ مَا أُوتيَ النَّاسُ من الحَلالِ وَالحَرَامِ، فاعْبُدوا اللّه ولا تُشْرِكوا به شَيْئاً، واتَّقوه حَقَّ تُقَاتِه، واصْدُقُوا اللَّهَ صالحَ ما تقولون بأفْواهِكم، وَتَحابُّوا بِرُوح اللَّهِ بَيْنكم، إنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنكَثَ عَهْدُه، والسَّلامُ عَلَيكم وَرَحْمَة اللّه وبركاته).
فصل
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيمُ هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء: هل هو أفضلُ، أم يومُ عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي.
وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره بسورتي {الم تنزيل} و {هل أتى على الإِنسان}. ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيصُ هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدُهم هذه السورة، استحبَّ قراءة سورة أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة، دفعاً لتوهم الجاهلين، وسمعت شيخَ الإِسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يَومِها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذِكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يومَ الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكيرٌ للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصدَ المصلي قراءتها حيثُ اتفقت. فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة.
الخاصة الثانية: استحبابُ كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته، لقوله صلى الله عليه وسلم (أكثِروا مِنَ الصلاة عَلَّي يوم الجُمُعة وَلَيْلَة الجُمُعة). ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيدُ الأنام، ويوم الجمعة سيدُ الأيام، فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزيةٌ ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أن كل خير نالته أمتُه في الدنيا والآخرة، فإنما نالته على يده، فجمع اللّه لأمته به بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظمُ كرامة تحصل لهم، فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثَهم إلى منازلهم وقصورِهم في الجنَّة، وهو يومُ المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يُسعفهم اللّه تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يَرُدُّ سائلهم، وهذا كلُ إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكرِه وحمده، وأداءِ القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن نكثر الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته.
الخاصة الثالثة: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروض الإِسلام، ومِن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظمُ مِن كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاوناً بها، طبع اللهُ على قلبه، وقُربُ أهل الجنة يومَ القيامة، وسبقُهم إلى الزيارة يومَ المزيد بحسب قُربهم من الإِمام يومَ الجمعة وتبكيرهم.
الخاصة الرابعة: الأمر بالاغتسال في يومها، وهو أمرٌ مؤكد جداً، ووجوبه أقوى مِن وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من مس النساء، ووجوب الوضوءِ مِن مرِّ الذكر، ووجوب الوضوءِ من القهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوءِ من الرُّعاف، والحِجامة، والقيء، ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، ووجوب القراءة على المأموم.
وللناس في وجوبه ثلاثةُ أقوال: النفيُ والإِثبات، والتفصيلُ بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه، فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد.
الخاصة الخامسة: التطيب فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع.
الخاصة السادسة: السِّواك فيه، وله مزية على السواك في غيره.
الخاصة السابعة: التبكير للصلاة.
الخاصة الثامنة: أن يشتغل بالصلاة، والذكر، والقراءة حتى يخرج الإِمام.
الخاصة التاسعة: الإِنصات للخطبة إذا سمعها وجوباً في أصح القولين، فإن تركه، كان لاغياً، ومن لغا، فلا جمعة له، وفي (المسند)، مرفوعاً (والذي يقول لِصاحِبِه أنصِتْ، فَلا جُمُعَةَ لَهُ).
الخاصة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَرأَ سُورَةَ الكَهْفِ يَوْمَ الجمُعَةِ، سَطَعَ لَهُ نُورٌ مِن تَحتِ قَدَمِهِ إلى عَنَانِ السَّمَاء يُضىء بِه يَوْمَ القِيامَةِ، وغُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الجُمُعَتَيْنِ).