|
قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
سيرة عمر ابن الخطاب ....الجزء26- 30
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
2012-08-09, 07:36 | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
سيرة عمر ابن الخطاب ....الجزء26- 30
الجزء 26 د- أم حكيم بنت الحارث بن هشام في معركة مرج الصُّفر: كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل فقتل عنها في معارك الشام( )، فاعتدت أربعة أشهر وعشراً، وكان يزيد بن أبي سفيان يخطبها، وكان خالد بن سعيد يرسل إليها يعرض لها في خطبتها، فخطبت إلى خالد بن سعيد، فتزوجها، فلما نزل المسلمون مرج صفر–وكان خالد قد شهد أجنادين وفِحل ومرج الصفر– أراد أن يعرّس بأم حكيم فجعلت تقول: لو أخرت الدخول حتى يفضّى الله هذه الجموع، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أني أصاب في جموعهم. قالت: فدونك، فأعرس بها عند القنطرة التي بالصفر، فبها سميت قنطرة أم حكيم، وأولم عليها، فدعا أصحابه إلى طعام، فما فرغوا من الطعام حتى صفت الروم صفوفها وبرز خالد بن سعيد فقاتل فقتل وشدت أم حكيم عليها ثيابها وتبدت، وإن عليها أثر الخلوق فاقتتلوا أشد القتال على النهر، وصبر الفريقان جميعاً، وأخذ السيوف بعضها بعضاً، وقتلت أم حكيم يومئذ سبعة بعمود الفسطاط الذي بات فيه خالد معرساً بها( ). هـ- قيصر ملك الروم يودع الشام : في السنة الخامسة عشرة تقهقر هرقل بجنوده، وارتحل عن الشام إلى بلاد الروم( ) وقيل في سنة ست عشرة( )، وكان هرقل كلما حج إلى بيت المقدس وخرج منها يقول: عليك السلام يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطراً وهو عائد؛ فلما عزم على الرحيل من الشام وبلغ الرُّها( )، طلب من أهلها أن يصحبوه إلى الروم فقالوا: إن بقاءنا هاهنا أنفع لك من رحيلنا معك، فتركهم؛ فلما وصل إلى شِمْشَاط( ) وعلا على شرف هنالك التفت إلى نحو بيت المقدس وقال: عليك السلام يا سورية سلاماً لا اجتماع بعده( )، ثم سار هرقل حتى نزل القسطنطينية واستقر بها ملكه، وقد سأل رجلاً ممن اتبعه، كان قد أُسِرَ مع المسلمين، فقال أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم. هم فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقضون على من حاربوه حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين( ). و- إن الله أعزَّكم بالإسلام: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام راكباً على حماره ورجلاه من جانب قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، الآن يتلقاك عظماء الناس فقال عمر رضي الله عنه: إن الله أعزّكم بالإسلام، فمهما طلبتم العزّ في غيره أذلكم( ). ز- من خطبته بالجابية لما وصل الشام: خطب عمر رضي الله عنه بالجابية، فقال: إن رسول الله قام في مثل مقامي هذا فقال: أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئُ قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يُسْتَحْلَف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد، فمن أحب منكم أن ينال بُحْبُوحة الجنة، فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسرُّه حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن( ). ح- غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة: لما قدم عمر الشام قال لأبي عبيدة رضي الله عنه: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك عليّ، قال: فدخل فلم ير شيئاً، قال: أين متاعك؟ لا أرى إلا لَبَداً وصحفة وشناً( )، وأنت أمير أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة( )، فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال له أبو عبيدة: قد قلت لك إنك ستعصر عينيك عليّ، يا أمير المؤمنين يكفيك ما يُبلغُك المقيل، قال عمر: غيَّرتنا الدنيا كلّنا غيرك يا أبا عبيدة( ) وعلق الذهبي على هذه الحادثة فقال: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيراً معدماً( )، وجاء في رواية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قدم عمر –رضي الله عنه- الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح، قالوا: يأتيك الآن، فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم، عليه، فسأله ثم قال للناس: انصرفوا عنا فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في بيته إلا سيفه، وترسه، ورحله( )… ط- تعليق على نص معاهدة أهل بيت المقدس: إن كتاب الصلح الذي أبرمه عمر رضي الله عنه يشهد شهادة حق بأن الإسلام دين تسامح وليس دين إكراه وهو شاهد عدل بأن المسلمين عاملوا النصارى الموجودين في القدس معاملة لم تخطر على بالهم إن عمر وهو الفاتح كان يستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء، وأن يجبرهم على ما يريد، ولكنه لم يفعل لأنه كان يمثل الإسلام، والإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه ولا يقبل من أحد إيماناً إلا عن طواعية وإذعان، إن الإيمان ليس شيئاً يجبر عليه الناس لأنه من عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مخبآتها إلا الله سبحانه فقد يريك الإنسان أنه مؤمن وليس كذلك وتكون مضرته لأهل الإيمان أكثر ممن يجاهرون بالكفر والإلحاد ولهذا آثر المسلمون أن يعطوا الناس حرية العبادة، ويؤمنوهم على كل عزيز لديهم على أن يعيشوا في كنف المسلمين، ويؤدوا الجزية مقابل حمايتهم والذود عنهم، وفي ظلال الحياة الهادئة الوديعة وفي رحاب الصلات والجوار، وفي كنف المسلمين وعدالتهم سيرى غير المسلمين عن قرب جمال الإسلام وسماحته وإنصافه وعدالته وسَيَرون فيه الحقائق التي قد عميت عليهم لبعدهم عنه، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما حدث في كل البلاد التي فتحها المسلمون، وأعطوا أهلها مثل هذا الأمان( ). ي- عمر رضي الله عنه يصلي في المسجد الأقصى: قال أبو سلمة حدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن اخذت عنّي، صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلُّها بين يديك، فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلّى رسول الله ، فتقدم إلى القبلة فصلّى، ثم جاء فبسط ردائه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس( ) وقال ابن تيمية: المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد.. وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلّى الذي بناه عمر بن الخطاب في مُقَدّمه، والصلاة في هذا المصلى الذي بناه عمر للمسلمين، أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة، لأنَّ النصارى كانوا يقصدون إهانتها، مقابلة لليهود الذي يصلّون إليها، فأمر عمر بإزالة النجاسة عنها. وقال كعب: أين ترى أن نبني مصلى للمسلمين؛ فقال: خَلْفَ الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية: خالطت اليهودية بل أبنيه أمامها، فإنّ لنا صدور المساجد( ). وهذا موقف آخر جليل وعظيم من مواقف أمير المؤمنين التي لا تحصى، والتي برهن فيها عملياً على أن الإسلام يحترم جميع الأديان السماوية ويجعل كل المقدسات محترمة ولا يختصر شيئاً منها، إن هذه الصخرة التي أزال عنها عمر التراب والأوساخ بيده وحملها في قبائه لينفيها عنها هي قبلة اليهود والصخرة المعظمة عندهم التي كلم الله عليها يعقوب عليه السلام كما يعتقدون، فكما كان موقف عمر من النصارى رائعاً وجليلاً حين منحهم حرية الاعتقاد وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم لم يضن على اليهود مع ما ارتكبوه في حق المسلمين من الجرائم بمثل هذا الموقف الرائع الجليل، حيث رفع التراب عن الصخرة، وأظهر عنايته بها وحرصه على احترامها( ). - محاولة الرومان احتلال حمص من جديد: قدمت عيون أبي عبيدة فأخبروه بجمع الروم وخطاب هرقل فيهم وسيرهم إليه، ورأى أبو عبيدة ألا يكتم جنوده الخبر، فدعا رؤوس المسلمين وذوي الهيئة والصلاح منهم ليستشيرهم ويسمع رأي جماعتهم( )، فكان رأي معاذ بن جبل الأنصاري، عدم الانسحاب وقال: هل يلتمس الروم من عدوهم أمراً أضر لهم مما تريدون بأنفسكم تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم، وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم.. أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لَتُكابدنَّ من ذلك مشقة فقال أبو عبيدة صدق والله وبرّ( )، ولكن الأحداث سارت على غير هذا الاتجاه، فأعاد المسلمون ما جبوه من أهل حمص فقد أمر أبو عبيدة حبيب بن مسلمة وقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد، ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لم نمنعهم أن نأخذ منهم شيئاً، وقال لهم نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح لا نرجع فيه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم أنا كرهنا أن نأخذ بأموالكم ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأراضي ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ثم نلقي عدونا فنقاتلهم فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم إلا أن لا تطلبوا ذلك وأصبح الصباح فأمر أبو عبيدة برحيل جيش المسلمين إلى دمشق، واستدعى حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذ منهم الجزية فرد عليهم مالهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل حمص يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا علينا بل غصبونا وأخذوا ما قدروا عليه من أموالنا، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم( ). وأرسل أبو عبيدة سفيان بن عوف إلى عمر ليلة غدا من حمص إلى دمشق، وقال إئت أمير المؤمنين فأبلغه عني السلام، وأخبره بما قد رأيت وعاينت وبما قد جاءتنا به العيون، وبما استقر عندك من كثرة العدو، وبالذي رأى المسلمون من التنحي عنهم، وكتب معه: أما بعد، فإن عيوني قدمت عليّ من أرض عدونا، من القرية التي فيها ملك الروم، فحدثوني بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه لأمة قط كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين وأخبرتهم الخبر واستشرتهم في الرأي، فأجمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلاً عنده علم ما قبلنا فسله عما بدا لك فإنه بذلك عليم وهو عندنا أمين، ونستعين بالله العزيز العليم وهو حسبنا ونعم الوكيل( ). - الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لنجدة أبي عبيدة رضي الله عنه: لما بلغ الخبر عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرِّحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وكان عمر قد أعد خيولاً احتياطية في كل بلد استعداداً للحروب المفاجئة، فكان في الكوفة أربعة آلاف فرس، فجهز سعد عليها الجيش الذي أرسله إلى الشام، وكتب عمر أيضاً إلى سعد: أن سرِّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند، ولْيَأت (الرَّقَّة)، فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وإن أهل (قَرْقِيسياء) لهم سلف، وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى (نصيبين) فإن أهل قرقيسياء لهم سلف ثم لينْفُضا( ) حرَّان والرَّها، وسرِّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وسرح عياضاً، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعاً إلى عياض بن غَنْم، فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص، وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقهم نحو الأهداف التي وجهوا إليها، وخرج أمير المؤمنين عمر من المدينة مغيثاً لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية وعلم أهل الجزيرة الذين اشتركوا مع الروم في حصار أهل حمص بخروج الجيوش من العراق، ولا يدرون هل مقصدهم حمص أم بلادهم في الجزيرة فتفرقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وتركوا الروم يواجهون المعركة وحدهم ولما رأى أبو عبيدة أن أنصار الروم من أهل الجزيرة قد انفضوا عنهم، استشار خالداً في الخروج إليهم وقتالهم فأشار عليه بذلك، فخرجوا إليهم وقاتلوهم وفتح الله عليهم، وقدم القعقاع بن عمرو ومن معه من أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من المعركة وقدم أمير المؤمنين بالجابية، فكتبوا إليه بالفتح وبقدوم المدد عليهم بعد ثلاثة أيام من الفتح وبالحكم في ذلك، فكتب إليهم أن شركوهم فإنهم قد نفروا لكم وقد تفرق لهم عدوكم( )، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً يكفون حوزتهم ويُمِدّون أهل الأمصار( ). حينما نتأمل هذه الخطة الحربية البديعة التي رسمها عمر رضي الله عنه لإرباك الأعداء وتفريقهم نرى عبقرية الفاروق العسكرية، فقد أمر ببعث جيش سريع من الكوفة إلى حمص ليقوم بعملية الإنقاذ وخرج هو بجيش من المدينة، وهذا كله يبدو أمراً معتاداً، ولكن الأمر الذي يثير الإعجاب هو ما قام به من الأمر ببعث الجيوش إلى بلاد المحاربين ليضطرهم إلى ترك ميدان القتال والتفرق إلى بلادهم لحمايتها، وقد نجحت هذه الخطة حيث تفرقوا فهان على المسلمين القضاء على الروم( ). • فتح الجزيرة: 17هـ: تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً( ). المبحث الثاني: فتوحات مصر وليبيا: كانت دوافع فتح مصر عند المسلمين قوية، فهناك العقيدة التي يريدون التمكين لها في كل مكان، ومصر تتصل بفلسطين فمن الطبيعي بعد فتح فلسطين أن يتجه المسلمون إلى مصر، وقد قسم المسلمون الإمبراطورية البيزنطية إلى قسمين لا يصل بينهما سوى البحر وذلك باستيلائهم على الشام، وفي مصر وشمال أفريقية جيوش ومسالح رومية، ولبيزنطة أسطول قوي في البحر، ولن يأمن المسلمون في الشام ومصر تحت النفوذ الروماني، ومصر غنية، وهي مصدر لتموين القسطنطينية فإذا فتحها المسلمون ضعف نفوذ بيزنطية كثيراً وأمن المسلمون في الشام والحجاز حيث يسهل اتصال الروم بالحجاز عن طريق مصر( ) ومن العوامل أيضاً أن (القبط) أنفسهم يعانون من اضطهاد الروم، وأن هؤلاء لا يعيشون في مصر إلا بمثابة حاميات عسكرية، فلماذا لا تنتهز هذه الفرصة خاصة أن عدل المسلمين لابد أن يكون قد سبقهم إلى مصر( )، أما الحامية نفسها فإن الرعب( ) لابد أن يكون قد تملّكها حينما رأت ملكها هرقل يترك بلاد الشام لتصير جزءاً من الدولة الإسلامية كل هذا كان يدركه عمرو بن العاص وخلص إلى نتيجة وهي: أن الروم في مصر سيكونون عاجزين عن الوقوف في وجه المسلمين بينما لو تركت مصر دون فتح فستظل مصدر تهديد لهم، وهذا ما صرح به عمرو بن العاص نفسه( ) وبالرغم من تعدد الروايات حول أول من فكر في فتح مصر: عمرو بن العاص أم الخليفة نفسه دون تدخل من عمرو، أم أن الخليفة وافق تحت إلحاح عمرو( )، بالرغم من ذلك الاختلاف فإن العوامل السابقة كلها تنفي أن تكون خطة فتح مصر هي مجرد خاطرة من عمرو وأن الخليفة غير راضٍ عن ذلك، أو أنهم لم يكن لديهم التصور الكامل عن مصر وأرضها وحجم قوة أعدائهم فيها وقد جاءت الروايات التاريخية تؤيد ما ذهبت إليه فقد بين ابن عبد الحكم: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد فتح الشام أن أندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به( )، وجاء في الطبري: .. أقام عمر بإيلياء بعدما صالح أهلها ودخلها أياماً، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في إثره الزبير بن العوام مدداً له ويؤكد هذا تلك الإمدادات التي أرسلها عمر إلى مصر ووصل عددها إلى اثني عشر ألفاً، وكذلك أمره بفتح الإسكندرية دون خلاف في ذلك( )، فهل من الممكن أن يتوغل عمرو في مصر دون رضاً من الخلافة؟ ونحن نعرف المسلمين قادة وجنوداً كانوا غاية في السمع والطاعة والالتزام ومن ثم نكرر أن فتح مصر لم يكن إلا استجابة لخطة مرسومة سلفاً عند الخليفة وقواده، ولم تكن استجابة لرغبة عابرة( ). أولاً: مسير الفتح الإسلامي لمصر: يعتبر فتح مصر المرحلة الثالثة من الفتوحات بالنسبة لمحور الدولة البيزنطية ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إلى العريش إلى الفرما واستمر فتحه للقاهرة فالاسكندرية وهذا يدلنا على موهبة عمرو العسكرية حيث سار في هذا الخط ربما لأنه لم يكن للروم ثقل عسكري في هذا الخط كما كان في بلاد الشام وربما لأن الدرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلاف كما حدث في فتح بلاد الشام( ). 1- فتح الفرما: تقدم عمرو غرباً ولم يلاق جيشاً رومانياً إلا في (الفرما) أما قبل ذلك فقد قابله المصريون بالترحاب والتهليل، فكان أول موضع قوتل فيه كان في (الفرما) فقد تحصن الروم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذود عنها ورد المسلمين بعد أن علموا أن المسلمين الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد والعدة وليس معهم عدة للحصار، عرف عمرو عدد الروم، واستعداداتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطته في الاستيلاء على الفرما هي المهاجمة وفتح الأبواب أو الصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها فينزلوا إليها، واشتد حصار المسلمين للمدينة واشتد عناد الروم ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوات الرومانية تنزل إلى المسلمين بين الحين والآخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون وكان عمرو يشد أزر المسلمين بكلماته القوية، فمن قوله لهم: يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد اصبروا صبر الرجال واثبتوا بأقدامكم ولا تزايلوا صفوفكم، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتى آمركم( ) وذات يوم خرجت فرقة من الرومان من القرية إلى المسلمين ليقاتلوهم وكانت الغلبة للمسلمين والدائرة على الروم فلاذوا بالفرار إلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرومان، وكان أول من اقتحم المدينة من المسلمين هو (أسميقع) فكان الفتح المبين، ومما هو جدير بالذكر أن أقباط مصر الذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين ودلوهم على مناطق الضعف وتلقوا المسلمين في (اتميدة) بالترحاب، وبعد تمام احتلال الفرما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد منها الروم لو رجعوا إليها لا قدر الله ثم خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيها الناس، حمداً لله الذي جعل لجيش المسلمين الغلبة والظفر، والله عظيم حمى بالإسلام ظهورنا، وتكفل به طريق رجوعنا، ولكن إياكم أن تظنوا أن كل ما نرغب فيه قد تحقق، وأن تخدعوا بهذا النصر، فلا يزال الطريق أمامنا وعراً شاقاً والمهمة التي وكلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصبر والطاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أننا جنود السلام، لا نبغي فساداً في الأرض بل نصلحها وكونوا خير قدوة للرسول ( ). اطمأن عمرو إلى أن المدينة لم تعد صالحة لحماية جيش يأوي إليها، وتفقد جيشه وما فقده في المعركة وتألم لفقد رجال كانوا حريصين على فتح مصر فعاجلتهم المنية، وخشي إن استمرت المعارك على هذا النحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزحف، ولا يتمكن من بلوغ الغاية ولكن الله تعالى قد عوضه عمن فقده فانضم إلى جيشه كثير من رجال القبائل العربية من راشدة ولخم وكانوا يقيمون بجبل الحلال( )، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متجهاً غرباً حتى وصل القواصر (القصاصين) ومن هناك اتجه نحو الجنوب حتى أصبح في وادي الطمبلان بالقرب من التل الكبير ثم اتجه إلى الجنوب حتى نزل بلبيس. قال صاحب النجوم الزاهرة فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس( ). 2- فتح بلبيس: وعند بلبيس برز الروم في قوة كبيرة قاصدين صدّ عمرو عن التوجه نحو حصن بابليون وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو رضي الله عنه لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، وعندئذ كفوا عن القتال، وخرج إليه الرجلان، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي بأهل مصر، بسبب هاجر أم اسماعيل: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط( )، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورحماً؛ أو قال: ذمة وصهراً( )، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمِنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع: ولكني أوجلكما ثلاثاً لتنظرا فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس عظيم القبط( )، وأرطبون الوالي من قِبَل الروم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأما أرطبون فأبى وعزم على الحرب، وبيّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إلى الإسكندرية( )، ومما هو جدير بالذكر، ما يدل على شهامة المسلمين ومروءتهم أنه لما فتح الله على المسلمين (بلبيس) وجدوا فيها ابنة المقوقس واسمها (أرمانوسة) وكانت مقربة من أبيها، وكانت في زيارة لمدينة بلبيس مع خادمتها (بربارة) هرباً من زواجها من قسطنطين ابن هرقل (وهو فيما بعد والد قنسطتز) صاحب موقعة ذات الصواري وكانت غير راغبة في الزواج منه، ولما تمكنت مجموعة من الجيش الإسلامي من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصحابة وذكرهم بقوله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ(60) (الرحمن،آية:60). ثم قال: لقد أرسل المقوقس هدية إلى نبينا وأرى أن نبعث إليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها وأتباعها، وما أخذنا من أموالهم، فاستصوبوا رأيه( )، فأرسلها عمرو إلى أبيها معززة مكرمة ومعها كل مجوهراتها وجواريها ومماليكها وقالت لها خادمتها (بربارة) أثناء سفرهما: يا مولاتي إن العرب يحيطون بنا من كل جانب فقالت أرمانوسة: إني آمن على نفسي وعرضي في خيمة العربي، ولا آمن على نفسي في قصر أبي( )، ولما وصلت إلى أبيها سُرَّ بها وبتصرف المسلمين معها( ). 3- معركة أم دنين: ذكر ابن عبد الحكم في روايته أن عمراً مضى بجيشه حتى فتح ((بلبيس)) بعد قتال دام نحواً من شهر، ثم مضى حتى أتى ((أم دنين)) وتسمى المقسس وهي واقعة على النيل فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مُخلَّد، وقيل الرابع خارجة بن حذافة، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة( )، وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً آخر على النيل قريباً من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقضَّ على الروم فاختل نظامهم وانهزموا إلى أم دنين فقابلهم الكمين الذي بقربها فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة وانهزموا وتفرق جيشهم ولجأ بعضهم إلى حصن بابليون الحصين( )، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة ووقاهم الله شر أعدائهم بفضله تعالى وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إلى هذه الخطة المحكمة التي شتت بها قوات الأعداء( ). 4- معركة حصن بابليون: تقدم عمرو وجيشه إلى حصن بابليون وحاصروه حصاراً محكماً ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إلى عمرو بن العاص للمصالحة فاستجاب عمرو بن العاص على الشروط: الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه بل حنق عليه ولامه لوماً شديداً واستدعاه إلى القسطنطينية ثم نفاه، ولما أبطأ فتح حصن بابليون قال الزبير بن العوام: إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين( )، وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون ثم تسوروا الحصن في الليل واشتبكوا مع الجنود في قتال عنيف وكان أول من تسور الحصن الزبير بن العوام فوضع سلماً من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إلا والزبير بن العوام على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فكبر تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا، فعمد حواري رسول الله بأصحابه إلى باب حصن بابليون ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن وفتحوه عنوة، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصلح على أن يخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، أما حصن بابليون وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فتبقى غنيمة للمسلمين ثم خرب أبو عبد الله أبراج الحصن وأسواره( ). ثانياً: فتح الإسكندرية: رابط عمرو بن العاص ورجاله عدة أشهر في حصن بابليون ليستجمَّ الجنود ويصله الإذن من أمير المؤمنين عمر بالسير لفتح الإسكندرية، فلما تحقق ذلك ترك عمرو في الحصن مسلحة قوية من المسلمين، وفصل بجنوده من بابليون في مايو سنة 641م، الموافق جمادى الآخرة سنة 21هـ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في مساندة القوة الإسلامية المظفرة، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم( )، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث محافظة البحيرة لتتيح له الصحراء مجالاً واسعاً لحركة خيله وجنوده، وكي يتجنب ما كان سيعترضه من الترع الكثيرة لو سار في دلتا النيل، ولم يلق عمرو إلا قتالاً يسيراً عند مرفوط أو (الطرانة) كما يسميها المؤرخون العرب( )، ثم عبر النهر إلى الضفة الشرقية حيث تقع مدينة نقيوس الحصينة( )، وكانت ذات حصن منيع فتخوف عمرو أن يتركها على جانبه ويسير عنها، ولكن الروم بدل أن يتحصنوا من المسلمين في حصنهم ركبوا سفنهم ليحاربوا المسلمين فيها ويمنعوهم من الاقتراب من مدينتهم، فرماهم المسلمون بالنبال والسهام وطاردوهم في المياه، فولوا الأدبار في سفنهم نحو الإسكندرية، وسرعان ما استسلم من بقي في الحصن ودخله المسلمون ظافرين، وأمضوا عدة أيام يستبرئون ما حوله من أعدائهم( )، وأرسل عمرو قائده شريك بن سُميَّ ليتعقب الروم الفارين، فالتقى بهم وليس معه إلا قوة معدودة، فطمع فيه الروم وأحاطوا به، فاعتصم بهم في نهد من الأرض عُرف فيما بعد بكوم شريك، فأرسل إلى عمرو يطلب الأمداد، وما إن علم الروم أن المدد في الطريق إلى المسلمين حتى لاذوا بالفرار( )، وعند سُلْطَيْس على ستة أميال جنوبي دمنهور كان اللقاء التالي بين عمرو والروم، وجرى قتال شديد انهزموا فيه وولوا الأدبار( )، ومما يؤسف له أن هذه المعارك التي خاضها المسلمون بقواتهم المحدودة ضد قوات تفوقهم عدة أضعاف من الروم عدداً وعدة، والتي استمر بعضها عدة أيام لم تظفر من مؤرخي المسلمين سوى بأسطر قليلة أو كلمات معدودة، في حين أفرد بعضهم عشرات الصفحات للحديث عن القادسية أو اليرموك أو نهاوند( )، ومن هذه المعارك الكبرى التي لا تشفى فيها مصادرنا العربية غليلاً معركة كِرْيون وهي آخر تلك السلسلة من الحصون التي تمتد بين بابليون والإسكندرية وقد تحصن بها تيودرو قائد الجيش الرومي ودار قتال شديد استمر بضعة عشر يوماً، ورغم ذلك فلم يظفر من ابن عبد الحكم سوى بهذه الكلمات: ثم التقوا بكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً، وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، وصلى (عمرو) يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، وفي أثناء ذلك أورد قصة عن بطولة عبد الله بن عمرو ووردان مولى أبيه( )، وقد كانت الإسكندرية عند فتح المسلمين لها عاصمة البلاد وثانية حواضر الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وكان البيزنطيون يدركون خطورة استيلاء المسلمين عليها ويحملون همّ ذلك، حتى قال هرقل: لئن ظهر العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم( )، وقد زعم الرواة أنه تجهز ليخرج إلى الإسكندرية بنفسه ليباشر قتال المسلمين بها، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى الله المسلمين مؤنته( )، واضطربت أمور الدولة البيزنطية بعد موت هرقل إذ تولى الحكم إبناه قسطنطين وهرقل الثاني (هرقليانوس) وشاركتهما الإمبراطورة مارتينة أم هرقليانوس، لكن قسطنطين سرعان ما وافته منيته بعد مائة يوم من وفاة أبيه مما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى الإمبراطورة التي كانت ترغب في أن ينفرد ولدها بالحكم، فاشتعلت الثورة ضدها، واستمرت الفتن ضاربة في البلاد عدة أشهر، حتى تولى كونستانس بن قسطنطين الحكم شريكاً لعمه هرقليانوس( ). وكانت الإسكندرية فضلاً عن متانة أسوارها وضخامة ووفرة حماتها تمتاز بموقعها الدفاعي المميز فكان البحر يحميها من شمالها؛ حيث السيطرة آنذاك للروم، وكانت بحيرة مريوط تحميها من جنوبها، وكان اجتيازها عسيراً، بل غير مستطاع، وكانت إحدى تفريعات النيل قديماً واسمها نزعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وبذلك لم يبق إلا طريق واحد من الشرق يصل إليها؛ وهو الطريق الواصل بينها وبين كرْيون( ). وطال الحصار عدة أشهر مما أثار مخاوف عمرو من ملل جنوده أو شعورهم بالعجز أمام عدوهم، فقرر أن يبث كتائبه تجوس خلال بلاد الدلتا وقرى الصعيد، غير أن طول حصار الإسكندرية آثار حفيظة الخليفة عمر، وأثار في نفسه الهواجس والظنون حول استعداد جنوده للتضحية والمبادأة، ورأى أن ذلك ما كان إلا لما أحدثوا( )، وشرح ذلك في رسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها: (( أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، (يعني الزبير وصحبه)، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم، ورغِّبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم( )، ويروى أن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد الأنصاري فقال: أشر علي في قتال هؤلاء فقال مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب النبي فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيه، فقال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو إليه، فلما دنا منه أراد النزول عن جواده؛ فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم، ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومهم ذاك( )، وقد جاء في رواية: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه( )، ويروي ابن عبد الحكم أن حصار الإسكندرية استمر تسعة أشهر وأنها فتحت في مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة( )، وهي ما يوافق 21 ديسمبر سنة 640م بينما انتهى بتلر في دراسته عن فتح مصر إلى أن حصار المدينة قد بدأ في أواخر يونيو سنة 640م وأنها استسلمت في 8 نوفمبر سنة 641م وهو ما يوافق 7 ذي الحجة سنة 21هـ، وقد يرجح هذا القول ما ورد في رسالة عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص: إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، فما بين وصول عمرو العريش في ديسمبر سنة 639م وتسليم الإسكندرية في نوفمبر 641م ما يعادل سنتين هلاليتين واستبقى عمرو أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم أهل ذمة، كأهل بابليون… ثم ترك في الإسكندرية حامية من قواته بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم في مصر، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها: وكذلك بسط سيطرته على كل دلتا مصر وصعيدها( ). ثالثاً: فتح برقة وطرابلس: وسار عمرو بعد أن استقر له فتح مصر ليؤمن فتوحه من ناحية الغرب إذ كانت للروم قوات في برقة وطرابلس تتحصن هناك، وربما واتتها الفرصة ساقها الإغراء إلى مهاجمة المسلمين بمصر، فاتجه في قواته إلى برقة سنة 22هـ وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية آنذاك منزعاً بالخضرة والعمران، فلم يلق كيداً في طريقه إليها، فلما وصلها صالحه أهلها على أداء الجزية، وكان أهل برقة بعد فتحها يبعثون بخراجهم إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث فكانوا أخصب قوم بالمغرب ولم يدخلها فتنة، ثم سار عمرو إثر ذلك إلى طرابلس ذات الحصون المنيعة، وبها جيش رومي كبير، فأغلقت أبوابها وصبرت على الحصار الذي استمر شهراً لا يقدر المسلمون منها على شيء وكان البحر من ورائها لاصقاً ببيوت المدينة، ولم يكن بين المدينة والبحر سور، فاستبانت جماعة من قوات المسلمين الأمر، فتسللت إلى المدينة من جهة البحر، وكبروا؛ فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، إذ هاجمهم عمرو في قواته أيضاً فلم يفلت منهم إلا ما خفت بهم مراكبهم، وغنم المسلمون ما بالمدينة، وبث عمرو قواته فيما حولها وأراد عمرو أن يستكمل فتوحه في الغرب ويسير إلى تونس وأراضي إفريقية ليفتحها، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، غير أن الخليفة كان يخشى على جيوش المسلمين من الانسياح في جبهة جديدة ولم يطمئن بعد إلى ما فتحت في زحفها السريع من الشام إلى طرابلس، فأمر القوات الإسلامية بالتوقف عند طرابلس وبذلك امتدت دولة الإسلام في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتشمل مساحة شاسعة من الأرض يحدها من الشرق نهر جيحون والسند ومن الغرب بلاد إفريقية وصحراؤها، ومن الشمال جبال آسيا الصغرى وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النوبة في دولة عالمية واحدة متعددة الأجناس والديانات والنحل والعادات، عاش أهلها في عدل الإسلام ورحمته، ذلك الدين الذي احتفظ لهم بحقهم في الحياة الكريمة وإن اختلفوا معه في عقائدهم؛ ومع أهله في عاداتهم وأعرافهم( ).
|
||||
2012-08-09, 07:37 | رقم المشاركة : 2 | |||
|
الجزء 27
المبحث الثالث: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتح مصر: أولاً: سفارة عبادة بن الصامت الأنصاري إلى المقوقس: حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون فأرسل المقوقس إلى عمرو الرسالة التالية: إنكم قد وَلَجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عُصْبَة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم، ومعهم من العُدّة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فأرسلوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبُّون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام، ولا يقدر عليه. ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم، نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أتروْن أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين. فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينك إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين( )، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتموهم قالوا: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على رُكبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد: وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحْلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم فردّ إليهم المقوقس رسله، وقال: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال( )؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدم في ذلك إليّ، وأمرني ألا أقبل شيئاً سوى خصلة من هذه الثلاث الخصال. وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني. فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدَّم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمّره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله. فقال المقوقس للوفد: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟ قالوا: كلا: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد علي كلامك، ازددت هيبة فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم مثلي، وأشد سواداً مني وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكُنت أهيب لهم مني، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتُنا، وبغيتنا الجهاد في سبيل الله تعالى، واتباع رضوان الله، وليس غزونا عدوَّنا ممن حارب الله لرغبة الدنيا، ولا طلباً للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا: أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها جَوْعَته، وَشمْلة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الذي بيده؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيما يمسك جَوْعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضا ربه، وجهاد عدوه، فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هِبت منظره؛ وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة فقال: أيها الرجل، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتكم إلا بما ذكرت ولا ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبِّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم مما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقوَوا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلَّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً، وأنتم في ضيق وشدة في معاشكم وحالكم، ونحن نرِقُ عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوَّة لكم به. فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا هذا؛ لا تغرّنَّ نفسك ولا أصحابك. أما ما تخوِّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمْري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يكْسِرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجَنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفِرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله تعالى قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) (البقرة،آية:249). وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء: أن يرزقه الشهادة وألا يرد إلى بلده، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السّعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا لأنفسنا منها أكثر مما نحن فيه فانظر الذي تريد، فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منكم، ولا نجيبكم إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين؛ وهو عهد رسول الله من قبل إلينا؛ إما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلَّ أذاكم ولا التعرض لكم. وإن أبيتم إلا الجزية، فأدُّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على بشيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذا كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد الله علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم فقال المقوقس: هذا مما لا يكون أبداً، ما تريدون إلا تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاثة؟ فرفع عبادة يديه، وقال: لا، ورب السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، وقال: قد فرغ القول مما ترون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم؛ فهذا لا يكون أبداً، ولا نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا من أن يسْبُونا ويجعلونا عبيداً أبداً، فالموت أيسر من ذلك؛ لو رضوا منا أن تُضعف لهم ما أعطيناهم مراراً، كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فارجع صاحبك على أن نعطيكم في مَرّتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقام عبادة وأصحابه. فقال المقوقس لمن حوله عند ذلك: أطيعوني، وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين. فقالوا: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم.. أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولابد من الثالثة. قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا عبيداً مُسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً، وتباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً، أنتم وأهلوكم وذراريكم. قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من جمع القبط والروم كثير( ). ومن الحوار الذي دار بين عبادة والمقوقس، ظهرت نباهة عبادة وإدراكه لمرامي خصمه فلم يتأثر بتلك الأساليب التي استخدمها للتأثير في نتائج المحادثات تلك كما ظهر عبادة واضحاً في تصوراته وأهدافه، ولم ينس في خضم ذلك أن يدعو إلى الإسلام ويرغب فيه، ويظهر انفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم والأديان مما ترك أثراً طيباً في نفس المقوقس الذي اختار الصلح مع المسلمين( ). ثانياً: من فنون القتال في فتوح مصر: مارس عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر فنوناً عدة في القتال منها: 1- الحرب النفسية: عندما أمر المقوقس النساء أن يقمن على سور بابليون مقبلات بوجوههنّ إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجههم إلى المسلمين ليرهبوهم بذلك، فأرسل إليه عمرو: .. إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبْنا من علينا، فقد لقينا مِلكَكُم فكان من أمره ما كان فقال المقوقس لأصحابه: صدق هؤلاء القوم، أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان( )، فقد كان عمرو من القادة الذين يستخدمون الحرب النفسية لإرهاب عدوه وإحباط روح القتال لديه، وكان يعتمد في الحرب على الله ثم على العقل والسيف لتحقيق هدف واحد هو تحقيق النصر الحاسم في نهاية المعركة( ). 2- أسلوب المباغتة بالكمائن: مارس عمرو أسلوب المباغتة بالكمائن في وقعة عين شمس، فقد أعدّ هذه الكمائن إعداداً محكماً مما يسر له سبل النجاح الكامل فهو قد أرسلها لاتخاذ مواقع معينة من الليل، فأحسن اختيار تلك المواقع، وعيّن ساعة انطلاق كل منها في وقت يكون العدو منشغلاً بمجابهته، فباغتته تلك الكمائن في ميمنته وميسرته، فأحسن بذلك اختيار التوقيت، وساعة الصفر ونقاط الصدام مع العدو. وهكذا تعتبر عملية عمرو (المباغتة بالكمائن) في هذه الوقعة من أكثر عمليات المباغتة نجاحاً وإتقاناً( ). 3- أسلوب المباغتة في أثناء الحصار: وأتقن عمرو كذلك أسلوب المباغتة في أثناء حصار حصن بابليون فبينما كان الروم المحاصَرون في هذا الحصن مطمئنين إلى أن المسلمين لن يستطيعوا النيل منهم، بفضل مناعة حصونهم وأسوارهم وما لديهم من ذخائر ومؤن ومعدات حربية، وبسبب ما وضعوه من عوائق من الحسك الشائك على أبواب الحصن وفي الخندق الذي جفت مياهه بعد هبوط مياه النيل إذا بهم يفاجأون في ليلة مظلمة بالزبير بن العوام ومجموعة من رجاله المقاتلين، يعتلون السور مكبرين، ويباغتونهم فيعملون السيف فيهم، ويهزم من في الحصن من المدافعين فيطلبون الصلح والأمان، ويدخل المسلمون الحصن فاتحين( ). 4- أسلوب النفس الطويل في الحصار: اعتمد عمرو في حصار ((كِرْيون)) و((الاسكندرية)) النفس الطويل؛ فهو عندما أيقن صعوبة الانتصار على الروم المتمركزين في مواقع منيعة ومحصنة في كريون، بدأ بمناوشتهم محاولاً، لمرة واحدة فقط، شن هجوم على الحصن، إلا أنه فشل، فاستمر في المناوشة تاركاً للزمن، والإرهاق، ونفاذ الذخيرة، والمؤونة وصبر الرجال أن يفعل فعله، وهكذا كان، وما أن استمر حصار كريون بضعة عشر يوماً حتى أيقن الروم عزم المسلمين على الاستمرار في هذا الحصار فلم يجدوا بداً من الاستسلام وتسليم الحصن للمهاجمين، وحدث الشيء نفسه في حصار الإسكندرية، إلا أن هذا الأخير استمر مدة أطول (ثلاثة أشهر) وذلك لأن الروم كانوا يدركون إدراكاً تاماً أن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشهم بل ولهم جميعاً، فإن سقطوا في الإسكندرية سقطوا في مصر وفي إفريقيا بأسرها. وهذا ما حصل( ) تماماً. ثالثاً: بشارة الفتح إلى أمير المؤمنين: بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافداً إلى عمر بن الخطاب بشيراً بالفتح فقال له معاوية: ألا تكتب معي؟ فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب: ألست رجلاً عربياً تبلغ الرسالة، وما رأيت حضرت( ) فلما قدم على (عمر) أخبره بفتح الإسكندرية فخرَّ عمر ساجداً وقال: الحمد لله ونترك معاوية بن حديج يحدثنا عن قصته في إبلاغ أمير المؤمنين ببشارة الفتح: لما بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب وصلت المسجد فبينما أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل (عمر بن الخطاب)، فرأتني شاحباً عليَّ ثياب السفر، فأتتني، فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن حديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد أسمع حفيف إزارها على ساقها أو على ساقيها حتى دنت مني فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتتبعتها فلما دخلت فإذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن في الناس (الصلاة جامعة)، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت فقال: كل فأكلت على حياء ثم قال: كله فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلاً لأكلت معك فأصبت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت لعل أمير المؤمنين قائل – نوم القيلولة – قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية( ). ومن هذا الخبر نستنتج أن المسجد في عصر الإسلام الأول كان يمثل أهم وسائل الإعلام حيث يجتمع المسلمون فيه بنداء الصلاة جامعة، وهذا النداء يعني أن هناك أمراً مهماً سيتم إبلاغه لعموم المسلمين فإذا اجتمعوا أُلقيت عليهم البيانات العسكرية والأمور السياسية والاجتماعية وغير ذلك، كما نستفيد من هذا الخبر وصفاً لحياة عمر رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، حيث يقول لمعاوية بن خديج لئن نمت النهار لأضيِّعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنَّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية وهذا يدل على كمال اليقظة لحق النفس وحقوق الآخرين، وإذا استطاع المسلم أن يجمع بين مراعاة ذلك كله فإنه يكون من المتقين المحسنين( ). رابعاً: حرص الفاروق على الوفاء بالعهود: ذكر ابن الأثير: … إن المسلمين لما انهوا إلى بِلْهِيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو بن العاص:إنّني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إليّ منكم: فارس والروم فإن أحببت الجزية على أن تردّ ما سبيتم من أرضي فعلت. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تُقسم ثمّ كأنها لم تكن، وأمّا السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيّروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأمّا مَنْ تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندريّة، فأجاب إليه، فجمعوا السبي واجتمعت النصارى وخيّروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبّروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية، حتى فرغوا( ). إن هذا يعتبر شاهد صدق على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العزوف عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والرغبة الصادقة في هداية العالمين إلى الإسلام، فإن دخول الأسرى في الإسلام لا يفيد المسلمين شيئاً من الدنيا، وبقاؤهم على دينهم يتضمن فائدة دنيوية لهم حيث يُلزَمون بدفع الجزية للمسلمين ومع ذلك نجد عمر رضي الله عنه يأمر بتخيير الأسرى بين الإسلام أو دفع الجزية، وحينما تمّ تطبيق ذلك كان الصحابة ومن معهم يكِّبرون تكبيراً أشد من تكبير الفتح حينما يختار أولئك النصارى دين الإسلام ويجزعون جزعاً شديداً حينما يختارون البقاء على دينهم حتى كان أولئك الأسرى من ضمن جماعة المسلمين وخرجوا عن دين الإسلام ومما يلفت النظر في هذا الخبر حرص الصحابة على خلق الوفاء ويتضح ذلك من قول عمر رضي الله عنه في كتابه: وأما من تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، وجاء في رواية: … ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به( )، فعمر رضي الله عنه ينظر إلى الوفاء بالعهد قبل إبرام الاتفاق مع الأعداء، حتى لا يكون المسلمون في وضع لا يستطيعون فيه الوفاء، وهذا الخلق يعتبر مرحلة عالية من الوفاء – وهو من أخلاق النصر – لأن من يبرم اتفاقية على أمر ثم لا يستطيع الوفاء به يكون معذوراً ولكن حينما يفكر بعمل الاحتياطات اللازمة لموضوع الوفاء بالعهد حتى لا يجد نفسه بعد ذلك عاجزاً عن الوفاء، فهذا نهاية التدبير، وغاية النظر الثاقب( ). خامساً: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: توجه عمرو بجيشه نحو الإسكندرية، وفي طريقه إليها جرت بينه وبين أهل تلك البلاد حروب كان النصر فيها حليف المسلمين ومن المواقف التي تذكر في ذلك أن عبد الله بن عمرو بن العاص أصيب بجراحات كثيرة في معركته مع أهل الكريون فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال عبد الله: أقول إذا ما جاشت النفس ا ااصبري، فعما قليل تحمدي أو تلامي فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال فقال عمرو: هو ابني حقاً( )، وهذا موقف من مواقف الصبر والتحمل يذكر لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي اشتهر بالعلم والعبادة فجمع إلى ذلك الشجاعة والصبر على الشدائد( ). سادساً: دار بنيت لأمير المؤمنين بمصر: بعث عمرو بن العاص إلى الفاروق بقوله: إنا قد اختططنا لك داراً عند المسجد الجامع، فكتب عمر: إنّى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين( ). وهذا دليل على كمال ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وزهده في مظاهر الحياة الدنيا، وإذا كان الكبار والزعماء هم الذين يترفعون عن أوحال الدنيا، ومتاعها الزائل، فإن من دونهم من باب أولى أن يترفعوا عن ذلك( ). سابعاً: دعوى حرق المسلمين مكتبة الإسكندرية: يقول الدكتور عبد الرحيم محمد عبد الحميد: لم نعثر على نص أو إشارة إلى أن عمرو بن العاص حرق مكتبة الإسكندرية وجل ما في الأمر أننا قرأنا نصاً لابن القفطي ينقله ابن العبري (ت 685هـ/1286م) قائلاً: اشتهر بين الإسلاميين يحيى النحوي وكان اسكندرياً، وعاش إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلوم فأكرمه وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم تكن للعرب بها أنسة ونرى ابن القفطي (ت 646/1267م). يكمل القصة قائلاً فقال له عمرو وما الذي تريده إليه قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية.. أربعة وخمسون ألفاً ومائة وعشرون كتاباً.. فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وقال لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين، وكتب إلى عمر، وعرفه قول يحيى، فورد كتاب عمر يقول: أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنها غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليها، فتقدم بإعدامها، فشرع عمرو بن العاص في توزيعها على حمامات الإسكندرية وإحراقها في مواقد وذكرني عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفذت في ستة أشهر فاسمع ما جرى وأعجب( ). إلا أن قصة الحرق هذه وردت قبل ابن القفطي، وقبل ابن العبري فهذا عبد اللطيف البغدادي (ت 649هـ/ 1231) قال: وأنه دار العلم الذي بناه الإسكندر حيث بنى مدينة وفيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه( )، وعند دراسة هذه الروايات نرى أنه لابد من إبداء الملاحظات التالية: 1- لا يوجد ترابط بين تلك الروايات الثلاث، ولا صلة في النقل التاريخي تربط من ألفوها فضلاً عن أنهم عاشوا في فترة زمنية متقاربة. 2- لا يوجد أي إسناد يرجع إليه في هذه الروايات وإنما هي افتراضات افترضها أصحابها. 3- أنها وجدت في فترة بعيدة عن زمن فتح مصر وعمرو بن العاص ويمكن القول بكل ثقة أن هذه القصة مختلقة اختلاقاً واضحاً يمكن الطعن فيها من النواحي التالية: - لم يذكر قصة حرق مكتبة الإسكندرية من أرخ لتاريخ مصر وفتحها ممن عاش قبل من ذكروا هذه القصة بعدة قرون. - لم تذكر هذه القصة عند الواقدي ولا الطبري، ولم يتفق عليها ابن الأثير ولا ذكرها ابن خلدون، فضلاً عن ابن عبد الحكم، ولم يصفها ياقوت الحموي عند وصف الإسكندرية. - يمكن إرجاع هذه القصة إلى فترة الحروب الصليبية، من جهة البغدادي وربما وضعها تحت ضغط معين أو ربما انتحلت عليه فيما بعد. - إذا وجدت هذه المكتبة المزعومة، فيمكن القول: إن الروم الذي غادروا الإسكندرية كان بإمكانهم إخراجها معهم، أو ربما فعلوا ذلك. - لقد كان بإمكان عمرو إلقاؤها في البحر في فترة قصيرة بدلاً من حرقها الذي استغرق ستة أشهر، مما يدل على القصد في تزييف هذه القصة وتأليفها، ويمكن القول بلا وجل: إن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص رضي الله عنهما بريئان مما نسب إليهما في هذه القصة المصطنعة التي كانت من تخيلات أناس أحبوا التهويل فتخيلوا وجود مالم يكن موجوداً( ). ثامناً: لقاء عمرو بن العاص والبابا بنيامين: يقول المؤرخ ابن عبد الحكم: كان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو بنيامين، وكان هارباً في الصحراء بسبب الاضطهاد المذهبي الذي تعرض له الأقباط على أيدي الرومان المسيحيين، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما صاروا يومئذ لعمرو أعواناً( )، وقد جاء في رواية المؤرخ القبطي ساويرس بن المقنع أنه سانوتيوس أحد رؤساء القبط وقتئذ، والذي كان يتولى إدارة شئون الكنيسة مدة اختفاء البطريق بنيامين، قد روى لعمرو موضوع الأب المجاهد بنيامين البطرك وأنه هارب من الروم خوفاً منهم، فكتب عمرو بن العاص إلى عمّال مصر كتاباً يقول فيه الموضع الذي فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمناً مطمئناً ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته، فلما سمع القديس بنيامين هذا، عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة بمجيئه ولما علم عمرو بوصوله أمر بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه إن في جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجلاً يشبه هذا وكان الأب بنيامين حسن المنظر جداً، وجيد الكلام بسكون ووقار، ثم التفت عمرو إليه وقال له: جميع بيعتك ورجالك اضبطهم ودبِّر أحوالهم وانصرف من عنده مكرّماً مبجلاً وعلق الأستاذ الشرقاوي على هذا اللقاء فقال: وقرَّب عمرو إليه البطريق بنيامين حتى لقد أصبح من أعز أصدقائه عليه، واطمأن العرب الفاتحون في مصر، وخطبهم أميرهم عمرو بن العاص في أول جمعة صلاها بجامعه بالفسطاط فقال: .. استوصوا بمن جاوركم من القبط، فإن لكم فيهم ذمة وصهراً، فكفوا أيديكم، وعفُّوا وغضوا أبصاركم( ). المبحث الرابع: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات الفاروق: أولاً: طبيعة الفتح الإسلامي: حاول بعض المؤرخين من النصارى والمستشرقين تشويه الفتح الإسلامي في العصر الراشدي وزعموا أن الفتوحات كانت حروباً دينية وقالوا: إن المسلمين أصحاب عقيدة، ولكنهم توسلوا بالتعصب الأعمى، وأخضعوا الناس لمبادئهم بالقهر والإرغام، وخاضوا إلى ذلك بحار الدم والقسوة، وأنهم كانوا يحملون القرآن بإحدى يديهم، والسيف باليد الأخرى( )، وممن ركز منهم على هذه الفكرة، (سيديو) و(ميور) و(نيبور). إذ ينقل (ميور) عن نيبور قوله: وكان من الضروري لدوام الإسلام أن يستمر في خطته العدوانية وأن ينفذ بحد السيف ما يطالب به من دخول الناس في الإسلام كافة، أو بسط سيطرته العالمية على الأقل، غير أنه لا مناص لأيّ من الأديان أن يجنح أتباعه للحرب في إحدى مراحل حياته، وكذلك كان الحال في الإسلام، ولكن الزعم أن المسلمين هدفوا إلى بث الدعوة بالقوة، أو أنهم كانوا أكثر عدواناً من غيرهم، زعم يجب إنكاره إنكاراً تاماً( )، وقد ردّ بعض المستشرقين على هذه التهم ووصفوا الفتح الإسلامي بالمثل العالية والأخلاق الكريمة فهذا فون كريمر يقول: وكان العرب المسلمون في حروبهم مثال الخلق الكريم، فحرم عليهم الرسول( )، قتل الرهبان، والنساء، والأطفال، والمكفوفين، كما حرم عليهم تدمير المزارع، وقطع الأشجار، وقد اتبع المسلمون في حروبهم هذه الأوامر بدقة متناهية، فلم ينتهكوا الحرمات، ولا أفسدوا الزروع، وبينما كان الروم يرمونهم بالسهام المسمومة، فإنهم لم يبادلوا أعداءهم جرماً بجرم، وكان نهب القرى وإشعال النار قد درجت عليها الجيوش الرومانية في تقدمها وتراجعها، أما المسلمون فقد احتفظوا بأخلاقهم المثلى فلم يحاولوا من هذا شيئاً( )، وقال روزنتال: وقد نمت المدينة الإسلامية بالتوسع لا بالتعمق داعية إلى العقيدة، مناقشة لتلك الحركات الفكرية الموجودة وفوق كل ذلك تقدم الإسلام فتهاوت الحواجز القديمة من اللغة والعادات، وتوفرت فرصة نادرة لجميع الشعوب والمدنيات لتبدأ حياة فكرية جديدة على أساس المساواة المطلقة، وبروح المنافسة الحرة( ). إن الحقيقة التاريخية تقول بأن المسلمين لم يكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام لأنهم قد التزموا بقول الله تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256) (البقرة،آية:256). وأما إقبال الشعوب على الإسلام فكان بسبب ما لمسوه في الإسلام نفسه، فهو النعمة العظيمة، ولما لمسوه في المسلمين من التخلق بأخلاق الإسلام والالتزام بأحكامه وأوامره ونواهيه ولما لمسوه في القادة والجند الذين كانوا يقومون بالدعوة بالتطبيق العملي، فتميزت مواقفهم بأنبل المواقف التي عرفها التاريخ العالمي، فقد كان الخلفاء والقادة يوصون جندهم بالاستعانة بالله، والتقوى، وإيثار أمر الآخرة على الدنيا، والإخلاص في الجهاد، وإرادة الله في العمل، والابتعاد عن الذنوب، فكانت فيهم الرغبة الأكيدة الملحة لإنقاذ الأمم والإفراد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ونقلهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فكان قادة المسلمين على رأس جندهم يتلقون الصدمات الأولى في معارك الجهاد، واستشهد عدد كبير منهم، وقد كان القادة يسيرون خلف جندهم في وقت الأمن والعودة يرفقون بهم ويحملون الكلأ ويعينون الضعيف وكان القادة دعاة في المقام الأول، طبقوا مبادئ الحرب الإسلامي تماماً والحق أن المسلمين كانوا يخوضون جهاداً في سبيل الله، وليس حرباً كما كانت تفعل الدول الأخرى( ). ثانياً: الطريقة العمرية في اختيار قادة الجيوش: كانت للفاروق طريقة متميزة في اختيار قادة الفتح، فقد وضع عدة شروط وضوابط لاختيار قادة جنده وهي كالآتي: 1- أن يكون تقياً ورعاً عالماً بأحكام الشريعة: وكان يقول ويردد: من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله( )، ولما أرسل إلى سعيد بن عامر ليستعمله على بعض الشام، فأبى عليه، فقال عمر: كلا والذي نفسي بيده لا تجعلونها في عنقي وتجلسون في بيوتكم( ). 2- أن يشتهر القائد بالتأني والتروي: لما ولَّى عمر رضي الله عنه أبا عبيد الثقفي قال له: إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطاً إلا سرعته إلى الحرب، وفي التسرع إلى الحرب ضياع إلا عن بيان والله لولا سرعته لأمرته ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث( ). 3- أن يكون جريئاً، وشجاعاً ورامياً: ولما أراد عمر أن يولي قائداً لجيوش المسلمين لفتح نهاوند( ) واستشار الناس فقالوا يا أمير المؤمنين أنت أعلم بأهل العراق وجندك قد وفدوا عليك، ورأيتهم وكلمتهم فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكوننّ أول الأسنّة( ) إذا لقيها غداً، فقيل من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مقرن المزنيِّ، فقالوا: هُوَ لها( ). 4- أن يكون ذا دهاء وفطنة وحنكة: قال عمر رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أحجزكم في ثغوركم( ). ولما نزل عمرو بن العاص وجنده على الروم بموقعة أجنادين لفتحها وكان قائد الروم الأرطبون وهو أدهى الروم، وأبعدها غوراً، وأنكاها فعلاً، ووضع جنداً عظيماً بإيلياء والرملة وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمر قال: رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب فانظروا عمّ تنفرج( )، ولما أراد عمرو أن يجمع المعلومات عن الأرطبون وجيشه، حتى يضع خطته الحكيمة لمهاجمته، والانتصار عليه دخل بن العاص معسكر قائد الروم وكاد أن يقتل إلا أن الله نجاه وخدع عمرو بن العاص أرطبون الروم ولما وصل الأمر إلى عمر بن الخطاب. قال: غلبه عمرو لله عمرو( ). 5- أن يكون القائد لبقاً حاذقاً له رأي وبصر بالحروب: يقول صاحب المغني (ابن قدامة الحنبلي) في كلامه عن أمير الحرب: .. ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة للعدو، ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين( ). ولذلك اختار الفاروق سعد بن أبي وقاص لقيادة حرب العراق بعد أن استشار الناس. 6- الرغبة في العمل: كان من خطة عمر رضي الله عنه أن لا يولِّي رجلاً عملاً لا رغبة له فيه ولا قناعة إلا إذا اضطر إلى ذلك ليكون العمل أكثر إتقاناً، فقد ندب الناس مرة وحثهم على قتال الفرس بالعراق، فلم يقم أحد ثم ندبهم في اليوم الثاني فلم يقم أحد، ثم ندبهم في اليوم الثالث وهكذا ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب أبو عبيد بن مسعود الثقفي، ثم تتابع الناس، فأمّر على الجميع أبا عبيد – وهو لذلك أهلٌ – ولم يكن صحابياً فقيل لعمر: هلا أمّرت عليهم رجلاً من الصحابة؟ فقال: إنما أومر عليهم من استجاب( )، وقد تجسدت هذه الصفات في كل من سعد بن أبي وقاص، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم كثير. ثالثاً: حقوق الله، والقادة والجند من خلال رسائل الفاروق: • حقوق الله: كان الفاروق رضي الله عنه يرشد قادته وجنوده من خلال رسائله ووصاياه إلى أهمية التزامهم بحقوق الله والتي من أهمها: 1- مصابرة العدو: قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200) (آل عمران،آية:200). وكان مما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصبر لسعد بن أبي وقاص حين بعث به إلى العراق: واعلم أن لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبر على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله( )، كما كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو بالشام قائلاً: لقد أثنى الله على قوم بصبرهم. فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148) (آل عمران،آية:146،147،148). فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة( ). 2- أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله: فقد استوعب الفاروق رضي الله عنه قول رسول الله : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله( )، فنجد حياته وتوصياته ورسائله يهيمن عليها هذا المعنى العظيم. 3- أداء الأمانة: قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(161) (آل عمران،آية:161). فمن وصايا الفاروق رضي الله عنه للقادة والعسكر في عدم الغلول قوله: (إذا لقيتم العدو فلا تفروا، وإذا غنمتم فلا تغلوا)( ). 4- عدم الممالأة والمحاباة في نصرة دين الله: ومن مشهور قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المحاباة والمودة: من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك فقد خان الله ورسوله، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله( ). • حقوق القائد: وبين الفاروق في رسائله وتوجيهاته حقوق القائد والتي منها. 1- إلتزام طاعته: فحين بعث الفاروق بأبي عبيد بن مسعود الثقفي على رأس جيش نحو العراق أرسل برفقته سلمة بن أسلم الخزرجي وسليط بن قيس الأنصاري رضي الله عنهما وأمره أن لا يقطع أمراً دونهما وأعلمه أنهما من أهل بدر ثم إن أبا عبيد حارب الفرس بموقعة الجسر وقد أشار عليه سليط أن لا يقطع الجسر ولا يعبر إليهم فلم يسمع له مما أدى إلى هزيمة عسكر المسلمين فقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لأنحزت بالناس ولكني أسمع وأطيع وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك( ). |
|||
2012-08-09, 07:39 | رقم المشاركة : 3 | |||
|
الجزء 28 |
|||
2012-08-09, 07:40 | رقم المشاركة : 4 | |||
|
الجزء 29 المبحث الخامس: الأيام الأخيرة في حياة الفاروق: كان أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه مثالاً للخليفة العادل المؤمن، المجاهد النقي الورع، القوي الأمين، الحصن المنيع للأمة وعقيدتها، قضى رضي الله عنه خلافته كلها في خدمة دينه وعقيدته وأمته التي تولى أمر قيادتها، فكان القائد الأعلى للجيش والفقيه المجتهد الذي يرجع الجميع إلى رأيه، والقاضي العادل النزيه، والأب الحنون الرحيم بالرعية، صغيرها وكبيرها، ضعيفها وقويها، فقيرها وغنيها، الصادق المؤمن بالله ورسوله، السياسي المحنك المجرب والإداري الحكيم الحازم، أحكم بقيادته صرح الأمة، وتوطدت في عهده دعائم الدولة الإسلامية، وتحققت بقيادته أعظم الانتصارات على الفرس في معارك الفتوح، فكانت القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وتمّ فتح بلاد الشام ومصر من سيطرة الروم البيزنطيين( )، ودخل الإسلام في معظم البلاد المحيطة بالجزيرة العربية، وكانت خلافته سداً منيعاً أمام الفتن، وكان عمر نفسه باباً مغلقاً لا يقدر أصحاب الفتن الدخول إلى المسلمين في حياته، ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده( ). أولاً: حوار بين عمر وحذيفة حول الفتن (واقتراب كسر الباب): قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كنّا عند بن الخطاب رضي الله عنه. فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله في الفتنة؟ فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك، إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال عمر: ليس هذا أريد. إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر! قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إنّ بينك وبينها باباً مغلقاً!! قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا. بل يُكسر!! قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبداً، حتى قيام الساعة!!! قال أبو وائل الراوي عن حذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر( )!!! إن حذيفة قدّم العلم لعمر رضي الله عنهم، بأن الباب المنيع هو الذي يمنع تدفق الفتن على المسلمين، ويحجرُها عنهم، إنَّ هذا سيُكسر كسراً، وسيتحطم تحطيماً، وهذا معناه أنه لن يغلق بعد هذا حتى قيام الساعة، وهذا ما فهمه عمر، أي أن الفتن ستبقى منتشرة ذائعة بين المسلمين، ولن يتمكَّنوا من إزالتها أو توقُّفها أو القضاء عليها، وحذيفة رضي الله عنه لا يقرر هذا من عنده، ولا يتوقعه توقعاً، فهو لا يعلم الغيب وإنما سمع هذا من رسول الله ووعاه وحفظه كما سمعه، ولهذا يعلق على كلامه لعمر قائلاً:إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. أي حدثته حديثاً صحيحاً صادقاً، لا أغاليط ولا أكاذيب فيه، لأنني سمعته من رسول الله . ثم إن عمر رضي الله عنه يعلم الحقيقة التي أخبره بها حذيفة، فهو يعلم أن خلافته باب منيع يمنع تدفق الفتن على المسلمين، وأن الفتن لن تغزو المسلمين أثناء خلافته وعهده وحياته( )،وكان عمر رضي الله عنه يعلم من رسول الله ، أنه سيقتل قتلاً، وسيلقى الله شهيداً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: صعد رسول الله جبل أحد، ومعه أبو بكر و عمر وعثمان، فرجف الجبل بهم. فضربه رسول الله برجله، وقال له: اثبت أُحُد: فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان( ). 1- دعاء عمر في آخر حجة له سنة 23: عن سعيد بن المسيب: أن عمر رضي الله عنه لما نفر من منى أناخ بالأبطح فكوم كومة من بطحاء، فألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كُبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيّتي، فأقبضني غير مضيِّع، ولا مفرط، ثم قدم المدينة( ). 2- طلب الفاروق للشهادة: عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد نبيك وجاء في رواية: اللهم قتلاً في سبيلك ووفاة في بلد نبيك. فقال عمر رضي الله عنه: وأنى يكون ذلك؟ قال: يأتي به الله إذا شاء( ) وقد علق الشيخ يوسف بن الحسن بن عبد الهادي على طلب عمر للشهادة فقال: وتمني الشهادة مستحب، وهو مخالف لتمني الموت فإن قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: تمني الموت، طلب تعجيل الموت قبل وقته، ولا يزيد الإنسان عمره إلا خيراً، وتمني الشهادة هو أن يطلب أن يموت عند انتهاء أجله شهيداً، فليس فيه طلب تقديم الموت عن وقته، وإنما فيه طلب فضيلة فيه( ). 3- رؤيا عوف بن مالك الأشجعي: قال عوف بن مالك الأشجعي: رأيت سبباً( ) تدلى من السماء، وذلك في إمارة أبي بكر رضي الله عنه وأن الناس تطاولوا له، وأن عمر فضلهم بثلاثة أذرع، قلت: وما ذاك؟ قال: لأنه خليفة من خلفاء الله تعالى في الأرض، وأنه لا يخاف لومة لائم وأنه يقتل شهيداً قال: فغدوت على أبي بكر فقصصتها عليه فقال: يا غلام انطلق إلى أبي حفص فادعه لي، فلما جاء قال: يا عوف اقصصها عليه كما رأيتها، فلما أتيت أنه خليفة من خلفاء الله تعالى قال عمر: أكل هذا يرى النائم؟ قال فقصها( ) عليه فلما ولي عمر أتى الجابية، وإنه ليخطب فدعاني فأجلسني، فلما فرغ من الخطبة قال: قص علي رؤياك. فقلت له: ألست قد جبهتني( ) عنها؟ قال: قد خدعتك أيها الرجل( ) وجاء في رواية: قال أولم تكذب بها؟ قال: لا ولكني استحييت من أبي بكر، فقصها علي( ). فلما قصصتها، قال: أما الخلافة فقد أوتيت ما ترى، وأما أن لا أخاف في الله لومة لائم، فإني أرجو أن يكون قد علم ذلك مني، وأما أن أقتل شهيداً، فأنى لي بالشهادة وأنا في جزيرة العرب( ). 4- رؤيا أبي موسى الأشعري حول وفاة عمر: قال أبو موسى الأشعري قال: رأيت كأني أخذت جواداً كثيراً فجعلت تضمحل حتى بقيت واحدة، فأخذتها فانتهيت إلى جبل زلق، فإذا رسول الله إلى جنبه أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن تعال، فقلت: ألا تكتب بها إلى عمر؟ فقال: ما كنت لأنعي له نفسه( ). 5- آخر خطبة جمعة لعمر في المدينة: وقد ذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بعض ما قاله عمر في خطبة الجمعة 21 ذي الحجة 23هـ وهي آخر خطبة له. وقد ذكرت ما قاله عبد الرحمن بن عوف من الخطبة عند حديثي عن كيفية استخلاف أبي بكر الصديق في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسير أبي بكر الصديق. وقد أخبر عمر نفسه المسلمين عن رؤيا رآها، وعبّرها لهم. قال في نفس الخطبة: إني رأيت رؤيا، لا أراها إلا حضور أجلي. رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين!!! وإن قوماً يأمرونني أن أستخلف وأعين الخليفة من بعدي!! وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته، ولا الذي بعث به نبيّه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض( )! 6- اجتماع عمر مع حذيفة قبل طعنه: قبل استشهاد الفاروق بأربعة أيام أي يوم الأحد 23 ذي الحجة قابل الصحابيين حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف رضي الله عنهما، وكان قد وظَّفَ حذيفة ليقدِّرَ خراج الأرض التي تُسقى بماء نهر دجلة، ووظَّفَ سهل بن حنيف ليقدِّر خراج الأرض التي تسقى بماء نهر الفرات. وقال لهما: كيف فعلتما؟ أخاف أن تكونا قد حمَّلتما الأرض ما لا تطيق. قالا: حمّلناها أمراً هي له مطيقة. فقال عمر: لئن سلّمني الله، لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتَجْنَ إلى رجل بعدي أبداً، ولكنه طعن في اليوم الرابع من هذه المحاروة بينه وبينهما( ). 7- منع الفاروق للسبايا من الإقامة في المدينة: كان عمر رضي الله عنه لا يأذن للسبايا في الأقطار المفتوحة بدخول المدينة المنورة، عاصمة دولة الخلافة، فكان يمنع مجوس العراق وفارس، ونصارى الشام ومصر من الإقامة في المدينة إلا إذا أسلموا ودخلوا في هذا الدين، وهذا الموقف يدل على حكمته وبعد نظره، لأن هؤلاء القوم المغلوبين المنهزمين حاقدون على الإسلام، مبغضون له، مهيئون للتآمر والكيد ضد الإسلام والمسلمين ولذلك منعهم من الإقامة فيها لدفع الشرِّ عن المسلمين ولكنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان لهم عبيد ورقيق من هؤلاء السبايا النصارى أو المجوس، وكان بعضهم يلحُّ على عمر أن يأذن لبعض عبيده ورقيقه من هؤلاء المغلوبين بالإقامة في المدينة، ليستعين بهم في أموره وأعماله، فأذن عمر لبعضهم بالإقامة في المدينة، على كره منه ووقع ما توقَّعه عمر، وما كان حذّر منه( ). ثانياً: مقتل عمر وقصة الشورى: 1- مقتل عمر رضي الله عنه: قال عمرو بن ميمون: إني لقائم( )، ما بيني، وبينه إلا عبد الله بن عباس، غداة أصيب وكان إذا مرّ بين الصفين، قال استووا، فإذا استووا ، تقدّم فكبّر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني – أو أكلني – الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنساً، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه – للصلاة بالناس – فمن يلي عمر، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرُون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَع( )، قال: نعم، قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل يدّعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك يريد العباس، وابنه عبد الله تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال عبد الله إن شئت، فعلت، أي: إن شئت قَتَلنا. قال: كذبت - أي: أخطأت – بعدما تكلموا بلسانكم، وصلّوا قبلتكم، وحجوا حجّكم. فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فأُتي بنبيذ( ) فشربه، فخرج من جوفه، ثمّ أتي بلبن فشربه فخرج من جُرْحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه.. وقال: يا عبد الله بن عمر انظر، ما عليّ من الدَّين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر، فأدّه من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل، يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يبقى مع صاحبيه.. فسلّم عبد الله بن عمر، واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّه به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمُّ إليّ من ذلك.. فإذا أنا قضيت فاحملني ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. قال: فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت عائشة: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه( )، وجاءت روايات أخرى فصلت بعض الأحداث التي لم تذكرها رواية عمرو بن ميمون قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عمر رضي الله عنه طُعن في السحر، طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسياً( ). وقال أبو رافع رضي الله عنه: كان أبو لؤلؤة عبداً للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء( )، وكان المغيرة يستغله كل يوم أربعة دراهم، فلقي أبو لؤلؤة عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن المغيرة قد أثقل عليَّ غلتي، فكلِّمه أن يخفف عني. فقال عمر: اتق الله، وأحسن إلى مولاك، ومن نية عمر أن يلقى المغيرة فيكلمه يخفف عنه، فغضب العبد، وقال: وسع كلهم عدله غيري؟! فأضمر على قتله، فاصطنع خنجراً له رأسان، وشحذه، وسمّه، ثم أتى به الهُرْمُزان، فقال: كيف ترى هذا؟ قال: أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتلته. قال: فتحين أبو لؤلؤة عمر، فجاءه في صلاة الغداة حتى قام وراء عمر، وكان عمر إذا أقيمت الصلاة يتكلم يقول: أقيموا صفوفكم، فقال كما كان يقول: فلما كبَّر، وجأه( )، أبو لؤلؤة وجأةً في كتفه، ووجأة في خاصرته، فسقط عمر( )، قال عمرو بن ميمون رحمه الله: سمعته لما طعن يقول: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (الأحزاب،آية:38). 2- ابتكاره طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده: استمر اهتمام الفاروق عمر رضي الله عنه بوحدة الأمة ومستقبلها، حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره( )، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم فاحتمال الخلاف كان نادراً وخصوصاً أن النبي وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصدّيق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر( )، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد تعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله وهو عنهم راض وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس والمرجح إن تعادلت الأصوات وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس وعقاب من يخالف أمر الجماعة ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد( )، وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة: أ- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم: أما العدد فهو ستة وهم؛ علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً. وترك سعيد بن زيد بن نفيل وهو من العشرة المبشرين بالجنة ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي( ). ب- طريقة انتخاب الخليفة: أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضرهم مشيراً فقط وليس له من الأمر شيء ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات( ). جـ- مدة الانتخابات أو المشاورة: حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير( ). د- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة: لقد أمرهم بالاجتماع والتشاور وحدّد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فليضرب رأسه بالسيف وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما( ). وهذه من الروايات التي لا تصح سنداً فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف مخالفاً فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكره أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم أي أهل الشورى فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما( ): فهذا قول منكر وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله ، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم( )، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم( )، وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف وقد تغير بآخره( ). والصحيح في هذا ما أخرجه ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات أن عمر رضي الله عنه قال لصهيب: صل بالناس ثلاثاً وليخل هؤلاء الرهط في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه( )، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط ويشق عصا المسلمين ويفرق بينهم، عملاً بقوله : من أتاكم وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه( ). هـ- الحكم في حال الاختلاف: لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسدد رشيد له من الله حافظ فاسمعوا منه( ). و- جماعة من جنود الله تراقب الانتخابات وتمنع الفوضى: طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة إن الله عز وجل أعز الإسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم( )، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم( ). هكذا ختم حياته –رضي الله عنه- ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية وقد عمل بها رسول الله –- وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول ولا الصديق -رضي الله عنه- بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت( ). ثالثاً: وصية عمر رضي الله عنه للخليفة الذي بعده: أوصى الفاروق عمر -رضي الله عنه- الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً أن تعرف لهم سابقتهم وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيك بأهل الذمة خيراً، أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين طوعاً، أو عن يد وهم صاغرون، وأوصيك بتقوى الله، والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة وأوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم، فإن في ذلك بإذن الله سلامة قلبك، وحطاً لوزرك، وخيراً في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك وآمرك أن تشتد في أمر الله، وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة، حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين، فتجور وتظلم، وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلاً وعفة عما بسط لك اقترفت به إيماناً ورضواناً، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله، وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذّمة، وقد أوصيتك، وخصصتك ونصحتك فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالاً عليه نفسي وولدي، فإن علمت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيباً وافراً وحظاً وافياً، وإن لم تقبل ذلك، ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصاً، ورأيك فيه مدخولاً، لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك، فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله، الداعي إلى معاصيه، ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظاً لنفسك، وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضربهم فيذلوا، ولا تستأئر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلّها فتفقرهم، ولا تجمّرهم في البعوث فينقطع نسلهم ولا يجعل المال دُولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك، وأقرأ عليك السلام( ). هذه الوصية تدل على بعد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل( )، فقد تضمنت الوصية أموراً غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة، لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها: 1- الناحية الدينية، وتضمنت: أ- الوصية بالحرص الشديد، على تقوى الله، والخشية منه في السر والعلن في القول والعمل، لأن من اتقى الله وقاه ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له) (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه.. وأوصيك أن تخشى الله. ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبال على من وجب الحق) (ولا تأخذك في الله لومة لائم) لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين، ولأن الشريعة حجة على الناس، وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع. ج- الاستقامة (استقم كما أمرت) وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولاً وعملاً أولاً ثم الرعية (كن واعظاً لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة). 2- الناحية السياسية، وتضمنت: أ- الالتزام بالعدل، لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية، تحقيق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل) (واجعل الناس عندك سواء). ب- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي، قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحماته (وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيراً، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيراً، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. 3- الناحية العسكرية، وتضمنت: أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعداداً يتناسب وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم). ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيداً عن عوائلهم وتلافياً لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها، من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم) (وأوصيك بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء العدو). ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء، وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شؤونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم). 4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت: أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم). ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدّوا ما عليهم للمؤمنين). ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم) (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم) ( ). 5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت: أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها). ب- اجتناب الأثرة والمحاباة واتباع الهوى، لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله) (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم). ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم ووقرت عالمهم). د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم، وإنصاف بعضهم من بعض وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم). ه- اتباع الحق، والحرص على تحقيقه في المجتمع، وفي كل الظروف والأحوال، لكونه ضرورة اجتماعية لابد من تحقيقها بين الناس، (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات) (واجعل الناس عندك سواء، لا تبال على من وجب الحق). و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة، لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين، لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة). ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام) ( ). ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عاملاً أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين( ). |
|||
2012-08-09, 07:42 | رقم المشاركة : 5 | |||
|
الجزء 30
رابعاً: اللحظات الأخيرة: هذا ابن عباس رضي الله عنه يصف لنا اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق حيث يقول: دخلت على عمر حين طُعنْ، فقلت: أبشر بالجنة، يا أمير المؤمنين، أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله حين خذله الناس، وقبض رسول الله وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقُتلت شهيداً فقال عمر: أعد عليَّ، فأعدت عليه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع( )، وجاء في رواية البخاري، أما ما ذكرت من صحبة رسول الله ورضاه فإن ذلك من الله جل ذكره منَّ به علي، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طِلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه( ). لقد كان عمر رضي الله عنه يخاف هذا الخوف العظيم من عذاب الله تعالى مع أن النبي شهد له بالجنة، ومع ما كان يبذل من جهد كبير في إقامة حكم الله والعدل والزهد والجهاد وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وإن في هذا لدرساً بليغاً للمسلمين عامة في تذكر عذاب الله الشديد وأهوال يوم القيامة( ). وهذا عثمان رضي الله عنه يحدثنا عن اللحظات الأخيرة في حياة الفاروق فيقول: أنا آخركم عهداً بعمر، دخلت عليه، ورأسه في حجر ابنه عبد الله بن عمر فقال له: ضع خدي بالأرض، قال: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟ قال ضع خدي بالأرض لا أم لك، في الثانية أو في الثالثة، ثم شبك بين رجليه، فسمعته يقول: ويلي، وويل أمي إن لم يغفر الله لي حتى فاضت( ) روحه، فهذا مثل مما كان يتصف به أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من خشية الله تعالى، حتى كان آخر كلامه الدعاء على نفسه بالويل إن لم يغفر الله جل وعلا له، مع أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، ولكن من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، وإصراره على أن يضع ابنه خده على الأرض من باب إذلال النفس في سبيل تعظيم الله عز وجل، ليكون ذلك أقرب لاستجابة دعائه، وهذه صورة تبين لنا قوة حضور قلبه مع الله جل وعلا( ). 1- تاريخ موته ومبلغ سنه: قال الذهبي: استشهد يوم الأربعاء لأربع أو ثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح( )، وكانت خلافته عشر سنين ونصفاً وأياماً( )، وجاء في تاريخ أبي زرعة عن جرير البجلي قال: كنت عند معاوية فقال: توفي رسول الله وهو ابن ثلاث وستين، وتوفي أبو بكر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين وقتل عمر –رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين( ). 2- في غسله والصلاة عليه ودفنه: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- غسل وكُفِّن، وصلي عليه، وكان شهيداً( )، وقد اختلف العلماء فيمن قتل مظلوماً هل هو كالشهيد لا يغسل أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه يغسل، وهذا حجة لأصحاب هذا القول( ). والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه، والجواب عن قصة عمر أن عمر عاش بعد أن ضرب وأقام مدة، والشهيد حتى شهيد المعركة لو عاش بعد أن ضرب حتى أكل وشرب أو طال مقامه فإنه يغسل، ويصلى عليه، وعمر طال مقامه حتى شرب الماء، وما أعطاه الطبيب، فلهذا غسل وصلي عليه رضي الله عنه( ). 3- من صلى عليه؟ قال الذهبي: صلى عليه صهيب بن سنان( )، وقال ابن سعد: وسأل علي بن الحسين سعيد بن المسيب: من صلى على عمر؟ قال: صهيب، قال كم كبر عليه؟ قال: أربعاً، قال: أين صُلي عليه؟ قال: بين القبر والمنبر( )، وقال ابن المسيب: نظر المسلمون فإذا صهيب يصلي لهم المكتوبات بأمر عمر رضي الله عنه فقدموه، فصلى على عمر( )، ولم يقدم عمر رضي الله عنه أحداً من الستة المرشحين للخلافة حتى لا يظن تقديمه للصلاة ترشيحاً له من عمر، كما أن صهيباً كانت له مكانته الكبيرة عند عمر والصحابة رضي الله عنهم وقد قال في حقه الفاروق: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه( ). 4- في دفنه رضي الله عنه: قال الذهبي: دفن في الحجرة النبوية( )، وذكر ابن الجوزي عن جابر قال: نزل في قبر عمر عثمان وسعيد بن زيد، وصهيب، وعبد الله بن عمر( )، وعن هشام بن عروة قال: لما سقط عنهم –يعني قبر النبي وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في زمن الوليد بن عبد الملك( ) أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدمٌ، ففزعوا، وظنوا أنها قدم النبي فما وجدوا أحداً يعلم ذلك، حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي ما هي إلا قدم عمر -رضي الله عنه( )- وقد مرّ معنا: أن عمر أرسل إلى عائشة –رضي الله عنهما- ائذني لي أن أُدفن مع صاحبي، فقالت: (أي والله) وقال هشام بن عروة بن الزبير: وكان الرجل إذا أرسل إليها -أي عائشة- من الصحابة قالت: لا والله لا أؤثرهم بأحد أبداً( )، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- في هذا المكان من المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام( ). 5- ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفاروق: قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يَرُعني إلا رجل آخذ منكبي، فإذا علي بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحبّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر( ). 6- أثر مقتله على المسلمين: كان هول الفاجعة عظيماً على المسلمين، فلم تكن الحادثة بعد مرض ألمَّ بعمر، كما كان يزيد من هولها في المسجد وعمر يؤم الناس لصلاة الصبح، ومعرفة حال المسلمين بعد وقوع الحدث يطلعنا على أثر الحادث في نفوسهم، يقول عمرو بن ميمون: .. وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، ويذهب ابن عباس ليستطلع الخبر بعد مقتل عمر ليقول له: إنه ما مرّ بملأ إلا وهم يبكون وكأنهم فقدوا أبكار أولادهم( )، لقد كان عمر -رضي الله عنه- معلماً من معالم الهدى، وفارقا بين الحق والباطل فكان من الطبيعي أن يتأثر الناس لفقده( )، وهذا الأثر يوضح شدة تأثر الناس عليه، فعن الأحنف بن قيس: قال… فلما طعن عمر أمر صهيباً أن يصلي بالناس، ويطعمهم ثلاثة أيام حتى يجتمعوا على رجل، فلما وضعت الموائد كف الناس عن الطعام، فقال العباس: يا أيها الناس إن رسول الله قد مات، فأكلنا بعده، وشربنا ومات أبو بكر -رضي الله عنه-، فأكلنا، وإنه لا بد للناس من الأكل والشرب، فمد يده فأكل الناس( ). وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما يذكر له عمر يبكي حتى تبتل الحصى من دموعه ثم يقول: إن عمر كان حصناً للإسلام يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات انثلم الحصن فالناس يخرجون من الإسلام( ). وأما أبو عبيدة بن الجراح، فقد كان يقول قبل أن يقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه( ). خامساً: أهم الفوائد والدروس والعبر: 1- التنبيه على الحقد الذي انطوت عليه قلوب الكافرين ضد المؤمنين: ويدل على ذلك قتل المجوسي أبي لؤلؤة لعمر رضي الله عنه، وتلك هي طبيعة الكفار في كل زمان ومكان، قلوب لا تضمر للمسلمين إلا الحقد والحسد والبغضاء، ونفوس لا تكن للمؤمنين إلا الشر والهلاك والتلف، ولا يتمنون شيئاً أكثر من ردة المسلمين عن دينهم وكفرهم بعد إسلامهم( )، وإن الذي ينظر جيداً في قصة مقتل عمر -رضي الله عنه- وما فعله المجوسي الحاقد أبو لؤلؤة يستنبط منها أمرين مهمين، يكشفان الحقد الذي أضمره هذا الكافر في قلبه تجاه عمر، وتجاه المسلمين، وهما: أ- أنه قد ثبت في الطبقات الكبرى لابن سعد بسند صحيح إلى الزهري( )، أن عمر رضي الله عنه قال لهذا المجوسي ذات يوم: ألم أُحدّث أنك تقول: لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه المجوسي عابساً، لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد. ب- الأمر الثاني الذي يدل على الحقد الذي امتلأ به صدر هذا المجوسي أنه لمّا طعن عمر رضي الله عنه، طعن معه ثلاثة عشر صحابياً استشهد منهم سبعة جاء في رواية الإمام البخاري قوله: فطار العلج( ) بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة( )، ولو كان عمر -رضي الله عنه- ظالماً له فما ذنب بقية الصحابة الذين اعتدى عليهم؟!، ومعاذ الله تعالى أن يكون عمر ظالماً له، إذ قد ثبت في رواية البخاري أنه لما طعن رضي الله عنه قال: يا ابن عباس، انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصَنَع؟ أي: الصانع، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام( )، وهذا المجوسي أبو لؤلؤة قام أحبابه أعداء الإسلام ببناء مشهد تذكاري له على غرار الجندي المجهول في إيران يقول السيد حسين الموسوي من علماء النجف: واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية، في منطقة تسمى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول، فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي، قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد بابا شجاع الدين)، وبابا شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي: (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربية: الموت لأبي بكر، الموت لعمر، الموت لعثمان وهذا المشهد يُزار من قبل الشيعة الإيرانيين، وتُلقى فيه الأموال، والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة على المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب( ). 2- بيان الانكسار والخشية والخوف الذي تميز به عمر رضي الله عنه: ومما يدل على هذا الخوف الذي سيطر على قلب عمر رضي الله عنه قبيل استشهاده قوله لما عَلِمَ أن الذي طعنه هو المجوسي أبو لؤلؤة: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام( )، فإنه رغم العدل الذي اتصف به عمر رضي الله عنه، والذي اعترف به القاصي والداني، والعربي والعجمي، إلا أنه كان خائفاً أن يكون قد ظلم أحداً من المسلمين، فانتقم منه بقتله، فيُحاجَّه عند الله تعالى، كما تدل على ذلك رواية ابن شهاب: أن عمر قال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، وكما تدل عليه كذلك رواية مبارك بن فضالة، يحاجني بقول: لا إله إلا الله( )، وهذه عجيبة من عجائب هذا الإمام الرباني، ينبغي أن يتربى عليها الدعاة والمصلحون وأن يكون الانكسار علامة من أكبر علاماتهم حتى ينفع الله تعالى بهم، كما نفع بأسلافهم كعمر -رضي الله عنه- وليكن مقال الجميع قول القائل: واحسرتي، واشقوتي واطُول حزني إن أكن وإذا سُئلتُ عن الخطا واحرّ قلبي أن يكون كلا ولا قدّمتُ لي بل إنني لشقاوتي بارزت بالزلات في من ليس يخفى عنه من مِنْ يوم نشر كتابيه أوتيته بشماليه ماذا يكون جوابيه؟ مع القلوب القاسية عملاً ليوم حسابيه وقساوتي وعذابيه أيام دهر خالية قبح المعاصي خافية( ) 3- التواضع الكبير عند الفاروق والإيثار العظيم عند السيدة عائشة: أ- التواضع الكبير عند الفاروق رضي الله عنه: وقد دل عليه من قصة استشهاده قوله لابنه عبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً( )، ويدل عليه كذلك قوله لابنه لما أذنت عائشة بدفنه إلى جنب صاحبيه: فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّمْ، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين( )، فرحم الله عمر -رضي الله عنه-، ورزقنا خُلُقاً من خُلُقه، وتواضعاً من تواضعه، وجزاه خير ما يجزي به الأتقياء المتواضعين، إن ربي قريب مجيب( ). ب- الإيثار العظيم عند السيدة عائشة رضي الله عنها: ومما يدل على الإيثار عند السيدة عائشة أنها رضي الله عنها كانت تتمنى أن تدفن بجوار زوجها ، وأبيها أبي بكر، فلما استأذنها عمر لذلك أذنت وآثرته على نفسها وقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي( ). 4 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو على فراش الموت: إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يتخل عنه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شاباً دخل عليه لما طُعن، فواساه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله ، وقَدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وُلِّيت فعدلت، ثم شهادة، قال -أي عمر- ودِدْت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يَمسُّ الأرض، قال رُدُّوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك فإنه أنقَى لثوبك وأتقى لربك( )، وهكذا لم يمنعه -رضي الله عنه- ما هو فيه من الموت عن الأمر بالمعروف ولذا، قال ابن مسعود -رضي الله عنه- فيما رواه عُمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق( )، ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضاً، لما دخلت عليه حفصة -رضي الله عنها- فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله: أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسنده إلى صدره، فقال لها: إنّي أحرج عليك( ) بمالي عليك من الحق أن تندبيني( )، بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها( )، وعن أنس بن مالك قال: لما طُعن عمر صرخت حفصة فقال عمر: يا حفصة أما سمعت رسول الله يقول: إن المعول عليه يعذب؟ وجاء صُهَيب فقال: واعمراه فقال: ويلك يا صهيب أما بلغك أن المعول عليه يعذب( )، ومن شدته في الحق رضي الله عنه حتى بعد طعنه وسيلان الدم منه فعندما قال له رجل: استخلف عبد الله بن عمر، قال: والله ما أردت الله بهذا( ). 5- جواز الثناء على الرجل بما فيه إذا لم تُخْشَ عليه الفتنة: كما هو الحال هنا مع عمر -رضي الله عنه-، إذ أُثني عليه من قِبل بعض الصحابة لأنهم كانوا يعلمون أن الثناء عليه لا يفتنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو العالم الرباني والفقيه الكبير: أليس قد دعا رسول الله أن يعز بك الدين والمسلمين؛ إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وظهر بك الإسلام..، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسعتهم في دينهم، وتوسعتهم في أرزاقهم، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك وهكذا لم تؤثر هذه الكلمات في قلب عمر شيئاً، ولم يفرح بها، ولذا ردّ على ابن عباس قائلاً: والله إن المغرور من تغرونه( ). 6- حقيقة موقف كعب الأحبار من مقتل عمر رضي الله عنه: كعب الأحبار هو كعب بن مانع الحميري، كنيته أبو إسحاق، واشتهر بكعب الأحبار، أدرك النبي وهو رجل وأسلم في خلافة عمر، سنة اثنتي عشرة( )، وقد اشتهر قبل إسلامه بأنه كان من كبار علماء اليهود في اليمن، وبعد إسلامه أخذ عن الصحابة الكتاب والسنة، وأخذوا وغيرهم عنه أخبار الأمم الغابرة خرج إلى الشام، وسكن حمص وتوفي فيها( )، وقد اتهم كعب الأحبار في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جاءت رواية في الطبري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه تشير إلى اتهامه في مقتل عمر جاء في تلك الرواية: .. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، إعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك قال: وعمر لا يحس وجعاً ولا ألماً فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها، قال: فلما كان الصبح، خرج إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالاً، فإذا استوت، جاء هو فكبر، قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته( )، وقد بنى بعض المفكرين المحدثين على هذه الرواية نتيجة، مفادها: اشتراك كعب الأحبار، في مؤامرة قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل د. جميل عبد الله المصري في كتابه: أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية في القرن الأول الهجري، وعبد الوهاب النجار في كتابه: الخلفاء الراشدون، والأستاذ غازي محمد فريج في كتابه: النشاط السري اليهودي في الفكر والممارسة( )، وقد ردّ الدكتور أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الزّغيبي على الاتهام الموجه لكعب الأحبار فقال: والذي أراه في هذه القصة المعقدة: أن تلك الرواية، التي رواها الإمام الطبري رحمه الله تعالى غير صحيحة، لأمور كثيرة من أهمها: أ- أن هذه القصة لو صحت لكان من المنتظر من عمر رضي الله عنه أن لا يكتفي بقول (كعب)، ولكن لجمع طائفة ممن أسلم من اليهود وله إحاطة بـ(التوراة) مثل عبد الله بن سلام، ويسألهم عن هذه القصة، وهو لو فعل لافتضح أمر (كعب)، وظهر للناس كذبه، ولتبين لعمر رضي الله عنه أنه شريك في مؤامرة دبرت لقتله، أو أنه على علم بها، وحينئذ يعمل عمر رضي الله عنه على الكشف عنها بشتى الوسائل، وينكل بمدبريها، ومنهم كعب، هذا هو المنتظر من أي حاكم، فضلاً عن عمر رضي الله عنه المعروف بكمال الفطنة، وحدة الذهن، وتمحيص الأخبار لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، فكان ذلك دليلاً على اختلاقها( ). ب- أن هذه القصة لو كانت في التوراة، لما اختص بعلمها كعب رحمه الله تعالى وحده، ولشاركه العلم بها كل من له علم بـ(التوراة) من أمثال عبد الله بن سلام رضي الله عنه( ). جـ- أن هذه القصة لو صحت أيضاً لكان معناها أن كعباً له يد في المؤامرة وأنه يكشف عن نفسه بنفسه، وذلك باطل لمخالفته طباع الناس، إذ المعروف أنه من اشترك في مؤامرة، يبالغ في كتمانها بعد وقوعها، تفادياً من تحمل تبعاتها، فالكشف عنها قبل وقوعها لا يكون إلا من مغفل أبله، وهذا خلاف ما كان عليه كعب، من حدة الذهن، ووفرة الذكاء( ). د- ثم ما لـ(التوراة) وتحديد أعمار الناس؟ إن الله تعالى إنما أنزل كتبه هدى للناس، لا لمثل هذه الأخبار التي لا تعدو أصحابها( ). و- ثم أيضاً هذه التوراة بين أيدينا ليس فيها شيء من ذلك مطلقاً وبعد أن أورد الشيخ محمد محمد أبو زهو( ) تلك الاعتراضات الأربعة الأولى، عقب عليها، بقوله: ومن ذلك كله، يتبين لك أن هذه القصة مفتراة، بدون أدنى اشتباه، وأن رمي كعب بالكيد للإسلام في شخص عمر، والكذب في النقل عن التوراة اتهام باطل، لا يستند على دليل أو برهان( ). ويقول الدكتور محمد السيد حسين الذهبي رحمه الله: ورواية ابن جرير الطبري للقصة لا تدل على صحتها، لأن ابن جرير كما هو معروف عنه لم يلتزم الصحة في كل ما يرويه، والذي ينظر في تفسيره يجد فيه مما لا يصح شيئاً كثيراً( )، كما أن ما يرويه في تاريخه لا يعدو أن يكون من قبل الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، ولم يقل أحد بأن كل ما يروى في كتب التاريخ( )، ثابت وصحيح( )، ثم يتابع قائلاً: ثم إن ما يعرف عن كعب الأحبار من دينه، وخلقه، وأمانته، وتوثيق أكثر أصحاب الصحاح( ) له، يجعلنا نحكم بأن هذه القصة موضوعة عليه، ونحن ننزه كعباً عن أن يكون شريكاً في قتل عمر، أو يعلم من يدبر أمر قتله ثم لا يكشف لعمر عنه، كما ننزهه أن يكون كذاباً وضاعاً، يحتال على تأكيد ما يخبر به من مقتل عمر نسبته إلى التوراة وصوغه في قالب إسرائيلي( ). إلى أن يقول: اللهم إن كعباً مظلوم من متهميه، ولا أقول عنه: إلا أنه ثقة مأمون، وعالم استغل اسمه، فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل، لتروج بذلك على العامة، ويتقبلها الأغمار من الجهلة( ). وأما الدكتور محمد السيد الوكيل فيقول: إن أول ما يواجه الباحث هذا هو موقف عبيد الله بن عمر الذي لم يكد يسمع بما حدث لأبيه حتى يحمل سيفه، ويهيج كالسبع الحرب، ويقتل الهرمزان وجفينة وابنة صغيرة لأبي لؤلؤة؛ أفترى عبيد الله هذا يترك كعب الأحبار والشبهة تحوم حوله، ويقتل ابنة أبي لؤلؤة الصغيرة؟ إن أحداً يبحث الموضوع بحثاً علمياً لا يمكن أن يقبل ذلك، ويضاف إلى ذلك أن جمهور المؤرخين لم يذكروا القصة، بل لم يشيروا إليها، فابن سعد في الطبقات وقد فصل الحادث تفصيلاً دقيقاً لم يشر قط إلى الحادثة، بل كل ما ذكر عن كعب الأحبار أنه كان واقفاً بباب عمر يبكي ويقول: والله لو أن أمير المؤمنين يقسم على الله أن يؤخره لأخره( )، وأنه دخل على عمر بعد أن أخبره الطبيب بدنوا أجله فقال: ألم أقل لك إنك لا تموت إلا شهيداً، وأنت تقول: من أين وأنا في جزيرة العرب( )، ويأتي بعد ابن سعد ابن عبد البر في الاستيعاب فلا يذكر شيئاً قط عن قصة كعب الأحبار( )، وأما ابن كثير فيقول: إن وعيد أبي لؤلؤة كان عشية يوم الثلاثاء، وأنه طعنه صبيحة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة( )، لم يكن إذن بين التهديد والتنفيذ سوى ساعات معدودات، فكيف ذهب كعب الأحبار إلى عمر، وقال له ما قال: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، ثم يقول: مضى يوم وبقي يومان، ثم مضى يومان وبقي يوم وليلة، من أين لكعب هذه الأيام الثلاثة إذا كان التهديد في الليل والتنفيذ صبيحة اليوم التالي؟ ويتوالى المؤرخون، فيأتي السيوطي في تاريخ الخلفاء، والعصامي في سمط النجوم العوالي، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وابنه عبد الله في كتابيهما مختصرة سيرة الرسول، وحسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام السياسي وغيرهم فلا نجد واحداً منهم يذكر القصة من قريب أو بعيد. أليس هذا دليلاً على أن القصة لم تثبت بصورة تجعل المحقق يطمئن إلى ذكرها هذا إذا لم تكن منتحلة مصنوعة كاد بها بعض الناس لكعب لينفروا منه المسلمين، وهذا ما تطمئن إليه النفس ويميل إليه القلب، وبخاصة بعد ما عرفنا أن كعباً كان حسن الإٍسلام، وكان محل ثقة كثير من الصحابة حتى رووا عنه حديث رسول الله ( ). 7- ثناء الصحابة والسلف على الفاروق: أ- في تعظيم عائشة رضي الله عنها له بعد دفنه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله وسلم وأبي، فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر( )، وعن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: من رأى ابن الخطاب، علم أنه خلق غناء للإسلام، كان والله أحوذياً( )، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها( )، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إذا ذكرتم عمر طاب المجلس( ). ب- سعيد بن زيد رضي الله عنه: روي عن سعيد بن زيد أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة( ). ت- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال عبد الله بن مسعود: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم الأرض في كفة لرجح علم عمر( )، وقال أيضاً: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم( ). وقال عبد الله بن مسعود: كان إسلام عمر فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة( ). ث- قال أبو طلحة الأنصاري: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم( ). ج- قال حذيفة بن اليمان: إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار( ). ح- عبد الله بن سلام: جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه بعدما صلى على عمر رضي الله عنه فقال: إن كنتم سبقتموني بالصلاة عليه، فلن تسبقوني بالثناء عليه، ثم قال، نعم أخو الإسلام كنت يا عمر جواداً بالحق، بخيلاً بالباطل، ترضى من الرضى وتسخط من السخط، لم تكن مداحاً ولا معياباً، طيب العَرْف( )، عفيف الطرف( ). خ- العباس بن عبد المطلب: قال العباس بن عبد المطلب: كنت جاراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أحداً من الناس كان أفضل من عمر، إن ليله صلاة، ونهاره صيام، وفي حاجات الناس، فلما توفي عمر سألت الله تعالى: أن يرينه في النوم فرأيته في النوم مقبلاً متشحاً من سوق المدينة، فسلمت عليه وسلم عليَّ، ثم قلت له: كيف أنت؟ قال بخير. قلت له: ما وجدت؟ قال: الآن حين فرغت من الحساب، ولقد كاد عرشي يهوي لولا أني وجدت رباً رحيماً( ). د- معاوية بن أبي سفيان: قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم تُرِده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدْها، وأمّا نحن فتمرغنا فيها ظهْراً لبطن( ). ذ- علي بن الحسين: عن ابن أبي حازم عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومنزلتهما من رسول الله قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه( ). ر- قبيصة بن جابر: عن الشعبي قال: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيت أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله، ولا أحسن مدارسة منه( ). ز- الحسن البصري: قال الحسن البصري إذا أردتم أن يطيب المجلس فأفيضوا في ذكر عمر( )، وقال أيضاً: أي أهل بيت لم يجدوا فقده فهم أهل بيت سوء( ). س- علي بن عبد الله بن عباس: قال: دخلت في يوم شديد البرد على عبد الملك بن مروان فإذا هو في قبة باطنها فُوهِيُّ( ) معصفر، وظاهرها خزاعيز( )، وحوله أربعة كوانين( )، قال فرأى البرد في تقفْقُفي( )، فقال: ما أظن يومنا هذا إلا بارداً. قلت: أصلح الله الأمير ما يظن أهل الشام أنه أتى عليهم يوم أبرد منه، فذكر الدنيا، وذمها، ونال منها، وقال: هذا معاوية عاش أربعين سنة عشرين أميراً، وعشرين خليفة، لله در ابن حنتمة ما كان أعلمه بالدنيا يعني عمر رضي الله عنه( ). 8- آراء بعض العلماء والكتّاب المعاصرين: أ- قال الدكتور محمد محمد الفحام شيخ الأزهر السابق: لقد كشفت أعمال عمر عن تفوقه السياسي، وبيّنت مواهبه العديدة التي ملكها، وعن عبقريته الخالدة، التي لا تزال تضيء أمامنا الطريق في العديد من مشكلات الحياة المختلفة في معالجة القضايا والمشاكل التي واجهته أثناء خلافته( ). ب- قال عباس محمود العقاد: إن هذا الرجل العظيم أصعب من عرفت من عظماء الرجال نقداً ومؤاخذة ومن مزيد مزاياه أن فرط التمحيص وفرط الإعجاب في الحكم له أو عليه يلتقيان، وكتابي عبقرية عمر ليس بسيرة لعمر ولا بتاريخ لعصره على نمط التواريخ التي تقصد بها الحوادث والأنباء، ولكنه وصف له ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس وعلم الأخلاق وحقائق الحياة.. وعمر يعد رجل المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنه العصر الذي شاعت فيه عبادة القوة الطاغية وزعم الهاتفون بدينها أن البأس والحق نقيضان؛ فإذا فهمنا عظيماً واحداً كعمر بن الخطاب، فقد هدمنا دين القوة الطاغية على أساسه، لأننا سنفهم رجلاً كان غاية في البأس، وغاية في العدل، وغاية في الرحمة.. وهذا الفهم ترياق داء العصر يشفى به من ليس بميئوس الشفاء( ). ت- قال الدكتور أحمد شلبي: .. وكان الاجتهاد من أبرز الجوانب في حياة عمر خلال حقبة خلافته الحافلة بالأحداث، فحفظ الدين، ورفع راية الجهاد، وفتح البلاد، ونشر العدل بين العباد، وأنشأ أول وزارة مالية في الإسلام، وكون جيشاً نظامياً للدفاع وحماية الحدود، ونظم المرتبات والأرزاق، ودون الدواوين، وعين الولاة والعمال والقضاة، وأقر النقود للتداول الحياتي، ورتب البريد، وأنشأ نظام الحسبة، وثبت التأريخ الهجري، وأبقى الأرض المفتوحة دون قسمة، وخطط المدن الإسلامية وبناها، فهو بحق أمير المؤمنين وباني الدولة الإسلامية( ). ث- قال المستشار علي علي منصور: إن رسالة عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري قبل أربعة عشر قرناً من الزمن دستور للقضاء والمتقاضين، وهي أكمل ما وصلت إليه قوانين المرافعات الوضعية وقوانين استقلال القضاء( ). جـ- اللواء الركن محمود شيت خطاب: وإذا كانت أسباب الفتح الإسلامي كثيرة، فإن على رأس تلك الأسباب ما كان يتمتع به عمر بن الخطاب من سجايا قيادية فذة لا تتكرر في غيره على مر السنين والعصور إلا نادراً( ). ح- الدكتور صبحي المحمصاني: بانقضاء عهد الخليفة الراشد عمر، ينقضي عهد مؤسس الدولة الإسلامية التي وسع رقاعها، وثبت دعائمها، فكان مثال القائد الموجه، والأمير الحازم الحكيم، والراعي المسؤول، والحاكم القوي العادل والرفيق الرؤوف، ثم مات ضحية الواجب، وشهيد الصدق والصلاح، فكان مع الصديقين والصالحين من أولياء الله تعالى وسيبقى اسم عمر بن الخطاب مخلداً ولامعاً في تاريخ الحضارة والفقه( ). س- الشيخ علي طنطاوي: أنا كلما ازددت اطلاعاً على أخبار عمر، زاد إكباري وإعجابي به، ولقد قرأت سير آلاف العظماء من المسلمين وغير المسلمين، فوجدت فيهم من هو عظيم بفكره، ومن هو عظيم ببيانه، ومن هو عظيم بخلقه، ومن هو عظيم بآثاره، ووجدت عمر قد جمع العظمة من أطرافها، فكان عظيم الفكر والخُلق والبيان، فإذا أحصيت عظماء الفقهاء والعلماء، ألفيت عمر في الطليعة، فلو لم يكن له إلا فقهه لكان به عظيماً، وإن عددت الخطباء والبلغاء كان اسم عمر من أوائل الأسماء، وإن ذكرت عباقرة المشرعين، أو نوابغ القواد العسكريين، أو كبار الإداريين الناجحين، وجدت عمر إماماً في كل جماعة، وعظيماً في كل طائفة، وإن استقريت العظماء الذين بنوا دولاً، وتركوا في الأرض أثراً، لم تكد تجد فيهم أجلّ من عمر. وهو فوق ذلك عظيم في أخلاقه عظيم في نفسه( ). 9- آراء بعض المستشرقين في عمر رضي الله عنه: أ- قال موير في كتابه الخلافة: كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم مبادئ عمر وأظهر ما اتصفت به إدارته عدم التحيز والتعبد وكان يقدر المسؤولية حق قدرها وكان شعوره بالعدل قوياً ولم يحاب أحداً في اختيار عماله، ومع أنه كان يحمل عصاه ويعاقب المذنب في الحال حتى قيل إن دِرة عمر أشد من سيف غيره إلا أنه كان رقيق القلب وكانت له أعمال سجلت له شفقته، ومن ذلك شفقته على الأرامل والأيتام( ). ب- وقالت عنه دائرة المعارف البريطانية: كان عمر حاكماً عاقلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام خدمة عظيمة( ). ت- وقال الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتابه محمد وخلفاؤه: إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الدولة الإسلامية ونفذ رغبات النبي وثبتها، وآزر أبا بكر بنصائحه في أثناء خلافته القصيرة، ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم، لأكبر دليل على كفاءته الخارقة لإدارة الحكم وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأبهة والترف، مقتدياً بالنبي وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه وتعليماته للقواد( ). جـ- وقال الدكتور مايكل هارت: إن مآثر عمر مؤثرة حقاً، فقد كان الشخصية الرئيسية في انتشار الإسلام بعد محمد ( )، وبدون فتوحاته السريعة من المشكوك به أن ينتشر الإسلام بهذا الشكل الذي هو عليه الآن، زد على ذلك أن معظم الأراضي التي فتحها في زمنه بقيت عربية( ) منذ ذلك العهد حتى الآن، ومن الواضح أن محمد له الفضل الأكبر في هذا المضمار، ولكن من الخطأ الفادح أن نتجاهل دور عمر وقيادته الواعية( ). 10- ما قيل من الشعر في رثاء الفاروق رضي الله عنه: قالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن الخطاب رضي الله عنها: فجَّعَني فيروز لا در دره بأبيض تالٍ للكتاب مُنيب رؤوف على الأدنى غليظ على العدا أخي ثقة في النائبات مجيب متى ما يَقُل لا يُكذب القول فعله سريع إلى الخيرات غير قطوب( ) وقالت أيضاً: عين جودي بعبرة ونحيب لا تَمَلِّي على الإمام النجيب فجعتني المنون بالفارس المعلم يوم الهياج والتلبيب( ) عصمة الناس والمعين على الدهر وغيث المنتاب والمحروب قل لأهل السراء والبؤس موتوا قد سقته المنون كأس شَعوب( ) هذا وقد طويت بوفاة الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه صفحة من أنصع صفحات التاريخ وأنقاها فقد عرف فيه التاريخ رجلاً فذاً من طراز فريد، لم يكن همه جمع المال، ولم تستهوه زخرفة السلطان، ولم تمل به عن جادة الحق سطوة الحكم، ولم يحمل أقاربه ولا أبناءه على رقاب الناس، بل كان كل همه انتصار الإسلام، وأعظم أمانيه سيادة الشريعة وأقصى غايته تحقيق العدالة بين أفراد رعيته، وقد حقق ذلك كله بعون الله عز وجل في تلك الفترة الوجيزة التي لا تعد في عمر الدول شيئاً مذكوراً( ). إن دراسة هذه السيرة العطرة تمد أبناء الجيل بالعزائم العمرية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية، وبهجتها وبهاءها، وترشد الأجيال بأنه لن يصلح أواخر هذا الأمر إلا بما صلحت به أوائله وتساعد الدعاة والعلماء على الاقتداء بذلك العصر الراشدي ومعرفة معالمه وصفاته ومنهجه في السير في دنيا الناس وذلك يساعد أبناء الأمة على إعادة دورها الحضاري من جديد. هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة السابعة وخمس دقائق صباحاً بتاريخ 13 رمضان 1422هـ الموافق 28 نوفمبر 2001م والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل هذا العمل ويشرح صدور العباد للانتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده قال تعالى: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2) (فاطر،آية:2). ولا يسعني في نهاية هذا الكتاب إلا أن أقف بقلب خاشع منيب بين يدي الله عز وجل، معترفاً بفضله وكرمه وجوده فهو المتفضِّلُ وهو المكرم وهو المعين وهو الموفِّقُ، فله الحمد على ما منَّ به عليَّ أولاً وآخراً، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه. قال تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19) (النمل،آية:19). سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
|||
2012-08-09, 12:09 | رقم المشاركة : 6 | |||
|
|
|||
2012-08-09, 16:32 | رقم المشاركة : 7 | ||||
|
اقتباس:
بارك الله فيك في فائدة الجميع ان شاء الله
|
||||
الكلمات الدلالية (Tags) |
....الجزء26-, الخطاب, شجرة |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc