شابة أنصارية عَمَرَ الإيمان فؤادها ، وأضاء رحاب حياتها ، وأطفأ برد يقينها لهب النيران التي أشعلتها جاهلية عصر النبوة المتمثلة في سعي كفار قريش ومن سار في ركابهم من قبائل العرب ، واليهود بكل ما تملكه من خبرات الخداع والمكر والتضليل في إسقاط خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - من حياة أتباعه : ببث الشبه والشكوك في نبوته ، وانتقاصه والسخرية منه ، بل والسعي في القضاء عليه وتصفيته ومن معه
وكانت الشابة والفتاة الأنصارية ممن شهد تلك الأيام العصيبة . فكان اختبارا صعبا لصدق إيمانها بنبيها - صلى الله عليه وسلم – لكنها حبرت في صفحات أيامه أحسن معاني الإيمان ، ورسمت أجمل ثماره ، ووضعت النقاط على الحروف لتجلي صور النصرة لدينها .
فتعالوا معي إخواني وأخواتي القراء ..نذكي جذوة الإيمان في نفوسنا بهذه الإشراقة من حياة شابات وفتيات عصر النبوة .
روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار : ((زوجني ابنتك )). فقال : نعم ونُعْمَةُ عين . فقال له : ((إنى لست لنفسي أريدها )). قال : فلمن ؟ قال : ((لجليبيب )) – وجليبيب رضي الله عنه:من فقراء الصحابة رضي الله عنهم-. قال :حتى استأمر أمها . فأتاها فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك . قالت : نعم ونعمة عين ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : انه ليس يريدها لنفسه .قالت : فلمن ؟ قال :لجليبيب .
قالت : أجليبيب !! لا لعمر الله لا أزوج جليبيبا . فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت الفتاة لأمها من خدرها : من خطبني إليكما ؟ قالت : النبي صلى الله عليه وسلم . قالت :فتردون على النبي صلى الله عليه وسلم أمره !! ادفعوني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يضيعني !!. فأتى أبوها النبي صلى الله عليه وسلم فقال :شأنك بها . فزوجها جليبيبا [1] . فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((اللهم صب عليها الخير صبا ، ولا تجعل عيشها كداً كداً )) [2].قال أنس رضي الله عنه : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة!! [3].
عجيب موقف هذه الفتاة ، إن صدق إيمانها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقف عند الاستجابة المطلقة له فحسب ، والذي كان في أخص شؤونها !! إنها نفسها ،وحياتها ،ومستقبل عمرها ، الذي سلمته لرسولها - صلى الله عليه وسلم - ليختاره لها.
بل تعدى ذلك إلى إيضاح مستوى اليقين الذي وصل إليه إيمانها بصدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم- رغم كل محاولات الطعن في نبوته ، اليقين بأنه لا ينطق عن الهوى ، وأنه الذي حصر الله تعالى تحقيق الهدى في طاعته قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }النور54 ، فقالت : فإنه لا يضيعني !!
إنها تعلمنا درسا عظيما لكل فتيات المسلمين وشاباتهم اليوم
( فإنه لا يضيعني )..
إن في الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقاية من الضياع بكافة أشكاله .
وقاية من الضياع الأخلاقي ، والضياع الأسري والاجتماعي ، والضياع النفسي .
إنها تعلم كل فتاة وشابة بل وكل مسلمة أن السعادة الحقيقية ، والسلامة من كل أشكال الضياع والتيه والحيرة مرتبط بمدى اعتزازها بدينها ، والتزامها بكتاب ربها الحكيم الخبير وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ، وأن سلامتها من إغراءات سراب الجاهلية المعاصرة مرهون باقتفاء آثار أمهات المؤمنين ، ونساء وبنات أصحاب خير المرسلين رضي الله عنهم أجمعين ، وأن تمسكها بالحق كفيل بأن يدمغ الباطل فإذا هو زاهق .
ثم تأمل في تغييرها لموقف والديها فسعدت الأسرة ببركة الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم ، إنه دور الإيجابية في الحياة والفاعلية ، والذي يجعل من بنات المسلمين يقفن مع آبائهن وإخوانهن وأخواتهن وسائر المسلمين موقف المساند والمثبت لهم في سعيهم لانتشال البشرية اليوم من الحظيظ إلى علياء الإيمان بالواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.