مشاريع فرنسا لاحتلال الجزائر:
ازداد اهتمام فرنسا بالجزائر عندما منحها السلطان العثماني سليم الأول، في إطار الامتيازات الأوروبية حق اصطياد المرجان ، وإنشاء مراكز تجارية كحصن الباستيون بالقالة، وسعت فرنسا إلى عقد عدة اتفاقيات مع الجزائر للحفاظ على امتيازاتها، وكانت من وقت لآخر تشل حملات على السواحل الجزائرية لإرغام الأيالة للخضوع لأوامرها، لكنها لم تستطع تحقيق أهدافها بسبب قوة الجزائر آنذاك.
لكن مع أواخر القرن الثامن عشر بدأت الأوضاع تأخذ منحى آخر مرّد ذلك ضعف أيّّالة الجزائرية بضعف أسطولها و المضايقات المستمرة من قبل الدول الأوروبية، وبدأت تبرز جليا المحاولات الفرنسية للسيطرة على الجزائر، وفي هذا الصدد وضعت فرنسا عدة مشاريع لاحتلال الجزائر نذكر منها:
; مشروع ديكارسي DEKERCY الذي وضعه عام 1791 ، لكنه برز في وقت كانت فرنسا تشكو فيه حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، خاصة وأنها لا تزال حديثة العهد بالثورة ، فلم تتمكن من تنفيذه، زد على ذلك عمّت المجاعة فرنسا وقلّت موارد العيش، ولم تجد فرنسا يد العون إلاّ في الجزائر التي سارعت لإرسال مساعدات مادية وقروض مالية هامة لفرنسا مكنتها من الخروج من الأزمة التي كانت تعاني منها. لكن عادت وساءت العلاقات بين الدولتين وذلك بسبب حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798 ، حيث ردت الجزائر على ذلك بحبس القنصل الفرنسي آنذاك جونبون سانت أندري، وبإلقاء القبض كذلك على معظم التجار الفرنسيين وبتحطيم حصن الباستيون. لكن كما سبق وأن ذكرنا عادت العلاقات بين البلدين بإمضاء معاهدة الصداقة عام 1801 التي نصت على إعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية بينهما.
وعلى الرغم من ذلك لم تتوقف مخططات فرنسا لاحتلال الجزائر، ولما لا كل شمال إفريقيا خصوصا وأن بريطانيا كانت قد وضعت يدها على مضيق جبل طارق، ولتحقيق ذلك طلب نابليون من كل المواطنين الفرنسيين الذين خدموا في الجزائر وعاشوا فيها تزويده بمعلومات حول الجزائر لمعرفة مواطن القوى والضعف فيها، وبالموازاة مع ذلك أعد حملات استكشافية تجسسية للتعرف على أحوال البلاد اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا وسياسيا، وقد وضعت هذه البعثات خرائط جغرافية للجزائر، وجمعت معلومات قيمة.
ومن المشاريع التي قدمت لنابليون بونابرت مشروع القنصل الفرنسي السابق بالجزائر جون بون سانت أندري Jeanbon St André ، في عام 1899 ، بإعداد مشروع احتلالي للجزائر وقد أوضح سانت أندري أنّه في حالة ما إذا تمّ قبول مشروعه، فإنّه بإمكان فرنسا احتلال الجزائر في غضون ثمانية أيّام.
كما أعدّ احد الموظفين السامين في القنصلية الفرنسية بالجزائر، وهو تيدينا THEDENAT مشروعا للاحتلال الجزائر عام 1802 ، اقترح صاحبه دخول الجزائر من ناحية تنس، ثم التوغل عبر سهول ومرتفعات مليانة على مدينة الجزائر.
لكن ه ذه المشاريع لم تطبق على الأقل في تلك الفترة نظرا لما شهدته فرنسا في تلك الفترة، حيث كانت تفتقر للهدوء والاستقرار فلم يمر وقت طويل على الثورة الفرنسية 1879 ضف إلى ذلك النزاعات التي وقع فيها نابليون مع الدول الأوروبية الرافضة لسقوط الحكم الملكي في فرنسا، وسياسة نابليون التوسعية. كما أنّ مشاكل الهند وبعض مشاكل مستعمراته في المحيط الهادي، حالت دون التفكير الجدي في تنفيذ هذه المشاريع.
إن التفكير الجدي لاحتلال فرنسا للجزائر برز في الفترة ما بين 1802-1805 ، حيث ألغيت الامتيازات الفرنسية في الجزائر، ومنحت لبريطانيا، فسعى نابليون جاهدا لاحتلال الجزائر كرد فعل على هذه الإهانة، وتجلى ذلك في إمضائه لمعاهدة الهدنة مع روسيا (معاهدة تلسيت Tilissit ) ع ام 1807 ، فقد طلب نابليون بونابرت من وزير البحرية والمستعمرات الفرنسية السيد دوكري Decres ، إعداد خطة عسكرية دقيقة لاحتلال الجزائر، هذا الأخير لم يكتفي بالتقارير السابقة الذكر بل أرسل أحد ضباطه العسكريين، وهو بوتان Boutin ، وطلب منه تحقيقا ميدانيا والخروج بخطة جديدة يمكن بواسطتها غزو الجزائر وبأقل التكاليف.
ظل بوتان في الجزائر طيلة 68 يوما، أي من 9 ماي إلى 17 جويلية من عام 1808 وخلال هذه المدة تفقد الجزائر شرقا غربا، وخبر طبائع سكانها وعلاقاتهم مع السلطة العثمانية وجمع معلومات لا بأس بها حول السلطة الع ثمانية، كما قام بوضع خرائط ورسومات دقيقة لكل تحصينات المدينة ومواقعها الحصينة، واقترح ميناء سيدي فرج كمنطقة إنزال للجيش الفرنسي. ومع ذلك لم يتمكن نابليون من تحقيقه على أرض الواقع لاستمرار الأوضاع الداخلية في فرنسا والأوروبية على حالها. لكن في الفترة ما بين 1817-1818 عادت العلاقات بين الجزائر وفرنسا بعد حملة إكسماوث الإنجليزية على السواحل الجزائرية عام 1816 ، لكنها سرعان ما تدهورت بسبب قضية الديون التي أثارها الداي حسين طيلة فترة حكمه والتي انتهت بحادثة المروحة الشهيرة يوم 27 أفريل من عام 1827 .
إضافة إلى مشروع آخر كان هذه المرة من مصر، حيث جرت مفاوضات بين فرنسا ومندوبها القنصل دروفتي Drovetti ، ومحمد علي حاكم مصر عام 1826 لكن الحكومة الفرنسية لم تستمع لاقتراح دروفيتي، هذا الأخير الذي عاد وطرح المشروع عام 1829 ، يقضي بأن يشّن محمد علي حملة على الجزائر بمصاريف فرنسية، يعترف فيها محمد علي بسيطرة فرنسا على تونس وطرابلس الغرب والجزائر مقابل ثمن زهيد وهو: أربعة سفن حربية ذات 80 مدفعا و 20 مليون فرنك، لكن الأستانة لم تقبل يوما بمخطط محمد علي والدولة الفرنسية لأن ذلك يتنافى مع تعاليم الدين الإسلامي، وأنّ كل ما يمكنها القيام به هو إرسال مبعوث إلى الجزائر لتسوية الخلاف بين فرنسا والجزائر. ضف إلى ذلك هذا المشروع لم يكن لينجح منذ البداية نظرا للرفض الأوروبي له وعلى رأسه بريطانيا التي هددت محمد علي بتنحيته من الحكم في حالة قدومه على تنفيذ خطة فرنسا، وتدمير أسطوله البحري بمجرد مغادرته ميناء الإسكندرية.
&nbs p; في 30 جانفي 1830 ، قرر مجلس الوزراء الفرنسي القيام بحملة عسكرية لاحتلال الجزائر، وفي 7 فيفري 1830 وافق الملك الفرنسي شارل العاشر على مشروع احتلال الجزائر عسكريا. وكانت أولى المحاولات لاحتلال الجزائر حصار عام 1827 .
الحصار البحري الفرنسي للجزائر 1827:
قررت الحكومة الفرنسية بتاريخ 15 جوان 1827 ضرب حصار بحري على الأيّالة الجزائرية هذا الحصار يعدّ ذروة المشاريع الاستعمارية الفرنسية للسيطرة على الجزائر.
كانت الحكومة الفرنسية قد أرسلت إلى الجزائر الضابط كولي Collet يرأس أسطول بحري ضخم والذي وصل في نفس التاريخ المذكور أعلاه، كلف هذا الضابط بحمل إنذار إلى الداي حسين يطلب منه بأن يرسل أعضاء رسميين من الديوان يقدمون اعتذار للقنصل دوفال على الإهانة التي تلقاها من طرف الداي، ثم بعد ذلك يرفع العلم الفرنسي على حصون الجزائر وكذا قصر الداي، وتطلق مائة طلقة مدفعية تحية لل علم الفرنسي، لكن الداي أعلن رفضه المباشر لهذه الشروط واستنكرها حتى أنّه قال: «بقى عليهم مطالبتي بتسليم زوجتي كجارية في بلاط ملكهم».
وعلى كل لم يكن الوفد الفرنسي ينتظر قبول أو رفض الشروط، لأنّه بتاريخ 16 جوان بدأت البواخر الفرنسية تقصف المدينة، وهذا سعيا لتضييق الخناق عليه، خاصة وأنّ سكان الجزائر كانوا يشتكون من حكم السلطة التركية آنذاك، وكانوا قد سئموا من سلسلة الحملات الأوروبية البحرية على سواحلهم، وبالتالي الفرصة كانت مواتية للحكومة الفرنسية لتنفيذ مخططاتها.
كما أنّ هذا الحصار لم يقتصر على مدينة الجزائر فقط، بل عم كافة المدن شرقا وغر با والغريب في الأمر هو عدم دخول الأسطول الجزائري في مواجهة حقيقية مع الأسطول الفرنسي في عرض البحر، وقد يعود ذلك لأمرين أساسيين وهما: أولا؛ الأسطول الجزائري كان قد خسر قوته وعدده وهذا ليس بالأمر الجديد، بل يعود ذلك إلى أواخر القرن 17 ، بتراجع عمليات القرصنة. ثانيا؛ الداي حسين لم يكن ليظن أنّ الحكومة الفرنسية تعتزم حقا احتلال الجزائر، ومرّد ذلك هو سلسلة الحملات البحرية الأوروبية كحملة إكسماوت الشهيرة سنة 1816 ، والحملة الإنجليزية الأخرى عام 1824 ...إلخ التي كانت ضد الجزائر ولم تعدو عن كونها مناوشات بحرية فقط، كما أنّ فرنسا اعتادت أن تكون صديقة للجزائر حينا وعدوة لها حينا آخر، وبالتالي هي لا تميل إلى جانب العدواة كلية وهذا ما أوقع الداي حسين في الخطأ.
أمّا بالنسبة لهدف فرنسا من هذا الحصار فتمثل في الد رجة الأولى في تأليب سكان الجزائر ضد الحكم التركي، فبمحاصرة السواحل تغلق أبواب التجارة من ناحية البحر، وتقف بذلك المعاملات الاقتصادية ويعم الفقر والعوز بين أوساط السكان، ويسهل بذلك تليين عقولهم للتمرد على السلطة التركية وإعلان الثورة ضدها وبالتالي يسهل على فرنسا احتلال الجزائر نظرا للأوضاع السياسية و الاقتصادية غير المستقرة.لكن الظروف الدولية واتساع الأقاليم الاستعمارية الفرنسية وتشتتت قواتها في جنوب أمريكا وأوروبا حال دون تنفيذ مخططاتها لاحتلال الجزائر ومناطق في شمال إفريقيا، ضف إلى ذلك لم يكن لينجح الحصار الفرنسي على الجزائر عام 1827 بالاعتماد فقط على قطع حركة التجارة البحرية، نظرا لما تتميز به الجزائر من موقع جغرافي جعلها همزة وصل بين التجارة الشمالية والجنوبية، فطيلة الحصار اعتمدت الجزائر في التموين على القوافل التجارية الصحراوية القادمة من الجنوب، ولو أصرت فرنسا على إبقاء الحصار، فإنّها ستنفق أموال طائلة تؤدي إلى إفلاس خزينتها، كما أنّ الجزائر كانت مستعدة لمقاومة الحصار عشر سنوات. وهذا ما جعل رئيس الحكومة الفرنسية مارتينياك Martignac يصدر إلى قائد الحملة لابروتونيير La Brotonière ، في 23 جويلية من عام 1829 ، تعليمات جديدة للتفاوض مع الداي حسين جاء فيها:
- إطلاق سراح الأسرى المسيحيين.
- إرسال مبعوث إلى باريس ليقدم الاعتذار ويشرح ظروف حصول هذا الموقف من طرف الداي حسين.
- إعلان الهدنة بمجرد إرسال المبعوث الجزائري إلى فر نسا، وإبرام معاهدة سلم بين الطرفين.
بتاريخ 3 أوت 1829 قدم قائد الحملة لابروتنيير شروط فرنسا إلى الداي حسين، هذا الأخير الذي رفضها جملة وتفصيلا، وأكد استطاعة الجزائر الدفاع عن نفسها، وأمر القائد الفرنسي بالمغادرة، لكن هذا الأخير حاول اختبار مدى كفاءة وقدرة المدفعية الجزائرية، فاقترب كثيرا من ميناء الجزائر على متن سفينته لابروفانس، وهذا ما أعدّه الجزائريون استفزازا لهم فوّجهوا مدفعيتهم صوب السفينة فأصابوها، فكانت حادثة 3 أوت 1829 سببا مباشرا على إصرار فرنسا لاحتلال الجزائر.