عقوق الأبناء، وظلم الأولياء
إن الذي يُدمي الفؤاد هو أن لغة الشعب أضحت وما لها من حام ولا من نصير، لا من السلطة الحاكمة، ولا من أبنائها العاقين.. ولا من حماتها المفترضين.. ودونكم هذا الشيء البارد الباهت المسمى "حملة انتخابية" فاذكروا لنا من هم الذين همهم وضعُها، أو عناهم بؤسها، أو شفهم ما تلاقي من الاضطهاد والتنكيل.. مَن مِن هؤلاء المتصارعين على المجالس الصماء والكراسي العرجاء... أسعفها بالتفاتة، أو دعا لها بالفرج القريب كما يدعى للأسرى والمعتقلين..
لقد طردت من الفضاءات العمومية دون أن تثير لا عطفا ولا رثـاءً لـدى من يفترض أنهم أهلها، وجموعها الذين يرتبط حاضرهم ومستقبلهم بها.. ولا موقفا أو شبه موقف من تلك الهيئات الرسمية التي أحْـدِثت أصلا لحمايتها والحفاظ عليها، أو التي تنحصر علة وجودها في العمل على ازدهارها و سلامتها من ناحية؛ وعلى تطبـيق التشريعات الصادرة بشأنها، أي تلك الـتي تـُـلزم بنص القانون، وقوة القضاء، ونوعية الجزاء "جميع الإدارات العمومية، والهيئات، والمؤسسات، عـلـى اختلاف أنواعها، باستعمال اللغة العربية وحدها في كل أعمالها، من اتصال وتسيـيـر إداري، ومالي وتقني، وفني" (المادة 04 من القانون 91 - 04 المعدل والمتمم ...)
التنكر للمبادئ لا يبررُه تخلي السلطة عنها
لا يمكن أن يكون جنوح السلطة إلى التفريط السافر في الحفاظ على لغة الشعب، عذرا لأحد، في أي ظرف من الظروف، لكي يتذرع بها لقبول العمل في مؤسسات وطنية، ذات قيمة استراتيجية مؤكدة، أو المشاركة في نشاطاتها، وهو يراها، رأي العين، تعطي ظهرها لجوهر المهام التي أنشئت حصرا من أجلها، وتتخلى راضية، طائعة، عن الوظيفة التي حددها لها قانون إنشائها بصراحة ووضوح لا لبس فيهما، والتي أهمها وأجَلـُّهَا مراقبة تنفيذ التدابير التي تضمنها قانون تعميم استعمال اللغة العربية، والتأكد من تطبيقها على أكمل وجه، بما يتماشى مع أهدافها نصا وروحا. وكل نشاط لا يندرج في زاوية من زوايا هذا الحيز، مهما بدت أهميته في الظاهر، لن يغدو في حقيقة أمره إلا ضربا من التمويه، والتعمية، يساعد على ستر الجريمة الفظيعة التي ترتكب في حق عنوان الهوية الجزائرية، ويساهم في التكتم على تدمير رمْــِز من رموز سيادة الأمة، والضامن الأكبر للوحدة الوطنية...
من اليسير علينا أن نلاحظ بوضوح أن السلطة القائمة في البلاد هي التي جمدت تلك التشريعات المستوفية لجميع أشكالها القانونية. بل إنها ألغتها في الواقع بدون أن تحتاج إلى أي إجراء، له أدنى مسحة قانونية، حتى لو كان، في جوهره، سلطويا تعسفيا.. لقد اكتفت السلطة بالإيحاء، والناس من قديم على دين ملوكهم.. الرئيس يخاطب الناس في جولاته بالفرنسية، والتعازي تصدر عن الجهات الرسمية بالفرنسية، وصحف الحرف العربي -العامة والخاصة- تنشرها بالفرنسية وحدها، والإدارات العمومية حتى الموجودة منها في الولايات التي لا ينطق الأفراد فيها إلا بلغتهم العربية، تنشر بلاغاتها بتلك اللغة الأجنبية وحدها، والدكاكين، والمحلات التجارية الكبيرة والصغيرة، لم نعد نرى على نواصيها إلا الحروف اللاتينية والتسميات الفرنسية. وحافلات النقل العمومي بالذات تـُـجَلل من أعلاها إلى أسفلها بإشهار أجنبي بلغة أجنبية، وتفاهة أذواق السوقة من "البڤارة" الوصوليين.. والشركات العامة من أكبرها إلى أصغرها، وحتى التي تتعامل أساسا مع الجمهور العريض من الناس فيما هو ألصق بمصالحهم وسلامتهم مثل سونطراك والخطوط الجوية الجزائرية وحتى شركة الكهرباء والغاز، وغيرها... تنشر بلاغاتها بتلك اللغة الأجنبية وحدها، وترسل فواتيرها بها، وتدخل إلى مقراتها فلا تسمع إلا من يرطنون بها، وكثيرون منهم لا يحسنونها.. وقد صارت جُل إطارات الدولة، وحتى بعض الذين هم في مراتبها الشكلية العليا، يغنغنون بحرف الراء فيها، ويمنحون لمن يشاهدهم على الشاشة الصغيرة فرجة مجانية وهم يمزجون في الكلمة الواحدة بين الحرفين، الغين والراء، فتأتي ألسنتهم بالعجب العجاب.. (لقد سمعنا على لسان أحدهم أن كلمة "رَارْ" (rare) التي معناها " نادر"، تتحول عند مزج النطقين إلـى "غار"، وتصير في سياق الجملة شيئا مضحكا، لو لم يكن ذلك من علائم التفسخ الوطني، والمسخ الجماعي للهوية التي استشهد سدس الجزائريين فداء لمعـنىً من معانـيها، في ثورة نوفمبر الأخيرة وحدها..
لقد ضاقت لغتنا كل ويلات الاستعمار، ونالها كلُّ ما نال شعبها من القهر والتنكيل.. ولكن الأمل لم يفارق الأمة أبدا في بزوغ فجر آت لامحالة ينهي الظلام الجائر.. فما مقدار الأمل اليوم في بزوغ فجر مماثل؟؟..
الدكتور علي بن محمد - وزير التربية الوطنية السابق -