الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيد المرسلين وإمام المتقين أما بعد:
فبارك الله في كل من التزم بكتاب الله وسنة رسول الله في إثبات حرمة ما حرم الله وعدم المزايدة على شرعه لان من زايد عليه أو انقص منه أو زاد فيه ما ليس فيه فقد جعل نفسه إلها مع الله يزيد في شرعه مالم يرتضه وذلك هو الشرك المبين الذي يقع فيه بعض المزورين للدين , ممن قدم رضا الظالمين من حكام وسلاطين على رضا الله المعين , ووفق الله كل من حرص على التزام أحكام الشرع المطهر في المنشط والمكره وترك أهواء البشر تحقيقا للتوحيد وإن خالف الضالين المظلين من أسياد وحكام طاغين وظالمين.
يتردد كثيرا على ألسنة الناس مصطلح المظاهرات والاعتصامات وخاصة بعد تحصيل النفع الجليل والخير الكثير من قيامها في بعض بلاد المسلمين والتي كانت قد أخفيت فيها شعائر الدين الظاهرة وأكلت فيها حقوق المسلمين الباهرة, أو التي سلبت فيها كرامة المسلمين ووالى حكامها أعداء الإسلام الماكرة ,وحماة الصهاينة والصليبيين الفاجرة . فوجد بعض الحكام الظالمين قد سارع لتشغيل بعض فقهائه الظالمين أعوان المستبدين وناصري الضالين المظلين ودافني شعائر الدين خدمة لحكامهم الطاغين المستبدين من اجل رعاية الصهاينة والصليبيين أعداء الدين.
فابتداءًا نقول إن معنى المظاهرة في اللغة: المعاونة والتظاهر: التعاون، ومنه قول الله تعالى: {وَإِن تَظَهَرَا عَلَيهِ فَإنَّ الله هُو مَولَاهُ}، ومنه أيضاً: قوله: {سِحرَانِ تَظَهَرَا}؛ فالتظاهر التعاون، فرجل عاون رجلاً على شيء فقد ظاهره عليه.
وفي الاصطلاح المعمول به في الوقت الحاضر: فهو صورة من صور إنكار المنكرات السياسية (الصادرة من الحاكم ) وإعلان عدم الرضا بها ومخالفتها سواء كان هذا المنكر يتعلق بأمر سياسي كمنع الحاكم لشعيرة من شعائر الإسلام أو كانت تتعلق بأمر اجتماعي كمنع الزواج من جنسية معينة أو تتعلق بأمر اقتصادي كسوء توزيع ثروة البلاد أو استئثار الحاكم بشي منها دون بقية شعبه ونحو ذلك .
وعليه فإن التظاهر قد يكون على البر والتقوى فيكون من التعاون على البر والتقوى وهو محمود، وقد يكون على الإثم والعدوان فيكون من التعاون على الإثم والعدوان وهو محرمٌ ،
إن المظاهرات والاعتصامات السلمية وغيرها من طرائق التعبير عن الرأي وإنكار المنكرات السياسية الصادرة من الحكام والسياسيين الذين يرغبون في منع جميع مظاهر الاعتراض على قراراتهم مهما كانت ، ومظاهر قنوات التأثير على الآخرين هي من قبيل الوسائل التي يتوصل بها إلى غايات مرجوة ، وليست غايات في ذاتها , وبناء على ذلك فإننا نقول انه يجب أن ينظر إلى المظاهرات والاعتصامات من جهتي الوسيلة والغاية (المقصد) :
أما الأولى وهي الوسيلة :فإنه عند النظر إلى الوسيلة المستخدمة في التعبير عن الغرض فإننا نقول انه تجري عليها الأحكام التكليفية الخمسة ، المتوصل بها إلى الغاية ، وهل هي مأمور بها شرعا فتكون واجبة أو مندوبة ، أو ممنوعة شرعاً فتكون محرمة أو مكروهة أو لم يأمر بها ولم ينه عنها فتكون مباحة .
ـ فإن كان مأمورا بها فلا شك في جواز استخدامها،.
ـ وإن كانت الوسيلة ممنوعة ، فإن كان منع تحريم فإنه يحرم اتخاذها أو التوصل بها إلى أي غاية ، حتى وإن كانت الغاية مطلوبة شرعا ، فهذا ونحوه لا يلتفت فيه إلى الغاية ، لأن الطريق الموصل إليها ممنوع في ذاته.
وإن كانت ممنوعة منع كراهة فإنه يكره اتخاذها تبعا لذلك .
ـ وإن كانت الوسيلة مباحة ، فهذا مما اختلف فيها الفقهاء على قولين بين مجيز ومانع .
وحجة القائلين بالمنع أنهم جعلوا الوسائل تعبدية ، أما القائلين بالجواز فقالوا الأصل في الوسائل الجواز.
والذي أراه أن الوسائل ، وهي الطرق المؤدية إلى المقاصد ليست تعبدية ولا منحصرة ، وأنها تأخذ حكم مقاصدها ، بناء على ذلك فينظر أليها : هل هي ممنوعة أولا . ولا ينظر إليها : هل هي مأمور بها أو لا.
الثانية : من جهة المقاصد ، وذلك لأنه لايحكم على الوسائل ـ بحكم مستقل عن الغايات المرداة من ورائها ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. فإذا كان المقصد مطلوبا شرعا ، والغاية مأمورا بها من حيث هي ، فإنه يشرع التوصل والتوسل إليها بكل وسيلة غير ممنوعة شرعا .. فنصرة المسلم المظلوم مطلوبة شرعا . قال تعالى : ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) متفق عليه. فكل وسيلة قديمة أو مستحدثة غير ممنوعة شرعا ، يغلب على الظن أنها تحقق المقصود ، وهو النصرة ورفع الظلم أو تخفيفه فإنها جائزة,بل مأمور بها بحسب مالها من أثر .
ومعلوم أن الشعوب لها طرائق مختلفة في التعبير عن آرائها منها الإضراب عن الطعام والشراب وقد سبق بيان حكمه في بحث سابق ومنا العصيان المدني وسيأتي بيان حكمه في بحث قادم إن شاء الله ومنها (المظاهرات والاعتصامات السلمية) وهذا ما سنبين حكمه فيما يأتي , وبناء على ذلك فإننا نقول انه اذا كانت الغاية من المظاهرات والاعتصامات مشروعة فإن الشرع لا يمنع من استخدام تلك الطرائق ، ولا يحصر معتنقيه على وسائل بعينها ، وليس مع من ادعى تحريم الاعتصامات والتظاهرات السلمية (مطلقا مهما كانت غايتها) حجة نقلية ولا عقلية ، بل مقاصد الشرع وقواعده ، ووقائع تاريخ المسلمين في الصدر الأول تشهد بخلاف ذلك و لم اجد مع من ذهب إلى التحريم مطلقاً دليلاً من الكتاب أو السنة أو فعل الصحابة . بل قامت الأدلة الشرعية مع من قال بأن الأصل فيها هو المشروعية
ومن أهم الأدلة على ذلك ما يأتي :
الدليل الأول :
عموم الأدلة الشرعية التي ورد فيها الأمر بالعدل و النهي عن الظلم تدل دلالة صريحة على أن الله عز وجل قد نهى عن الظلم وأمر برفعه ودفعه وحرمه على نفسه كما حرمه بين الناس وذمه وبين صفات الظالمين في نصوص كثيرة من القران والسنة ومنها :
قول الله تعالى( إنه لايفلح الظالمون ) الإنعام: الآية(21 ) وقال الله تعالى )هل يهلك إلا القوم الظالمون ( الأنعام: الآية( 47) وقال الله تعالى) :ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار )إبراهيم: الآية(42)
وقال تعالى في الحديث القدسي( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ))
وجه الدلالة :
أن الظلم أمر محرم شرعا والأمر المحرم شرعاً يجب على الإنسان اجتنابه والبعد عنه ,بل ويجب على المسلم أن يبذل وسعه في عمل جميع الأسباب والوسائل المانعة منه والمعينة على اجتنابه, وتحريم الظلم يفيد وجوب العدل وذلك لان تحريم الشي يفيد وجوب ضده.
والتظاهرات والاعتصامات السلمية من اجل رفع الظلم والاعتراض عليه وفضح ممارسيه ومنعهم من الظلم ,من أهم الوسائل الحديثة المعينة على ذلك في العصر الحاضر فتكون مشروعة
قال الله تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ))
الدليل الثاني :
قال الله تعالى (إن الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ …الآية) التوبة الآية (111).
وجه الدلالة :
إن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بثمن غالي هو الجنة إذا قاتلوا فإما أن يقتلوا المشركين أو يقتلون قبل ذلك. وذلك من اجل رفع الظلم (وهو الشرك والكفر ) وغيرها من المظالم عن الكفار كتحليل ما حرم الله أو تحريم ما احل الله أو موالاة أعداء الله ومظاهرتهم ضد المسلمين ، قال ابن كثير رحمه الله : حمله الأكثرون على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله , ولا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين أن يموت بسيف يقطع عنقه أو رصاصة تخترق صدره ، أو جوع أو عطش يقضي عليه , مادام أن الهدف هو إعلاء كلمة الله وتحرير خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد فإذا جاز أن يتسبب الإنسان بذهاب نفسه من أجل رفع الظلم عن العباد الكافرين فإن ماكان دون ذلك فجوازه من باب أولى وهذا يدل على جواز الاعتصام والمظاهرة السلمية التي ترفع الظلم عن المسلمين و لا تصل إلى فوات النفس من باب أولى
الدليل الثالث :
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم .
وجه الدلالة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على كل مسلم يرى المنكر أن ينكره بيده فإن لم يستطع إنكاره بيده فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وهذه الدرجة من الإنكار اضعف الإيمان وأقله, لأنه لم يعد بعدها شي يمكن الإنكار به . وهنا ندرك وجوب إنكار جميع المنكرات بالأول فالأول وهكذا. وكل وسيلة يمكن الإنكار بها دون ضرر مترتب عليها وهي غير محرمة فإنه يجب الإنكار بها.
فإذا كانت الوسيلة تحتاج عملا وحركة كانت من قبيل الإنكار باليد وذلك مثل المظاهرات والاعتصامات والإضرابات والعصيان المدني وغيرها . وان كانت تحتاج إلى الكلام والإبانة فهي من قبيل الإنكار باللسان كالمقالات والمناظرات والمحاورات ونحوها وإلا فهي إنكار بالقلب.
والمنكرات الصادرة من الحكام والسلاطين من أهم المنكرات التي يجب أن يكون إنكارها باليد ليكون ابلغ في الإنكار ولان ضررها أعظم واشد من غيرها . والإنكار باليد أقوى من الإنكار باللسان, مع أنه قد لايستطيع الإنسان أن ينكر المنكر بلسانه لعدم قدرته على إيصال صوته لفاعل المنكر وقد لا يستطيع هو أصلا الوصول إليه فلا يستطيع أن يوصل إنكاره باللسان له كما هو حال الحكام في هذا الوقت والذي لايستطيع الإنسان أن يصل فيه إليهم , بل ولا إلى مدراء مكاتبهم , بل لايستطيع أن يقترب من المبنى الذي يمكن أن يتواجدون فيه يوماً من الأيام فكيف يمكنه أن يخبره باعتراضه على هذا المنكر إلا بالمظاهرات والاعتصامات والتي تدخل في مرتبة الإنكار للمنكر باليد وهي أعلى درجات الإنكار.
أو نقول له إذا احتجب الحاكم عن رعيته فإنه يترك يأتي من المنكرات العامة ما شاء مهما أضر بالأمة ولا ينكر عليه بالمظاهرات لأنه لم يمكن الإنكار عليه باللسان فمن باب أولى الإنكار عليه باليد .
وهذا يدل على أن إنكار المنكر بالمظاهرات والاعتصامات كالإنكار باليد واللسان بل قد يكون اوجب منهما لان الثمرة والنتيجة المتصورة من الإنكار بالمظاهرات اكبر واظهر حيث إن المظاهرات والاعتصامات إن لم تلغي المنكرات نهائياً فإنها بلاشك سوف توقفها.
وبذلك ندرك أن المظاهرات تدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وجميع أدلة وجوب إنكار المنكر تدل على وجوب بذل الإنسان وسعه في جميع الأساليب المشروعة لإنكار المنكرات وإزالتها ومن تلك الأساليب المظاهرات والاعتصامات فهي واجبة أيضا
الدليل الرابع :
قصة حلف الفضول والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقولهلقد حضرت حلفاًفي دار ابن جدعان ما أود أن لي بها حمر النعم,ولو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت)
وجه الدلالة :
أنه من المعلوم أن حلف الفضول الذي حصل قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كان حلفاً عقد في دار عبد الله بن جدعان لنصرة المظلومين ورد الحقوق لأصحابها وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم مع أعمامه وبعض وجهاء قريش في ذلك الوقت ، واتفقوا على أنه لا تقع مظلمة في مكة إلا رفعوها وأزالوها وتعاهدوا على ذلك ثم توجهوا فوراً في تظاهرة حاشدة قوامها جميع المتحالفين والمتناصرين وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم رآهم الرجل الذي وقعت منه المظلمة مجتمعين خاف منهم ومن اجتماعهم عليهم فاضطر إلى إعادة الحق إلى صاحبه فتحقق لهم بتظاهرهم على الحق وخروجهم لإنكار المنكر ما قصدوا إليه من ذلك وهو إعادة حق الرجل اليماني إليه ، واستمر هذا الحلف معمولاً به حتى عهد يزيد بن معاوية كما ذكر بعض أهل الحديث والتاريخ .
فهذا الحلف- والذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أحد أطرافه- اتفاق على إزالة الظلم بجميع الطرق والأساليب وإزالة لآثاره ولم يحددوا وسيلة خاصة بذلك,بل كانت أول وسيلة عملوا بها لإنكار أول منكر علموا به هي الخروج في تظاهرة مكونة من جميع أصحاب الحلف ولقناعة النبي صلى الله عليه وسلم بعدالة المقصد وصحة التوجه ومشروعية رفع الظلم حتى عن الكفار لم ينكر عليهم هذا الخروج وهذا التظاهر لا في وقت التظاهر قبل البعثة ,ولا بعد الإسلام بل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وهذا الفعل بمعرض الفخر به والثناء علية .حيث قال : (( ما أواد أن لي به حمر النعم )) . ولمعرفته بمشروعية هذا الفعل وحسن المقصد منه قال : (( لو دعيت لمثله – وفي رواية بمثله – في الإسلام لأجبت )) .
ولا أظن أحداً يعلم بهذا الحديث ثم يقول إن رفع الظلم عن جميع الناس – مسلمهم وكافرهم – بطريقة التظاهر والاحتشاد والتجمع ومحاصرة الظالم حتى ينتهي عن ظلمه ليس بمشروع .لأنه إذا كان واجباً رفع الظلم عن الكافر بأي وسيلة مباحة كالكلام و المناصحة أوالامتناع عن الطعام والشراب أو التظاهر والاحتشاد ومحاصرة الظالم ونحوها فان رفعه عن المسلم المظلوم بأي وسيلة مباحة أيضاً أشد وجوباً هذا فيما إذا لم تكن الوسيلة قد ورد فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم , أما إذا كانت قد ورد فعلها عنه صلى الله عليه وسلم كالتظاهر والاجتماع لرفع المظالم-كما في قضية حلف الفضول- فإن ذلك يكون اشد وجوباً.
ومما سبق ندرك أن الاتفاق والاجتماع من اجل إبراز المعاني السامية والأخلاق الرفيعة من السنة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم , و أن التعاون والتكاتف في العمل على رفع الظلم قديم جداً وكان العرب يفتخرون فيه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم , وإذا كانت محاولة رفع الظلم في الجاهلية قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك واجباً على الناس فإن رفع الظلم بعد الإسلام من أ وجب الواجبات خاصة مع تحريم الله للظلم على نفسه وعلى الناس ,.كما أن العمل على رفع الظلم عن من وقع عليه تنفيذ لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يعتبر ذلك من التدخل في شئون الناس الخاصة كما يحاول بعض المتمصلحين من بقاء الظلم في المجتمعات إقناع الناس به , كما أنه من المعلوم انه لا يمكن للظلمة والمستبدين الاعتداء على حقوق الناس وافتراس أعراضهم ولا أموالهم إلا عندما يتفرقون و يتشرذمون , فيسهل افتراسهم والتلاعب بهم .
,اما حين يجتمعون فإن الظالم المستبد لايستطيع ان ينال ذلك منهم ,وهذا ما جعل بعض الأنظمة المستبدة تمنع التجمعات الاهلية وتحضر إنشاء الجمعيات الأهلية والمؤسسات المدنية والنقابات المهنية . مما يبين أن وجود مؤسسات المجتمع المدني التي تطالب بحقوق الناس وتحافظ على مكتسباتهم سبب من أسباب رد الظلم ودفعه ورفعة عن من وقع عليه, وهو ما يبين بجلاء أن الاتحاد والاجتماع في مؤسسات وجمعيات أهلية قوة ومنعة للناس من وقوع الظلم عليهم وأن في التفرق والتشرذم ضعفاً وغلبة للظالم على المظلوم.
فليتق الله طلبة العلم الشرعي وعقلاء المجتمعات الإسلامية في القول على الله بغير علم في تسويغ الظلم ووجوب الصبر عليه, وان ذلك من شعائر الإسلام الذي جاء تشريعه ممن حرم الظلم على نفسه, وليوضحوا لعموم الأمة إن العدل والمطالبة به من أصول الإسلام ومبانيه العظام وأن وجوب رفع الظلم من أظهر شعائر التوحيد الخالص لله والذي يجب ان يتعلمه تلاميذ المدارس الابتدائية بدلاً من تعليمهم الذل والخنوع والرضا بالظلم والحث على الصبر عليه .
ولذلك فإنه يجب عليهم العمل بكل الطرق المباحة فضلاً عن المشروعة على رفعه عمن وقع عليه, وليقفوا وقفة صادقة مع المظلومين في وجه الظالمين والمعتدين على حقوق الناس وليأطروهم على العدل والحق وليمنعوهم من التعدي والظلم لان الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أعضاء حلف الفضول تداعوا إلى إزالة المظلمة التي وقعت على اليماني وخرجوا في تظاهرة حاشدة (في وقتها) من اجل إزالة هذه المظلمة مما أوقع الرهبة والخوف في قلب الظالم فاضطر تحت وقع الخوف الكبير من هؤلاء المتجمعين إلى رد المظلمة إلى صاحبها والتزامه بعدم الظلم
وهذا مانراه من الحكام و المتنفذين حينما تقوم المظاهرات الحاشدة من اجل رد مظالم أو إيقاف منكرات انه سرعان ما يعود الطغاة والظلمة عن هذه المظالم مما يوضح بجلاء الأثر الكبير لهذه المظاهرات على إزالة المنكرات والمظالم أكثر مما تفيده المناصحات السرية التي يزعم بعض العلماء والدعاة أنه يسديها للحكام .
نعم حصلت هذه قبل مبعث الرسول لكنه بعد مبعثه قال (لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت) افتخر بها وتمنى أن يدعى لمثلها في الإسلام ليجيب هذه الدعوة للاجتماع لرفع الظلم عن الغير فكيف إذا كان الاجتماع لرفع الظلم عن عموم المجتمع الإسلامي من رجال ونساء , وأطفال وعجزة وكبار وصغار وأصحاء ومرضى.
الدليل الخامس :
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( انصر أخالك ظالماً أو مظلوماً )) ثم بيّن صلى الله عليه وسلم أن نصرة الظالم بمنعه عن الظلم ، أما نصرة المظلوم فإنها واضحة متجلية لا ريب فيها ويكون بالوقوف معه وشد أزره والمطالبة له برفع الظلم عنه.
وجه الدلالة :
أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالنصرة للمظلوم يفيد وجوبه على جميع المسلمين كل بحسب قدرته واستطاعته قال الله تعالى(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها…. الآية ) البقرة الآية (286) , والقول بوجوب ذلك بناءً على القاعدة الأصولية التي ذكرها علماء الأصول وهي : أن الأصل في الأمر أنه للوجوب إلا بصارف يصرفه من الوجوب إلى الندب ولا صارف هنا فيبقى على أصله وهو الوجوب .
وإذا علم حرمة الظلم ونهى الله عنه مما يوجب نصرة المظلوم ووجوب رفع الإنسان له عن نفسه وعن غيره, ونصرة الظالم في منعه من إيقاع الظلم أدركنا جميعاً أن الأصل في المسلم أن يمتنع عن الظلم لنفسه ولغيره وأنه كبيرة من كبائر الذنوب وأن من فعله فقد أباح لنفسه ما حرم الله على نفسه ، ولذلك فإن الظالم جعل له على عباد الله ما لم يجعله الله لنفسه على عباده ، وهذا ما جعل عقوبة الظالم كبيرة في الدنيا والآخرة .
ومن هنا ندرك وجوب بذل الإنسان قصارى جهده ووسعه وجوباً شرعياً في عمل جميع الأسباب والوسائل المعينة له على رفع الظلم عن نفسه وعن غيره مهما كانت هذه الوسائل المستخدمة في رفع الظلم إذا لم يكن قد ورد في حرمة هذه الوسائل نصاً شرعياً يجرمها,أما إذا كانت الوسائل المستخدمة في رفع الظلم ودفعه قد ورد العمل بها كالتظاهر الحاصل من النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عندما خرجا من بيت ابن جدعان لرفع المظلمة الواقعة على الرجل اليماني فإن وجوب رفع الظلم بها اظهر وأولى وانه لا يجوز له السكوت عن المظالم الواقعة على نفسه وعلى غيره حتى ولو أدى ذلك إلى فوات نفسه ,ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم )من قتل دون نفسه فهو شهيد, ومن قتل دون عرضه فهو شهيد, ومن قتل دون ماله فهو شهيد ), وأما مسالة الرضا بالظلم والاستكانة له والركون إلى الظالم فإنها ليست من ثقافة الإسلام , بل هي من الثقافات الغريبة عليه والتي أسهم في نشرها في المجتمعات الإسلامية علماء السلاطين وفقهاء الاستبداد, حتى تستقيم الحياة والمعيشة للحكام الظالمين وتقنع الشعوب الإسلامية بما يرميه لها سلاطين النهب والسلب من فتات ما ينهبوه من ثروات الأمة, بل ويقنعوهم أن هذا هو الأصل في دين الله العظيم , وان الصبر على الظلم هو شرع رب العالمين , وهذا غير صحيح على الإطلاق وهو ما تسبب في تأخر المسلمين وفقرهم , وتقدم الكافرين وغناهم وتسلطهم على الشعوب الإسلامية,
ولعل من أهم الوسائل المعينة على رفع الظلم والتشهير بالظالمين وفضحهم أمام العالمين وسيلة المظاهرات والاعتصامات السلمية بحالة دائمة أو حتى يتم إزالة المنكر أو لفترة محددة ،وهي من أفضل الوسائل لفضح الظالمين وتعرية المستبدين والمنتهكين لحقوق الإنسان وهي وسيلة يقوم بها عادة أهالي المعتقلين وغوائل المسجونين والمظلومين حينما يبلغ بهم الأذى مبلغه, فلا يبقى أمامهم إلا التقاتل مع الظالمين أو الاعتصام والمظاهرة السلمية , وهذه الوسيلة وسيلة سلمية مأمونة للإبلاغ عن المظالم والاعتقالات وفضح التعذيب وانتهاك الحقوق والحريات وهي تشابه وسيلة النطق بكلمة الحق أمام السلطان الجائر إلا أنها اقل ضرراً ونتيجة.لان الإنسان في المظاهرة يسلم من القتل من قبل السلطان الظالم ويتحقق للمتظاهر والمعتصم الأمر المطلوب ويسمع صوته لظالميه.
الدليل السادس :
ماثبت من خروج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم من المدينة إلى العراق لمطالبة على رضي الله عنه بقتل قاتل عثمان رضي الله عنه قصاصاً منه لعثمان بن عفان رضي الله عنه
وجه الدلالة :
أن عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام
وطلحة ومن معهم رضي الله عنهم خرجوا في تظاهرة حاشدة من المدينة إلى العراق للمطالبة بالقصاص من قاتل عثمان وقد اشتهر ذلك بين الصحابة ولم ينكر احد عليهم خروجهم ذلك –بغض النظر عما حصل بعد ذلك- وعدم الإنكار عليهم في خروجهم ذلك للمطالبة بالقصاص من قاتل عثمان فإن ذلك يدل على مشروعية التظاهر للمطالبة بالحقوق وإنكار المنكرات , ثم انه حتى ولو ثبت أن أحدا أنكر عليهم ذلك, فإن هذا وهو التظاهر للمطالبة بالأمور المشروعة يكون بناء على اجتهادهم والإنكار عليهم بناءً على اجتهاد المنكر عليهم .
الدليل السابع :
تجمع وتظاهر عدد من المسلمين من رجال الأمصار من العراق ومصر ومنهم بعض الصحابة والتابعين أمام منزل عثمان بن عفان رضي الله عنه إنكارا منهم لبعض ما يرون انه من الأخطاء التي وقعت في زمن خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وجه الدلالة :
انه لم نعلم أن أحدا أنكر على المجتمعين اجتماعهم وتظاهرهم لإنكار ما يرون انه ظلم لهم (وبغض النظر عن نتيجة هذا الاجتماع ) وقد حصل هذا مع انه كان يوجد في ذلك الوقت عدد من صحابة رسول منهم على بن أبي طالب و عبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم. ولم ينكروا عليهم اجتماعهم ذلك .مما يدل على أن التظاهر والتجمع الذي حصل لايعتبر مخالفة شرعية كما يزعم بعض علماء السلاطين
الدليل الثامن :
أن إزالة المنكرات وإعادة الحقوق عن طريق التجمع والمظاهرات أوضح وأسرع وانفع بكثير من إزالتها بغيرها من الطرق بل إن الإزالة للمظالم عن طريق المظاهرات والاعتصام أسرع من غيرها أيضا لان في المظاهرات و الاعتصمات إبراز للمظالم وإظهار للمنكرات وفضح لمقترفيها أمام الرأي العام مما يحرج الظالم سواء كان من الحكام أو من غيره من المتنفذين أمام العالم اجمع مما يوقع ضغطا علية أخر وفضح لسلوكياته أيضا
الدليل التاسع :
انه لا باس من التشهير بالظالم الذي تجاوز ظلمه الحد المعتاد بالتظاهر والاعتصام ضده لفضحه لعله يرتدع عن ظلمه وتجاوزه , ولان التشهير بالظالم سنة شرعية تتجلى بصورة واضحة في شعيرة إقامة حد الزنا للمحصنين حيث اشترط الله أن يحضر عذاب الزانيين طائفة من المؤمنين مع إن الأصل في منكر الزنا انه منكر سري جدا يقع بعيدا عن أعين الناس لكن الله جعل أمر إقامة الحد عليه ظاهر جدا ولا يجوز إخفاؤه, وقد وضع الله عز وجل أمرين مهمين للتأكيد على علانية فضح الظالمين في الزنا وهما :
1_ إن الله عز وجل اشترط أن يحضر عذاب الزانيين طائفة من المؤمنين.
2- إن الله عز وجل جعل عقوبة الزنا هي الرمي بالحجارة حتى الموت وذلك إبعاد للسرية عن عملية إقامة الحد وحتى لا يأتي من يجتهد من علماء السلاطين ممن يطلب السرية في إقامة هذا الحد على الزناة خاصة إذا وقع الزنا من الإشراف أو أعوانهم ولذلك جعل الله ماهية الحد وطريقة تطبيقه تجعل عملية السرية في تطبيقه مستحيلة .
الدليل العاشر :
إن بعضاً ممن ذهب إلى عدم جواز المظاهرات والاعتصامات ذهب إلى ذلك باعتبار أن المظاهرات تعتبر خروجاً على الحاكم وهم -من باب الأصل الذي يعتقدونه في ذلك- يعتبرون المظاهرات محرمة. وهذا غير صحيح فالمظاهرات والاعتصامات لا تعتبر خروجاً على الحكام لأنها وسيلة سلمية لإنكار المنكر والتعبير عن الرأي , بل إنها في حقيقة الأمر تعتبر وسيلة لتثبيت حكم الحاكم العادل لا المستبد الظالم وذلك لأنه إذا استطاع الناس أن يعبروا عن رأيهم وعن غضبهم من أمر معين فإنهم يتظاهرون فيكون ذلك متنفسا لهم في التعبير عن أرائهم, أما في حالة المنع من المظاهرات والاعتصامات فإن المجتمع يضل يحتقن ويغلي من الداخل ولا يجد وسيلة سلمية يعبر فيها عن راية حتى يصل الأمر به إلى حد الانفجار الخطير الذي قد يصل به إلى التهور في القتل و الإفساد , أو المطالبة بزوال الحاكم ونحو ذلك , وهذا يوضح أن المظاهرات والاعتصامات السلمية وسيلة مضمونة للتعبير عن الرأي تتسبب في تثبيت الأمن وحماية المجتمع من التطرف والغلو ولو نظرنا إلى المجتمعات التي تنص دساتيرها على مشروعية المظاهرات والاعتصامات السلمية نجدها تخلوا من أهل العنف بخلاف المجتمعات التي تمنع المظاهرات والاعتصامات السلمية وجميع أساليب التعبير عن الرأي فنجدها تفرخ أصحاب العنف والأفكار الانتقامية.
ولو قلنا أنها تعتبر خروجا على الحاكم للزم من ذلك أن نقول إن كل وسائل إنكار المنكر هي من قبيل الخروج على الحكام وهذا مالا يمكن إن يقول به احد
الدليل الحادي عشر :
أن بعض من ذهب إلى تحريم المظاهرات والاعتصامات قال إن التحريم بسبب الاختلاط الذي يمكن أن يحصل بين الرجال والنساء والاختلاط محرم فيكون كل ما يؤدي إلى محرم فهو محرم
ويجاب عليه بأن هذه مفسدة محتملة فلا تترك المصلحة المؤكدة وهي إزالة المنكر من اجل مفسدة محتملة وهو الاختلاط و لأدى ذلك إلى ترك كل الأشياء خشية ماقد يترتب عليها من مفاسد,كما أن هناك عبادات مشروعة ومن أركان الإسلام وفيها اختلاط لكنه ليس مقصوداً بذاته ومع ذلك فهي مشروعة فكذلك الاختلاط المتصور وقت المظاهرات ليس مقصودا بذاته ويمكن تلافيه حيث إنه يمكن أن تكون المظاهرات والاعتصامات ليس فيها اختلاط فيفصل بين الرجال والنساء فهل تصح المظاهرات بعد ذلك . كما يقال لمن ذهب إلى تحريمها بسبب ما يمكن أن يترتب عليها من اختلاط, ما هو حكم المظاهرة والاعتصام إذا لم يكن فيها اختلاط أو كانت للإنكار على الاختلاط , كالمظاهرات على دمج تعليم الأبناء والبنات, أو للإنكار على الاختلاط في الجامعات أو المستشفيات ونحوها ولماذا لم يقال إن المظاهرات والاعتصامات تجوز إذا لم يكن فيها اختلاط وخلت من المنكرات .
وما لحكم حينما تكون المظاهرات للاعتراض على عدم تطبيق شرع الله كما حصل في تونس فبعد المظاهرات والاعتصامات انتشر الأذان في أنحاء تونس وأصبح الإنسان قادرا على أداء صلاته دون أن يتعرض لمضايقة بسبب ذلك, كما أصبح من حق الإنسان أن ينكر المنكر وان يظهر شعائر دينه دون خوف ولا وجل فهل هذه المظاهرات محرمة أيضا
الدليل الثاني عشر :
قد تكون المظاهرات والاعتصامات للمطالبة بتطبيق شرع الله سواء كان هذا الأمر المطالب به واجباً أو مندوباً أو كانت هذه المظاهرات والاعتصامات لإزالة أمر محرم ومنكر من المنكرات أو كانت المظاهرات والاعتصامات لتبديل أمور محرمة ببديل لها جائز كالمظاهرات من اجل إزالة الربا من بلاد المسلمين وإبداله بالمصرفية الإسلامية فهل تكون هذه المظاهرات واجبة لما تؤدي إليه من واجبات لان تطبيق شرع الله واجب على الجميع.أم يقال بأنها محرمة لان الحاكم لا يرغب فيه ولا يريدها أن تشغب عليه ؟؟؟
الدليل الثالث عشر :
أنه لا يصح القول بان ترك المظاهرات اسلم لدين الشخص ولعرضه واقرب للورع وأحفظ للجهد والوقت. بل إن فعلها وحضورها قد يكون هو الأسلم لدين الإنسان وعرضه لما فيها من مطالبة بإقامة شرع الله على عبادة, وقد يكون بقاء المتظاهر عدة ساعات في المظاهرات أحفظ لوقت المتظاهر عند إرادته إنكار المنكر, بدلاً من امضائه الساعات الطوال أو الأيام الكثيرة أمام قصور الحكام قبل ان يؤذن له بالدخول فيها حتى ينكر المنكرات أمامه, وما الحكم إن كان القيام بها اسلم لدين الشخص وعرضه وأحفظ لوقته , وأكثر ورعاً له لما فيها من إنكار المنكرات السياسية وغيرها من المنكرات التي يرعاها الحاكم أو احد المتنفذين حوله.
الدليل الرابع عشر :
أن الأمة هي الحفيظة على الملة والمناط بها تحقيق مقاصد الشريعة وقد وكلت بمحض إرادتها واختيارها عرفائها مع الحاكم بالقيام بحماية الدين وتحقيق مقاصد الشريعة والنيابة عنها في ذلك . وهم بالتالي وكلاء عنها وليسوا أولياً عليها , فإذا قصروا في هذه النيابة والوكالة ولم تستطع أن تقوم بإلزامهم في القيام بهذا الواجب عليها إلا بالتظاهر كان هذا الأمر واجبا عينيا عليها لا يسقط عنها إلا إذا قام به من يعلم يقينا قيامه به وإلا فانه يلزمها بعمومها القيام بذلك بجميع الطرق المؤدية لذلك مالم يكن في هذه الطرق ما ثبت تحريمه بدليل قطعي لا ظني
الدليل الخامس عشر :
إن الأمة وكلت عرفائها مع الحاكم في سياسة الأمور وتدبير المصالح ورد الاعتداءات وإنصاف المظلومين والعدل فيها والاهتمام بمقدراتها جمعا وإنفاقا .والقيام باستشارتها فيما يصلح أحوالها فإذا قصروا فيما وكلتهم به فإن لها أن تتظاهر لتبين اعتراضها على ما يقوموا به قبل أن تعمد إلى عزلهم وتنحيتهم وهذا يدل على أن المظاهرات والاعتصامات من أهم الأمور المشروعة أمام الأمة لأطر نوابها وعرفائها و الحاكم على الحق وبيان وجوب التزامهم بما وكلتهم الأمة به وذلك قبل أن تقوم الأمة بعزلهم وتنحيتهم.
الدليل السادس عشر :
قال الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض )البقرة الآية 251 ومن أوضح مظاهر سنة التدافع المظاهرات والاعتصامات السلمية فكم فيها من دفع للشرور والفتن التي يفرضها أعدائها على حكامها ويضطر الحكام للقيام بهذه الأمور المفروضة عليه حتى لايخسر كرسيه الذي يجلس عليه, لكن الأمة إذا قامت متظاهرة على الحاكم حينما يحيد عن الطريق السديد فإنها تظهر له ولعدوها وعدوه أنها لا ترتضي هذا الأمر المهين وان الأعداء وإن استطاعوا إذلال الحاكم وإجباره على الإتيان بما يفسد المجتمع فانه لن يستطيعوا ذلك مع عموم المسلمين
الدليل السابع عشر :
حديث علي رضي الله عنه في الصحيحين عن السرية التي أمرهم أميرهم بالدخول في النار فرفضوا أمره ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال : (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا, انما الطاعة في المعروف) وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين انه قال : السمع و الطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره فإذا أمر بمعصية فلا سمعاً ولإطاعة
وجه الدلالة من هذه الأحاديث :
إن طاعة الأمة للحاكم محصور في الطاعة في المعروف فإذا كان كل ما يأتي يعتبر من المعروف فيطاع أما إذا كان ما يأمر به يمكن إن يعتبر من غير المعروف فلا يلزم طاعته بل يجب أطره على الحق بجميع الوسائل الممكنة ومن ذلك التظاهر والاعتصام حتى يعود عن غيه , وإذا جاز اطر الظالم على الحق والوقوف الحسي ضد ظلمه مهما كان فان أطره على الحق والوقوف ضد ظلمه بالطرق المعنوية من باب أولى
الدليل الثامن عشر :
إن الواجب على الحاكم الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتناب فعله فإذا لم يأمر بالمعروف أو لم يفعله و لم ينه عن المنكر أو فعله كان الواجب على الأمة بعمومها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بأي وسيلة ممكنة وغير محرمة ومن أفضل الوسائل لذلك المظاهرات والاعتصامات قال ابن تيمية في السياسة الشرعية ( وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقاتل به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و به صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقال تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقال تعالى عن بني إسرائيل : { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } وقال تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجي الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد
الدليل التاسع عشر :
إن من فال بالتحريم لم يعتمدوا في تحريم المظاهرات على دليل واضح مثل اعتمادهم على ما يسمونه خشية الفتنة ومن المعلوم إن الفتنة ليست في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لان هذا من باب الجهاد السلمي في قول الحق بل الفتنة في تركهما قال الله تعالى (ومنهم من يقول إذن لي ولاتقتني ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين ) فهؤلاء المنافقين قد هربوا بزعمهم من فتنة النساء والوقوع في المحرم من نظر ونحوه والله بين أنهم وقعوا في فتنة أشد وأخطر وهي فتنة ترك الجهاد في سبيل الله ورفع الشرك والظلم عن الناس ,ولذلك نقول إن الفتنة هي في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالوسائل الممكنة وغير المحرمة ومنها المظاهرات والاعتصامات, الفتنة في ترك الحكام تتهوك في إعراض المسلمين وأموالهم ومقدراتهم فتعطي من تشاء ولو كان كافرا وتحرم من تشاء ولو كان مؤمناً مواطنا , وتذل من تشاء ولو كان شريفا وتعز من تشاء ولو كان عاصيا مذلا. الفتنة إلا يجد الحاكم من يأمره وينهاه , الفتنة أن يترك الحاكم ليتفرعن فيصح قول الله تعالى فيه (فأستخف قومه فأطاعوه) ولذلك أكمل الله عنهم صفتهم الحقيقية (أنهم كانوا قوماً فاسقين ) الزخرف الآية 54
الفتنة أيها الفضلاء في مبدأ الوصاية التي يمارسها بعض الحكام على شعوبهم مما جعلهم كالبهائم يسوقها الراعي إلى حيث يشاء حتى أعدم وأزال الكرامة والحرية فسلمها لأعدائها فأصبحت ألعوبة لدول الغرب والشرق هذه هي الفتنة وليست الفتنة في إنكار منكر سياسي بطريقة مشروعة قد يصل إلى درجة الوجوب العيني على كل مسلم ذكر وأنثى صغير وكبير شيخ وشاب . وهذا واضح وجلي في المجتمعات التي تركت الإنكار على الحكام والسلاطين كيف منع الحاكم أهل الحق من الإنكار , وأتاح لأهل الباطل نشر الخزي و المنكرات عبر وسائل الإعلام فأصبحت المجتمعات تغص بأنواع المنكرات وإذا أراد أهل الحق الرد في الإعلام منعهم القائمين عليها, وإذا أرادوا التظاهر والاعتصام منعهم فقهاء السلاطين بان في هذا فتنة وشر كبير وهم قد تركوا لأهل الإعلام الباب مفتوحاً على مصراعيه لنشر الفتن والمنكرات , فكيف يريدون إقامة هذه الشعيرة العظيمة وقد أقفلت عليهم الأبواب من الحكام بحجة إثارة الرأي العام ومن فقهائه بحجة الفتنة , ومن منع إنكار المنكر بحجة الفتنة فإنه يصدق فيه قول الله نعالي (ألا في الفتنة سقطوا )
وخشية الفتنة باب واسع لو فتح لقلنا بحرمة كثير من الأمور الواجبة خشية الفتنة فكما يحرم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طر يق المظاهرات خشية الفتنة فكذلك بقية شعائر الإسلام قد يقال بتحريمها خشية الفتنة لأنه لأفرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين الصلاة والزكاة قال ابن تيمية : فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك بإجماع المسلمين فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال ما كان من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء ,,,,,,,,الخ وكذلك من جحد سائر الواجبات وفعل المحرمات هو مقصود الجهاد في سبيل الله وهو واجب على الأمة باتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال
الدليل العشرون :
أن إظهار الحق والعدل ، بكل وسيلة مشروعة وغمط الباطل والظلم بكل وسيلة مشروعة، والتظاهر مع الحق والعدل، وضد الباطل والظلم سنة مشروعة جارية في القران والسنة, شرعها الله في إظهار الحدود على الفساد كما في قول الله تعالى : “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين “، كما شرعها في الفرح والسرور بالأعياد، ، وفي إظهار القوة والنشاط حينما شرع للطائفين أن يهرولوا في الطواف والساعين إن يهرولوا في السعي نكاية بالأعداء وإظهارا لقوة وصحة أجسامهم، وما فعله الرسول مع أبي سفيان حينما ألزمه رؤية قوة المسلمين، وليقطع عليه التفكير في مواجهة قوة المسلمين وجيش الإسلام،و من هنا يتضح أن إظهار الاتحاد بين المسلمين ونصرة بعضهم لبعض وبيان قوتهم وصلابتهم في الحق ورفضهم للمنكر والباطل من شعائر الإسلام الظاهرة وهي سنة في الإسلام قائمة وقد تواترت على مشروعية ذلك الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة .ولذلك فإن تظاهرهم واعتصامهم لإنكار المنكرات وإزالة الظلم والمحرمات سواء كان الحاكم قد أقرها من ذاته لهوى في نفسه أو فرضت عليه بالقوة والخوف من عدوه لان تظاهرهم يظهر مدى قوتهم ورفضهم للباطل والمحرم وهذا يظهر جليا في الدول التي تسمح في التظاهرات والاعتصامات السلمية حيث تحجم كثير من الدول الغربية عن فرض رأيها وأجندتها عليها لأنها تخشى انفجار الشارع المحلي عليها مما يضر بمصالحها وهذا بالتالي يؤثر على سياستها الداخلية والخارجية , بخلاف الدول القمعية الاستبدادية التي تصادر حرية الرأي وتقمع المظاهرات والاعتصامات فإنها تفرض عليها الدول الغربية أجندتها وتحتكر عليه مقدراتها دون أن تتأثر سياسة هذه الدولة (الفارضة لاجندتها) الداخلية والخارجية لان العالم كله سيظن إن شعوب هذه الدولة المستضعفة قد وافقوا ضمناً على ذلك لانه لم يظهر عليهم ما يفيد باعتراضهم على مثل هذه التصرفات من مظاهرات او اعتصامات سلمية او إضرابات او عصيان مدني سلمي ونحوها .
الدليل الحادي والعشرون :
أنه تبين جدوى هذه المظاهرات والاعتصامات الكبيرة في رفع الأذى عن شعوب عديدة عبر التاريخ، وآخر شواهد ذلك ما شاهده الناس في جنوب إفريقيا وكيف نال سكانها الحرية من الاستعمار وكيف أزالوا النظام العنصري فيها بوسائل عدة من أهمها المظاهرات والاعتصامات ,كما حدث في اندونيسيا عندما خرج المتظاهرون وأبعدوا سوهارتو ونظامه الفاسد، وما حدث من تظاهر اليوغسلاف ضد الطاغية سلوبودان ميلسوفتش، و ما فعله الإخوة في تونس حينما تظاهروا وأزالوا النظام السابق الذي ضيق عليهم في دينهم ودنياهم واستطاعوا تحرير أنفسهم بالخروج في مظاهرات عارمة حتى ولى الفرار وسقطت هيبته ونظامه والامثلة من التاريخ شاهدت على ثمرة المظاهرات أكثر من إن تعد أو تحصى كلها يكون الصوت الأوضح و الأظهر والأخير لكل المظلومين ضد الظالمين ،فتسقط الأصنام، وتصان الدماء والأعراض والحرية والكرامات من الجور والطغيان والاستبداد ,كما أننا لو تأملنا كيف تم إنهاء الاستعمار في أكثر البلدان الإسلامية المستعمرة حول العالم في بلداننا العربية وغيرها، من سوريا ومصر ودول شمال إفريقيا كتونس والمغرب والجزائر وإيران والعراق و الهند و الفلبين لوجدنا إن المظاهرات والاعتصامات أثرت أثرا ملحوظا ومشهوداً لا ينكره عاقل، فهي من أهم الوسائل المعينة على رفع الظلم وإنكار الباطل والمنكر .
وهذا لا يعني أن المظاهرات والاعتصامات وسيلة إنكار معصومة من الخطأ فكل وسائل إنكار المنكر ووسائل رفع الظلم لا يمكن إن تسلم من الخطأ والخلل لكنها اقل الوسائل ضرر لان ترك المنكر فيه ضرر انتشار المنكرات في المجتمع الإسلامي وتقوي لأهل الباطل على أهل الحق , وإنكار المنكر بالعنف وحمل السلاح يؤدي إلى سفك الدماء واستباحة دماء المسلمين المعصومة وبين جمل السلاح على أهل الباطل والمنكر والانبطاح لهم وتركهم يعيثون في الأرض فسادا نجد طريقة وسط بين هذا وذاك وهي المظاهرات والاعتصامات والإضرابات , فلا يترك المنكر ينتشر ليفسد المجتمع ,ولا يعتدي على مقره أو فاعله بالسلاح , بل يعتصم ويتظاهر ضده حتى يزال بهذه الوسيلة السلمية ، ولا يمكن إن يزال المنكر ويدفع الظلم بالمناصحات السرية فقط, والواقع خير شاهد على ذلك فمن يريني منكر سياسي عام انتشر ثم زال بالمناصحة السرية فقط.
الدليل الثاني والعشرون :
إن القول بتحريم المظاهرات والاعتصامات(مع عدم وجود الدليل الشرعي على ذلك ) لن يوقف المظلوم عن إظهار اعتراضه على الظلم ورفضه له لأنه لن يبقى أمام المظلوم ومسلوب الحرية والإرادة إلا أحد ثلاثة أمور:
1-الصبر على الظلم وهذا الصبر لن يحصل والواقع يشهد بذلك وان حصل الصبر فسيكون صبراً مؤقتاً سرعان ما ينفذ من صاحبه.
2- اوالانتحار والإلقاء بالنفس للتهلكة لليأس الذي يصيبه من تتابع الظلم وسلب الحرية والإرادة منه.
3-أو القيام بالمظاهرات ولن ينظر في تلك الحالة لمن قال بالتحريم لأنه لم يعد أمامه إلا هذا الطريق وكما قال الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
وبالتالي فإن المظلوم لن يستفيد من القول بالتحريم ,لكن القول بالتحريم سيأتي بنتيجة عكسية تثير الفتنة وتساعد على الفوضى والعنف لأنه هو الذي سيغري حرس السلطة المسئول عن صد المظاهرات والاعتصامات السلمية حيث يتسبب بنشر الفتنة والفساد في الأرض بانتهاج العنف في التصدي للمتظاهرين وإطلاق الرصاص الحي والذي عادة ما يتم تزويدهم به في مثل هذه الأحوال فيقتلون ويجرحون ويعتقلون ويفسدون على كل من حاول إنكار المنكرات عن طريق المظاهرات والاعتصامات السلمية, لأنه يرى إن ما يقوم به من قتل وجرح واعتقال انما هو طاعة للحاكم وعبادة يتعبد بها لأنه يمنع الناس من اقتراف ما ذكره المفتين من حرمة المظاهرات فكيف إذا اجتمع مع هذه الحرمة (المزعومة له ) أمر الحاكم(المتعبد به) لهؤلاء الحرس بقمع المتظاهرين فأن الأمر سيكون أعظم واجل خطرا ,خاصة وأن الناس لن تتوقف عن المطالبة بحقها وحرس السلطة من الشرطة وغيرهم يرون إن هذا الأمر محرم فتستمر بقتل كل من قام بهذا العمل .
الدليل الثالث العشرون :
أن المظاهرات والاعتصامات أصبحت مقياسا من مقاييس استطلاعات الرأي عند الأمم مسلمها وكافرها في هذا العصر، ففي الدول التي لايوجد فيها حرية مطلقة للرأي ولا مؤسسات مستقلة تقوم باستطلاعات الرأي العام ولا يوجد فيها برلمانات ولا مجالس شورى ولا مجالس شعب منتخبة من قبل الشعوب, فإنه لايمكن أن يعلم الرأي الحقيقي والنزيه لأي أمة أو شعوب من حكامها وأعوانهم , ولا من إعلامها الرسمي وأبواقهم الذي قد يسيطر عليه حزب أو قلة أو فئة محدودة لا تخدم مصلحة الأمة ولا تحرص عليها، ولا نعلم من قال ممن لم يقل ؟ ومن وافق ومن خالف؟،لعدم وجود المصداقية والحيادية فيها ولا يمكن أن نعرف ذلك إلا بوجود المظاهرات والاعتصامات التي يتضح فيها حجم الرضا والموافقة من عدمه فهذا قياس مهم لموقف الأمة واستنكارها للباطل أو مناصرتها للحق فلا بأس من العمل بها لأنها من أمور الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم قال : انتم اعلم بأمور دنياكم
الدليل الرابع والعشرون :
أن القاعدة الفقهيّة قد ورد النص فيها على أنّ الأعمال بالنيّة ،وذلك لما ورد عند البخاري ومسلم في صحيحيهما و غيرهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - انه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ،
وجه الدلالة :
أن هذا الحديث يدل على أن العمل الذي لم يرد النهي عنه يقترن الحكم عليه بالنية من فاعله ولذلك فإنه من الظلم العظيم ومن غير العدل الشرعي بل انه من مجاوزة الحق للباطل ,أن يحكم الإنسان على من أراد بالمظاهرة والاعتصام رفع الظلم عن نفسه أو عن غيره أن عمله هذا محرم أو انه بدعة مع انه كان يسع هذا المتظاهر والمعتصم السكوت عن ذلك- كما سكت غيره – لكن شعوره بوجوب إنكار هذا الظلم الواقع عليه وعلى غيره دفعه للتظاهر والاعتصام .
الدليل الخامس والعشرون :
إننا قد أثبتنا حصول الاجتماعات والتظاهرات لأجل إنكار المنكر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضوان الله عليهم وبينا ذلك بالدليل الصحيح ومع ذلك نقول بأنه لا يلزم أن تكون جميع الوسائل التي يخترعها الناس أو يعملون بها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لإزالة المنكرات أو للتعبير عن الرأي أن تكون موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لان هذا يعطل جميع وسائل إنكار المنكر الحديثة كالإنكار عن طريق رسائل الفاكس والجوال , كما يعطل الاستفادة من وسائل الإعلام الحديثة المرئية والمسموعة والمقروءة وغيرها في إنكار المنكرات ,كما يعطل الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في هذا المجال , كما أن استحداث هذه الوسائل من أمور الدنيا وليست من أمور الدين . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أنتم أعلم بأمور دنياكم )) وتقييد التعامل في الامور السياسية بنص ماورد في الأدلة الشرعية غير صحيح لان هذا من امور الدنيا وهي مما يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولقد كانت هناك نظريات سياسية صلحت في وقت من الأوقات لم تعد صالحة في هذا الوقت , كما ان هناك وسائل نقل وتقنية وغيرها لم تكن موجودة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك تعاملنا معها ولم نقل بعدم مشروعيتها وهناك انظمة سياسية طبقت في هذا العصر لم تطبق في هذا الوقت ومع ذلك تعامل الناس معها كتنظيم الوزارات والجيوش وطرق تداول الحكموالسلطة, وطرق تعيين الوزراء ونحو ذلك وعدم ورودها في ذلك الوقت لم يكن دليلاً على عدم جواز فعلها,
الدليل السادس والعشرون :
أن المظاهرات والاعتصامات السلمية من اجل المطالبة برفع الظلم عن الأمة بجميع أنواعه عمل مشروع لان الهدف المراد منه مشروع , وهو نوع من أنواع الجهاد السلمي أو ما يسمى جهاد دفع الظلم وهو الجهاد المعطل حيث تم تعطيله من قبل الحكام وأعوانهم من فقهاء الاستبداد لأنه يضر بمصالحهم ويمنع انطلاق أيديهم في أموال الأمة ومقدراتها كما يقيد تصرفاتهم في ما فيه مصلحة للأمة فقط دون ما فيه مصالحهم الذاتية ولذلك فإنه أفضل الجهاد في سبيل الله إذا خلصت نية صاحبه في رفع الظلم ودفع الفساد لأنه من قول كلمة الحق عند السلطان الجائر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) فإذا كانت كلمة الحق تعتبر جهاداً فإن المظاهرات والاعتصامات السلمية لفضح أساليب هذا الجائر وانتهاكاته لحقوق المسلمين من باب أولى بل هو من انجح الوسائل الجهادية لرفع الظلم ومن الوسائل الفعّالة ضد المستبدين والظلمة لما لها من النكاية وإيقاع الألم النفسي بهم وفضحهم أمام العالم اجمع ،ولما فيها من تجرئة المسلمين عليهم لإنكار المنكر والتصريح بالحق وتقوية قلوبهم وكسر قلوب الحكام والسلاطين الظلمة والمستبدين .
الدليل السابع والعشرون :
أن هناك مجموعة كبيرة من القواعد الفقهية التي تدل على مشروعية المظاهرات والاعتصامات من اجل تحصيل مصالح مشروعة ومنها :
قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد
فإذا كان المقصد مشروعاً ولم يرد نهي خاص عن الوسيلة فإنه تأخذ حكم المقصد فإذا كان المقصد واجباً كانت الوسيلة واجبة وإذا كان مندوباُ كانت الوسيلة مندوبة وهكذا وطالما إن المقصود من المظاهرات والاعتصامات إنكار المنكرات السياسية العامة الواقعة من الحاكم أو من أحد أعوانه أو المتنفذين حوله فان المظاهرات لأجل إزالة هذه المنكرات واجبة وجوباً كفائياً فإذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن البقية وان لم يقم بها من يكفي فإن الجميع يأثمون.
قاعدة : ( ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب)
وهذه القاعدة تفيد أنه إذا كان رفع الظلم عن الأفراد وعن الأمة واجبا على كل من قدر عليه بحسب طاقته فإن كل مالا يمكن أن يتم هذا الواجب الابه فهو واجب, فإذا علمنا انه لا يمكن رفع الظلم عن المظلومين أو عن المعتقلين أو عن المأسورين إلا عن طريق المظاهرات والاعتصامات فإنه يكون واجباً .وإذا كان يمكن أن يتم الواجب وهو رفع الظلم بغير المظاهرات والاعتصامات فإنه يكون في هذه الحالة مباحاً وذلك لأنه احد الطرق التي يمكن بها بيان اعتراض الإنسان على الظلم الواقع عليه أو على غيره في العصر الحاضر.
قاعدة : الأمر بالشيء أمر به و بما لا يتم إلا به
وهذه القاعدة تفيد انه إذا ورد أمر من الشارع بشي فإنه يعتبر أمر بكل ما لا يمكن أن يتم هذا المأمور إلا به, وعلى هذا فإن الظلم مأمور برفعه وتركه. والاعتداء على أموال الأمة ومقدراتها وحريتها مأمور بدفعه , وكل مالا يمكن أن يتم رفع الظلم أو دفعه إلا به فإنه يكون مأمورا به فيكون واجبا , فإذا لم يكن ممكناً رفع الظلم والاضطهاد المأمور به إلا بالمظاهرات والاعتصامات فإنها تكون مأموراً بها وهذا يدل على مشروعيتها بل وجوبها أحيانا إذا لم يمكن رفع الظلم إلا بها
قاعدة : الضرر يزال
وهذه القاعدة تفيد أن الضرر ومنه الظلم والتعدي ينبغي إزالته ودفعه ورفعه حتى لا يستفحل والإزالة للضرر تكون بأي طريقة يمكن أن يزال بها مالم تكن هذه الطريقة محرمة,وبناء على ذلك فإنه إذا علم الإنسان انه يستطيع إزالة الظلم والاضطهاد عن نفسه وعن غيره بالتظاهر والاعتصامات فإنه ينبغي أن يفعل ذلك خاصة إذا لم يترتب على هذه التظاهرات والاعتصامات ضرر يلحق بجسده أو عقله.
قاعدة : إذا تعارضت مصلحتان تُقدَّم الأعلى، وإذا تعارضت مفسدتان تُرتكَب الأدنى
وهذه القاعدة تفيد أنه حينما تتعارض مصلحتان فإن المصلحة الأعلى تقدم على المصلحة الأدنى لأنها أكثر أهمية منها , كما أنه إذا تعارضت مفسدتان فإنه ترتكب المفسدة والضرر الأدنى والأقل وتحتمل من اجل تلافي المفسدة والضرر الأكبر والأعظم ومعنى هذا انه إذا علم الإنسان أن المظاهرات والاعتصامات السلمية سوف تكون سبباً في إزالة الظلم و الضرر والاضطهاد عن نفسه أو عن غيره فإنه يشرع له أن يتحمل الضرر الأدنى بتظاهره واعتصامه وضياع بعض وقته وجهده مقابل تلافي الضرر الأعظم الواقع عليه أو على غيره ,وغير ذلك من القواعد الفقهية التي يتبين منها انه يشرع للإنسان تلافي الضرر الأعظم وهو وقوع الظلم والاضطهاد ولو وقع على الإنسان ضرر اقل منه, فضلاً عن إن لم يقع عليه ضرر أصلا مما يفيد مشروعية رفع الظلم والاضطهاد عن النفس وعن جميع المظلومين بأي وسيلة مشروعة كانت, ومن هذه الوسائل المشروعة التظاهرات والاعتصامات السلمية, والعصيان المدني السلمي في مدة لا يقع عليه فيها ضرر جسدي بدني , ولاعقلي نفسي .
من كل ما سبق من الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومن فعل الصحابة وأقوالهم يفيد بمشروعية إزالة منكر الظلم ورفعه ورفضه والتمانع منه بأي وسيلة يمكن بها ذلك,سواء كانت الوسيلة وسيلة ايجابية أي فيها فعل أو وسيلة سلبية فيها امتناع عن فعل . وهذا ما يتماشى مع النصوص الشرعية التي أجازت للمسلم أحياناً تجشم المشاق من اجل إعلاء كلمة الله ورفع الظلم (الشرك والكفر ) والاضطهاد وسلب الحريات والكرامة والعبث بالأموال والمقدرات ومنع الحقوق عن عباد الله حتى ولو أدى ذلك إلى فوات نفس الإنسان , بل إن ذلك كما جاء في النصوص الواردة في هجوم الإنسان بمفرده على صفوف العدو ومشروعيته حتى ولو أدى ذلك إلى ذهاب نفس المقاتل المسلم بان من فعل ذلك فإنه يعتبر شهيداً ,وله أجر الشهيد عند الله,فما كان اقل ضرراً من ذلك فإنه يدخل في حكمه من باب أولى إن كان من اجل إزالة الظلم والضرر الواقع على الإنسان أو على غيره.ومن ذلك المظاهرات والاعتصامات السلمية والعصيان المدني السلمي في مدة لا تضر بالإنسان ولا بجسده ولا بعقله ولا بشي من ذلك.
الخلاصة من هذا البحث
يتبين مما سبق ذكره من أدلة شرعية من الكتاب والسنة ومن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه رضوان الله عليهم ومن قواعد فقهية وأدلة عقلية أن المظاهرات والاعتصامات انما هي وسيلة لغاية فهي ليست مقصودة بذاتها فالحكم فيها يكون بناء على الحكم في غاياتها لان للوسائل أحكام الغايات , فإذا كانت الغاية مباحة فالوسيلة وهي المظاهرات والاعتصامات مباحة وإذا كانت الغاية مندوبة فالحكم فيها الندب والسنية وإذا كانت الغاية واجبة فحكم المظاهرات واجب وإذا كانت الغاية محرمة فالوسيلة إليها وهي المظاهرات محرمة وهكذا بقية الأحكام التكليفية الخمسة ……
والذي يظهر لي في هذا العصر أن جل المظاهرات والاعتصامات(إن لم اقل كلها ) في البلاد الإسلامية من قبيل الواجب لأنها عادة لا تكون إلا بسبب المطالبة برفع ظلم واستبداد الحكام و المتنفذين أو فعلهم لأمر محرم أو ترك هم لأمر واجب
وقد قال عامر الشعبي رحمه الله : نعم الشيء الغوغاء يسدون السيل ، ويعكرون على الوالي السوء
كما أنبه مشايخنا الفضلاء القائلين بتحريم بعض الأمور بناء على ما يسمونه تجنب الفتنة في نظرهم أو مراعاة المصلحة في تقديرهم وإطلاق هذا الحكم الذي يذكرونه على جميع بلاد العالم الإسلامي (وليقبلوها من احد تلاميذهم ) إن الحكم على الشي فرع عن تصوره وانه لا يمكن تحديد الفتنة إلا من كان في المجتمع الذي يحصل في هذا الأمر ولأذكرهم بتغير الفتوى عند الإمام الشافعي رحمه الله عندما تغيرت بيئته فغيره أولى وأحرى كما أنبههم إلى وجوب الرجوع في الإحكام للأدلة الشرعية من كتاب الله تعالى ومن السنة النبوية والسيرة المحمدية وأفعال صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وان لا يأخذهم الحماس لما يرون أن فعله قد يضر بآحاد الأمة(كالحاكم وأعوانه ) فيفتون بخلافه مع ثبوته بأدلة شرعية صحيحة – ولقد علمونا بارك الله فيهم- إن حادي المسلم ودليله هو ماثبت في النصوص التشريعية لا الأهواء البشرية وان ما ثبت في النصوص الشرعية مقدم على رغبة الناس من (حكام ومحكومين ) وأهوائهم كم أننا لو قلنا بمنع المظاهرات والاعتصامات في البلاد الشوربة أو الدول التي تهتم بشعوبها- فلا تقر عليهم شي حتى توافق عليه جميع المجالس الشعبية كالبرلمان ومجلس الشعب أو مجلس الأمة ونحوها – فلا يمكن إن نلغيها في البلاد الدكتاتورية التي تصدر عن أراء جهال هم أفل معرفة وإدراك من اجهل شعوبهم .
هذا ما تيسر جمعه ورصده والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين , وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
كتبه الفقير إلى ربه الأستاذ الدكتور:عبد الكريم بن يوسف بن عبد الكريم الخضر أستاذ الفقه المقارن في قسم الفقه في كلية الشريعة في جامعة القصيم