مقالة جدلية حول اللغة والفكر
-هل تستطيع اللغة أن تعكس كل ما يدور في فكرنا؟
-هــل يـمـكن الـتـفـكـيـر بـدون لـغـة؟
لانتخيل هناك عالم بدون إشارات ورموز يعبر بهاعن إحتياجاته,فالواقع يثبت أنه من المستحيل أن تكون هناك علاقات واصلة وناشئة إلا بوسيلة تجعل الإرتباط وثيق ومحكما ودقيقا وتلك الوسيلة المستعملة هي اللغة.واللغة من أقدم الوسائل التي أستعملها الإنسان للإتصال بينه وبين غيره وقد كانت الوسائل المعتمدة للإتصال في العصور البدائية مثل الدخان والصراخ والتهكم غير قادرة على التعبير عما يدور في فكره لأن فكره أصبح واسع الخيال ومبدع الأشياء,أصبح يبتكر ويخترع فلغته أصبحت عاجزة عن تلبية كل حاجياته ومتطلباته سعى إلى تطويرها,فأصبحت اللغة مقياساً تقاس به الضمائر وبها يمكن التعبير عن مايدور في مكنون تلك الضمائر هذا ما أفاض تساؤلاتنا التالية:هل تطور اللغة من خلال تحليلنا السابق هو الذي أدى ترقية الفكر,أم الفكر بتطوره أدى إلى تطوير اللغة,وبعبارة أخرى هل اللغة أسبق من الفكر,أم العكس الفكر يسبق اللغة؟
اللغة تسبق الفكر,فا للغة عبارة عن رموز ومصطلحات,وهذه الرموز والمصطلحات تحمل من ورائها معاني ودلالات,وهذه الدلالات عبارة عن وقود يحرك بها الفكر ليبحث لها عن معاني,وهذا ماجعل اللغة عمود الفكر,أي لايتشكل الفكر في ذهننا بغياب اللغة,فا للغة مقبرة الفكر أو هي الوعاء لذلك المشروب.....,وهي الروح والفكر هو الجسد ولاقيمة للجسد بلا روح,فلولا اللغة لما عبرنا عن ما يدور في عقولنا من أفكار ورؤى,ولولاها لبقيت جل أفكارنا مخبئة ومخزونة في عقولنا جامدة لاروح فيها,فا للغة كما يقول عنها"مارتن هايدوغر"(فيلسوف ألماني عاش مابين سنة 1989.1979 ذو نزعة وجودية)هي المسكن الذي نسكن فيه,ولايمكننا الخروج عن هذا المسكن.
وبا للغة يتم معرفة كل ماتحمله المعطيات التي تكون على شكل رموز لغوية بها يتم تحريك الفكر,فكلمة واحدة قد تشغل الفكر ليلة كاملة,وهي الوعاء الذي تصب فيه الأفكار حيث تقوم بتنظيم القوالب المناسبة لكل فكرة معينة وما نستدل به عن أسبقية اللغة عن الفكر ينحصر بمايلي:
-أولاً:إن الطفل الصغير نلاحظ في أول وهلة من حياته حيث يبدأ يتأثر بمحيطه,فمن الناحية اللغوية يقوم بترداد الكلمات بدون أن يحمل في ذاكرته أي معنى لها,فيتعلم الإشارات عن أبويه وبعدها عندما يكون فكره قد نضج يجد نفسه قادرا على التعبير عن أفكاره منطلقا من خبرته في حفظ الإشارات والكلمات,فلو كان الطفل يفكر قبل أن يحفظ الرموز اللغوية لبقي عاجزا عن التعبير حتى يقوم بحفظ قواميس لغة مجتمعه.
-ثانياً:كما للغة الدور الكبير في إعطاء الفكر نشاطا,فا لطالب عندما يرى كلمة"إمتحان"فهي عبارة عن رموز تحتوي على مجموعة من الحروف تشكل كلمة تخفي وراءها دلالة,فهذه الدلالة مباشرة تجعل الفكر يعمل عمله بالتذكر والتفكير بما سيفعل ليتهيأ لهذا الإمتحان.
-ثالثاً:إن العلوم بأكملها تعتمدعلى اللغة كا الرياضيات والفيزياء,هذه العلوم تحتاج إلى لغة ليتم بها وضع أسس وقوانين ينظم بها الفكر وليسهل عليه التعبير بها,فلا يوجد إذا لم نقل من المستحيل هناك علم بدون لغة تميزه فلولا وجود اللغة لما وجد التفكير أساساً لأن الرياضيات مثلا عبارة عن لغة علمية تحتوي على أشكال ورموز تجعل أذهاننا تعمل بها في الحساب ,فإذا لم يكن هناك واحد وإثنان وثلاثة لايمكن أن نفكر في الحساب كأن نقول:واحد+إثنان=ثلاثة.
-رابعاً:المعاني التي تحملها اللغة هي سبب إنبثاق الأفكار مثل كلمة"الرحمان",فمباشرة عند قراءتنا لهذه الكلمة تجعل الفكر يدرسها بجميع أبعادها ومعانيها بأنها لفظ جلالة,ورمز للقوة والمقدرة,ثم تجعلنا نفكر ونتساءل ونتذكر ونحاسب أنفسنا ما فعلنا من أجل هذا الإسم الجليل؟,فنلاحظ أنها مجرد كلمة ولكن مرادها عظيم,أما إذا قمنا بتغيير مواقع الحروف وترتيبها ترتيبا غير منطقي "ماراحنل"مثلا فهذه الكلمة تجعل الفكر أمامها حيران فتميته وتجعله غير قادرا على تفسيرها لأنه لايدرك معناها,إذا اللغة هي كل شيء والفكر هو عبارة عن أداة أو وسيلة لها فقط.
لو كانت اللغة قادرة على التعبير عن مايدور في أذهاننا بدون عقدة,وأنها تسبق الفكر,وأنها كل شيء,بماذا نفسر الجمود الذي ينتابنا ونحن نريد أن نقول شيئا ما؟حيث نجد أن اللغة غير قادرة على التعبير عن أفكارنا ووجداننا باحثين عن جمل وألفاظ تملىء فراغ شعورنا ولكن للأسف نجد اللغة غير قادرة وعاجزة تماما عن رسم ما يسعى إليه فكرنا,وهذا ماجعلنا لانستطيع مهما فعلنا أن نعبر ما بداخلنا من عواطف وإنفعالات ووجدان.كما أن الفكر عندما يتحرك هو الذي يحرك معه هذه الإشارات فهي تحت أمر منه لاتتحرك بدون حراكه,فا للغة بدون فكر لامعنى لها لأن ذهاب الفكر يعني لامعنى لوجودها فما دور الفكر إذن؟
الفكر عبارة عن مخزون يحمل الكثير,فهو ذلك الفظء الواسع اللامتناهي,أما اللغة فهي ذلك
المدد المتناهي الذي ينتهي بإنتهاء الفكر,ونجد أيظ الفكر أغنى من اللغة,وهذا ما يتمظهر في عجزنا عن التعبير عن مشاعرنا وأحاسيسنا وهذا الأمر لايعود إلى قصور الفكر وإنما في اللغة حيث أنها لاتغطي المعنى الكامل لذلك الفكر المكثف,فا لفكر عبارة عن قاموس حياة كل فرد لما يحمله من ذكريات وعواطف وإنفعالات تجعل من كينونته ميدان للتجارب,وعندما يريد الإدلاء
بها يخرجها بعبارات وإشارات تعبيرية,فا للغة ماهي إلا وسيلة يقودها الفكر,فهو الذي يشعر داخله مثلا بالحزن فيبحث عن الوسيلة التي قد يعبر بها عن مدى حزنه,فهنا قمنا بتحويل ماهوفي النفس أي داخلي إلى ماهو مسموح وذلك عن طريق الكلام.مما يجعلنا ذلك نقول أن الفكر هو الجسم الذي ينعكس شكله في المرآة,والمرآة وسيلة لا تضع الأشياء وإنما تعكسها فقط,وهذا ما ينطبق على اللغة,فهي وسيلة تعكس فقط ما يدور في الفكر ولاتصنع الفكر بل الفكر هو الذي يشكلها ويصنع منها القوالب المناسبة لأفكاره.
وخير من يمثل هذا المذهب هو"برغسون"حيث يرى أن الفكر مستقدم عن اللغة,وما اللغة إلا رموز لاغير,فعندما أفكر في حل مسآلة معينة فتجدني أبحث عن حل لها بطرح عدة تساؤلات ووضع مجموعة من الإقتراحات وعندما أصل إلى إيجاد الحل المناسب أصرح به عن طريق اللغة,فأنا أفكر ثم أعبر لأن الفكر هو الذي يعطيني اللغة المناسبة للتعبير وليست اللغة تعطيني الحل ثم أفكر,فهذا غير صحيح.
وما يبين عجز اللغة وقصورها عن التعبيرعن كل أفكارنا هو عندما نريد كتابة رسالة لزميل من الزملاء,أوخاطرة من الخواطر,أو شعرا أو أي إيداع أخر,أو في إطار التعبير عن مناسبة ما,فالفكر هنا موجود بقوة ولكن للأسف اللغة ضعيفة وغير قادرة عن التعبير بمثل القـوة التـي تتطلبها تلك المواقف,مثل لقائي بأحد زملائي غاب عني لمدة طويلة فحينما ألتقي معه أجد نفسي غير قادرا أن أعبر له عن حقيقة سعادتي وقوة فرحتي بلقائي به.
فمن خلال هذه الأمثلة نستنتج أن الفكر يسبق اللغة لأن اللغة من خلاله تتمظهر بإشارات ودلالات تعبر عن مكنوناته.
إن الفكر حقا هو قائد الإشارات,ولكن إذا كان الفكر وحيدا فلا معنى له,فهل الفكرة بدون إشارة لها معنى؟,فهذا غير ممكن.فا للغة هي التي تبني للفكر الأدراج التي تجعله يرتقي,لأن الفكر لاشيء يبرهن عن قوته إلا اللغة فهي التي تعطي له الكيان العيني في هذا الوجود,والإنسان أيضا يزداد نشاط فكره بإزدياد وتطور وسائل التعبير لديه مما يجعلنا هذا نعتقد أن اللغة يفوق دورها بأن يكون محصورا على التبليغ بل يتعدى الأمر ذلك في كونها وسيلة يزداد الفكر بفضل تطورها إرتقاءا.
في الحقيقة ينبغي القول أنه لاتوجد لغة بدون فكر,ولافكر بدون لغة,فا لفكر متضمن داخل اللغة واللغة لباس الفكر,فا للغة والفكر كمايرى"إدوارد سبير"مظهرين لعملة نقدية واحدة,فرأيه صحيح وتشبيهه دقيق حيث أننا نجد العملة النقدية واحدة ولكن نجد لها صورتين مختلفتين,فا لوجه
الأول يحمل شيء والوجه الثاني يدل على شيء أخر,ولكن تبقى عملة واحدة ولها غاية واحدة,وهذا ينطبق نفسه على اللغة والفكر فهما يمثلان كيان واحد ولهم غاية مشتركة رغم إختلاف دور كل واحد منهما,ونستطيع أن نشبه أهمية اللغة با لنسبة للفكر كأهمية البنزين با لنسبة للسيارة ودور الفكر با لنسبة للغة كدور القائد با لنسبة للجيش.
إن اللغة حاليا أصبحت تراثا يجب المحافظة عليه وشيئا مقدسا يجب حمايته,فهي جيل وسيادة ,وتاريخ وهوية قبل أن تكون وسيلة.