قد أفلح من زكَّاها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن لتزكية النفس آثاراً عظيمة على الفرد والمجتمع، والرجل المسلم والمرأة المسلمة من أهم أفراد المجتمع المسلم؛ ففي صلاحهما وتزكيتها صلاح للمحيطين بهم من زوج وولد أو أخ وأخت..وغيرهم، ومن هنا أردت أن أبين شيئاً من آثار التزكية وثمارها..
من أهم ثمرات التزكية:
* حلاوة الإيمان. وقد روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
وقد تحدث ابن تيمية عن هؤلاء المحبين فقال: "هؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك، لوجدوا من الألم ما يطيقون".
* السعادة الأكيدة في الدنيا والآخرة، وهذه السعادة نور تشع آثاره على الحياة بجميع مجالاتها، وتقرّ به العين، فيشرق القلب بنور الإيمان، وتشرق معه جميع الأعضاء والجوارح، وقد قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "إنَّ للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإنَّ للسيئة لظلمة في القلب، وسواداً في الوجه، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق".
ومن أبرز ثمرات السعادة :
ـ الإخلاص الكامل لله عزّ وجل.
ـ الخشوع في العبادات.
ـ كراهية المعاصي والنفور منها.
ومن الثمرات العظيمة الأخرى الناتجة عن السعادة:
* عزة النفس.
قال تعالى: {من كان يريد العزَّة فلله العزة جميعاً...} (فاطر:10)، وقال سبحانه: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزَّة فإنَّ العزة لله جميعاً} (النساء: 139).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنا كنَّا أذلَّ قوم فأعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلَّنا الله".
* غنى النفس:
وقد قال عليه السلام: "ليس الغني عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس" (أخرجه مسلم).
وقال عليه السلام: " ومن كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة" (أخرجه الترمذي وصححه الألباني).
* سكينة النفس:
ومن أبرزها الصلاة. قال تعالى: {إنَّ الإنسان خلق هلوعاً* إذا مسَّه الشر جزوعاً* وإذا مسَّه الخير منوعاً* إلا المصلين* الذين هم على صلاتهم دائمون} (المعارج:19 ـ 23).
وكذلك ذكر الله. قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد:28).
قال ابن القيِّم عن هذه السكينة: "هي حياة للقلب، ونور يستنير به، ويقظة له، وقوة تشدّ من عزمه، وتثبته عند الشدائد، وتضبط النفس عند جزعها وهلعها، ولذلك يزداد المؤمن بالسكينة إيماناً مع إيمانه".
وتاريخ سلفنا الصالح حافل بروائع الأمثلة على صدق العبودية لله سبحانه، وسكون النفس عند المحن، من ذلك ما حلَّ بشيخ الإٍسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما حبس في قلعة دمشق وحبس معه تلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ الذي يصف حال الشيخ آنذاك فيقول:
"قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، إنَّ حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة... وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك... وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
وعَلِمَ الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدهما.. ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرَّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتدت بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة" ( صحيح الوابل الصيّب ص93 ـ94).
وهكذا تثمر التزكية ثمرة الرضا والسكينة، التي ينال بها العبد رضا الله سبحانه، كما قال تعالى: {رضي الله عنه ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} (البيّنة:8).
* سمو النفس وعلو الهمة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها" (رواه الطبراني وصححه الألباني).
* حسن الخلق:
قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقاً"
وقال كذلك: "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق" (رواه أحمد وأبوداود وصححه الألباني).
* الحياة الطيبة:
لقول الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (النحل:97).
وقد تكلَّم المفسرون في شرح هذه الآية عن معنى الحياة الطيبة، فقالوا: هي الرزق الحلال الطيب في الدنيا، أو القناعة بالرضا ونحو ذلك، ولكن ابن القيم ـ رحمه الله ـ وجه الأنظار إلى معنى أعمق، فقال: "الصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنَّه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان يقول بعض العارفين: إنه لتمرّ به أوقات يقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنَّهم لفي عيش طيب.
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه مَلِكُها، ولهذا جعل الله معيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره، وهي عكس الحياة الطيبة".
ومن أبرز مجالات الحياة الطيبة التي ينالها المتقون:
ـ حياة القلب وسروره ونعيمه.
ـ التوفيق والتسديد في الأعمال.
ـ كسب محبة العباد ونيل ثقتهم.
ومن الثمرات العظيمة الناتجة عن السعادة:
* الحكمة والفراسة:
قال تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنَّما يشكر لنفسه...} (لقمان:12).
وقال: {يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً...} (البقرة:269).
وفي كتاب (فراسة المؤمن) كلام طيب مفيد في هذا الباب.
* صحة الجسد: وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"
فمن حفظ حدود الله حفظه الله في دنياه وآخرته.
* الأخوة والمحبة: ولقد امتنَّ الله على عباده المؤمنين بأنَّه أنقذهم بالإسلام من ظلمات الكفر والطغيان والبغضاء والعداوات التي كانت متأصلة في المجتمع الجاهلي بقبائله المتناحرة وعاداته الجائرة، فقال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً...} (آل عمران:103).
وقد بيَّن الله القاعدة الأساسية للمجتمع المسلم، فقال: {إنَّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم تُرحمون} (الحجرات:10).
* التكافل والتراحم: فعندما تسكن القلوب وتطمئن بذكر الله تعالى لا بدَّ أن ينتج عنها التكافل والتراحم والمؤازرة على الخير والتعاطف، وقد قال صلى الله عليه وسلم ـ من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
وقد وصف الله عباده بالتواصي بالرحمة، فقال: {ثمَّ كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} (البلد:17).
* الأمن والوقاية من الجرائم:
عندما تستقيم النفوس على طاعة الله سبحانه، ويعرف كل إنسان حقه وواجبه، وتعمر قلوب المؤمنين المحبة الخالصة لله ورسوله والرحمة والشفقة على العباد، ويسود التكافل والتراحم بين أبناء المجتمع، فحقاً يقال: ما أسعد هذا المجتمع وأهنأه.
وإذا انتشرت المعاصي في المجتمع، فهي سبب لعقاب الله بالجوع والخوف والبغض والكراهية، قال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل:112).
وقال تعالى: {ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون} (الروم:41).
* العز والتمكين:
وقد وعد الله سبحانه عباده الصادقين الذين استقامت نفوسهم على طاعة ربهم أن يمكِّن لهم في الأرض ويستخلفهم فيها، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً وأن يعزهم ويثبت أقدامهم.
قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور:55).
وتأملي حال الربيع بن خثيم تلميذ الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وأجلّ أصحابه، وقد قال له ابن مسعود: "يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله لأحبَّك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين".
ومما جاء في ترجمته أنَّه كان في المسجد، ورجل خلفه، فلما ثاروا إلى الصلاة جعل الرجل يقول له: تقدَّم، ولا يجد ربيع مساغاً بين يديه، فرفع الرجل يده فوجأ بها في عنق الربيع، ولا يعرف ربيعاً، فالتفت إليه ربيع، فقال له: رحمك الله! رحمك الله! رحمك الله! فأرسل الرجل عينيه فبكى حين عرف ربيعاً؛ تأثراً بخلقه الكريم وعدم ثأره لنفسه، بل دعا لمن آذاه!
بات هرم العبدي عند "حممة" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبات حممه ليلته كلها حتى أصبح، فلما أصبح قال له هرم: يا حممة، ما أبكاك؟ قال: ذكرت ليلة صبيحتها تبعثر القبور فيخرج من فيها.
وبات حممة عند هرم فبات ليلته يبكي حتى أصبح، فسأله حين أصبح: ما الذي أبكاك؟ فقال: ذكرت ليلة صبيحتها تناثر النجوم من السماء فأبكاني ذلك.
وكان يصطحبه أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الريحان فيسألا الله الجنة، ويدعوان، ثم يتأتيان الحدادين فيتعوذا بالله من النار، ثم يتفرقا إلى منازلهما.
ولننظر كيف ختم لهرم، فعن الحسن أنَّ هرماً مات في غزاة في يوم صائف، فلما فُرغ من دفنه جاءت سحابة حتى كانت حيال القبر، فرشَّت القبر حتى تروّى، ولم يجاوز القبر منها قطرة، ثم عاودت عودها على بدئها.
وهذا مسروق جاء في ترجمته ـ مما يدل على شدة خوفه من فتنة الدنيا ـ أنَّ زياداً بعثه عاملاً على مكان في العراق كان يسمى "السلسلة" فلما خرج مسروق خرج معه قراء أهل الكوفة يشيعونه، فكان فيهم شاب على فرس، فلما رجع الناس وبقى مسروق في نفر من أصحابه دنا منه الفتى فقال له: إنَّك سيد قراء أهل الكوفة، وقَريعهم، إن قيل: من أفضلهم؟ قيل: مسروق، وإن قيل: من أفقههم؟ قيل: مسروق، وإن زينك لهم زين وشينك لهم شين، وإني أنشدك الله ـ أو قال: أعيذك بالله تحدث نفسك بطول أمل، أو بفقر ـ فقال له مسروق: ألا تعينني على ما أنا فيه؟
قال: والله ما أرضى لك ما أنت فيه، فكيف أعينك عليه، وانصرف. فلما انصرف الفتى قال مسروق: ما بَلَغَت مني موعظة ما بلغت موعظة هذا الفتى.
وهذا زين العابدين وهو الزاهد الكبير الذي تعرف البطحاء وطأته، والبيت يعرفه والحل والحرم، وهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
من عجيب تواضعه أنَّه كان إذا أصابه بعض العُجب عالجه بالتواضع، وكان إذا ناول السائل الصدقة قبّلها ثم ناوله.
فلنتأمل كيف زكَّى هؤلاء أنفسهم؛ فهي عندهم ليست مقصورة على ميدان المسجد، بل تتكامل معه في ميدان الصدقة والبذل والإيثار، وفي ميدان المعركة خارج المسجد مع أعداء الله جهاداً بالمال وبالقلم والكلمة والسيف.
نسأل الله جلَّ وعلا أن يرزقنا تزكية النفس، واستقامتها على طاعة الله عزّ وجل، وأن يبعد عنَّا زلل النفس وسقوطها، إنَّه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه