لا مرثاةَ لائقةٌ بعجزك عن قراءتها
شوقي بزيع الحياة - 05/10/08//
((الى محمود درويش)
الآن يمكن للقصيدةِ أن تعود الى منابعها
وللجسد المؤرَّق أن ينامْ
الآن والكلمات هائمةٌ بمفردها
على وجه البسيطةِ
تستطيع يداك أن تجدا طريقهما، بلا ضوءٍ،
الى المعنى
وعيناك المبقَّعتان بالأحزان
ترتدَّان عن فوضى البصيرة
مثل عكازين عمياوين
كي تتهجَّيا خفقان قلبك في الظلامْ
الآن تدرك أن كل كتابةٍ
عقدٌ نوقِّعه مع الشيطان أحياءً
وننجزه بحبر الموت،
كل قصيدةٍ جرحٌ نرمِّمه بلحم حضورنا الفاني
ونسقط في الختام
لا شيء بعدُ إذن لنفعلهُ
وقد فرغ الإناء من الكلامْ
لا شيء بعدُ إذن
سوى التحديق في ذهب البدايات
الموارى تحت أنقاض الحياة
وفي بلادٍ من ذبالات القصائد
لم تزل مدفونةً تحت الركامْ
لا شيء إلا أن تعاين ما استطعتَ
جذور شعركَ وهي تنشجُ
تحت مطرقة الثرى المهدوم
مثل أنوثةٍ عريتْ من الأوراق،
منتحلاً صفات الريح
وهي تقود بالجرس الذي يتقدم الرعيانَ
في جلعاد
قطعان الغمامْ
نضب الطريق من الخطى
والرحلة اكتملتْ
وعدت مضرجاً بالشعر نحو سرير نومكَ،
مثلما ولدتكَ أمك عدتَ
كيما تستعير من التماع يمامةٍ مذبوحة الأحلام
تحت سنابكِ الأعداء
أحزاناً مؤقتةً
وترقد في سلامْ
الرحلةُ الآن انتهت
ومحاجر الموتى التي تفتضُّ أعينها،
وقد تعبتْ من التحديق،
شربين السفوح
تضيء لك الطريق الى أريحا
والجبال تغمَّدتك بمخلب الأوجاع
وهي تسيل من جذع الغيوم الصَّلب
حتى بحَّة القصب الحنونِ
على ضفاف الأنهر الكسلى
لك الآن الخيارُ بأن تكون كما أردتَ:
جناحَ قُبّرةٍ يرفرف فوق أطلال الوجودِ
أو ابتسامةَ عاشقيْن على طريق الحبّ
أو أملاً يشيِّع بالدموع
غروب شمس اللاجئين الى الخيامْ
كم خطوةً تحتاج بعد
لكي تريح جبينك الذاوي على الصلصال،
أو تتنفس الصعداء من وعثاء نفسك؟
كم صباحاً رائقاً
لترى، وقد أصبحتَ أبعد من حدود الجاذبية،
ما تُعِدُّ لك الطبيعة في خزائنها العتيقةِ
من وساوس،
أيها المولود من عطش الوعود الى التحقُّقِ
والحروف الى تأنثها
ومن ظمأ السماء الى نبيٍّ
يُسرج الرؤيا كمعراجٍ
ويحملها الى البيت الحرامْ
آن الأوان لذلك الجسد المهشَّم كالزجاج
بأن توسِّده الثرى
آن الأوان لكي تنامْ
* * *
اليوم تلتمس القصيدةُ صمت شاعرها
لتكتب نفسها في صورةٍ أخرى
وتولد مثل أبطال الحكايات القديمةِ
من خيال مشيّعيك،
منكَّس الأهداب مثل سفينةٍ ترسو
بلا متنزهين على الرمال،
وطافحاً بالذكريات
لخنجرٍ في ظهر جنديٍّ يئنُّ على الحصى
ومتوَّجاً بالأقحوانْ
اليوم لا مثوىً يضمُّك غير ما اتَّحدَتْ به كفَّاكَ
من نزق التفرُّس في ضباب الشكلِ
أوغبش الدخانْ
أبديَّتانِ من الرؤى تتناهبان وجودك الشبحيّ،
واحدةٌ من الكلماتِ
والأخرى من الشهوات
فيما حول قبركَ،
حيث أربع سندياناتٍ تجوب الأرضَ
بحثاً عن شتاءٍ زائغ النظرات في عينيك،
تنهض آخر الحجب التي خبَّأتَ
في أحشائها ياقوتة المعنى
لتمحضك التفاتتها الأخيرةَ،
والسنابل كي تصدَّ الموتَ
عما كان شَعركَ قبل أن يذوي
ويلتحم الزمانُ مع المكانْ
ها أنت تمخر خائر الأهدابِ قوس أهلَّةٍ
مخنوقة العبرات
فوق صلاة أمِّك،
ها نباتاتُ الجليل الحانياتُ على طريق البيت
واللمعانُ شبه المأتميِّ لجنَّة الماضي
وها ذهبُ الشموس على صفيحِ
بيوتِ غزَّةَ
وهو يلفظ بغتةً أنفاسهُ
ويغوص في كبد الثرى قبل الأوانْ
ها هم، كما لو أنهم فقدوا بموتكَ
قطرة الحب الأخيرةَ
والطفولة وهي تبحث عن براءتها
ويُخطئها الحنانْ
يتدافعون وراء نعشكَ
مثلما تتدافع الأمواج تحت ظهيرةٍ مفقوءةِ العينين
نحو البحر،
غير مصدّقين بأن قلبك،
حيث كان الشعر يهدر مثل عاصفةٍ من الصبوات،
قد خسر الرهانْ
مدنٌ بكاملها تجيء الآن حاملةً شوارعها الكئيبةَ
كي تقول لك: الوداع
وأنت تسقط، مثلما أبصرتَ في رؤياك،
عن ظهر الحصانْ
يتقدَّم النسيان كي يرفو تمزُّق مقلتيك على الثرى
والزعفرانُ لكي يضمّد بالأنامل
صوتك المجروح،
والموتى لكي يهدوك أجمل ما تفتَّح في حناجرهم
من الأشواك،
تأتي الأمهات القادمات من الأغاني
كي يصِلْنكَ بالتراب الأم،
تأتي النجمةُ الثكلى التي افترشتْ سماءً
ضحلةَ الجريانِ في الأردن،
سربُ روائحٍ مسروقةٍ من ياسمين الشام،
والألق المثلّم بالعرائس والمناحات الطويلةِ
فوق نهر النيل،
لكن قبل ذلك،
قبل أن يتقدَّم الشعراءُ كي يرْثُوكَ
أو يَرِثُوك،
نلمح بغتةً قمر الكنايات المجلَّل بالتمائمِ
وهو يخترق الحشودَ
لكي يراكْ
تأتي الحواسُ الخمس كي تتبادل الأدوار
فوق مسوَّدات لم تجد وقتاً
لتكملها رؤاكْ
تتقدَّم اللغة التي أخرجتها من عتمة القاموس
نحو عوالمٍ زرقاءَ
لم يفتضَّها أحدٌ سواكْ
يتقدَّم التشبيه أبيض طازج الشُّبهات
نحو يديك،
تسبقه أبالسةُ المجاز السود،
والعُرَبُ الصغيرةُ فوق صحراء النداءِ المستعادةِ،
والرحيل المترف الإيقاع
من ألق المثَّنى في معلقة أمرئ القيس القتيلِ
الى نشيجٍ ذابل الشرفات
في "أنشودة المطر" التي انهمرتْ
على السيَّاب،
لا أحدٌ سواكْ
أصغى الى النيران وهي تشبُّ في ثوب البلاغةِ
حيث في أوج اقترانك بالجنون الصِّرفِ
خانك قلبك الواهي
وأثخنك العراكُ مع الملاكْ...
...
عبثاً نحاول أن نرمم ما تهشَّم في غيابكَ
من شظايا الروح
حيث الشعر أسئلةٌ معلقةٌ تفتِّش عن جوابِ
لا أفْقَ يرشدنا اليك
وأنت تدخل عتمةً أخرى
وتحترف الترنُّح كالنساء النائحات
على حبال الموت،
نوغل في ظنونك دون أن نلقاك،
نلمح كوكباً غضَّ الجناح
يهيم في برِّية الأفلاك
ثم يخرُّ من أعـــلى الحنــين مـــضرَّجاً بخيالهِ
فنقول: هذا أنت
نسمع صرخةً مجهولة الرايات
تخفق مثل أجنحة النسور على الذُّرى
فنقول: هذا صوتك الملفوح بالإعصار
يهدينا الى اللغة الجديدةِ،
أنت من أثًّثتَ أقبية الجمالِ
بما يليقُ من انخطافاتٍ،
وصالحتَ الغموض مع الوضوحِ
بفتنة التأويل
حيث يراعك المحموم راح يشلُّ مثل السمِّ
أعصاب البلاغةِ،
أنت قِبلةُ أعين الغرقى
وقابلةُ السرابِ
ما الشِّعر، قلتَ، سوى المنازلةِ الأخيرةِ
بين برق الرأس والشيطانِ
في الأرض الخرابِ
ما الشعر إلا شهوة الطيران فوق الموت
حيث، مجرداً إلا من الكلمات،
يُشهر شاعرٌ أوراقه البيضاء
في وجه الغيابِ
وعبرتَ وحدك برزخ الآلام
كي ترنو الى ما عتَّقتْهُ يد الطبيعةِ من نبيذٍ
في غياهب كهفها الجوفيّ،
أو ما ردَّدتْهُ حناجر الفانينَ
في أذن الترابِ
* * *
يا حاديَ الألم الفلسطيني
يلزمني لكي أرثيك صيفٌ دارسُ الأقمارِ
يسهر حول قبرك مع صنوبرهِ العليل،
وغصَّةٌ لمرور نعشكَ
تحت شرفتها،
وتلزمني منازلُ للحنين
وغابةٌ من أذرعٍ لتناول الأيام طازجةً
كما ولدتْ لأول مرةٍ،
ومذابحٌ خرساء تخطر كالنوارجِ
فوق أفئدةِ الحصى العاري
وغربانٌ ملائمةٌ لتمرين الحدادِ على السوادْ
ها أنت ترمق من وراء القبرِ
ليلكة الجنونِ المدلهمَّة في خرائب صدرك المعطوب
وهي تعيدُ تنقيح التراب من الشوائبِ
ثم تعبر مثل لمح البرقِ
من ريحٍ لريحْ
لا غيمَ يشرب وجهك النائي كما من قبلُ،
لا مرثاةَ لائقةٌ بعجزك عن قراءتها
ولا جهةٌ تحالفها الحياة، وقد رحلتَ،
سوى تلألؤ وردة الهذيانِ
في دمك الذبيحْ
لا شيء تتركه إذن للموت
إلا ما أراق خيالك الوحشيُّ
من حبر الأساطير الذي أهداه شعبك للقيامةِ
كي يعيدك مرةً أخرى
الى أحشاء رام الله
مرفوعاً على الأعناق كالقربان،
حيث تئنُّ في قدميك جلجلةٌ من الموتى،
وفي عينيك وعدٌ بالقيامة، لن تكذِّبه،
وفي رئتيك أكثرُ من مسيحْ