نهاية التاريخ أم نهاية الرأسمالية
لم تعصف الأزمة المالية التي تعرفها الدول الغربية بالبنوك والمصارف ولكنها عصفت أيضا بالعديد من القناعات والأفكار التي نادت بها الفلسفة المادية في عصر العولمة وعلى رأسها فكرة "نهاية التاريخ" لفوكوياما . هذه الفكرة التي أكد فيها صاحبها بأن مفهوم الجدلية الماركسي الذي كان محور الحركية المادية للنظام الشيوعي قد تلاشى بعد انهيار جدار برلين وتحول العالم من الثنائية القطبية إلى قطبية أحادية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . فالتطورات الأخيرة التي تحولت من أزمة محدودة تتعلق بالسوق العقارية في أمريكا والمتمثلة في عجز الأمريكي البسيط على تسديد ديونه أمام جشع سماسرة العقار المسيطرين على البنوك الأمريكية مما أدى إلى انقلاب السحر على الساحر وذلك عندما عجزت هذه البنوك من انقاذ نفسها من خلال بيع الديون لبنوك أخرى تعاني بدورها من عجز في أسهمها بسبب أزمة الرهن العقاري . ونظرا للطبيعة الربوية للإقتصاد الرأسمالي القائم على سيطرة رأس المال المالي على بقية الأنشطة الاقتصادية الأخرى فإن أي خلل يصيب المنظومة البنكية تكون له انعكاسات وخيمة على بقية القطاعات الأخرى ، وبهذا الشكل تحولت الأزمة المالية إلى أزمة ثقة دفعت المستثمرين إلى السعي التخلص من أسهمهم وبيعها إلى البنوك قبل إفلاسها ،مما خلق أزمة في السيولة وهنا يقع مالم يكن في حسبان فوكوياما وهو تدخل البنوك المركزية الوطنية نحو السعي إلى إيقاف الإنهيار الكامل للبنوك الخاصة من خلال دعمها ماليا أو شرائها أي ( تأميمها) نعم تأميمها بكل ما تحمله هذه الكلمة من معني يعيدنا نحو بدايات النظام الاشتراكي في أوج قوته ، وبهذا الشكل نعود بقوة إلى مبدأ النظام الاقتصادي المركزي الموجه الذي يخل بكل وضوح بمبدأ حرية النظام الإقتصادي الرأسمالي وبفكرة آدم سميث " دعه يعمل اتركه يمر" التي تحولت إلى "دعمه يعمل دعمه يمر" إنه إذا تراجع كبير إلى الوراء لم يكن متوقعا في عصر العولمة.
وهذا ما وقع عمليا من خلال تدخل الحكومة الأمريكية متمثلة في البنك المركزي الذي خفض معدل فائدته الرئيسية بثلاثة أرباع النقطة ، كما قامت العديد من البنوك بشراء بنوك أخرى منافسة لها بدعم من الدولة أي بتحريك الواسطة والنفوذ الذي تلعب أوراقه داخل كواليس الإدارات بعيدا عن منطق السوق والمنافسة الاقتصادية ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ولكن تجاوزه إلى ماهو أخطر من الوجهة الرأسمالية التي تتبجح بمرحلة النيولبرالية ويتمثل الأمر في شراء الدولة أصول العديد من البنوك المفلسة والتكفل بدعمها بشكل مباشر ، وذلك من خلال خطة الرئيس الأمريكي المتمثلة في ضخ 700 مليار دولار لإنقاذ بنوك الاستثمار ووضعها تحت وصاية الدول، ونفس الشيء حدث في بريطانيا وبلجيكا ، مما يدل على هشاشة النظام الاقتصادي الغربي الذي أصيب بداء فقدان المناعة المكتسبة أمام الهزات الارتدادية المفاجئة والسريعة ، خاصة عندما تتحول الأزمة المالية إلى أزمة ثقة كما أشرنا سالفا ، مما يجعل المتعاملين الاقتصادين وأرباب البنوك عرضة للإشاعات التي تزيد الطين بلة وتساعد على تفاقم الأمور من خلال تراجع الاستثمارات التي تؤدي إلى شل النشاط الاقتصادي وتراجع وتيرة التنمية ليس في الدول الغنية فحسب ولكن وبدرجة أكثر في الدول الفقيرة التي لا تنفعها اعترافات رئيس البنك ألاوروبي بأنها ستكون الضحية الأولى لتلاعب الآغنياء والمترفين وجشعهم المتزايد في الربح . ومن هنا لا نعجب في اعتراف العديد من الاختصاصيين الغربيين بأن البنوك التي تبنت الاسلوب الإسلامي في تعاملاتها الاقتصادية في أوروبا ، كانت في منأى عن هذه الاضطرابات أو أقل تضررا بها والتي يعرف الجميع كيف بدأت ولكن لاأحد يعرف كيف ستنتهي .
لا أشك بأن فوكوياما بالرغم من تراجعاته الفكرية عن مسألة نهاية التاريخ يوجد في وضع لا يحسد عليه ، فالنيولبرالية ليست هي نهاية التاريخ ولا الجغرافيا ، بل تبقى نظاما وضعيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، يخضع للنزوات والمصالح الفردية أكثر مما يخضع للقوانين والآليات الاقتصادية ، وهذا ما نبه إليه الاسلام عندما راى ضرورة إخضاع التعاملات المادية لمبدأ الحلال والحرام واضعا بذلك ضوابط أخلاقية تعمل على حماية الاقتصاد من نفسه عندما يتحول إلى آلة نفعية لاضوابط لها و لاحدود .
إن الحديث عن الأزمة المالية يعيد إلى الأذهان ذكريات أزمة الإئتمان قبل ثمانية عقود والتي أخرجت جيلا كاملا من العاملين من مزارعهم ووظائفهم واقتربت بالكثيرين من الموت جوعا وهاهو التاريخ يعيد نفسه ، ولكن في عصر العولمة لن يكون المواطن الأمريكي هو الذي يدفع الثمن وحده بل كل العمال والفلاحين في بقية العالم سيدفعون الثمن غاليا ويتحملون النتائج الوخيمة للامبالاة النظام الأمريكي الذي يحمله وزير الاقتصاد الألماني المسؤولية كاملة عن تصرفاته المتهورة المتمثلة في الإغداق على المصرفيين وكبار مدراء البنوك والشركات بالأرباح والمكافئات وتشجيعهم على المضي قدما في خطط فاشلة ومفلسة تعصف بها المضاربة الشرسة والربح السهل والتشتت الإقراضي الذي تبنى سياسة الهروب إلى الأمام ناهيك عن فقدان هيئات التنقيط مصداقيتها عندما أعطت ضمانات لبنوك فقدت توازناتها ، ولم يتردد الوزير الألماني حتى في استعمال مفهوم "الحملة الأنغلوسكسونية" على أوروبا والعالم بأسره مما يشتم معه رائحة تنبعث من تاريخ ليس ببعيد يعيدنا إلى الحرب العالمية الثانية .
هاهي العولمة تعيد إلينا الماضي في أبشع صوره عندما نسمع قرع طبول الحرب من جديد ولكن هذه المرة ليست بين المعسكرين الشرقي والغربي ولكنها حرب في عقر دار المعسكر الغربي الذي يقبع على فوهة بركان وذلك طالما أنه لا يعرف بأن عدوه ليس معسكر الشر الذي يحاربه بوش في أفغانستان والعراق ولكن معسكر الشر هو رأس الأفعى القابعة هناك على صدر السياسة والاقتصاد الأمريكي متمثلة في اللوبي الصهيوني الذي يعد لمخطط نهاية العالم على طريقة غير تلك التي يتكلم عنها فوكوياما بل على طريقة "الأرمغيدون" المرتبط بأساطير بنو صهيون .
بن شريط عبد الرحمن /جامعة الجلفة - البريد الإلكتروني حذف من قبل الإدارة (غير مسموح بكتابة البريد) -