علي بعد سبعة كيلومترات غربي مدينة دمشق، في ضاحية (دمر) الشهيرة، التي غدت اليوم جزءا من مدينة دمشق بعد توسعها... وفي الطريق الأجمل الذي يربط دمشق بمنتزهاتها الشهيرة علي ضفاف بردي... كان ثمة قصر عريق مهمل ومهجور يعلو رابية تطل علي أشجار الحور التي غني لها محمد عبد المطلب في أغنيته الشهيرة (بتاخدني الأيام) وتغنت بها فيروز في شامياتها الأثيرة علي نفوس الدمشقيين.
لم يكن هذا القصر سوي قصر الأمير عبد القادر الجزائري... الزعيم والمجاهد الكبير والاسم المشرق في التاريخ الوطني الجزائري... الذي اختار عام 1855 دمشق منفي له بعد أن أسره الفرنسيون لدوره البازر في قيادة المقاومة ضد احتلالهم الطويل للجزائر.
أذكر في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وكنت طالباً في قسم النقد والأدب المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي كان مقره مبني عريقاً في ضاحية دمر، بني في عهد الرئيس شكري القوتلي عام 1948 واستعارته وزارة الثقافة من بلدية دمر كمقر مؤقت للمعهد المذكور... أذكر أنني كنت أقطع الطريق، فأمر يومياً بهذا القصر المهيب... الذي يرقب الطريق من علٍ... والذي عرفت فيما بعد انه قصر الأمير عبد القادر الجزائري.. إلا أن الزمن يفعل فعله في هدمه ببطء وصمت.. لأن الإهمال كان قد قال كلمته بصمت ايضاً.
العام الماضي بدأت عملية ترميم القصر... بمبادرة من المفوضية الأوروبية في الاتحاد الأوروبي.. الذي قرر بالتعاون مع محافظة دمشق تحويله إلي مركز التنمية المحلية المستدامة ضمن مشروع تحديث البلديات الذي تموله المفوضية، وتم تخصيص نصف ميلون يورو لعمليات الترميم، كما تم تخصيص إحدي قاعاته لإحياء ذكري الأمير عبد القادر الجزائري... وكنت قبل ذلك قد التقطت للواجهة الخارجية للقصر بعض الصور علي سبيل التوثيق في زمن تتغير فيه معالم دمشق... وتتبدل فيه روحها.
دور تاريخي بارز
ليس قصر الأمير عبد القادر الجزائري مجرد تذكار مكاني... بل هو شاهد علي مسيرة طويلة وحافلة طبعت سيرة هذا الزعيم العربي... وأرخت لحضوره الاجتماعي والسياسي في المجتمع الدمشقي علي مدار أكثر من ربع قرن قضاها في دمشق.
فقد جاء الأمير عبد القادر مع جالية كبير من عائلته وأعوانه ومريديه... وقد أسس الفقراء منهم ما سمي برباط المغاربة في حي السويقة بدمشق... وهو حي مازال موجوداً إلي اليوم علي طريق ما كان يسمي (محلة الميدان) أما هو فسرعان ما أخذ مكانته بين علماء ووجهاء الشام وقام بالتدريس في الجامع الأموي، الذي كان أكبر مدرسة دينية في دمشق في القرن التاسع عشر... كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية وفي المدرسة الحقيقية.
وكان للأمير عبد القادر دور بارز فيما عرف بفتنة عام 1860 بين المسلمين والنصاري في دمشق.. التي اندلعت في التاسع من تموز (يوليو) وهوجمت فيها المنطقة المسيحية في مدينة دمشق، كما هوجمت القنصليات الفرنسية والروسية والنمساوية والبلجيكية والأمريكية، وكذلك مباني البعثات التبشيرية البروتستانية والكاثوليكية قرب حي (باب توما) المسيحي في دمشق القديمة.
واستطاع الأمير عبد القادر الجزائري، بفضل علاقته مع القنصليات الأجنبية ومع أعيان دمشق ومع طبقة رجال الدين في آن معاً... أن يحقن الدماء، فأنقذ أكثر من خمسة عشر ألفاً من النصاري بعث بهم إلي منازله التي غصت بهم... كما أخذ مفاتيح قلعة دمشق، ووضع بها كافة نصاري دمشق، وأشرف علي تقديم الطعام والشراب لهم علي حسابه الخاص لمدة خمسة عشر يوما... وكان لذلك دور كبير في إطفاء نار الفتنة، في ظل عجز القوات شبه العسكرية العثمانية المتمركزة في المدينة عن إيقاف أعمال الشغب أو حماية المعتدي عليهم.
وقد وصلت أصداء هذه الفتنة إلي باريس بعد نحو أسبوع من اندلاعها، فتم الاتفاق بين بعض الدول الأوروبية بمبادرة فرنسية علي إرسال حملة عسكرية إلي سورية بحجة حماية مسيحيي الشــــرق... وبالفعل تم إرسال قوة قوامها 6000 آلاف جندي فرنسي... لكنهم وصلوا إلي ميناء بيروت في النصف الثاني من شهر آب (أغسطس) أي في الوقت الذي كانت الفتنة قد خمدت تماماً ومنذ مدة لا بأس بها! وكما يذكر العديد من الباحثين فقد كان لدوره الإنساني صدي في الأوساط العالمية، فتلقي رسائل شكر مصحوبة بالأوسمة وشارات الفخر والتقدير. ونوهت بدوره كبريات الصحف العالمية وأشادت بخصاله الكريمة.
زعامة اجتماعية ودينية!
وتروي المؤرخة الأمريكية ليندا شيلشر في كتابها الهام (دمشق في القرنين الثامن والتاسع عشر)، الذي ترجمه ونشره المترجمان السوريان (عمرو ودينا الملاح) أن الأمير عبد القادر الجزائري كان قد وصل إلي دمشق، في خريف عام 1855 بعدما اختارها كمنفي أخير له، علي رأس مجموعة تضم (200) فرد جلهم من أسرة الأمير عبد القادر وأخوته وأبناء عمومته وأتباعه... وكانت الحكومة الفرنسيــــة قد أجرت له راتباً سنوياً قدره (300) ألف فرنك لإعــــالة المئات من أبناء عشيرته... كما أعطته الحكومة العثمانية أراضي في سورية... وربما منها الأراضي التي بني عليها قصره في ضاحية دمر لاحقاً.
وتصف شيلشر دخوله دمشق فتقول:
(كان لوصوله دمشق علي رأس جماعة كبيرة من الجزائريين، ودخل مادي كبير، وفرقة شبه عسكرية... وقعه في المدينة، مما أهله ليتزعم خمس شرائح اجتماعية. وبذلك تفرد عن غيره من أبناء الأسر الدمشقية العريقة. فهو أحد أبطال المقاومة الجزائرية، ورجل أعمال ثري، وأحد السادة الأشراف، وعالم ومتصوف له صلات رفيعة المستوي في كل من استانبول وفرنسا ومصر، ويلوح له أنه كان مقدراً له أن يضطلع بدور سياسي محور، ويبقي أمر عدم قيامه بذلك الدور واحداً من ألغاز سياسة دمشق في أواخر القرن).
عاش الأمير عبد القادر ربع القرن الأخير من حياته في دمشق، وتوفي فيها في الرابع والعشرين من أيار (مايو) عام 1883 وقد دفن في حي الصالحية بدمشق بجوار الشيخ محي الدين ابن عربي، المتصوف العربي الشهير... وقد بقي في ثري دمشق نحو ثمانين عاماً، إلي أن نقلت رفاته إلي الجزائر في العام 1965 في احتفال مهيب.
آل الجزائري في المجتمع الدمشقي!
والواقع أن العديد من أبناء وأحفاد عبد القادر الجزائري، قد لعبوا دوراً في تاريخ دمشق والمنطقة، فابنه الأمير علي فقد عهد إليه العثمانيون عام 1900 بالتوسط بين أهالي حوران والدروز وقاد حملة ناجحة علي البدو... أما ابنه الأمير عمر، فقد أعدمه جمال باشا السفاح في ساحة المرجة بدمشق ضمن جماعة شهداء السادس عشر من أيار (مايو) عام 1916 في حين أن حفيده الأمير سعيد الجزائري كان له حضور بارز في الحياة الاجتماعية والســياسية مطلع القرن العشرين، إذ سلمه العثمانيون مقاليد الحكم في دمشق قبل انسحابهم منها عام 1918 وقد سلمها بدوره إلي الملك فيصل... وقد قاد الأمير سعيد أيضاً حملة مقاطعة نفذها أهالي دمشق ضد شركة التنوير البلجيكية عام 1931، بسبب تحكم الشركة المذكورة برفع أسعار الكهرباء وركوب حافلات الترامواي.. وكللت بالنجاح!
وبالعودة الي قصر الأمير عبد القادر، تشير المعلومات إلي أن مساحته تبلغ نحو (1832) متراً مربعاً، وفق القيود العقارية، وهو مؤلف من طابقين تعلوهما غرفة (طيارة) علي السطح. ومساحة الطابق الواحد نحو (325) متراً مربعاً وبارتفاع (5) أمتار تقريباً. وله مدخلان... رئيسي من الجهة الغربية ومدخل آخر من الجهة الشرقية. ويتصل الطابق الأرضي بالطابق الأول بدرج داخلي بشاحط واحد مكسي بالرخام في الأسفل، يتفرع منه شاحطان بالأعلي نحو اليمين واليسار مكسيان بالخشــــــب.. أما جدران القصر فهي مبنية من الآجر والحجر، وهو يمتاز بالفخامة من حيـث التصميم، ومن حيث الطراز المعماري فضلا عن إطلالته الجميلة بالإضافة لإحاطته بحديقة واسعة من كافة جوانبه.
ولعل ترميمه اليوم يشكل ترميماً لذاكرة تستحق أن تبقي... فقصر الأمير سعيد الجزائري المجاور له، في المنطقة نفسها، قد تحول منذ سنوات طويلة إلي ملهي ومطعم... وربما كان يمكن أن يلقي قصر الأمير عبد القادر المصير نفسه... لولا المكانة الكبري التي يحتلها الرجل... والتي دفعت المفوضية الأوروبية إلي شرائه وترميمه.