أيها الإخوة المؤمنون: طيبوا نفسا برحمة ربكم عليكم في شهر رمضان المبارك، وفي عموم الأوقات، فالله ﷻ رحيم بعباده، ويختص أهل الإيمان بمزيد رحمته تعالى وتقدس.
ويا أيها الإخوة المؤمنون: أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر الفضيل ما يتناسب مع ما فيه من الخيرات والبركات؛ إنها فرص متواليات، وبركات متعاقبات في كل لحظة من لحظات هذا الشهر الكريم بإمكان المسلم أن ينال من الخير ما هو خير من الدنيا وما فيها، من أعمال صالحات، ودعوات وأذكار، وتلاوة وصيام وقيام، وخيرات لا يحصيها إلا الرب -تبارك وتعالى-.
ومما ينبغي للمؤمن أن يتنبه إليه غاية التنبه، وألا ينصرف عنه، أو أن ينشغل بأمور أخرى مما تكون أقل حظا في الخير والبركة منه: ما يتعلق بالدعاء في هذا الشهر الفضيل، فالدعاء محبوب عند الله في كل الأوقات، وله مزية زائدة في هذا الشهر العظيم، وهذا ما يلمح إليه ما نبه إليه بعض العلماء في شأن مجيء آية كريمة عظيمة شريفة جليلة في تعظيم دعاء الله -تعالى-، وسؤاله سبحانه، وهي قول الرب -تبارك وتعالى- بعد أن جاءت آيات الصيام: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) ~ [البقرة: ١٨٣] الآية.. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ~ [البقرة: ١٨٥] الآية... قال الله -تبارك وتعالى-: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ~ [البقرة: ١٨٦].
إن مجيء هذه الآية في غضون آيات الصيام، وبعد أن قرر الله ﷻ فرضية صيام هذا الشهر الكريم، وفضله وشرفه بإنزال القرآن فيه جاءت هذه الآية الكريمة، وهذه إلماحة وتنبيه إلى أن الدعاء في هذا الشهر الكريم له مزيته.
وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير الدمشقي -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: "وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء، متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر؛ كما روي عن عبدالله بن عمرو قال: قال النبي ﷺ: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد"، والله ﷻ قد رغب عباده في هذه الآية في دعائه وسؤاله سبحانه غاية الترغيب.
وتأملوا في بلاغة هذه الآية الكريمة وما تضمنته من تحبب الله وتودده إلى عباده مع إنه هو الغني -تبارك وتعالى-، والعباد فقراء ضعفاء: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) ~ [البقرة: ١٨٦]، وهنا يقول العلماء: إن الله -تعالى- لم يقل بعد أن استفتح الآية: (وإذا سألك عبادي عني) ~ [البقرة: ١٨٦]لم يقل: فقل لهم: إني قريب؛ بل خاطبهم: (فإني قريب) ~ [البقرة: ١٨٦].
وهذا القرب منه جل وعلا نبه الله -تعالى- إلى آثاره، ومن جملة ذلك: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) ~ [البقرة: ١٨٦]، وهذا وعد من الله، وهو حق وصدق، ولا أصدق من الله حديثا، ولكن إنما المشكلة في تخلف إجابة الدعاء وتأخره من العبد، ولذا قال الله -تعالى-: (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ~ [البقرة: ١٨٦].
يا عبد الله: لن يكون أحد أرحم بك من الله ﷻ، ولا من أبيك ولا أمك، فالله أرحم بك منهما، ولذلك كان حريا بالمؤمن أن يتحرى أوقات الدعاء في هذا الشهر الكريم، وأن يلهج لسانه بكل ما يحبه من ربه، فإن الله -تعالى- هو المتكفل له بذلك.
وفي سياق دلالة هذه الآية الكريمة أورد الحافظ ابن كثير -رحمه الله- الأحاديث المرغبة في دعاء الله -تعالى- والإقبال عليه، ومن ذلك قول رسول الله ﷺ: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"، وفي دلالة هذه الآية الكريمة: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) ~ [البقرة: ١٨٦]؛ قال الحافظ ابن كثير: روي أن أعرابيا قال: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي ﷺ فأنزل الله: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا) ~ [البقرة: ١٨٦].
وعن الحسن -رحمه الله- قال: سأل أصحاب رسول الله ﷺ: أين ربنا؟ فأنزل الله -عز وجل-: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ~ [البقرة: ١٨٦]، وفي هذا أيضا أورد عن عطاء -رحمه الله- أنه بلغه لما نزلت هذه الآية: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) ~ [غافر: ٦٠] الآية من سورة غافر، قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعوا؟ فنزلت: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ~ [البقرة: ١٨٦].
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلوا شرفا، ولا نهبط واديا؛ إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس! اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا؛ إنما تدعون سميعا بصيرا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: قال الله -تعالى-: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" قلت -وهذا من كلام ابن كثير- وهذا كقوله جل وعلا: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) ~ [النحل: ١٢٨]، وقوله لموسى وهارون -عليهما السلام-: (إنني معكما أسمع وأرى) ~ [طه: ٤٦]، والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع، ولا يشغله عنه شيء، بل هو سميع الدعاء؛ ففيه ترغيب في الدعاء، وأنه لا يضيع لديه جل وعلا، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله -تعالى- ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه، فيسأله فيهما خيرا، فيردهما خائبتين".
وجاء عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "ما من مسلم يدعو الله -عز وجل- بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا: إذا نكثر يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "الله أكثر".
الله أكثر عطاء، والله أكثر تفضلا، ولا ينقص ما عنده شيء مما يعطيه للعباد؛ فخزائنه ملأى، ويداه مبسوطتان سحاء الليل والنهار -تبارك وتعالى-.
وجاء عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله -عز وجل- بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها؛ ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم".
وينبغي للمؤمن ألا يستأخر دعاءه ربه ﷻ، فلا بد أن يثق، وأن يكون متوكلا على ربه، وأن الله ﷻ إن أخر ما دعاه به فذلك لحكمة يعلمها الله -سبحانه-، ويحذر المؤمن من اليأس والقنوط، وأن الله لم يستجب له، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام كما ثبت في صحيح مسلم: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل" قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي! فيستحسر حينئذ، ويدع الدعاء".
فحري بالمؤمن أن يكون محافظا على هذه المبادرة إلى ربه بدعائه وسؤاله كل ما يحتاجه من أمور حياته، وأن يدعو الله -تعالى- بخيري الدنيا والآخرة.
وهذا الشهر الكريم لحظاته ليله ونهاره محل للدعاء، وبخاصة في أوقات الاستجابة التي جاء بها الحديث الشريف.
ومما اختص في هذا الشهر الكريم ما صح عن رسول الله ﷺ أن دعوة الصائم لا ترد. وهنا بحث العلماء أي أوقات الإجابة للصائم؛ لأنه قد ورد في الحديث أن دعوته دعوة الصائم لا ترد "حين يفطر"، وفي لفظ آخر: "حتى يفطر"، فقد روى البيهقي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر"، وجاء الحديث بلفظ: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم"، وهذا يفيد أن الدعوة المستجابة للصائم تكون وقت إفطاره، وفي رواية أخرى: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر" جاء بقوله: "حتى" الغائية يعني: كل وقت الصيام محل للدعاء إلى أن يفطر، وهذه الرواية ضعفها بعض أهل العلم.
ومهما يكن من أمر فإن كل وقت الصيام يتلبس فيه المسلم بعبادة محبوبة عند الله، والتقرب إلى الله ﷻ بالطاعات سبب لإجابة الدعوات، ويتأكد هذا الوقت عند فطر المسلم فإنه وقت فاضل كما في دلالة هذا الحديث المتقدم: "للصائم دعوة حين يفطر".
وأيضا لأن المسلم حينها يكون منكسر القلب قد بلغ به الضعف مبلغه، والاستكانة لربه ﷻ، وهو أيضا لأنه حينها يكون أكثر قربا من ربه ﷻ، فإنه يكون فرحا بطاعة ربه والاستجابة لأمره كما دل عليه الحديث الآخر: "للصائم فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه" ففرحه عند فطره؛ لأنه استجاب لأمره، وقام بما كلف به، وهذا سبب من أسباب إجابة الدعاء.
فحري بالمؤمن أن يكون في هذه اللحظات متوجها إلى ربه بالدعوات؛ فهي حرية ألا ترد، وفي هذا يقول الشيخ العلامة محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "الدعاء يكون قبل الإفطار عند الغروب؛ لأنه يجتمع فيه انكسار النفس والذل لله ﷻ، وأنه صائم، وكل هذه أسباب للإجابة، وأما بعد الفطر فإن النفس قد استراحت وفرحت، وربما حصلت غفلة، لكن ورد دعاء عن النبي ﷺ، لو صح فإنه يكون بعد الإفطار، وهو قوله: "ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله"، فهذا لا يكون إلا بعد الفطر" انتهى كلامه -رحمه الله-.
وأثر عن بعض السلف كما جاء عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا" ~ (رواه الطيالسي).
والمقصود -أيها الإخوة المؤمنون-: أن هذه الأوقات الشريفة الفاضلة محل لإجابة الدعوات، وكم في النفوس من الرغبات الملحة من حاجات الدنيا والآخرة؟
فأفض بها -يا عبد الله- إلى ربك، ولا تستكثر ما عند الله فالله أكثر، والله يعطيك ما لا تتصور.
وكم من إنسان أجيبت دعوته في أمور دنياه فتغير حاله إلى خير كثير؟ وكم من إنسان دعا الله ﷻ في أمور دينه ففتح له في الطاعات، وازداد من العبادات، فكان خيرا له في الآخرة والأولى؟
(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ~ [البقرة: ١٨٦].