كل شيء سينتهي! نعم سينتهي، وستغادر هذه الدنيا وحيدًا، بلا حبيب، بلا صديق، بلا قريب، بلا مال، من دون ذلك اللباس الذي كنت لا تتخلى عنه، بل من دون ذلك المبلغ الذي فكرت في أحد الأيام بصرفه، لكنَّك تراجعت وفضَّلت ادِّخاره، ستموت وحيدًا من دون تلك الأوراق المكتوب عليها أحلامك وطموحاتك في هذه الدنيا الفانية، كلُّه انتهى، كل شيء سينتهي، ولن يبقى لك إلا عملك الصالح، وربَّما ولد صالح يدعو لك.
كل دقيقة تقضيها الآن قد تكون عامل اتساع وراحة في قبرك، أو قد تكون سببًا للتضييق والعذاب، فاستغلَّها راقِب نفسك خلالها، راقِب لسانك؟ هل يقول كلام فاحش؟ هل ينطق بغيبة؟ بنميمة؟ هل ينطق بما لا يسمن ولا يغني من جوع، ويترك ذكر الله والصلاة على النبي والاستغفار والتسبيح، وكلمة خير لك ولمجتمعك ولأمتك؟ وكلمة حسنة تلقي في قلب مؤمن سعادة وطُمأنينة؟ وكلمة مفيدة تغرس في قلب طفل درسًا ينفعه ما حيي؟ كلمة من كتاب الله! آية، راقِب لسانك! ذكِّره أنَّ هناك قبرًا ينتظره، ذكِّره بأنَّ الدود سيأكله، ذكِّره بأن يتقي الله وألا يلقي بنفسه ويُلقيكِ معه في حفرة من حفر النار، بل يقودكما إلى رَوضة من رياض الجنة.
عقلك أيضًا إلى أين يقودك بأفكاره؟ إلى حُسن ظنٍّ بالمؤمنين؟ إلى البحث عن سُبل الخير؟ إلى التفكُّر في نِعَمِ الله وآلائه؟ إلى مراقبة الأفعال والأقوال التي تصدُر من هذا الجسد الذي يتحكم فيه؟ إلى محاولة السيطرة على كل ذلك وتوجيهه في اتجاه الخير والإيمان والخوف من الله؟ أم إلى الاكتفاء بالتخطيط في متاع الدنيا: كيف يحصل عليها؟ كيف يستزيد منها؟ كيف يحافظ عليها؟ ويزيد إلى مقت نِعم الله عليه! كم هي قليلة! كم هي غير مستمرة! ويا ليت لي مثل ما عند فلان!
قلبك لا تَنسه، بل طهِّره من كل حقد وحسد وغلٍّ وغفلة، ذكِّره بالوحشة التي تنتظره، وحشة القبر! وأي وحشة أسوأ من وحشة القبر؟! هزَّه بكلتا يديك مرددًا له: "اتَّقِ الله، اتق الله، اتق الله".
لا يهم إن كان عمرك في العشرين أم في السبعين، لك موعدٌ مع الآخرة قد يكون قريبًا، لذلك كن مستعدًّا له، فهو قد يحضر في أيِّ لحظة! ليس ببعيد، صدِّقني إنه ليس بعيدًا أبدًا، قد يكون قاب قوسين أو أدنى.
أتعلم أولئك الذين سيضعونك في القبر سينسونك، أولئك الذي ترتكب الذنب مجاملة لهم سينسونك، لن يأخذوا سيئات ذلك الذنب الذي اقترفتْه مجاملةً لهم، بل ستتحمَّله وحيدًا ستكون وحيدًا ولن يؤنس وَحدتك سوى آيات قرأتها في إحدى الليالي الحالكة، تساقطت على أثرها الدموع من عينيك، سوى عمل صالح أيًّا كان شكله رجوت رضا الله به، وشاركت به في المهمة التي خُلقت من أجلها، ألا وهي عبادة الله، أولئك الذين استفزُّوك وأثاروا غضبك، فارتكبت أخطاءً استجابةً للعاطفة، ولم تستخدم العقل والحكمة والبصيرة، ثم ألقيت اللوم عليهم، وتظن أنَّهم هم الذين سيُحاسَبون على ما قمتَ به، أُخبرك الآن أنَّ ذلك لن يحدث، وأنَّك مسؤول عن أفعالك وأقوالك، وأنت مَن سيتحمَّل ذنب أفعالك، فعُد إلى رشدك، ولا تسمح لأيٍّ كان أن يَجرَّك إلى أفعال قد تضر بها شخص بريء، أو أن تتفوه بكلمة تهوي بك في النار سبعين خريفًا، وإن حدث ذلك لحظة غفلة عد إلى الله واستغفره، وتعلَّم.
لا تنغمس كثيرًا في ملذات الدنيا للدرجة التي تجعلك تنسى الآخرة، بل ركِّز على الآخرة أكثر، وتذكَّرها في كل لحظة تقترف فيها ذنبًا، في كل لحظة تُضيع فيها ساعة، وفي كل لحظة يحسد فيها قلبك ناسًا على ما آتاهم الله من فضله، تذكَّر قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
أصلِح نيتك، هل تدري أنَّه بتعديل النيَّة سيتحوَّل كل شيء في حياتك! تستيقظ صباح كل يوم للذهاب إلى العمل، لماذا؟ لأنَّه يجب عليك أن تقوم بذلك؛ لأن هذا ما يقوم به الجميع وهذا ما يجب أن تقوم به؟ لأنَّك تحتاج إلى المال؟ فكِّر في كيف ستنفعك هذه الأشياء فيما بعد هذه الدنيا! استيقظ ليس لأنَّ الجميع يقوم بذلك، وليس لمهمة الحصول على المال، لكن لأنَّك بذهابك لكسب الحلال وترك الحرام، تتقرَّب إلى الله، تذكِّر أنَّ كل لقمة تضعها في فم زوجتك هي صدقة تقرِّبك إلى الله، وأنت تكسب المال لتُطعمها وتُطعم أبناءك، إذًا ما تقوم به هو عبادة، هو تقرِّب إلى الله طالَما أخلصت النيَّة، فأخلصها إذًا، فمن المحزن ألا تجد ثمار كل جهودك تلك في الآخرة بسبب نسيانك النية، وتذكَّري أنتِ أيضًا حين تذهبين لطلب العلم أنَّه (من سلك طريقًا يبتغي به علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنَّة)، فأخلصي النيَّة لله إذًا.
راجع توجُّهاتك، أعمالك، نيَّاتك، كلماتك، خواطر قلبك، هل تعمل كلها على إعمار آخرتك؟ أم أنها تلهيك عن الاستعداد لها وتُبعدك عنها؟ تذكَّر قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]) [1].
استعن بالله، توكَّل عليه، ولا تَعجِز، تذكَر أنَّك ما زلت على هذه الحياة، فلا زال التغيير ممكنًا، لا زال باب التوبة مفتوحًا، فعُد إلى الله قبل أن يفوت الأوان، عُد إليه وسيقبلك كيفما كنت، عد إليه وسيغفر لك، وكلما تقرَّبت إليه تقرَّب إليك أكثر، فهو سبحانه وتعالى يقول كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القدسي: (وإنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ منه باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).
أنتَ سترحل وأنا سأرحل، كلنا سنرحل، وكل شيء في هذه الدنيا فانٍ، فلا تَدَعِ الأيام تُنسيك هذه الحقيقة، بل ضَعْها دائمًا نُصْبَ عينيك، وعُد إلى الله وأخلِص النية له، واسأله دائمًا أن يجعل قبرَك روضة من رياض الجنة، ولا يجعله حفرةً من حفر النار.