كثير منا يأتيه هذا السؤال من سائل، يأتيك صديق على حين غرة فيلقيه عليك: (هل تشتاق إلى نفسك القديمة؟) أو يسألك معاتبًا: (هل تغيرت عما كنت في السابق؟)، فتجد ذهنك قد ذهب عميقًا؛ لتعود بذاكرتك إلى الوراء، تقلب صفحاتها صفحة بعد صفحة، ثم يجد الحزن طريقه إلى قلبك، فتُخرج من صدرك زفرة، كأنها تعبر عما بدر في النفس من أسًى.
ولكن فلنسأل أنفسنا هذا السؤال، ولنجِبْ عنه، ولكن بطريقة جديدة؛ لعلها تخفف عنها قسوة هذه الزفرة؛ زفرة الأسى: لا...
بل كم أشتاق إلى نفسي القديمة، تغيرتُ كثيرًا وتغيرت الأحوال والظروف، ومن منا لم يتغير؟
صارت قلوبنا أشد قسوة أو أكثر رقة...
أصبحت عقولنا أعمق فكرًا أو أكثر سطحية...
أضحت أراوحنا أكثر جروحًا أو أقل ندوبًا...
أمست أنفسنا أكثر غرابة أو أقرب مودة...
لا أدري أين كنتُ، ثم أين أصبحتُ، ثم إلى أين أمسيتُ...
كم اشتقت إلى الماضي! ومن منا لم يشتقْ يومًا إلى ماضيه وأمسه، بحلوه ومُرِّه؟!
جلست يومًا مع رجل يعمل بتجارة مربحة، كان يتيمًا فقيرًا مُعدمًا وهو صغير، فأخذ يذكر الأيام والتاريخ، تاريخه هو، ويحدثني عن شعوره عندما نام لأول مرة في حياته على "مرتبة"، نعم، مرتبة لأول مرة في حياته وهو ابن عشر سنين، ورغم أنها كانت أول مرتبة على الإطلاق ينام عليها ويمتلكها، فإنها كانت مرتبة من "القش" قش الأرز، يشتاق إلى مرتبة من قش الأرز، رغم أنه كان ينام على الحصير قبلها، رغم أنها كانت من القش، والآن ينام على الحرير!
رحم الله جَدِّي، كان يحدثني عن أيام الخير، عن أيام زمان، عن الخير الذي كان بين الناس، عن البر والرحمة، عن الخير والبركة، عن الود والوئام، عن الحب والسلام.
كلنا نشتاق إلى أرواحنا وأنفسنا... نشتاق إلى أيام زمان.
ولكن أتدري يا سائلي، أأخبركَ عن خير من ذلك؟
♦ إنه الآن، نعم الحاضر، فلنستمتع به، ولنَعِشْ لحظتنا وساعتنا؛ فإن الأمس لن يعود، كما أن المستقبل لن يهرول إلينا مسرعًا، فالحقُّ أن نفعل كما ورد في الأثر: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا))، والحق أن نطبق ما قال الله: ﴿ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ﴾ [آل عمران: 153]، فلنسعد بأوقاتنا في كل خير، ولا نعصِ الله ساعة، ولنعتبر كل لحظة كأنها لحظة قيام الساعة، استمتع بها؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها))، رغم أن الزارع يوقن الهلاك، هلاكه وهلاك الفسيلة، بل وهلاك الأرض والخلق كلهم، ولكن السعادة في العيش بالطاعة والختام بالطاعة.
أسعدكم الله بالخير في ذكراكم وحالكم ومستقبلكم.