معني اسم الله تعالى الباعث
أيها المؤمنون:
إن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه
وهذا هو الغاية المطلوبة منهم
قال ابن القيم -رحمه الله-:
“مفتاح دعوة الرسل، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها”
فالاشتغال بمعرفة الله
اشتغال بما خلق له العبد
وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له
وليس معنى الإيمان هو التلفظ به فقط دون معرفة الله
لأن حقيقة الإيمان بالله أن يعرف العبد ربه الذي يؤمن به
ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته
وبحسب معرفته بربه يزداد إيمانه.
وإن من أسماء الله التي ينبغي أن نتدبر معناها ودلالاتها وآثارها الإيمانية اسم الله “الباعث”.
قال الليث
والبعث في كلام العرب على وجهين:
أحدهما: الإرسال
كقول الله -تعالى-: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ)[الأعراف:103].
والبعث أيضاً الإحياء من الله للموتى
ومنه قوله -جل وعز-: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 56]
قال أبو هلال:
بعث الخلق: اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف,
ومنه قوله تعالى: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس: 52].
ومما يدل على أن الباعث من أسماء الله، ما يلي:
أن الله باعث الخلق يوم القيامة: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام:36]
وقال -تعالى-: (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ)[الحج:7]
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم حائل ففته بيده فقال يا محمد، يحيي الله هذا بعد ما أرم؟
قال: “نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم“
فنزلت الآيات من آخر يس (أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ…)[يس:77] إلى آخر السورة))
رواه الطبري في ((تفسيره)) (20/554)
والحاكم (2/466)
والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (4/108).
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
والإيمان بالبعث واجب لا يقبل الله إيمان عبد إلا به, وهو جزء من أحداث يوم القيامة الركن السادس من أركان الإيمان
المسمى باليوم الآخر
والمسمى بيوم القيامة
والمسمى بيوم البعث
وقد تعددت وتنوعت أسماؤه وأوصافه
لتنوع الأحداث التي تكون فيه, فهو اليوم الآخر
لأن ما قبله سابق وهو الأخير.
وهو يوم القيامة لأن الناس جميعاً يقومون من قبورهم لرب العالمين, ويقومون في محشرهم لمجيء الرب -سبحانه- لفصل القضاء
وهو يوم البعث
لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم ويخرجون إلى محشرهم.
ثبتت حقيقة البعث في الكتاب والسنة وتتابعت نصوص الوحي بوجوب الإيمان به, فصار الإيمان به من الأمور المعلومة بالضرورة عند أهل الملة,
وقد استفاضت نصوص الكتاب والسنة للتأكيد عليه والتكفير لمنكره
ولم تحظَ قضية في القرآن والسنة بالتدليل والتأكيد عليها مثل قضية البعث
فمن نصوص الكتاب العزيز قوله -تعالى-: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[التغابن:7].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ
إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: ( الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ )
رواه البخاري (4777) ومسلم (9)
وفي حديث جبريل المشهور عند مسلم (8) :
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: ( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ) ، قَالَ: صَدَقْتَ
معاشر المسلمين:
إن الحياة الدنيا بدون الحياة الأخرى تكون عبثاً
وتعالى الله عن العبث
فالحكمة ظاهرة في تضاعيف هذا الكون وبنائه,
وفي جميع خلايا الإنسان وأجهزته, وكل جزء في كيان الإنسان قد خلق لحكمة
فكيف تكون الحياة بأكملها عبثاً لا حكمة من ورائها؟
فلابد أن هناك حكمة
وإذا كانت لا تظهر في الدنيا فلابد من يوم آخر تظهر فيه
قال -تعالى-: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)[القيامة:36-40]
لذلك كان الباعث -سبحانه- هو الله.
ومن العدل: أن يثاب المحسن ويعاقب المسيء
فإذا عرفنا أن عدل الإنسان يأبى التسوية بين الظالم والمظلوم والمطيع والعاصي
وعلمنا أن الله هو صاحب العدل المطلق والكمال الأعلى ورأينا موازين العد
لا تتحقق كاملة في الحياة الدنيا, جزمت العقول بأن الله سيقيم العدل الكامل في حياة أخرى
كما قال -سبحانه-: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[الجاثية:21]، وقال -تعالى-: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)[القلم:35, 36]،
وقال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا)[الأنبياء:47]
لذلك كان الباعث -سبحانه- هو الله.
أيها المؤمنون:
ومن دلالات اسم الله الباعث: أنه -سبحانه- باعث الرسل إلى الخلق
فلقد بعث الله الأنبياء والرسل؛ ليدلوا العباد على ربهم وخالقهم
وما هي واجباتهم تجاهه -سبحانه-
وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لابد لهم من علمه
وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم
وكبح شهواتهم
وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم
قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)[النحل: 36],
وقال -تعالى-: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)[يونس:74]
وقال -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[آل عمران:164].
ومن الدلالات كذلك:
أنه يبعث عباده عند العجز يعينهم ويغيثهم
فالله -تعالى- يبعث الله جنوده من الجن والإنس والطير والرياح وغيرها، إما لمناصرة مظلوم أو قصم ظالم
أو كرامة لولي من أوليائه,
قال -تعالى-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)[البقرة:274]
وقال -تعالى-: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ)[المائدة:31].
قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه..
الشيخ محمد صالح المنجد