نظرية الباراديم عند توماس كون وأثرها في علم الاجتماع المعاصر
د. قاسم عبد المحبشي
قسم الفلسفة – جامعة عدن
المقدمة :
لكل عصر مشكلاته الحيوية وتحدياته الفكرية وأسئلته الفلسفية النابعة من صميم الحياة الواقعية والمتخيلة لأناس ذلك العصر ، والفيلسوف هو ابن عصره وربيب زمانه ، لا يأتي المعجزات ، فأقصى ما يستطيع القيام به ، أن يشيد صورة فكرية كلية عن المشكلات والأسئلة الكبرى في العصر الذي يعيش فيه ويفكر في فضائه .
ولما كان العلم بجميع أبعاده وعناصره المعرفية النظرية والمنهجية والتطبيقية والتقنية ، يعد الظاهرة الأبرز التي خيمت بظلالها الكثيفة على القرن العشرين ، قرن العلم والثورة العلمية بامتياز ، فقد استقطب جلّ اهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء ، وأثار دهشتهم الفكرية ، ودفعهم إلى إعادة التأمل والتفكير في هذه الظاهرة المدهشة والمثيرة والخطيرة الجديرة بالتفكير والتفسير ، والتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً إذ إن ما شهده القرن العشرون من أحداث ومتغيرات عاصفة وتبدلات جذرية في مجمل البيئة الاجتماعية وفي مجمل ظروف حياة الإنسان في كل بقاع الأرض ،" كان بفضل الانتصارات المذهلة للعلوم الرياضية والطبيعية "1 حسب ( دافيد مارسيل ) هذه النقلة من تكنولوجيا تجريبية مرتبطة بالتقاليد إلى نمط اختباري استقرائي ، "هي التي فتحت آفاقاً جديدة للعلم بحيث لم تتحقق أبداً منذ عصر الأهرامات تغييرات جذرية بهذه السعة في وقت قصير "2 .
هذا الحضور الطاغي للعلم وتأثيراته الحاسمة هو الذي جعله ينبسط موضوعاً كلياً لعدد واسع من أنساق المعرفة المعاصرة : الأبستيمولوجيا ، وفلسفة العلم ، وتاريخ العلم ، وسوسيولوجيا العلم ، والانثربولوجيا الثقافية ، وعلم نفس العلم ، والعلم المقارن ، وعلم العلم والميثودولوجيا ((علم المناهج )) وأدب الخيال العلمي ، وفلسفة اللغة والهرمونطيقا ، والسبرناتيك وأخلاقيات العلم … إلخ .
وتستمد هذه الورقة البحثية أهميتها الخاصة من أهمية موضوعها و راهنيته في الفكر المعاصر ، إذ يعد فيلسوف العلم الأمريكي " توماس كون ( 1922 – 1996م ) أبرز فلاسفة العلم في الثلث الأخير من القرن العشرين ؛ وذلك لما أثاره كتابه الشهير ( بنية الثورات العلمية ) من جدل عاصف في الدوائر الثقافية والأكاديمية الأورو- أمريكية والعالمية ، لا سيما نظريته الباراديم ، وما كان لها من تأثيرات قوية في مختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة.
هكذا فقد اجتذب عمله قدراً كبيراً من الاهتمام بين علماء الاجتماع ، وقد جرت الكثير من المحاولات لتطبيق معاييره النظرية والمنهجية على العلوم الاجتماعية وعلم اللغويات ، بل حتى على النقد الأدبي والقانون .
في ضوء ذلك يكون لهذه الدراسة أهمية مزدوجة : فهي من جهة مقاربة إجمالية عن (توماس كون) ونظريته ، ماهيتها ، بنيتها ، عناصرها ، مفاهيمها ، فروضها ، معاييرها ، أهدافها ، نتائجها ، إذ أنه على شهرته الواسعة لم يعط حقه من الدراسة والبحث والتقييم والنقد الذي يستحقه في حقل الثقافة العربية الإسلامية .
ومن جهة أخرى تعد هذه الدراسة محاولة للكشف عن أثر نظرية (كون) في علم الاجتماع المعاصر ، وما فتحته من آفاق منهجية جديدة واستبصارات نظرية فريدة لتفسير ظاهرة المعرفة العلمية في بنيتها الداخلية وتحولاتها الثورية .
ولعل من بين الأسباب التي حفزتنا للكتابة في هذا الموضوع ، هو ما لاحظناه من ندرة الدراسات العربية عن (توماس كون) ، إذ لم نعثر إلا على بعض الدراسات من أهمها : كتاب شوقي جلال ( على طريق توماس كون ) المكتبة الأكاديمية القاهرة 1997م وفقرة كتبتها يمنى طريف الخولي ضمن كتابها ( فلسفة العلم في القرن العشرين ) سلسلة عالم المعرفة يناير 2000م العدد 264 . فضلاً عن بعض الإشارات التي يمكن العثور عليها هنا وهناك ضمن الكتابات المهتمة بفلسفة العلم المعاصرة عند ماهر عبد القادر ، والسيد نفادي ، ومحمد عابد الجابري ، وصلاح قنصوه و غيرهم .
هذا في حين أن أهم كتب توماس كون " بنية الثورات العلمية " قد ترجم إلى العربية في ثلاث ترجمات هي : ترجمة علي نعمة – بيروت عام 1986م ، وترجمة ماهر عبد القادر محمد علي ، الإسكندرية 1988م ، وترجمة شوقي جلال ، في سلسلة عالم المعرفة الكويتية 1993م . أما كتاب " (الصراع الجوهري) " لتوماس كون ، فقد ترجمه فؤاد الكاظمي ، وصلاح سعد الله ، دار الشؤون الثقافية بغداد 1989م وهي الترجمة الوحيدة له .
وقد لاحظنا أن من بين أهم الأسباب في ندرة الدراسات العربية عن توماس كون ، صعوبة فهم نصوصه البالغة التعقيد ، وعدم استيعاب مفاهيمه الجديدة غير المألوفة . مثل مفهوم الباراديم ، الذي يحتل حيّزاً واسعاً في فلسفته ، ويثير موجة واسعة من سوء الفهم واللبس والغموض والتشويش .
وتأتي دراستنا هذه في أربعة محاور فضلاً عن المقدمة والخاتمة ، عرضنا في المحور الأول لمحة عن الإطار الحضاري والثقافي الذي عاش فيه وتأثر به (توماس كون) ، مع نبذة عن حياته العلمية الإبداعية ، وعقدنا المحور الثاني للحديث عن فلسفة (كون) في السياق المقارن مع الوضعية المنطقة وفلسفة (كارل بوبر) ، ثم حددنا المفاهيم الأساسية وتعريفاتها ، وفي المحور الثالث درسنا العلاقة بين فلسفة العلم وعلم الاجتماع المعاصر، و ركزنا على أثر فلسفة ما بعد الوضعية المنطقية في العلوم الاجتماعية ، أما المحور الرابع فقد كُرس لبحث أثر نظرية الباراديم في السوسيولوجيا المعاصرة ، وفي علم اجتماع العلم ، و العلم المقارن في أربعة أبعاد ممثلة