الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه:
أما بعد:
فهذه كلمات جمعتها ونسقت بينها حول موضوع اللفظ المشترك وأقسامه أسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أنواع اللفظ المشترك:
تنوعت تقسيمات العلماء للفظ المشترك، فمنهم من توسع، ومنهم من حاول دمج بعضها في بعض، فقلت الأنواع عنده.
فنجد بعض الأصوليين عند ذكره لأنواع الاشتراك، يرجعها إلى ما يقع عليه ويرد فيه الاشتراك، فيقول: بأن الاشتراك يقع على:
الأسماء، كالقرء للحيض والطهر.
والأفعال، كعسعس للإقبال والإدبار.
والحروف، من مثل (من) للتبعيض أو بيان الجنس.
وإلى ذلك أشار العلامة محمد بن علي الاثيوبي في منظومته الأصولية (التحفة المرضية) بقوله:
تعدد المعنى فقط مشتركُ***يقع في الأسما (كقرءٍ) سلكوا
للطهر والحيض، وفي الأفعالِ***كنحو (عسعس) لدى الإقبالِ
وضدهِ، وفي الحروف مثل (من)***للبعض أوبيان جنسٍ فاستبنْ ([1])
بينما نجد العلامة اللغوي ابن السيد البطليوسي يحدد أقسام الاشتراك في ثلاثة أقسام:
أحدها: اشتراك في موضوع اللفظة المفردة.
والثاني: اشتراك في أحوالها التي تعرض لها من إعراب وغيره.
والثالث: اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض. ([2])
ويرى بعض الباحثين المعاصرين وهو د.زيد بن علي مهارش أن أنواع المشترك اللفظي ثلاثة:
المشترك المطلق: ويقصد بالاشتراك المطلق استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه، وهو وسيلة من وسائل التوسع في التعبير عن المعنى عند المفسرين.
يقول إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسيره لمعنى (الإل) في قوله تعالى: [لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ] ([3]): والإل اسم يشتمل على معانٍ ثلاثة، وهي: العهد، والعقد، والحلف والقرابة، وهو أيضا بمعنى (الله)، فإذا كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولك يكن الله خص من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يعم ذلك، كما عم جل ثناؤه معانيها الثلاثة فقال: لا يرقبون في مؤمن الله، ولا قرابة، ولا عهدا، ولا ميثاقا. اهـ ([4])
ونقل أبو حيان في البحر المحيط ([5]) أن من رأى أن الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان.
وأفاد الشنقيطي صاحب أضواء البيان أن من قال بأن الإل معناه الله، تصبح الآية عنده معناها: إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم اله، ولا يراعى فيكم الله ولا العهود.
ومن قال الإل معناه هنا القرابة، فمعنى الآية عنده: لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم.
ومن ذهب إلى أن الإل هو الحلف فمعنى الآية لا يرقبون فيكم حلفا. ([6])
ومن هذا النوع – أي المشترك اللفظي – ما ورد في تفسير قوله تعالى: [وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ] ([7]) فيطلق النجم على النبات الذي لا ساق له كالبقول، وإلى هذا ذهب ابن عباس. ويطلق النجم ويراد به أيضا جنس نجوم السماء.
قال أبو إسحاق الزجاج: قال أهل اللغة وأكثر أهل التفسير: النجم كل ما نبت على وجه الأرض مما ليس له ساق، والشجر كل ما له ساق، وقد قيل: إن النجم أيضا يراد به النجوم، وهذا جائز أن يكون؛ لأن الله عزوجل قد أعلمنا أن النجم يسجد فقال: [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ]
([8])([9]).
والنوع الثاني من أنواع المشترك حسب تقسيم الدكتور مهارش هو: التضاد أو الأضداد، وهو أن يطلق اللفظ الواحد على معنيين أحدهما نقيض الأخر. وهو نوع من المشترك كما قرر ذلك السيوطي والبطليوسي. ([10])
قال السيوطي: قال أهل الأصول مفهوم اللفظ المشترك إما أن يتباينا بأن لا يمكن اجتماعهما في الصدق على شيء واحد كالحيض والطهر فإنهما مدلولا القرء، أو يتواصلا. اهـ ([11]).
وأما النوع الثالث من أنواع المشترك مما ذكره د. مهارش فهو: الاشتراك بين الحقيقة والمجاز، وهو التجوز باللفظ من الحقيقة إلى المجاز ما كانت القرائن اللفظية والمعنوي التي تمنع إرادة المعنى الحقيقي قائمة.
ومن هذا النوع ما وجه به الإمام الطبري معنى البخل في قوله تعالى: [الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]
([12])، فوجه معنى البخل فيها إلى بخل العلم دون بخل الأموال؛ إذ البخل كان مذموما عند العرب، وعند جميع الأمم، وما كان مقرا ولا كان هناك من يقره قبل الإسلام تدينا وتخلقا.
قال رحمه الله: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك ما قاله الذين قالوا : إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الاية بالبخل، بتعريف من جهل أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه حق، وأن محمدا لله نبي مبعوث، وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بينه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه ، فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاله حالهم في معرفتهم به أن يكتموه من جهل ذلك، ولا يبينوه للناس.
وإنما قلنا هذا القول أولى بتأويل الاية لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلقا، بل ترى ذلك قبيحا، ويذم فاعله، ولا يمتدح وإن هي تخلقت بالبخل واستعملته في أنفسها، فالسخاء والجود تعده من مكارم الأفعال وتحث عليه، ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه، فبخلوا بتبيينه للناس ، وكتموه دون البخل بالأموال. إلا أن يكون معنى ذلك الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وسبله، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك، فيكون بخلهم بأموالهم وأمرهم الناس بالبخل. فهذا المعنى على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس، فيكون لذلك وجه مفهوم في وصفهم بالبخل وأمرهم به. اهـ ([13]).
([1]) المنحة الرضية شرح التحفة المرضية (ج:3/ص:59).
([2]) اختلاف الفقهاء للبطيوسي (ص:33)
([3]) التوبة: ١٠.
([4]) تفسير الطبري (ج:14/ ص:148).
([5]) (ج:6/ ص:123).
([6]) العذب النمير (تفسير سورة التوبة)
([7]) الرحمن: ٦.
([8]) النحل: ٤٩.
([9]) بواسطة صور المشترك اللفظي، د. زيد بن مهارش (5ص: 217-218).
([10]) انظر أسباب اختلاف الفقهاء للبطليوسي (ص: 37).
([11]) المزهر في علوم اللغة (ج:1/ ص:387).
([12]) النساء: ٣٧.
([13]) تفسير الطبري: (ج:8/ص: 354-355).
والحمد لله رب العالمين.
منقول